أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016
1039
التاريخ: 18-8-2016
975
التاريخ: 18-8-2016
910
التاريخ: 18-8-2016
971
|
الإجماع أحد معانيه في اللغة: الاتفاق.
والمراد منه في الاصطلاح: اتفاق خاص. وهو: إما اتفاق الفقهاء من المسلمين على حكم شرعي. أو اتفاق أهل الحل والعقد من المسلمين على الحكم. أو اتفاق أمة محمد على الحكم. على اختلاف التعريفات عندهم. ومهما اختلفت هذه التعبيرات فإنها - على ما يظهر - ترمي إلى معنى جامع بينها، وهو: اتفاق جماعة لاتفاقهم شأن في إثبات الحكم الشرعي. ولذا استثنوا من المسلمين سواد الناس وعوامهم لأنهم لا شأن لآرائهم في استكشاف الحكم الشرعي، وإنما هم تبع للعلماء ولأهل الحل والعقد. وعلى كل حال، فإن هذا (الإجماع) بما له من هذا المعنى قد جعله الأصوليون من أهل السنة أحد الأدلة الأربعة أو الثلاثة على الحكم الشرعي، في مقابل الكتاب والسنة. أما الإمامية فقد جعلوه أيضا أحد الأدلة على الحكم الشرعي، ولكن من ناحية شكلية واسمية فقط، مجاراة للنهج الدراسي في أصول ألفقه عند السنيين أي إنهم لا يعتبرونه دليلا مستقلا في مقابل الكتاب والسنة، بل إنما يعتبرونه إذا كان كاشفا عن السنة، أي عن قول المعصوم، فالحجية والعصمة ليستا للإجماع، بل الحجة في الحقيقة هو قول المعصوم الذي يكشف عنه الإجماع عندما تكون له أهلية هذا الكشف.
ولذا توسع الإمامية في إطلاق كلمة الإجماع على اتفاق جماعة قليلة لا يسمى اتفاقهم في الاصطلاح إجماعا، باعتبار أن اتفاقهم يكشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم فيكون له حكم الإجماع، بينما لا يعتبرون الإجماع الذي لا يكشف عن قول المعصوم وإن سمي إجماعا بالاصطلاح. وهذه نقطة خلاف جوهرية في الإجماع، ينبغي أن نجليها ونلتمس الحق فيها، فإن لها كل الأثر في تقييم الإجماع من جهة حجيته. ولأجل أن نتوصل إلى الغرض المقصود لا بد من توجيه بعض الأسئلة لأنفسنا لنلتمس الجواب عليها:
أولا - من أين انبثق للأصوليين القول بالإجماع، فجعلوه حجة ودليلا مستقلا على الحكم الشرعي: في مقابل الكتاب والسنة.
ثانيا - هل المعتبر عند من يقول بالإجماع اتفاق جميع الأمة، أو اتفاق جميع العلماء في عصر من العصور، أو بعض منهم يعتد به؟ ومن هم الذين يعتد بأقوالهم؟
أما السؤال الأول: فإن الذي يثيره في النفس ويجعلها في موضع الشك فيه إن إجماع الناس جميعا على شيء أو إجماع أمة من الأمم بما هو إجماع واتفاق لا قيمة علمية له في استكشاف حكم الله، لأنه لا ملازمة بينه وبين حكم الله. فالعلم به لا يستلزم العلم بحكم الله بأي وجه من وجوه الملازمة. نعم الشيء الذي يجب ألا يفوتنا التنبيه عليه في الباب أنا قد قلنا فيما سبق في الجزء الثاني وسيأتي: إن تطابق آراء العقلاء بما هم عقلاء في القضايا المشهورة العملية التي نسميها الآراء المحمودة والتي تتعلق بحفظ النظام والنوع يستكشف به الحكم الشرعي، لان الشارع من العقلاء بل رئيسهم وهو خالق العقل فلا بد أن يحكم بحكمهم. ولكن هذا التطابق ليس من نوع الإجماع المقصود، بل هو نفس الدليل العقلي الذي نقول بحجيته في مقابل الكتاب والسنة والإجماع وهو من باب التحسين والتقبيح العقليين الذي ينكره هؤلاء الذاهبون إلى حجية الإجماع. أما إجماع الناس - الذي لا يدخل في تطابق آراء العقلاء بما هم العقلاء - فلا سبيل إلى اتخاذه دليلا على الحكم الشرعي، لان اتفاقهم قد يكون بدافع العادة أو العقيدة أو الانفعال النفسي أو الشبهة أو نحو ذلك. وكل هذه الدوافع من خصائص البشر لا يشاركهم الشارع فيها لتنزهه عنها. فإذا حكموا بشيء بأحد هذه الدوافع لا يجب أن يحكم الشارع بحكمهم، فلا يستكشف من اتفاقهم على حكم بما ما هو اتفاق أن هذا الحكم واقعا هو حكم الشارع ولو أن إجماع الناس بما هو إجماع كيفما كان وبأي دافع كان، هو حجة ودليل - لوجب أن يكون إجماع الأمم الأخرى غير المسلمة أيضا حجة ودليلا. ولا يقول بذلك واحد ممن يرى حجية الإجماع.
أذن! كيف اتخذ الأصوليون إجماع المسلمين بالخصوص حجة؟ وما الدليل لهم على ذلك؟ وللجواب عن هذا السؤال علينا أن نرجع القهقري إلى أول إجماع اتخذ دليلا في تأريخ المسلمين. انه الإجماع المدعى على بيعة أبي بكر خليفة للمسلمين. فإنه إذا وقعت البيعة له - والمفروض انه لا سند لها من طريق النص القرآني والسنة النبوية - اضطروا إلى تصحيح شرعيتها من طريق الإجماع فقالوا:
أولا - إن المسلمين من أهل المدينة أو أهل الحل والعقد منهم أجمعوا على بيعته.
وثانيا - إن الإمامة من الفروع لا من الأصول.
وثالثا - إن الإجماع حجة في مقابل الكتاب والسنة، أي انه دليل ثالث غير الكتاب والسنة. ثم منه توسعوا فاعتبروه دليلا في جميع المسائل الشرعية الفرعية. وسلكوا لإثبات حجيته ثلاثة مسالك: الكتاب والسنة والعقل. ومن الطبيعي ألا يجعلوا الإجماع من مسالكه لأنه يؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه، وهو دور باطل. أما (مسلك الكتاب) فآيات استدلوا بها لا تنهض دليلا على مقصودهم، وأولاها بالذكر آية سبيل المؤمنين وهي قوله تعالى (سورة النساء 114): {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115] فإنها توجب أتباع سبيل المؤمنين، فإذا أجمع المؤمنون على حكم فهو سبيلهم فيجب أتباعه. وبهذه الآية تمسك الشافعي على ما نقل عنه. ويكفينا في رد الاستدلال بها ما استظهره الشيخ الغزالي منها إذ قال (1): (الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى. فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين من نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي). ثم قال: (وهذا هو الظاهر السابق إلى ألفهم) وهو كذلك كما استظهره، أما الآيات الأخرى فقد اعترف الغزالي كغيره في عدم ظهورها في حجية الإجماع، فلا نطيل بذكرها ومناقشة الاستدلال بها. وأما (مسلك السنة) فهي أحاديث رووها بما يؤدي مضمون الحديث (لا تجتمع أمتي على الخطأ)، وقد ادعوا تواترها معنى، فاستنبطوا منها عصمة الأمة الإسلامية من الخطأ والضلالة، فيكون اجتماعها كقول المعصوم حجة ومصدرا مستقلا لمعرفة حكم الله. وهذه الأحاديث - على تقدير التسليم بصحتها وأنها توجب العلم لتواترها معنى - لا تنفع في تصحيح دعواهم، لان المفهوم من اجتماع الأمة كل الأمة، لا بعضها فلا يثبت بهذه الأحاديث عصمة البعض من الأمة، بينما أن مقصودهم من الإجماع إجماع خصوص الفقهاء أو أهل الحل والعقد عصر من العصور، بل خصوص الفقهاء المعروفين، بل خصوص المعروفين من فقهاء طائفة خاصة وهي طائفة أهل السنة، بل يكتفون باتفاق جماعة ويطمئنون إليهم كما هو الواقع في بيعة السقيفة. فأنى لنا أن نحصل على إجماع جميع الأمة بجميع طوائفها وأشخاصها في جميع العصور إلا في ضروريات الدين مثل وجوب الصلاة والزكاة ونحوهما. وهذه ضروريات الدين ليست من نوع الإجماع المبحوث عنه. ولا تحتاج في إثبات الحكم بها إلى القول بحجية الإجماع. وأما (مسلك العقل) الذي عبر بعضهم بالطريق المعنوي - فغاية ما يقال في توجيهه: ان الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع، وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حدة التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب وتحيل عليهم الغلط. فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة. والتابعون وتابعو التابعين إذا قطعوا بما قطع به الصحابة فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم. ومثل هذا الدليل يصح أن يناقش فيه: بأن إجماعهم هذا إن كان يعلم بسببه قول المعصوم فلا شك في أن هذا علم قطعي بالحكم الواقعي، فيكون حجة لأنه قطع بالنسبة، ولا كلام لأحد فيه، لان هذا الإجماع يكون من طرق إثبات السنة. وأما إذا لم يعلم بسببه قول المعصوم - كما هو المقصود من فرض الإجماع حجة مستقلة ودليلا في مقابل الكتاب والسنة - فأن قطع المجمعين مهما كانوا لئن كان يستحيل في العادة قصدهم الكذب في ادعاء القطع كما في الخبر المتواتر فإنه لا يستحيل في حقهم الغفلة أو الاشتباه أو الغلط، كما لا يستحيل أن يكون إجماعهم بدافع العادة أو العقيدة أو أي دافع من الدوافع الأخرى التي أشرنا إليها سابقا. ولأجل ذلك اشترطنا في التواتر الموجب للعلم الا يتطرق إليه احتمال خطأ المخبرين في فهم الحادثة واشتباههم كما شرحناه في كتاب المنطق الجزء الثالث ص 10.
ولا عجب في تطرق احتمال الخطأ في اتفاق الناس على رأي، بل تطرق الاحتمال إلى ذلك أكثر من تطرقه إلى الاتفاق في النقل، لان أسباب الاشتباه والغلط فيه أكثر. ثم إن هذا الطريق العقلي أو المعنوي لو تم، فأي شيء يخصصه بخصوص الصحابة أو المسلمين أو علماء طائفة خاصة من دون باقي الناس وسائر الأمم، الا إذا ثبت من دليل آخر اختصاص المسلمين أو بعض منهم بمزية خاصة ليست للأمم الأخرى وهي العصمة من الخطأ. فإذا - على التقدير - لا يكون الدليل على الإجماع الا هذا الدليل الذي يثبت العصمة للأمة المسلمة أو بعضها، لا الطريق العقلي المدعى. وهذا رجوع إلى المسلك الأول والثاني وليس هو مسلكا مستقلا عنها.
وبالختام نقول: إذا كانت هذه المسالك الثلاثة لم تتم لنا أدلة على حجية الإجماع من أصلة من جهة انه إجماع، فلا يظهر للإجماع قيمة من ناحية كونه حجة ومصدرا للتشريع الإسلامي مهما بالغ الناس في الاعتماد عليه. وإنما يصح الاعتماد عليه إذا كشف لنا عن قول المعصوم فيكون حينئذ كالخبر المتواتر الذي تثبت به السنة. وسيأتي البحث عن ذلك.
وأما السؤال الثاني: فالذي يثيره أن ظاهر تلك المسالك الثلاثة المتقدمة يقضي بأن الحجة إنما هو إجماع الأمة كلها أو جميع المؤمنين بدون استثناء فمتى ما شذ واحد منهم أي كان فلا يتحقق الإجماع الذي قام الدليل على حجيته، فانه مع وجود المخالف وان كان واحدا لا يحصل القطع بحجية إجماع من عداه مهما كان شأنهم، لان العصمة على تقدير ثبوتها بالأدلة المتقدمة انما ثبتت لجميع الأمة لا لبعضها. ولكن ما توقعوه من ذهابهم إلى حجية الإجماع - وهو إثبات شرعية بيعة أبي بكر - لم يحصل لهم، لأنه قد ثبت من طريق التواتر مخالفة علي عليه السلام وجماعة كبيرة من بني هاشم وباقي المسلمين، ولئن التجأ أكثرهم بعد ذلك إلى البيعة فانه بقي منهم من لم يبايع حتى مات مثل سعد بن عبادة (قتيل الجن!). ولأجل هذه المفارقة بين أدلة الإجماع وواقعه الذي أرادوا تصحيحه كثرت الأقوال في هذا الباب لتوجيهها: فقال مالك - على ما نسب إليه -: إن الحجة هو إجماع أهل المدينة فقط. وقال قوم: الحجة إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة. وقال قوم: المعتبر إجماع أهل الحل والعقد. وقال بعض: المعتبر إجماع الفقهاء الأصوليين خاصة. وقال بعض: الاعتبار بإجماع أكثر المسلمين واشترط بعض في المجمعين أن يحققوا عدد التواتر. وقال آخرون: الاعتبار بإجماع الصحابة فقط دون غيرهم ممن جاءوا بعد عصرهم كما نسب ذلك إلى داود وشيعته. إلى غير ذلك من الأقوال التي يطول ذكرها المنقولة في جملة من كتب الأصول. وكل هذه الأقوال تحكمات لا سند لها ولا دليل، ولا ترفع الغائلة من تلك المفارقة الصارخة. والذي دفع أولئك القائلين بتلك المقالات أمور وقعت في تأريخ بيعة الخلفاء يطول شرحها ارادوا تصحيحها بالإجماع. هذه هي الجذور العميقة للمسألة التي اوقعت القائلين بحجة الإجماع في حيص وبيص لتصحيحه وتوجيهه، وإلا فتلك المسالك الثلاثة - ان سلمت - لا تدل على أكثر من حجية إجماع الكل بدون استثناء، فتخصيص حجيته ببعض الأمة دون بعض بلا مخصص. نعم المخصص هو الرغبة في إصلاح أصل المذهب والمحافظة عليه على كل حال. الإجماع عند الإمامية ان الإجماع بما هو إجماع لا قيمة علمية له عند الإمامية ما لم يكشف عن قول المعصوم، كما تقدم وجهه. فإذا كشف على نحو القطع عن قوله فالحجة في الحقيقة هو المنكشف لا الكاشف، فيدخل حينئذ في السنة، ولا يكون دليلا مستقلا في مقابلها. وقد تقدم انه لم تثبت عندنا عصمة الأمة عن الخطأ، وانما أقصى ما يثبت عندنا من اتفاق الأمة انه يكشف عن رأي من له العصمة. فالعصمة في المنكشف لا في الكاشف. وعلى هذا، فيكون الإجماع منزلته منزلة الخبر المتواتر الكاشف بنحو القطع عن قول المعصوم، فكما أن الخبر المتواتر ليس بنفسه دليلا على الحكم الشرعي رأسا بل هو دليل على الدليل على الحكم، فكذلك الإجماع ليس بنفسه دليلا بل هو دليل على الدليل. غاية الأمر أن هناك فرقا بين الإجماع والخبر المتواتر: إن الخبر دليل لفظي على قول المعصوم أي انه يثبت به نفس كلام المعصوم ولفظه فيما إذا كان التواتر للفظ. أما الإجماع فهو دليل قطعي على نفس رأي المعصوم لا على لفظ خاص له، لأنه لا يثبت به - في أي حال - إن المعصوم قد تلفظ بلفظ خاص معين في بيانه للحكم. ولأجل هذا يسمى الإجماع بالدليل اللبي، نظير الدليل العقلي. يعني انه يثبت بهما نفس المعنى والمضمون من الحكم الشرعي الذي هو كاللب بالنسبة إلى اللفظ الحاكي عنه الذي هو كالقشر له. والثمرة بين الدليل اللفظي واللبي تظهر في المخصص إذا كان لبيا أو لفظيا، على ما ذكره الشيخ الأنصاري كما تقدم (في المجلد الأول ص 141) لذهابه إلى جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية إذا كان المخصص لبيا دون ما إذا كان لفظيا. وإذا كان الإجماع حجة من جهة كشفه عن قول المعصوم فلا يجب فيه اتفاق الجميع بغير استثناء كما هو مصطلح أهل السنة على مبناهم، بل يكفي اتفاق كل من يستكشف من اتفاقهم قول المعصوم كثروا أم قلوا إذا كان العلم باتفاقهم يستلزم العلم بقول المعصوم، كما صرح بذلك جماعة من علمائنا. قال المحقق في المعتبر ص 6، بعد أن أناط حجية الإجماع بدخول المعصوم: (فلو خلا المائة من فقهائنا من قوله لما كان حجة، ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة).
وقال السيد المرتضى على ما نقل عنه: (إذا كان علة كون الإجماع حجة كون الإمام فيهم فكل جماعة كثرت أو قلت كان الإمام في أقوالها فإجماعها حجة). إلى غير ذلك من التصريحات المنقولة عن جماعة كثيرة من علمائنا. لكن سيأتي انه على بعض المسالك في الإجماع لا بد من إحراز اتفاق الجميع. وعلى هذا، فيكون تسمية اتفاق جماعة من علماء الإمامية بالإجماع مسامحة ظاهرة، فان الإجماع حقيقة عرفية في اتفاق جميع العلماء من المسلمين على حكم شرعي. ولا يلزم من كون مثل اتفاق الجماعة القليلة حجة أن يصح تسميتها بالإجماع، ولكن قد شاع هذا التسامح في لسان الخاصة من علماء الإمامية على وجه أصبح لهم اصطلاح آخر فيه، فيراد من الإجماع عندهم كل اتفاق يستكشف منه قول المعصوم سواء كان اتفاق الجميع أو البعض، فيعم القسمين. والخلاصة التي نريد ان ننص عليها وتعنينا من البحث: ان الإجماع انما يكون حجة إذا علم بسببه - على سبيل القطع - قول المعصوم، فما لم يحصل العلم بقوله وان حصل الظن منه فلا قيمة له عندنا، ولا دليل على حجية مثله. أما كيف يستكشف من الإجماع على سبيل القطع قول المعصوم فهذا ما ينبغي البحث عنه. وقد ذكروا لذلك طرقا انهاها المحقق الشيخ أسد الله التستري في رسالته في المواسعة والمضايقة - على ما نقل عنه - إلى اثنتي عشرة طريقا. ونحن نكتفي بذكر الطرق المعروفة وهي ثلاث بل أربع:
1 - (طريقة الحس)، وبها يسمى الإجماع: الإجماع الدخولي، وتسمى (الطريقة التضمنية). وهي الطريقة المعروفة عند قدماء الأصحاب التي اختارها السيد المرتضى وجماعة سلكوا مسلكه. وحاصلها: ان يعلم بدخول الإمام في ضمن المجمعين على سبيل القطع من دون ان يعرف بشخصه من بينهم.
وهذه الطريقة انما تتصور إذا استقصى الشخص المحصل للإجماع بنفسه وتتبع أقوال العلماء فعرف اتفاقهم ووجد من بينها أقوالا متميزة معلومة لأشخاص مجهولين حتى حصل له العلم بان الإمام من جملة أولئك المتفقين أو يتواتر لديهم النقل عن أهل بلد أو عصر فعلم ان الإمام كان من جملتهم ولم يعلم قوله بعينه من بينهم فيكون من نوع الإجماع المنقول بالتواتر. ومن الواضح ان هذه الطريقة لا تتحقق غالبا الا لمن كان موجودا في عصر الإمام. أما بالنسبة إلى العصور المتأخرة فبعيدة التحقق لا سيما في الصورة الأولى وهي السماع من نفس الإمام. وقد ذكروا انه لا يضر في حجية الإجماع - على هذه الطريقة - مخالفة معلوم النسب وان كثروا ممن يعلم انه غير الإمام، بخلاف مجهول النسب على وجه يحتمل انه الإمام. فانه في هذه الصورة لا يتحقق العلم بدخول الإمام في المجمعين.
2 - (طريقة قاعدة اللطف). وهي ان يستكشف عقلا رأى المعصوم من اتفاق من عداه من العلماء الموجودين في عصره خاصة أو في العصور المتأخرة، مع عدم ظهور ردع من قبله لهم بأحد وجوه الردع الممكنة خفية أو ظاهرة أما بظهوره نفسه أو بإظهار من يبين الحق في المسألة. فان قاعدة اللطف كما اقتضت نصب الإمام وعصمته تقتضي أيضا أن يظهر الإمام الحق في المسألة التي يتفق المفتون فيها على خلاف الحق، وإلا للزم سقوط التكليف بذلك الحكم أو اخلال الإمام بأعظم ما وجب عليه ونصب لأجله، وهو تبليغ الأحكام المنزلة. وهذه الطريقة هي التي اختارها الشيخ الطوسي ومن تبعه، بل يرى الحصار استكشاف قول الإمام من الإجماع فيها. وربما يستظهر من كلام السيد المرتضى المنقول في العدة عنه في رد هذه الطريقة كونها معروفة قبل الشيخ أيضا. ولازم هذه الطريقة قدح المخالقة مطلقا سواء كانت من معلوم النسب أو مجهولة مع العلم بعدم كونه الإمام ولم يكن معه برهان يدل على صحة فتواه. ولازم هذه الطريقة أيضا عدم كشف الإجماع إذا كان هناك آية أو سنة قطعية على خلاف المجمعين وان لم يفهموا دلالتها على الخلاف. إذ يجوز ان يكون الإمام قد اعتمد عليها في تبليغ الحق.
3 - (طريقة الحدس) وهي أن يقطع بكون ما اتفق عليه فقهاء الإمامية وصل إليهم من رئيسهم وامامهم يدا بيد، فان اتفاقهم مع كثرة اختلافهم في أكثر المسائل يعلم منه ان الاتفاق كان مستندا إلى رأي امامهم لاعن اختراع للرأي من تلقاء أنفسهم أتباعا للأهواء أو استقلالا بألفهم. كما يكون ذلك في اتفاق أتباع سائر ذوي الآراء والمذاهب فانه لا نشك فيها انها مأخوذة من متبعوهم ورئيسهم الذي يرجعون إليه. والذي يظهر انه قد ذهب إلى هذه الطريقة أكثر المتأخرين. ولازمها ان الاتفاق ينبغي ان يقع في جميع العصور من عصر الأئمة إلى العصر الذي نحن فيه، لان اتفاق أهل عصر واحد مع مخالفة من تقدم يقدح في حصول القطع، بل يقدح فيه مخالفة معلوم النسب ممن يعتد بقوله، فضلا عن مجهول النسب.
4 - (طريقة التقرير)، وهي أن يتحقق الإجماع بمرأى ومسمع من المعصوم، مع امكان ردعهم ببيان الحق لهم ولو بإلقاء الخلاف بينهم، فان اتفاق الفقهاء على حكم - والحال هذه - يكشف عن اقرار المعصوم لهم فيما رأوه وتقريرهم على ما ذهبوا إليه. فيكون ذلك دليلا على ان ما اتفقوا عليه هو حكم الله واقعا. وهذه الطريقة لا تتم الا مع إحراز جميع شروط التقرير التي قد تقدم الكلام عليها في مبحث السنة. ومع إحراز جميع الشروط لا شك في استكشاف موافقة المعصوم، بل بيان الحكم من شخص واحد بمرأى ومسمع من المعصوم مع امكان ردعه وسكوته عنه يكون سكوته تقريرا كاشفا عن موافقته. ولكن المهم ان يثبت لنا ان الإجماع في عصر الغيبة هل يتحقق فيه امكان الردع من الإمام ولو بألقاء الخلاف، أو هل يجب على الإمام بيان الحكم الواقعي والحال هذه؟ وسيأتي ما ينفع في المقام.
هذه خلاصة ما قيل من الوجوه المعروفة في استنتاج قول الإمام من الإجماع وقد يحصل للإنسان المتتبع لأقوال العلماء المحصل لإجماعهم بعض الوجوه دون البعض، أي لا يجب في كل إجماع أن يبتني على وجه واحد من هذه الوجوه وان كان السيد المرتضى يرى انحصاره في الطريقة الأولى (الطريقة التضمنية) أي الإجماع الدخولي، والشيخ الطوسي يرى انحصاره في الطريقة الثانية لأقوال (طريقة قاعدة اللطف). وعلى كل حال، فان الإجماع انما يكون حجة إذا كشف كشفا قطعيا عن قول المعصوم من أي سبب كان وعلى أية طريقة حصل. فليس من الضروري أن نفرض حصوله من طريقة مخصوصة من هذه الطرق أو نحوها، بل المناط حصول القطع بقول المعصوم.
والتحقيق انه يندر حصول القطع بقول المعصوم من الإجماع المحصل ندرة لا تبقى معها قيمة لأكثر الإجماعات التي نحصلها، بل لجميعها بالنسبة إلى عصور الغيبة. وتفصيل ذلك أن نقول (ببرهان السبر والتقسيم): إن المجمعين إما أن يكون رأيهم الذي اتفقوا عليه بغير مستند ودليل أو عن مستند ودليل. - لا يصح الفرض الأول، لان ذلك مستحيل عادة في حقهم. ولو جاز ذلك في حقهم فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحق. - فيتعين ألفرض الثاني، وهو أن يكون لهم مدرك، خفي علينا وظهر لهم. ومدارك الأحكام منحصرة عند الإمامية في أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والدليل العقلي. ولا يصح أن يكون مدركهم ما عدا السنة من هذه الأربعة:
أما (الكتاب) فإنما لا يصح أن يكون مدركهم فلأجل أن القرآن الكريم بين أيدينا مقروء ومفهوم، فلا يمكن فرض آية منه خفيت علينا وظهرت لهم. ولو فرض أنهم فهموا من آية شيئا خفي علينا وجهه فان فهمهم ليس حجة علينا فاجتماعهم لو استند إلى ذلك لا يكون موجبا للقطع بالحكم الواقعي أو موجبا لقيام الحجة علينا. فلا ينفع مثل هذا الإجماع. وأما (الإجماع) فواضح انه لا يصح أن يكون مدركا لهم، لان هذا الإجماع الذي صار مدركا للإجماع ننقل الكلام إليه أيضا، فنسأل عن مدركه. فلابد أن ينتهي إلى غيره من المدارك الأخرى. وأما (الدليل العقلي) فأوضح، لأنه لا يتصور هناك قضية عقلية يتوصل بها إلى حكم شرعي كانت مستورة علينا وظهرت لهم، ضرورة انه لا بد في القضية العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي أن تتطابق عليها جميع آراء العقلاء، وإلا فلا يصح التوصل بها إلى الحكم الشرعي. فلو أن المجمعين كانوا قد تمسكوا بقضية عقلية ليست بهذه المثابة فلا تبقى قيمة لآرائهم حتى يستكشف منها الحق وموافقة الإمام، لأنهم يكونون كمن لا مدرك لهم. فانحصر مدركهم في جميع الأحوال (السنة). والاستناد إلى السنة يتصور على وجهين:
1 - أن يسمع المجمعون أو بعضهم الحكم من المعصوم مشافهة أو يرون فعله أو تقريره. وهذا بالنسبة إلى عصرنا لا سبيل فيه حتى إلى الظن به فضلا عن القطع، وان احتمل امكان مشافهة بعض الأبدال من العلماء للإمام. بل الحال كذلك حتى بالنسبة إلى من هم في عصر المعصومين، أي انه لا يحصل القطع فيه لنا بمشافهتهم للمعصوم، لاحتمال أنهم استندوا إلى رواية وثقوا بها، وان كان احتمال المشافهة قريبا جدا. بل هي مظنونة. على انه لا مجال - بالنسبة إلينا - لتحصيل إجماع الفقهاء الموجودين في تلك العصور، إذ ليست آراؤهم مدونة، وكل ما دونوه هي الأحاديث التي ذكروها في أصولهم المعروفة بالأصول الأربعمائة.
2 - أن يستند المجمعون إلى رواية عن المعصوم. ولا مجال في هذا الإجماع لإفادته القطع بالحكم أو كشفه عن الحجة الشرعية من جهة السند والدلالة معا: إما من (جهة السند) فلاحتمال أن المجمعين كانوا متفقين على اعتبار الخبر الموثق أو الحسن، فمن لا يرى حجيتهما لا مجال له في الاستناد إلى مثله. فمن أين يحصل لنا العلم بأنهم استندوا إلى ما هو حجة باتفاق الجميع. وأما من (جهة الدلالة) فلاحتمال أن يكون ذلك الخبر المفروض - أو فرض انه حجة من جهة السند - ليس نصا في الحكم. ولا ينفع أن يكون ظاهرا عندهم في الحكم، فان ظهور دليل عند قوم لا يستلزم أن يكون ظاهرا لدى كل أحد، وفهم قوم ليس حجة على غيرهم. الا ترى أن المتقدمين اشتهر عندهم استفادة النجاسة من أخبار البئر واشتهر عند المتأخرين عكس ذلك ابتداء من العلامة الحلي. فلعل الخبر الذي كان مدركا لهم ليس ظاهرا عندنا لو اطلعنا عليه. إذا عرفت ذلك ظهر لك إن الإجماع لا يستلزم القطع بقول المعصوم عدا الإجماع الدخولي وهو بالنسبة إلينا غير عملي. وأما القول بأن (قاعدة اللطف) تقتضي أن يكون الإمام موافقا لرأي المجمعين وان استند المجمعون إلى خبر الواحد الذي ربما لا تثبت لنا حجيته من جهة السند أو الدلالة لو اطلعنا عليه - فإننا لم نتحقق جريان هذه القاعدة في المقام وفاقا لما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وغيره، بالرغم من تعويل الشيخ الطوسي وأتباعه عليها، لان السبب الذي يدعو إلى اختفاء الإمام واحتجاب نفعه مع ما فيه من تفويت لأعظم المصالح النوعية للبشر هو نفسه قد يدعو إلى احتجاب حكم الله عند إجماع العلماء على حكم مخالف للواقع لا سيما إذا كان الإجماع من أهل عصر واحد. ولا يلزم من ذلك اخلال الإمام بالواجب عليه وهو تبليغ الأحكام، لان الاحتجاب ليس من سببه.
وعلى هذا فمن أين يحصل لنا القطع بأنه لا بد للإمام من إظهار الحق في ل حال غيبته عند حصول إجماع مخالف للواقع؟ وللمشكك أن يزيد على ذلك فيقول: لماذا لا تقتضي هذه القاعدة أن يظهر الإمام الحق حتى في صورة الخلاف، لا سيما بعض المسائل الخلافية قد يقع فيها أكثر الناس في مخالفة الواقع؟ بل لو أحصينا المسائل الخلافية في ألفقه التي هي الأكثر من مسائله لوجدنا أن كثيرا من الناس لا محالة واقعون في مخالفة الواقع، فلماذا لا يجب على الإمام هنا تبليغ الأحكام ليقل الخلاف أو ينعدم وبه نجاة المؤمنين من الوقوع في مخالفة الواقع. وإذا جاء الاحتمال لا يبقى مجال لاستلزام الإجماع القطع بقول المعصوم من جهة قاعدة اللطف. وأما (مسلك الحدس) فان عهدة دعواه على مدعيها وليس من السهل حصول القطع للإنسان في ذلك، الا أن يبلغ الاتفاق درجة يكون الحكم فيه من ضروريات الدين أو المذهب، أو قريبا من ذلك عندما يحرز اتفاق جميع العلماء في جميع العصور بغير استثناء، فان مثل هذا الاتفاق يستلزم عادة موافقته لقول الإمام وان كان مستند المجمعين خبر الواحد أو الأصل. وكذلك يلحق بالحدس مسلك التقرير ونحوه مما هو من هذا القبيل. وعلى كل حال لم تبق لنا ثقة بالإجماع فيما بعد عصر الإمام في استفادة قول الإمام على سبيل القطع واليقين. الإجماع المنقول إن الإجماع - في الاصطلاح - ينقسم إلى قسمين:
1 - (الإجماع المحصل). والمقصود به الإجماع الذي يحصله ألفقيه بنفسه بتتبع أقوال أهل الفتوى. وهو الذي تقدم البحث عنه.
2 - (الإجماع المنقول). والمقصود به الإجماع الذي لم يحصله ألفقيه بنفسه وانما ينقله له من حصله من الفقهاء، سواء كان النقل له بواسطة أم بوسائط.
ثم النقل (تارة) يقع على نحو التواتر. وهذا حكمه حكم المحصل من جهة الحجية. و (أخرى) يقع على نحو خبر الواحد، وإذا أطلق قول (الإجماع المنقول) في لسان الأصوليين فالمراد منه هذا الأخير. وقد وقع الخلاف بينهم في حجيته على أقوال. ولكن الذي يظهر أنهم متفقون على حجية نقل الإجماع الدخولي، وهو الإجماع الذي يعلم الا فيه من حال الناقل انه تتبع فتاوى من نقل اتفاقهم حتى المعصوم، فيدخل المعصوم في جملة المجمعين. وينبغي أن يتفقوا على ذلك، لأنه لا يشترط في حجية خبر الواحد معرفة المعصوم تفصيلا حين سماع الناقل منه، وهذا الناقل حسب الفرض قد نقل عن المعصوم بلا واسطة وان لم يعرفه بالتفصيل. غير أن الإجماع الدخولي مما يعلم عدم وقوع نقله، لا سيما في العصور المتأخرة عن عصر الأئمة، بل لم يعهد من الناقلين للإجماع من ينقله على هذا الوجه ويدعى ذلك. وعليه، فموضع الخلاف منحصر في حجية الإجماع المنقول غير الإجماع الدخولي، وهو كما قلنا على أقوال:
1 - إنه حجة مطلقا، لأنه خبر واحد.
2 - انه ليس بحجة مطلقا، لأنه لا يدخل في أفراد خبر الواحد من جهة كونه حجة.
3 - التفصيل بين نقل إجماع جميع الفقهاء في جميع العصور الذي يعلم فيه من طريق الحدس قول المعصوم فيكون حجة، وبين غيره من الإجماعات المنقولة الذي يستكشف منها بقاعدة اللطف أو نحوها قول المعصوم فلا يكون حجة. والى هذا التفصيل مال الشيخ الأنصاري الأعظم.
وسر الخلاف في المسألة يكمن في أن أدلة خبر الواحد من جهة أنها تدل على وجوب التعبد بالخبر لا تشمل كل خبر عن أي شيء كان، بل مختصة بالخبر الحاكي عن حكم شرعي أو عن ذي أثر شرعي، لصح أن يتعبدنا الشارع به. وإلا فالمحكي بالخبر إذا لم يكن حكما شرعيا أو ذا أثر شرعي لا معنى للتعبد به، فلا يكون مشمولا لأدلة حجية خبر الواحد. ومن المعلوم أن الإجماع المنقول - غير الإجماع الدخولي - انما المحكي به بالمطابقة نفس أقوال العلماء، وأقوال العلماء في أنفسها بما هي أقوال علماء ليست حكما شرعيا ولا ذات أثر شرعي. وعليه، فنقل أقوال العلماء من جهة كونها أقوال علماء لا يصح أن يكون مشمولا لأدلة خبر الواحد. وإنما يصح أن يكون مشمولا لها إذا كشف هذا النقل عن الحكم الصادر عن المعصوم ليصح التعبد به. إذا عرفت ذلك، فنقول: إن ثبت لدينا: انه يكفي في صحة التعبد بالخبر هو كشفه - على أي نحو كان من الكشف - عن الحكم الصادر من المعصوم، ولو باعتبار الناقل، نظرا إلى أنه لا يعتبر في حجية الخبر حكاية نص ألفاظ المعصوم، لان المناط معرفة حكمه ولذا يجوز النقل بالمعنى - فالإجماع المنقول الذي هو موضع البحث يكون حجة مطلقا، لأنه كاشف وحاك عن الحكم باعتقاد الناقل فيكون مشمولا لأدلة حجية الخبر. وأما إن ثبت لدينا: إن المناط في صحة التعبد بالخبر أن يكون حاكيا عن الحكم من طريق الحس، أي يجب أن يكون الناقل قد سمع بنفسه الحكم من المعصوم، ولذا لا تشمل أدلة حجية الخبر فتوى المجتهد وإن كان قاطعا بالحكم مع أن فتواه في الحقيقة حكاية عن الحكم بحسب اجتهاده - فالإجماع المنقول الذي هو موضع البحث ليس بحجة مطلقا. وأما لو ثبت أن الأخبار عن حدس اللازم للأخبار عن حس يصح التعبد به لان حكمه حكم الأخبار عن حس بلا فرق - فان التفصيل المتقدم في القول الثالث يكون هو الأحق.
وإذا اتضح لدينا سر الخلاف في المسألة، بقي علينا أن نفهم أي وجه من الوجوه المتقدمة هو الأولى بالتصديق والأحق بالاعتماد، فنقول:
أولا - إن أدلة خبر الواحد جميعها من آيات وروايات وبناء عقلاء، أقصى دلالتها أنها تدل على وجوب تصديق الثقة وتصويبه في نقله لغرض التعبد بما ينقل. ولكنها لا تدل على تصويبه في اعتقاده. بيان ذلك: إن معنى تصديق الثقة هو البناء على واقعية نقله، وواقعية النقل تستلزم واقعية المنقول، بل واقعية النقل عين واقعية المنقول، فالقطع بواقعية النقل لا محالة يستلزم القطع بواقعية المنقول، وكذلك البناء على واقعية النقل يستلزم البناء على واقعية المنقول. وعليه، فإذا المنقول حكما أو ذا أثر شرعي صح البناء على الخبر والتعبد به بالنظر إلى هذا المنقول، أما إذا كان المنقول اعتقاد الناقل، كما لو أخبر شخص عن اعتقاده بحكم فغاية ما يقتضي البناء على تصديق نقله هو البناء على واقعية اعتقاده الذي هو المنقول، والاعتقاد في نفسه ليس حكما ولا ذا أثر شرعي. أما صحة اعتقاده ومطابقته للواقع فذلك شيء آخر أجنبي عنه، لان واقعية الاعتقاد لا تستلزم واقعية المعتقد به، يعني إننا قد نصدق المخبر عن اعتقاده في أن هذا هو اعتقاده واقعا لكن لا يلزمنا أن نصدق بأن ما اعتقده صحيح وله واقعية. ومن هنا نقول: انه إذا أخبر شخص بأنه سمع الحكم من المعصوم صح أن نبني على واقعية نقله تصديقا له بمقتضى أدلة حجية الخبر، لان ذلك يستلزم واقعية المنقول وهو الحكم، إذ لم يمكن التفكيك بين واقعية النقل وواقعية المنقول. أما إذا أخبر عن اعتقاده بأن المعصوم حكم بكذا فلا يصح البناء على واقعية اعتقاده تصديقا له بمقتضى أدلة حجية الخبر، لان البناء على واقعية اعتقاده تصديقا له لا يستلزم البناء على واقعية معتقده. فيجوز التفكيك بينهما. فتحصل أن أدلة خبر الواحد انما تدل على أن الثقة مصدق ويجب تصويبه في نقله، ولا تدل على تصويبه في رأيه واعتقاده وحدسه. وليس هناك أصل عقلائي يقول: إن الأصل في الإنسان أو الثقة خاصة أن يكون مصيبا في رأيه ه وحدسه واعتقاده.
ثانيا - بعد أن ثبت أن أدلة حجية الخبر لا تدل على تصويب الناقل في رأيه وحدسه، فنقول: لو أن ما أخبر به الناقل للإجماع يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم وان لم يكن في نظر الناقل مستلزما لذلك - فهل هذا أيضا غير مشمول لأدلة حجية الخبر؟ الحق انه ينبغي أن يكون مشمولا لها، لان الأخذ به حينئذ لا يكون من جهة تصديق الناقل في رأيه، وربما كان الناقل لا يرى الاستلزام، بل لا يكون الأخذ به الا من جهة تصديقه في نقله، لأنه لما كان المنقول - وهو الإجماع - يستلزم في نظر المنقول إليه الحكم الصادر من المعصوم، فالأخذ به والبناء على صحة نقله يستلزم البناء على صدور الحكم فيصح التعبد به بلحاظ هذه الجهة. بل إن الخبر عن فتاوى الفقهاء يكون في نظر المنقول إليه ملزوما للخبر عن رأي المعصوم. وحينئذ يكون هذا الخبر الثاني اللازم للخبر الأول هو المشمول لأدلة حجية الخبر، لا سيما إذا كان في نظر الناقل أيضا مستلزما. ولا نحتاج بعدئذ إلى تصحيح شمولها للخبر الأول الملزوم بلحاظ استلزامه للحكم. يعنى إن الخبر عن الإجماع يكون دالا بالدلالة الإلتزامية على صدور الحكم من المعصوم، فيكون من ناحية المدلول التزامي وهو الأخبار عن صدور الحكم حجة مشمولا لأدلة حجية الخبر، وان لم يكن من جهة المدلول المطابقي حجة مشمولا لها، لان الدلالة الإلتزامية غير تابعة للدلالة المطابقية من ناحية الحجية وان كانت تابعة لها ثبوتا إذ لا دلالة إلتزامية الا مع فرض الدلالة المطابقية ولكن لا تلازم بينهما في الحجية. وإذا اتضح لك ما شرحناه يتضح لك إن الأولى التفصيل في الإجماع المنقول بين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر المنقول إليه لو كان هو المحصل له فيكون حجة، وبين ما إذا كان كاشفا عن الحكم في نظر الناقل فقط دون المنقول إليه، فلا يكون حجة، لما تقدم إن أدلة خبر الواحد لا تدل على تصديق الناقل في نظره ورأيه. ولعله إلى هذا التفصيل يرمي الشيخ الأعظم في تفصيله الذي أشرنا إليه سابقا.
___________
(1) المستصفي ج 1 ص 111.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|