المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8127 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر



قاعدة لا ضرر  
  
562   12:46 مساءاً   التاريخ: 4-9-2016
المؤلف : ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : أنوَار الاُصُول
الجزء والصفحة : ج 3 ص 214.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / تعاريف ومفاهيم ومسائل اصولية /

قد عنون كثير من الأعاظم تبعاً للشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني بمناسبة كلام الفاضل التوني(رحمه الله) قاعدة لا ضرر، حيث عقدوها للبحث بعنوان أنّها قاعدة فقهيّة، كما أنّ جماعة منهم كتبوا لها رسائل مستقلّة، ونحن نتعرّض لها هنا أيضاً اقتفاءً لآثارهم.

ولكن قبل الورود في البحث عن أصل القاعدة تنبغي الإشارة إلى أمرين:

الأوّل: أنّ القواعد الفقهيّة مع كثرتها وأهميّتها لها مصير مؤسف، فقد تعنونت عدّة منها في الكتب الاُصوليّة للمتأخّرين كقاعدة لا ضرر وقاعدة الفراغ والتجاوز، والقرعة، والميسور، وعدّة اُخرى في الكتب الفقهيّة كقاعدة ما لا يضمن وقاعدة اللزوم في أبواب المعاملات، ولكن قسم عظيم منها لم يُبحث عنها لا في الفقه ولا في الاُصول مع كثرة استدلالهم بها وشدّة حاجتهم إليها في طيّات كتب الفقه وشتّى أبواب العبادات والمعاملات(1)، فكان من حقّها أن تفرد من علمي الاُصول والفقه، وتبحث بصورة مستقلّة وفي علم مستقلّ، كما صنّفناه في كتابنا الموسوم بالقواعد الفقهيّة، فبحثنا فيه عن مهمّاتها و هي ثلاثون قاعدة.

الثاني: في تعريف القاعدة الفقهيّة ووجه إفتراقها عن المسائل الاُصوليّة والفقهيّة.

ولابدّ أوّلا من الإشارة الإجماليّة إلى تعريف المسائل الاُصوليّة والفقهيّة، فنقول:

أمّا المسائل الاُصوليّة فالمشهور إنّها «قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعضهم «هي القواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة» وفي كلمات بعض آخر: «هي قضايا تقع كبرى لقياس يستفاد منها حكم شرعي» والمختار عندنا (كما ذكرنا في محلّه) إنّها «القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

وأمّا المسائل الفقهيّة فهي: «ما يشتمل على حكم شرعي في موضوع خاصّ أمّا تكليفي أو وضعي».

وأمّا القواعد الفقهيّة فهي كالبرازخ بينهما واُمور تكون بنفسها من الأحكام الشرعيّة الفرعيّة (إثباتاً أو نفياً) لا أنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة حتّى تدخل في المسائل الاُصوليّة، بل تكون أحكاماً فرعية كلّية لا تختصّ بباب دون باب، وتجري في أبواب مختلفة، وليست أحكاماً جزئيّة لموضوعات خاصّة حتّى تدخل في المسائل الفقهيّة وتكون معدّة للورود في الرسائل العمليّة والوصول إلى أيدي المقلّدين مباشرة.

و هي على أقسام عديدة: فقسم منها ما يكون جارياً في جميع أبواب الفقه كقاعدة لا ضرر ولا حرج، وقسم منها يختصّ بكتاب خاصّ كقاعدة لا تعاد التي تختصّ بكتاب الصّلاة مع سريانها في أبواب مختلفة منها، وقاعدة الطهارة المختصّة بكتاب الطهارة، وقسم ثالث منها مختصّ بجميع أبواب المعاملات كقاعدة ما يضمن، أو بجميع أبواب العبادات كقاعدة الفراغ.

وبهذا ظهر أنّ القاعدة الفقهيّة لا تكون من المسائل الاُصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة، وظهر أيضاً الخلط الواقع في كلام الشهيد(رحمه الله) في قواعده بين القواعد الفقهيّة والفروع الفقهيّة، وما وقع من الخلط في كلمات بعض المتأخّرين بين الاُمور الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول : يقع الكلام في قاعدة لا ضرر في مقامات ثلاثة :

المقام الأوّل : في مداركها.

المقام الثاني : في مضمونها ومحتواها.

المقام الثالث : في بعض خصوصيّاتها وجزئياتها وفي ايضاح نسبتها إلى الأدلّة المتكفّلة للأحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأوّلية كأدلّة وجوب الصّلاة والصيام ونحوها ، أو الثانوية كأدلّة نفي العسر والحرج ونحوها.

المقام الأوّل : في مدرك القاعدة:

يمكن الاستدلال للقاعدة بالأدلّة الأربعة في الجملة ، وإن كانت العمدة هي السنّة.

1 ـ الكتاب :

فقد وردت فيه آيات عديدة في موارد خاصّة كباب الطلاق والإرث والرضاع والشهادة والوصيّة ن هي فيها عن الضرر بحيث يمكن اصطياد القاعدة من مجموعها ، وبعد ضمّ بعضها إلى بعض، ولا أقل من كونها مؤيّدة لما يأتي من الأدلّة.

منها : قوله تعالى في باب الرضاع : {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [البقرة: 233].

وقد ذكر له تفسيران :

أحدهما : أن تكون صيغة « لا تضارّ » مبنية على الفاعل ، وتكون الباء زائدة و « ولدها » مفعولاً بدون الواسطة ، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها ، والمعنى حينئذٍ هو النهي عن اضرار الامّ بولدها بترك ارضاعه غيظاً على أبيه لبعض الجهات ، وتمسّكاً بعموم ما يدلّ على عدم وجوب الارضاع عليها ، وعن اضرار الأب بولده بأن يأخذ للولد امرأة مرضعة ويمنع امّه عن ارضاعه ( فيتضرّر منه الولد ) تمسّكاً بعمومات ولايته على ابنه ، وعلى هذا تكون الآية حاكمة على عموم عدم وجوب الارضاع وعموم الولاية.

ثانيهما : أن تكون « لا تضارّ » مبنية على المفعول والباء للسببيّة ، والمعنى لا تضارّ الوالدة بسبب الولد بأن يترك مجامعتها خوفاً من الحمل ، ولا يضارّ الوالد بامتناع الامّ عن الجماع خوفاً من الحمل ، وبناءً على هذا المعنى تكون الآية بالإضافة إلى فقرتها الاولى مقدّمة على العموم ما يدلّ على جواز ترك الجماع مدّة أربعة أشهر ، وأمّا بالنسبة إلى الفقرة الثانية فلا حكومة لها على عموم دليل ، لأنّه لا عموم يدلّ على جواز امتناعها وعدم تمكينها ، بل الدليل على العكس فيدلّ على وجوب التمكين وحرمة الامتناع ، فتكون الآية حينئذٍ مؤيّدة لذاك الدليل لا حاكمة عليه.

ومنها : قوله تعالى في باب الطلاق : {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } [البقرة: 231]. حيث ين هي عن الرجوع إلى المطلّقات الرجعيّة وتكراره لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز الرجوع في الرجعيّات في مدّة العدّة ، فتكون الآية حاكمة على هذا العموم.

ومنها : قوله تعالى في باب الطلاق أيضاً : {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } [الطلاق: 6] حيث ين هي عن الإضرار والتضييق على المطلّقات في السكنى والنفقة في أيّام عدّتهنّ ، ويكون مفيداً لنا في المقام إذا كان المراد من التضييق الاكتفاء بالمقدار الأقلّ من الواجب بقصد الاضرار بها تمسّكاً بعموم ما يدلّ على جواز هذا الاكتفاء ، فتحكم الآية حينئذٍ على ذلك العموم وتقيّده بغير صورة الاضرار.

وأمّا إذا كان المراد منه اعطاء الأقلّ من مقدار الواجب فتكون الآية أجنبيّة عمّا نحن فيه لأنّ الاعطاء هذا بنفسه حرام ، ولا حاجة في إثبات حرمته إلى التمسّك بعنوان الاضرار.

ومنها : قوله تعالى في باب الشهادة : {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } [البقرة: 282] بناءً على كون « لا يضارّ » مبنيّاً على المفعول ، حيث إنّه حينئذٍ ين هي عن الاضرار بالكتّاب والشهداء بالرجوع إليهم للكتابة أو الشهادة في أيّ وقت وساعة ، تمسّكاً بعموم ما يدلّ على وجوبهما عليهم ( وهو ما ورد في صدر الآية من قوله تعالى : {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ } وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا } [البقرة: 282] فيكون ذيل الآية حينئذٍ حاكماً على عموم صدرها ، وأمّا بناءً على البناء على الفاعل فهي أجنبيّة عمّا نحن فيه ، لأنّ المعنى حينئذٍ النهي عن اضرار كاتب الدَين والشاهد عليه بكتابة ما لم يمل والشهادة بما لم يستشهد عليه ، أي بكتابة غير صحيحة وشهادة غير صادقة ، وهو حرام من غير حاجة إلى عنوان الاضرار.

ومنها : قوله تعالى في باب الوصيّة : {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] الذي ينهي عن الاضرار بالورّاث بالإقرار  بدَين ليس عليه ، دفعاً للميراث عنهم ، وتمسّكاً بعموم « الناس مسلّطون على أموالهم » فتحكم الآية على هذا العموم ويكون مفيداً لنا في المقصود.

هذه هي الآيات الخاصّة التي وردت في موارد مختلفة وتدلّ على حرمة الاضرار في خصوص تلك الموارد وبنحو الموجبة الجزئيّة ، ولا يبعد ـ كما مرّ ـ أن يصطاد منها عرفاً قاعدة لا ضرر بنحو كلّي وموجبة كلّية بإلغاء الخصوصيّة عن مواردها ، فإنّ العرف إذا ضمّ بعضها إلى بعض ونظر إلى مجموعها يمكن أن يستخرج منها قاعدة كلّية تحت عنوان « لا ضرر » ، وإن أبيت عن هذا فلا أقلّ من كونها مؤيّدة لسائر الأدلّة.

2 ـ الإجماع :

فلا إشكال في أنّ القاعدة مجمع عليها في الجملة ، أي توجد موارد عديدة في الفقه تكون عمدة الدليل فيها هي قاعدة لا ضرر ، نظير خيار الغبن ، ولكن لم ينعقد الإجماع عليها بعرضها العريض بحيث يمكن التعدّي إلى سائر موارد وجود الضرر ، مضافاً إلى أنّه مدركيّ فليس بحجّة.

3 ـ العقل :

فأيضاً توجد موارد كثيرة يمكن إندراجها تحت قاعدة قبح الظلم العقلي ، منها نفس مثال خيار الغبن وأشباهه إذا كان فاحشاً ، حيث إنّ العقل يحكم بقبح مثل هذا النحو من الضرر ، ومنها ما إذا جعل بيته فيما بين البيوت بيت حدّاد أو طبّاخ بحيث ينتهي إلى أذى الجيران. فلا إشكال في كونها من مصاديق الظلم القبيح ، نعم إثباته بالنسبة إلى جميع مصاديق الضرر مشكل جدّاً ، فيمكن أن نجد موارد يصدق فيها عنوان الضرر ولا يصدق عنوان الظلم عرفاً كالغبن في بعض مراتبه ، فدعوى دلالة العقل على القاعدة بنطاقها الواسع غير خالٍ عن الإشكال.

4 ـ السنّة :

( التي هي العمدة في المقام ) فتنقسم إلى الروايات الواردة من طرق الخاصّة والواردة من طرق العامّة.

أمّا الواردة من طرق الخاصّة : ف هي على طائفتين : طائفة تدلّ على هذه القاعدة بعمومها ، وطائفة وردت في موارد خاصّة يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها ولا أقل من كونها مؤيّدة للطائفة الاولى.

أمّا الطائفة الاولى فهي كثيرة :

منها : قضيّة سمرة بن جندب التي وردت بثلاثة طرق :

الأوّل : طريق ابن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه ‌السلام قال : « إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله فشكا إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله  صلى الله عليه وآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكى وقال : إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله فأبى أن يبيع فقال : لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله  صلى الله عليه وآله للأنصاري : إذهب فاقلعها وارم بها إليه فإنّه لا ضرر ولا ضرار » (2).

وهذه الرواية أحسن الرّوايات من جهة الدلالة على المطلوب ، لعدم ذكر قيد « على مؤمن » فيها ، وسيأتي دخله في المقصود من القاعدة.

الثاني : ما رواه ابن مسكان عن بعض أصحابنا عن زرارة ( أيضاً ) عن أبي جعفر عليه‌ السلام نحوه إلاّ أنّه قال : « فقال له رسول الله  صلى الله عليه وآله : إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال : ثمّ أمر بها فقلعت ورمى بها إليه ، فقال له رسول الله  صلى الله عليه وآله : إنطلق فاغرسها حيث شئت » (3).

الثالث : ما رواه أبو عبيدة الحذاء قال : قال أبو جعفر عليه‌ السلام : « كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل يكرهه الرجل قال : فذهب الرجل إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله فشكاه فقال : يارسول الله إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه ، فأرسل إليه رسول الله  صلى الله عليه وآله فدعاه فقال : يا سمرة ما شأن فلان يشكوك ويقول : يدخل بغير إذني فترى من أهله ما يكره ذلك ، يا سمرة استأذن إذا أنت دخلت ، ثمّ قال رسول الله  صلى الله عليه وآله يسرّك أن يكون لك عذق في الجنّة بنخلتك؟ قال : لا ، قال : لك ثلاثة؟ قال لا قال : ما أراك يا سمرة إلاّ مضارّاً ، إذهب يا فلان فاقطعها ( فاقلعها ) واضرب بها وجهه » (4).

هذه طرق ثلاثة وردت فيها قضية سمرة ، ولا إشكال في عدم صدور أصل القضيّة من جانب الرسول  صلى الله عليه وآله ثلاث مرّات ، وإن كان لا يبعد نقلها متعدّداً من أبي جعفر عليه ‌السلام ، وعمدة الفرق بينها أنّ في الطريق الأوّل ذكرت كبرى « لا ضرر ولا ضرار » فقط من دون قيد « على مؤمن » ، ومن دون بيان صغرى « إنّك رجل مضارّ » الواردة في الطريق الثالث ، بينما في الطريق الثاني مضافاً إلى بيان الكبرى ذكر كلا القيدين ، وفي الطريق الثالث ذكرت الصغرى فحسب ، ولا يخفى أنّ للحديث إذا كان شاملاً للكبرى قيمة اخرى.

ثمّ إنّ هاهنا نكات ينبغي الإشارة إليها ، ولتكن هي على ذكر منك :

الاولى : أنّ الظاهر من مجموع هذه الثلاثة أنّه كان لسمرة بن جندب حقّ العبور إلى نخلته من باب البستان الذي كان دار الأنصاري.

الثانية : أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله أراد الجمع بين حقّين : حقّ العبور وحقّ السكنى ، وتحقّق هذا الجمع كان باستئذان سمرة.

الثالثة : أنّ شفاعة الرسول  صلى الله عليه وآله للاستبدال بهذه النخلة ترشدنا إلى أنّه قد يلزم على القاضي أن يعطى من بيت المال ما يرفع الغائلة ويندفع به الخلاف ، كما ورد في بعض الرّوايات اعطاء الإمام الصادق عليه ‌السلام مفضّل بن عمر مقداراً من المال ليرفع بها المنازعات الواقعة بين أصحابه.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول  صلى الله عليه وآله بكبرى لا ضرر ولا ضرار على قلع الشجرة أو للجمع بين الحقّين؟

وهذا ممّا لم يطرح في كلمات القوم فيما رأيناه ، فيحتمل كونه للجمع بين الحقّين ، أي لتبدّل حقّ العبور من الاطلاق إلى الاشتراط ، ولقائل أن يقول بأنّ الجمع بين الحقّين لا يحتاج إلى الاستدلال بقاعدة لا ضرر لأنّه لازم قاعدة العدل والإنصاف ( إلاّ أن يكون من باب التأكيد ) فيكون الاستدلال على قلع الشجرة ، فأراد الرسول  صلى الله عليه وآله أن يدفع الضرر من طريق قلع الشجرة.

ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : « قضى رسول الله  صلى الله عليه وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع الشيء ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء ، فقال : لا ضرر ولا ضرار » (5).

وقد ذكر لقوله  صلى الله عليه وآله : « لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء » احتمالات أحسنها: أنّه ورد في الآبار التي كانت واقعة في أطراف المدينة ، التي يرفع بها ملاّكهم حوائجهم مع زيادة لها ، ولكن كانوا يمنعونها عن أهل البادية لسقي مواشيهم عند العطش الحاصل عادةً بعد الرعي في المراتع الواقعة حول الآبار ، فلم يقدروا على الاستفادة من كلائها فكان منع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء.

ويحتمل أيضاً أن يكون مفاده المقابلة بالمثل ، فإنّ المضايقة عن فضل الماء توجب مضايقة ملاّك المراتع عن فضل الكلاء.

ويساعد هذا الاحتمال تكرار الضرر في هذه القاعدة فيكون « لا ضرر » ناظراً إلى الضرر الأوّل ( أي المنع عن فضل الماء ) و « لا ضرار » إلى الضرر الثاني ، أي إلى مقابلة الثاني بالمثل ، وذلك لمكان باب المفاعلة كما سيأتي.

ثمّ إنّه هل كان استدلال الرسول  صلى الله عليه وآله على حكم مستحبّ ، أو على حكم وجوبي ، أي هل اعطاء فضل الماء وعدم المنع عنه واجب على صاحب البئر أو مستحبّ؟

المشهور هو الثاني ، وذهب الشيخ الطوسي رحمه‌ الله وجماعة إلى الأوّل ، وتفصيل الكلام في محلّه ، وإن كان قول الشيخ أوفق بظاهر الأدلّة.

ثمّ إنّه لو كانت كلمة « قال » الواردة في ذيل الحديث بالفاء ( فقال ) كان ذيل الحديث جزء من هذه الرواية ، وتصير رواية مستقلّة عمّا سبق ، فيؤخذ بما يستفاد من موردها الخاصّ من نكات وخصوصيّات ، وأمّا إذا كانت بالواو كما ادّعى العلاّمة شيخ الشريعة رحمه ‌الله وجوده في النسخة المصحّحة من الكافي عنده ، فيحتمل أن تكون جزء منها ، كما يحتمل أن تكون من باب الجمع في الرواية ، فيشكل ترتيب آثار الإتّصال عليه.

ومنها : ما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه ‌السلام : « قال قضى رسول الله  صلى الله عليه وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا ارّفت الأرف وحدّت الحدود فلا شفعة » (6).

فهذا الحديث أيضاً يمكن التمسّك به بعنوان رواية مستقلّة غير ما سبق ، إذا كان بمجموعه رواية واحدة كما هو الظاهر من وقوع القاعدة بين فقرتين كلتاهما وردتا في باب الشفعة (7) ، فتكون حينئذٍ من قبيل الحكمة لجعل الشفعة ( لا العلّة لأنّ البيع بغير الشريك ضرريّ في بعض الموارد لا في تمامها ).

ومنها : مرسلة الصدوق قال : وقال النبي  صلى الله عليه وآله : « الإسلام يزيد ولا ينقص ، (قال ) وقال  صلى الله عليه وآله : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيد شرّاً ، ( قال ) وقال  صلى الله عليه وآله : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (8).

وهو يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم لأنّ الإسلام يزيد ولا ينقص ، فلا يكون الإسلام من موانع الإرث عن الكافر بل يكون الكفر مانعاً عن إرث المسلم ، ولو كان الإسلام مانعاً لكان موجباً للضرر ولا ضرار في الإسلام.

ثمّ إنّه هل هذه الفقرات الثلاثة  هي ثلاثة أحاديث ، أو  هي بمجموعها حديث واحد؟ الظاهر هو الأوّل ، لكن كلّ واحد منها يدلّ على أنّ المسلم يرث من الكافر ولا يرث الكافر من المسلم. (وأمّا عبارة « فالإسلام يزيد المسلم خيراً ولا يزيده شرّاً » الواردة في ذيل الحديث الثاني فلعلّها من استنباط الصدوق وتفسيره ، وليس جزء للحديث ).

والذي يؤيّده ذلك ما رواه أبو الأسود الدؤلي أنّ معاذ بن جبل كان باليمن فاجتمعوا إليه وقالوا : يهودي مات وترك أخاً مسلماً ، فقال معاذ : سمعت رسول الله  صلى الله عليه وآله يقول : الإسلام يزيد ولا ينقص ، فورّث المسلم من أخيه اليهودي » (9). حيث إنّ معاذ استدلّ بالحديث الأوّل في قضائه من دون تذييله بالحديث الثاني ( لا ضرر ولا ضرار ).

كما يؤيّده أيضاً رواية الحاكم (10) إيّاه في المستدرك مجرّداً عن هذا الذيل ( لا ضرر ولا ضرار ).

ومنها : ما رواه هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبدالله عليه السلام في رجل شهد بعيراً مريضاً وهو يباع فاشتراه رجل بعشرة دراهم وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير بريء ، فبلغ ثمنه ( ثمانية ) دنانير قال فقال : « لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ فإن قال اريد الرأس والجلد فليس له ذلك ، هذا الضرار ، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس» (11).

وفي الحديث وإن ورد مجرّد الصغرى لكنّه بمنزلة قوله « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » حيث إنّ الكبرى فيه محذوفة و هي كلّ مسكر حرام ، كذلك في هذا الحديث فكبرى « لا ضرار » محذوفة فيه ، ولذلك تدخل في طائفة الرّوايات الدالّة على القاعدة بالعموم.

نعم لو قلنا : بأنّ الفرق بين « ضرر » و « ضرار » أنّ الثاني مخصوص بالضرر العمدي ، فيكون مفاد هذا الحديث أخصّ من مدلول غيرها ويكون ناهياً عن خصوص الضرر العمدي.

ومنها : ما رواه المحدّث الثوري في المستدرك عن دعائم الإسلام عن أبا عبدالله عليه‌ السلام إنّه سئل عن جدار الرجل وهو سترة بينه وبين جاره سقط فامتنع من بنيانه قال : « ليس يجبر على ذلك إلاّ أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال لصاحب المنزل استر على نفسك في حقّك إن شئت ، قيل له فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه أو أراد هدمه اضراراً بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه قال : لا يترك ، وذلك أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله قال : لا ضرر ولا ضرار ( اضرار ) وإن هدمه كلّف أن يبنيه » (12).

وسيأتي أنّ ذيل هذا الحديث شاهد على أنّ القاعدة يمكن الاستدلال بها لإثبات الحكم أيضاً لا لخصوص نفي الأحكام.

ومنها : ما رواه المحدّث النوري في المستدرك أيضاً عن أمير المؤمنين عليه‌ السلام : إنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار ».

ومنها : ما ورد في عوالي اللئالي عن أبي سعيد الخدري عنه  صلى الله عليه وآله أنّه قال : «لا ضرر ولا اضرار في الإسلام » (13).

وقال المصنّف بعد ذلك : وأسنده ابن ماجه والدارقطني وصحّحه الحاكم في المستدرك.

هذه هي الطائفة الاولى ، أي الروايات العامّة الدالّة على القاعدة عموماً.

أمّا الطائفة الثانية : من الروايات الخاصّة ، فمنها ما ورد في حريم البئر و هي اثنتان :

أحداها : ما رواه محمّد بن الحسن ( الحسين ) قال : « كتبت إلى أبي محمّد عليه‌ السلام : رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة اخرى إلى قرية له كم يكون بينهما في البعد حتّى لا تضرّ إحداهما بالأخرى في الأرض ، إذا كانت صلبة أو رخوة؟ فوقّع عليه‌ السلام : على حسب أن لا تضرّ إحداهما بالأخرى إن شاء الله » (14).

الثانية : ما رواه محمّد بن حفص عن رجل عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : « سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض قريبة بعضها من بعض ، فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الذي كانت عليه ، وبعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرّ بالبقية من العيون وبعضها لا يضرّ من شدّة الأرض ، قال : فقال : ما كان في مكان شديد فلا يضرّ ، وما كان في أرض رخوة بطحاء فإنّه يضرّ ، وإن عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها وهو على مقدار واحد قال : إن تراضيا فلا يضرّ ، وقال : يكون بين العينين الف ذراع » (15).

والمستفاد من هاتين الروايتين عدم جواز الإضرار بالغير وإن كان منشأه تصرّف الإنسان في ملكه ، نعم مقتضى خصوصية المورد اختصاص الحكم بباب حريم البئر وعدم جواز التعدّي إلى غيره ، ولكن يمكن الغائها عرفاً واسراء الحكم إلى مطلق موارد الإضرار بالغير ، ولا أقلّ من جوازه إلى غير البئر من سائر الجيران والأملاك المتقاربة ، وحينئذٍ تكون الروايتان حاكمتين على عموم الناس مسلّطون على أموالهم.

وقد ورد في كتاب إحياء الموات في باب حريم البئر بحث عنونه الفقهاء في أنّ الميزان في حريم العيون والقنوات هل هو مطلق عدم الاضرار ، أو مقدار الف ذراع في الأرض الرخوة وخمسمائة ذراع في الأرض الصلبة؟

مقتضى الاطلاق في الرواية الاولى بل صريحها هو الأوّل ، وهو المحكي عن الأسكافي والمختلف والمسالك ، ومدلول الرواية الثانية هو الثاني ، وهو مذهب المشهور ، ولقائل أن يقول بكفاية أحد الأمرين : البعد بالمقدار المذكور في الرواية الثانية ، أو العلم بعدم تضرّر الجار ، الذي يستفاد من الرواية الاولى.

ومنها : وما رواه عقبة بن خالد عن أبي عبدالله عليه‌ السلام في رجل أتى جبلاً فشقّ فيه قناة فذهبت الآخر بماء قناة الأوّل. قال : فقال : « يتقاسمان ( يتقايسان ) بحقائب (16) البئر ليلة ليلة فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها ، فإن رأيت الأخيرة أضرّت بالأولى فلتعور » (17).

« حقائب البئر » أو « عقائبه » اعجازها.

وهذه الرواية تحكم على عموم « من أحيى أرضاً ف هي له » كما لا يخفى.

وأمّا عدم جريان هذا الحكم بالنسبة إلى الاولى لو أضرّت بالثانية فإنّما هو لقاعدة الإقدام.

ثمّ لا يخفى أنّ المستفاد من هذه الرواية هو الحكم الوضعي ، وهو عدم استحقاق الثاني لبقاء ملكه على حاله.

وبهذا المضمون الرواية الثانية والثالثة الواردتان في نفس الباب ، والظاهر أنّ جميعها رواية واحدة.

ومنها : ما رواه محمّد بن الحسين قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه ‌السلام : « رجل كانت له رحى على نهر قرية والقرية لرجل فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر ويعطّل هذه الرحى ، أله ذلك أم لا؟ فوقّع عليه‌ السلام : يتّقي الله ويعمل في ذلك بالمعروف ولا يضرّ أخاه المؤمن » (18).

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية على المطلوب بأنّ دلالتها عليه متوقّفة على أن يكون موردها ما إذا لم يكن لصاحب الرحى حقّ الانتفاع من النهر من قبل ( فيقال حينئذٍ أنّ مقتضى عموم : « الناس مسلّطون على أموالهم » جواز سوق الماء إلى نهر آخر ولكنّه يمنع لقاعدة لا ضرر ).

وأمّا مع وجود احتمال آخر في موردها وهو : أنّ صاحب الرحى كان له حقّ الانتفاع من قبل ، تصير الرواية مجملة لا تصلح للاستدلال بها لأنّ مقتضى الاحتمال الثاني أن يكون سوق الماء في نهر آخر مزاحماً لحقّ صاحب الرحى ، ومتعدّياً عليه ، وأن يكون منع الإمام عليه‌ السلام مستنداً إلى هذه الجهة.

هذا ، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ الإمام عليه‌ السلام ( على أي حال ) أسند منعه إلى عنوان الضرر لا إلى عنوان العدوان والتعدّي على حقّ الغير ، وهذا كافٍ في الاستدلال به على المقصود ، ولا يبعد حينئذٍ الغاء الخصوصيّة عن موردها ، والحكم بعدم جواز الاضرار مطلقاً.

ومنها : ما رواه الطبرسي رحمه‌ الله في مجمع البيان في ذيل قوله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ... ) قال : جاء في الحديث « أنّ الضرار في الوصيّة من الكبائر » (19).

والظاهر ( بقرينة سائر الروايات الواردة في الباب ) أنّ المراد من الضرار في الوصيّة هو الوصيّة بتمام المال أو بأكثر من الثلث ، وهو بنفسه حرام ، ولذلك لا يتمّ الاستدلال بهذه الرواية لما نحن فيه ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حكمة جعل هذا الحكم هو حرمة الاضرار ، فيكون حاكماً على عموم قاعدة السلطنة ، ولازمه حكومة قاعدة لا ضرر على تلك القاعدة أيضاً فتأمّل ، ولا يخفى أنّها ناظرة إلى الحكم الوضعي.

ومنها : ما رواه طلحة بن زيد عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : « إنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا إثم » (20).

ومنها : ما رواه أبو بصير عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : سمعته يقول : « المطلّقة الحبلى ينفق عليها حتّى تضع حملها و هي أحقّ بولدها أن ترضعه بما تقبله امرأة اخرى ، يقول الله عزّ وجلّ : {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} « لا يضارّ بالصبي ولا يضارّ بأمه في إرضاعه ... » (21).

ومنها : ما رواه الحلبي عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال : كلّ شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه » (22).

فتدلّ على أنّ الاضرار بالغير ولو كان بالتصرّف في الشارع العام موجب للضمان وأنّه لا فرق بين أن يكون الاضرار بالمباشرة أو بالتسبيب.

ومثله ما جاء في حديث أبي الصباح عن أبي عبدالله عليه ‌السلام : « كلّ ما أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن » (23).

ومنها : ما رواه حسن بن زياد عن أبي عبدالله عليه‌ السلام قال : « لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها فهذا الضرار الذي ن هي الله عزّ وجلّ عنه إلاّ أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك » (24).

فيحتمل أن يكون المراد من قوله عليه ‌السلام : « فهذا الضرار الذي ن هي الله عزّ وجلّ عنه » ما مرّ من قوله تعالى : {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وعليه تكون الرواية من الطائفة الخاصّة ، ويحتمل أيضاً أن لا يكون مشيراً إلى تلك الآية فيدلّ على حرمة الاضرار بشكل عام، فتدخل الرواية حينئذٍ في الروايات العامّة ، والظاهر من الرواية ( خصوصاً بقرينة الروايتين الاخريين الواردتين في نفس الباب اللتين صرّح فيهما بالآية ) هو الأوّل.

ومنها : ما رواه في عقاب الأعمال بإسناده عن رسول الله  صلى الله عليه وآله في حديث قال : « ومن أضرّ بامرأة حتّى تفتدي منه نفسها لم يرض الله له بعقوبة دون النار ... إلى أن قال : ومن ضارّ مسلماً فليس منّا ولسنا منه في الدنيا والآخرة ... إلى أن قال : ألا وإنّ الله ورسوله بريئان ممّن أضرّ بامرأته حتّى تختلع منه » (25).

ولا يخفى أنّ هذه الرواية تشمل جميع موارد الضرر الذي يقع بين الناس بعضهم ببعض ، أي المسائل الحقوقية ، ولا يمكن التعدّي عنها إلى غيرها من أبواب العبادات.

ومنها : ما رواه إسماعيل بن الفضل الهاشمي قال : سألت أبا عبدالله عليه‌ السلام عن رجل اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج وأهلها كارهون وإنّما تقبلها من السلطان لعجز أهلها عنها أو غير عجز ، فقال : « إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلاّ أن يضارّوا ... » (26).

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة قال : قلت لأبي عبدالله عليه‌ السلام : الجارية يريد أبوها أن يزوّجها من رجل ويريد جدّها أن يزوّجها من رجل آخر فقال : « الجدّ أولى بذلك ما لم يكن مضارّاً » (27).

ومنها : ما رواه إسحاق بن عمّار قال قلت لأبي عبدالله عليه ‌السلام : « الرجل يكون عليه اليمين ( الدَين ) فيحلفه غريمه بالأيمان المغلّظة أن لا يخرج من البلد إلاّ بعلمه. فقال : لا يخرج حتّى يعلمه ، قلت : إن أعلمه لم يدعه قال : إن كان علمه ضرراً عليه وعلى عياله فليخرج ولا شيء عليه » (28).

ومنها : ما رواه حمران في حديث طويل قال : قال أبو جعفر عليه‌ السلام : « لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب » (29).

هذه  هي الروايات الواردة من طرق الخاصّة.

وأمّا ما ورد من طريق العامّة فمنها : ما رواه أحمد في مسنده عن عبادة بن صامت (30) مسنداً قال : « إنّ من قضاء رسول الله  صلى الله عليه وآله أنّ المعدن جبّار ، والبئر جبّار ، والعجماء جرحها جبّار ، والعجماء البهيمة من الأنعام ، والجبّار هو الهدي الذي لا يعزم ، وقضى في الركاز الخمس ، وقضى أنّ النخل لمن أبرّها إلاّ أن يشترط المبتاع ، وقضى أنّ مال المملوك لمن باعه ... إلى أن قال : وقضى للجدّتين من الميراث بالسدس بينهما ، وقضى أنّ من أعتق شركاء في المملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال ، وقضى أن لا ضرر ولا ضرار ، وقضى أنّه ليس لعرق ظالم حقّ ، وقضى بين أهل المدينة في النخل لا يمنع نفع بئر ، وقضى بين أهل البادية ( المدينة ) أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء » (31).

ومن الواضح ( بشهادة مضمون الرواية ) عدم صدور هذه الأقضية في زمان واحد وفي رواية واحدة بل صدرت في وقائع مختلفة جمعها عبادة بن صامت في هذا الحديث ، وحينئذٍ لا يبعد عدم كون قوله  صلى الله عليه وآله : « لا ضرر ولا ضرار » رواية مستقلّة غير ما ورد في قضيّة سمرة وشبهها التي مرّ ذكرها.

ومنها : ما رواه أحمد أيضاً في مسنده مسنداً عن ابن عبّاس قال : « قال رسول الله  صلى الله عليه وآله : لا ضرر ولا ضرار ، وللرجل أن يجعل خشبة في حائط جاره والطريق الميثاء سبعة أذرع » (32).

قوله  صلى الله عليه وآله : الميثاء السهل ، ولا يخفى إنصرافه عن الطرق في يومنا هذا.

ومنها : ما رواه مالك في موطّأه عن عمر بن يحيى المازني عن أبيه : أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار » (33).

ومنها : ما رواه ابن ماجه في سننه عن عبادة بن صامت : « أنّ رسول الله  صلى الله عليه وآله قضى أن لا ضرر ولا ضرار » (34).

وأيضاً عن ابن عبّاس (35) قال : « قال رسول الله  صلى الله عليه وآله « لا ضرر ولا ضرار» وعن ابن حرمة (36) عن رسول الله  صلى الله عليه وآله : « من ضارّ أضرّ الله به».

ومنها : ما رواه في كنز العمّال عن ابن عبّاس عن عبادة : « لا ضرر ولا ضرار » (37).

وعن المازني : « لا ضرر ولا ضرار » وعن ابن عبّاس : « لا ضرر ولا ضرار » (38).

ومنها : ما رواه ابن الأثير في النهاية أنّه  صلى الله عليه وآله قال : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » (39).

ومنها : ما رواه أبو داود في سننه عن الإمام الباقر عليه‌ السلام عن سمرة بن جندب : « إنّه كان عضد ( عضيد ) من النخل في حائط رجل من الأنصار ، قال : ومع الرجل أهله فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذّى به ويشقّ عليه فطلب إليه أن يبيعه فأبى ، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي  صلى الله عليه وآله فذكر ذلك له فطلب إليه النبي  صلى الله عليه وآله أن يبيعه فأبى فطلب إليه أن يناقله فأبى ، قال : فهبه له ولك كذا وكذا أمراً رغّبه فيه فأبى ، فقال : أنت مضارّ فقال  صلى الله عليه وآله للأنصاري : إذهب فاقلع نخله » (40).

ومنها : ما رواه أبو داود أيضاً في سننه عن أبي صرمة صاحب النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله أنّه قال : « من ضارّ أضرّ الله به ومن شاقّ شاقّ الله عليه » (41).

ونفس المضمون ورد في سنن الترمذي (42).

هذه ما ورد من طرق العامّة.

وقد ظهر من مجموع ما ورد من الطريقين أنّ الحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) لو لم يكن متواتراً فلا أقلّ من كونه متظافراً ، وقد قال العلاّمة المجلسي رحمه‌ الله في مرآة العقول في شرح حديث سمرة : « هذا المضمون مروي من طرق العامّة والخاصّة بأسانيد كثيرة فصار أصلاً من الاصول ، وبه يستدلّون في كثير من الأحكام » (43).

أضف إلى ذلك استدلال فقهائنا بهذا الحديث بعنوان أصل مسلّم ، وهذا هو الشيخ الطوسي رحمه ‌الله استدلّ به في الخلاف كتاب البيع في مسائل الغبن ( المسألة 60 ) وكتاب الشفعة المسألة 14.

______________

(1) ولقد أجاد شيخنا الاُستاذ دام ظلّه حيث قال في هذا المجال: «من أهمّ ما يجب على الفقيه تحقيقه والبحث عنه  هي القواعد الفقهيّة التي تكون ذريعة للوصول إلى أحكام كثيرة من أوّل الفقه إلى آخره، وتبتني عليها فروع هامّة في شتّى المباحث والأبواب، لكن ـ رغماً لهذا الموقف ـ لم يبحث عنها بما يليق بها، ولم يؤدّ حقّها من البحث ... (إلى أن قال) فأصبحت هذه القواعد النفيسة كالمشرّدين لا تأوي داراً ولا تجد قراراً، لا تعدّ من الاُصول ولا من الفقه، مع أنّ من حقّها أن يفرد لها علم مستقلّ ...» القواعد الفقهيّة: ج1، ص11.

(2) وسائل الشيعة : ج 17 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 12 ، ح 3.

(3) المصدر السابق : ح 4.

(4) المصدر السابق : ح 1.

(5) وسائل الشيعة : ج 17 ، كتاب إحياء الموات ، الباب 7 ، ح 2.

(6) وسائل الشيعة : كتاب الشفعة ، الباب 5 ، ح 1.

(7) ومعنى الفقرة الثانية أنّ حقّ الشفعة ثابت في المشاع وقبل القسمة ، وأمّا بعدها فلا شفعة ، لأنّ قوله عليه‌ السلام « ارّفت الأرف » بمعنى أعلمت علامات القسمة.

(8) وسائل الشيعة : ج 17 ، أبواب موانع الإرث ، الباب 1 ، ح 9 ـ 11.

(9) المصدر السابق : ج 17 ، أبواب موانع الإرث ، الباب 1 ، ح 8.

(10) المستدرك : ج 4 ، ص 345.

(11) وسائل الشيعة : ج 13 ، أبواب بيع الحيوان ، الباب 22 ، ح 1.

(12) مستدرك الوسائل : ج 3 ، ص 150 ، الباب 9 ، ح 1 ، الطبع القديم ، وج 18 ، ص 118 ، الطبع الجديد.

(13) عوالي اللئالي : ج 1 ، ص 383.

(14) وسائل الشيعة : كتاب إحياء الموات ، الباب 14 ، ح 1.

(15) المصدر السابق : الباب 13 ، ح 1.

(16) في هامش الوسائل : ج 17 ، ص 344 : هكذا أورده المجلسي رحمه ‌الله في مرآة العقول، وتكلّف في تفسير الحقيقة ، والصحيح عقائب البئر كما أورده في الوافي ، والعقيب كلّ شيء أعقب شيئاً ، والمراد هنا النوبة بأن يمسك كلّ واحد منهما عن إجراء الماء ليلة هذا وليلة ذاك ، فإن أوجب سدّ مجرى إحداهما كثرة ماء الاخرى تبيّن اضرارها بها ، وأن قلّة الماء في إحداهما بسبب جريان ماء الاخرى.

(17) وسائل الشيعة : كتاب إحياء الموات ، الباب 16 ، ح 1.

(18) المصدر السابق : الباب 15 ، ح 1.

(19) وسائل الشيعة : ج 13 ، أبواب الوصايا ، الباب 8 ، ح 4.

(20) المصدر السابق : إحياء الموات ، الباب 12 ، ح 2.

(21) المصدر السابق : ج 15 ، أبواب أحكام الأولاد ، الباب 70 ، ح 7.

(22) المصدر السابق : ج 19 ، أبواب موجبات الضمان ، الباب 9 ، ح 1.

(23) وسائل الشيعة : ج 13 ، أبواب الوصايا ، الباب 9 ، ح 2.

(24) المصدر السابق : ج 15 ، أبواب أقسام الطلاق ، الباب 34 ، ح 1.

(25) المصدر السابق : ج 15 ، أبواب الخلع والمباراة ، الباب 2 ، ح 1.

(26) المصدر السابق : كتاب التجارة ، الباب 21 ، من أبواب عقد البيع ، ح 10.

(27) المصدر السابق : كتاب النكاح ، الباب 11 ، من أبواب عقد النكاح ، ح 2.

(28) وسائل الشيعة : ج 16 ، كتاب الأيمان ، الباب 40 ، ح 1.

(29) المصدر السابق : ج 15 ، كتاب الظهار ، الباب 2 ، ح 1.

(30) وهو من جمع أقضيّة رسول الله  صلى الله عليه وآله.

(31) مسند أحمد : ج 5 ، ص 327.

(32) مسند أحمد : ج 1 ، ص 313.

(33) موطأ مالك : كتاب الأقضية ، باب القضاء في المرفق ، ج 2 ، ص 745.

(34) سنن ابن ماجه : ج 2 ، ص 784.

(35) المصدر السابق : ص 784 و 785.

(36) المصدر السابق.

(37) كنز العمّال : ج 4 ، ص 59 ، وص 61 باب الخلاء والغشّ.

(38) المصدر السابق.

(39) المصدر السابق.

(40) سنن أبي داود : ج 3 ، ص 315 ، أبواب من القضاء ، رقم الحديث 3636.

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.