أحرفُ (ليسَ) هي أحرُفُ نفيٍ عملَها، وتُؤَدّي معناها وهي أربعةٌ (ما ولا ولاتَ وإنْ).
(ما) المشبهة بليس
تعملُ (ما) عملَ (ليسَ) بأربقعة شروطٍ
(1) أن لا يَتقدَّمَ خبرُها على اسمها، فان تقدَّمَ بَطل عملُها، كقولهم (ما مسيءٌ من أعتَب).
(2) أن لا يتقدَّمَ معمولُ خبرِها على اسمها، فان تقدَّمَ بطلَ علمُها، نحو (ما أمرَ اللهِ انا عاصٍ)، إلا أن يكون معمولُ الخبر ظرفاً أو مجروراً بحرف جرّ، فيجوز، نحو (ما عندي أنت مُقيما) و (ما بكَ أنا مُنتصراً).
اما تقديمُ معمولِ الخبر على الخبر نفسهِ، دُونَ الاسمِ بحيث يتوَسَّطُ بينهما، فلا يُبطلَ عملها، وإن كان غيرَ ظرفٍ او جار ومجرورٍ، نحو (ما أنا أمرَكَ عاصياً).
(3) ان لا تُزادَ بعدها (إِنْ). فان زيدَت بعدَها بطلَ علمُها، كقول الشاعر
*بَني غُدانَةَ، ما إنْ أَنتُم ذَهَبٌ * ولا صَريفٌ، ولكنْ أَنتمُ الخَزَفُ*
(4) أن لا ينتقضَ نفيُها بـ (إلاّ). فان انتقض بها بطلَ عملُها، كقوله تعالى {وما أمرُنا إلاّ واحدةٌ}، وقوله {وما محمدٌ إلاّ رسولٌ}، وذلك لأنها لا تعملُ في مُثبتٍ.
فان فُقدَ شرطٌ من الشروط بطلَ عملُها، وكان ما بعدَها مبتدأً وخبراً، كما رأيت.
ويجوز أن يكون اسمُها معرفةً كما تقدّمَ، وأن يكون نكرةً، نحو (ما أحدٌ أفضلَ من المُخلصِ في عمله).
وإذْ كانت (ما) لا تعملُ في مُوجَبٍ، ولا تعملُ إلا في منفي، وجبَ رفعُ ما بعدَ (بلْ ولكنْ)، في نحو قولك (ما سعيد كسولاً، بل مجتهدٌ وما خليلٌ مسافراً، ولكن مقيمٌ)، على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرهُ (هو)، اي بل هو مجتهدٌ، ولكن هو مقيمٌ. وتكونُ (بلْ ولكنْ) حرفي ابتداء لا عاطفتينِ، إذْ لو عَطفَتا لاقتضى ان تعمل (ما) فيما بعدَ (بل ولكنْ)، وهو غيرُ منفيٍّ، بل هو مُثبتٌ، لأنهما تقتضيانِ الايجابَ بعد النفي. فاذا كان العاطفُ غيرَ مُقتضٍ، للايجاب
ص363
كالواو ونحوها، جاز نصبُ ما بعدَهُ بالعطف على الخبر (وهو الاجودُ) نحو (ما سعيدٌ كسولاً ولا مُهملاً) وجازَ رفعُهُ على انهُ خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، نحو (ما سعيدٌ كسولاً ولا مُهملٌ)، اي ولا هوَ مُهمل.
وهكذا الشأن في (ليسَ)، فيجبُ رفعُ ما بعدَ (بلْ ولكنْ) في نحو (ليس خالدٌ شاعراً، بل كاتبٌ). ويجوز النصبُ والرفعُ بعدَ الواوِ ونحوها مثلُ (ليسَ خالدٌ شاعراً ولا كاتباً) او (ولا كاتبٌ). والنصبُ أولى.
واعلم أنَّ (ما) هذه لا تعملُ عملَ (ليس) إلا في لغة أهل الحجاز (الذين جاء القرآنُ الكريمُ بلغتهم)، وبلغةِ أهلِ تِهامةَ ونجدٍ. ولذلك تُسمى (ما النافية الحجازية).
وهي نافيةٌ مُهملةٌ في لغة تميمٍ على كل حال، فما بعدَها مبتدأ وخبر.
(لا) المشبهة بليس
(لا). المشبهةُ بليس، مُهملة عندَ جميع العرب وقد يُعمِلُها الحجازيُّون إعمالَ (ليسَ)، بالشروط التي تقدّمت لِما، ويُزاد على ذلك أن يكونَ اسمُها وخبرُها نكرتينِ. وندَرَ أن يكون اسمُها معرفةً، كقول الشاعر
*وَحَلَّتْ سَوادَ الْقَلْبِ، لا أَنا باغياً * سِواها، ولا في حُبِّها مُتراخِيا*
وقد جاء مثل ذلك للمتنبي في قوله
*إذا الجُودْ لم يُرْزَقْ خَلاصاً منَ الاذى * فلا الحَمْدُ مَكسُوباً، ولا المالُ باقِيا*
وقد أجازَ ذلك بعضُ علماء العربية الفُضلاءُ.
والغالبُ على خبرِ (لا) هذه أن يكون محذوفاً كقوله
*مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرانِها * فأنا ابنُ قَيْسٍ، لا بَراحُ*
أي لا بَراحٌ لي. ويجوزُ ذكرهُ، كقول الآخر
*تَعَزَّ، فلا شَيءٌ على الأرْضِ باقيا * ولا وَزَرٌ مِمَّا قَضى اللهُ واقِيا*
واعلم أنَّ (لا) المذكورةَ، يجوزُ أن يُرادَ بها نفيُ الواحدِ، وأن يرادَ بها نفيُ الجميع. فهي محتملةٌ لنفي الوَحدة ولنفي الجنس، والقرينةُ تُعَيّنُ أحدَهما
(فان قلت "لا رجل حاضر". صح أن يكون المراد ليس احد من جنس الرجال حاضراً، وأن يكون المراد "ليس رجل واحد حاضراً". فيحتمل أن يكون هناك رجلان أو أكثر. ولذلك صح أن تقول "لا رجل حاضراً، بل رجلان"، أو رجال. أما "لا" العاملة عمل "أنَّ"، فلا معنى لها إلا نفي الجنس نفياً عاماً، فان قلت "لا رجل حاضر" كان المعنى "ليس أحد من جنس الرجال حاضراً"، لذا لا يجوز أن تقول بعد ذلك "بل رجلان، أو رجال"، لأنها لنفي الجميع).
ص364
واعلم أن الأولى في (لا) هذه أن تُهمَلَ ويُجعلَ ما بعدَها مبتدأً وخبراً. واذا أُهملت، فالأحسنُ حينئذٍ أن تُكرَّرَ، كقوله تعالى "لا خوفٌ عليه، ولا هُم يَحزنونَ".
(لات) المشبهة بليس
تَعملُ (لاتَ) عَملَ (ليسَ) بشرطين
(1) أن يكون اسمُها وخبرها من أسماءِ الزمانِ، كالحينِ والساعةِ والأوانِ ونحوها.
(2) أن يكون أحدُهما محذوفاً. والغالبُ أن يكونَ المحذوفُ هو اسمَها، كقوله تعالى {ولاتَ حينَ مَناصٍ}، ومنه قول الشاعر
*ندِمَ الْبُغاةُ، ولاتَ ساعةَ مَنْدَم * والْبَغْيُ مَرْتَعُ مُبْتَغِيهِ وخِيمُ*
ويجوزُ أن ترفع المذكورَ على أنه اسمُها، فيكون المحذوفُ منصوباً على أنهُ خبرُها، غيرَ أنَّ هذا الوجهَ قليلٌ جداً في كلامهم.
واعلم أن (لات) إن دخلت على غير اسم زمانٍ كانت مهملةً، لا عملَ لها، كقوله
*لَهْفي عَلَيْكَ لِلَهْفَةٍ من خائفٍ * يَبغِي جِواركَ حينَ لاتَ مُجيرُ*
واعلم أن من العرب من يجرُّ بلاتَ، والجرُّ بها شاذ، قال الشاعر
*طَلبوا صُلْحنا ولاتَ أَوانٍ * فأجبْنا أَنْ ليْسَ حين بقاء*
وعليه قولُ المتنبي
*لَقَدْ تَصبَّرْتُ، حَتَّى لاتَ مُصْطَبَرٍ * والآنَ أَقْحَمُ، حتَّى لاتَ مُقْتَحَمِ*
(إِنْ) المشبهة بليس
قد تكونُ (إنْ) نافيةً بمعنى (ما) النافية، وهي مُهمَلةٌ غير عاملةٍ. موقد تعملُ عملَ "ليس" قليلاً، وذلك في لغة أهل العالية من العرَبِ، ومنه قولهم "إنْ أحد خيراً من أحدٍ إلاّ بالعافية" وقولُ الشاعر
*إنْ هوَ مُسْتَوْلياً على أَحَدٍ * إلاّ على أَضعَفِ الْمجانِين*
وقولُ الآخر
*إنِ الْمَرْءُ مَيْتاً بانْقِضاءِ حياتهِ * ولكنْ بأَنْ يُبْغَى عَلَيْهِ فَيُخذَلا*
وانما تعملُ عملَ (ليس) بشرطين
(1) أن لا يَتقدَّمَ خبرُها على اسمها. فان تقدَّمَ بَطلَ عملُها.
ص365
(2) أن لا ينتقضَ نفيها بِـ (إِلا). فان انتقضَ بطلَ عملُها، نحو (إنْ أنت إلاّ رجلٌ كريمٌ)، وانتقاضُ النفيِ المُوجبُ إبطالَ العملِ، إنما هو بالنسبة الى الخبر، كما رأيتَ، ولا يَضُرُّ انتقاضُهُ بالنسبة الى معمول الخبر، نحو (إن أنت آخذاً إلاّ بيد البائسينَ)، ونحو البيت (إنْ هو مستولياً على أحدٍ الخ).
واعلم أن الغالبَ في (إنْ) النافيةِ أن يقترنَ الخبرُ بعدها بِـ (إلاّ) كقوله تعالى "إنْ هذا إلاّ مَلَكٌ كريمٌ". وقد يستعملُ الكلامُ معها بدون (إلاّ)، كالبيت (إنِ المرءُ ميتاً بانقضاءِ حياته الخ). ومنهُ قولهم (إن هذا نافعَكَ ولا ضارّكَ).
فائدة
سمعَ الكسائي أعرابيّاً يقولُ (إنّا قائماً)، فأنكرها عليه، وظنَّ أنها (إنَّ) المشدَّدةُ الناصبةُ للاسم الرافعةُ للخبر. فحقُّها أن ترفعَ (قائماً)، فاستثبته فاذا هو يُريدُ "إنْ أنا قائماً" أي ما أنا قائماً، فتركَ الهمزةَ - همزة أنا - تخفيفاً وأدغم، على حد قوله تعالى {لكنّا هو اللهُ ربي}، أي "لكن أنا".
ص366