تعد الخبرة كوسيلة من سائل الإثبات التحقيقية وتعرف بأنها (استشارة فنية يطلبها القاضي من تلقاء نفسه لإستيضاح بعض المسائل الفنية التي لا يستطيع الفصل في الدعوى دون البت في حقيقتها) (1)، نلاحظ من خلال تعريف الخبرة بأنها وسيلة قانونية يستعين بها القاضي الإداري لغرض توضيح بعض الأمور في الدعوى الإدارية التي لا تدخل من ضمن اختصاصة القضائي والتي تؤدي الإستعانة بها إلى البت في موضوع الدعوى.
وقد يلجا القاضي الإداري إلى الإستعانة بالخبرة بناءً على طلب أحد الخصوم دون التزام القاضي بالإستجابة لهذا الطلب إذا كانت مرفقات وظروف الدعوى وما أبدى فيها من دفاع كافٍ لتكوين عقيدته وإصدار الحكم في موضوعها (2)، إذ إنَّ الأصل في الإختيار يترك تقديرها للقاضي للأخذ بها من عدمه، به، إلا أن هذا الأصل مقيد بثلاث قيود القيد الأول: يكمن في تعلق الخبرة بمنازعة تدخل في اختصاص القاضي، والقيد الثاني: هو إلا تتعلق الخبرة بمسألة قانونية، وردّ ذلك أن الفصل في هذه المسائل هو من صميم عمل القضاء، وإن القيد الثالث: هو أن تكون الخبرة ذي جدوى في حسم النزاع، أي أن يتأكد القاضي قبل إحالة الدعوى إلى الخبير بأن يكون موضوع النزاع من اختصاصة اولاً، وإن الأخذ برأي الخبير لأجل مسألة فنية يصعب على القاضي الإداري فهمها ثانياً، ولهذه المسألة الفنية الأثر في الفصل في الدعوى (3).
وتطبيقاً لذلك فقد ذهبت محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة المصري إلى أنه: "إذا رأت المحكمة أن عملية تصحيح ورقة الإجابة في الإمتحانات قد تمت دون مراعاة الأصول المتعارف عليها في عملية التصحيح فإنها تقضي بندب لجنة من الأساتذة المختصين لإعادة تصحيح ورقة الإجابة وإعداد تقرير بذلك يتضمن النتيجة التي تخلص اليها لعرضه على المحكمة وأساس ذلك أن عملية التصحيح هي عملية فنية لا يمكن للمحكمة ان تحل نفسها محل أهل الإختصاص، وبحسبان أن الخبرة هي طريق من طرق التحقيق يجوز للمحكمة أن تلجأ اليها بناءً على طلب ذوي الشأن أو من تلقاء نفسها إذا رأت ذلك، حيث أن العبرة في هذا الشأن تكون بقناعة المحكمة" (4)، ومن هذا المنطلق يثار لدينا سؤال عن مدى إلزام القاضي الإداري بالإستعانة بوسيلة الخبرة وهل تتقيد المحكمة بطلبات ذوي الشأن في اللجوء اليها؟
إن المحكمة غير ملزمة بالأخذ بطلب الخصوم للإستعانة بالخبرة، وهي كذلك غير ملزمة بالإلتزام بالرأي الذي إنتهى اليه الخبير في الدعوى الإدارية، فلها أن تأخذ به أو تطرحه كاملاً، كما إن لها أن تبعضَهُ فتأخذ منه ما تطمئن اليه وتطرح البعض الآخر، ذلك لأن المحكمة هي الخبير الأعلى وهي الأقدر على تقدير الأدلة وفائدتها بالنسبة للدعوى الإدارية (5).
أما في العراق فقد نظم قانون الإثبات مواضع الخبرة وتناول الأمور العلمية والفنية اللازمة للفصل في الدعوى بالنص على أنه : " للمحكمة أن تتخذ من تقرير الخبير سبباً لحكمها " (6) ، ولا تدخل المسائل القانونية في موضوع الخبرة (7) ، ونلاحظ هنا بأن القانون العراقي والمصري قد أخذا بهذه المسألة في عدم الإستعانة بالخبرة في المسائل القانونية كونها من صلب عمل القضاء، وقد بيّن قانون الإثبات العراقي أنه إذا اقتضى موضوع الدعوى الإستعانة برأي الخبراء كلفت المحكمة الطرفين بالإتفاق على خبير أو أكثر على أن يكون عددهم وتراً ممن ورد اسمه في جدول الخبراء أو ممن لم يرد اسمه في هذا الجدول، وعند عدم إتفاق الطرفين على خبير معين تتولى المحكمة تعيين الخبير (8)، ونلاحظ أن المحكمة لا تتقيد بطلبات ذوي الشأن في الإستعانة بالخبرة كدليل للإثبات إلا أنها عند الأخذ بها تكلف أصحاب الشأن في اختيار الخبراء على أن تكون أسماء هم مثبتة في جدول الخبراء. وفي السياق ذاته فقد استعانت محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة العراقي برأي الخبراء بإعتماده كوسيلة لإثبات الدعوى الإدارية مع باقي وسائل الإثبات الأخرى لإصدار حكمها في المنازعات المعروضة أمامها (9)، إذ جاء في حكم لها مفادة ... وقد اطلعت المحكمة على الأوراق التحقيقية للحادث ووجدت بأن كل الأدلة تشير إلى كون الأضرار التي لحقت بالمدعي كانت نتيجة لعمل إرهابي وإن سبب استهداف المدعي كونه يعمل بصفة قاض تحقيق سامراء وهي منطقة ساخنة إذ كانت الجماعات التكفيرية تسيطر عليها آنذاك والتي تعده في فكرها التكفيري مرتداً ويستحق العقاب والذي تم من خلاله تدمير داره مما أدى إلى الحاق الضرر به، كما اطلعت المحكمة على رأي الخبير القضائي للتعويض ووجدت أنه أكثر مما يطالب به المدعي، كما اطلعت المحكمة على الصور الفوتوغرافية التي توضح حالة دارة قبل وبعد التفجير لأكثر من مرة ووجدت بأنه قد اصابة ضرراً بالغاً وإن المبلغ الذي أقرته اللجنة المركزية هو أقل بكثير مما يستوجبه مبلغ القيمة الحقيقية للأضرار التي أصابته، وحيث إن ما تقدم من وقائع تكفي لإعتماد مبلغ التعويض الذي أقرته اللجنة الفرعية... لذا قرر بالإتفاق إلغاء قرار اللجنة المركزية.... (10)، وعدت المحكمة في قرارها المذكور أن الإستعانة برأي أهل الخبرة يُعد إجراء جوهري في مسائل تقدير مبالغ تعويض الأضرار التي يطالب بها أصحاب الشأن.
_____________
1- د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة: أصول الإثبات وإجراءاته في الخصومة ،الإدارية، ط1، المكتب الجامعي الحديث، مصر، 2013، ص 157.
2- د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة أصول الإثبات وإجراءاته في الخصومة ،الإدارية، مصدر سابق، ص157.
3- سعاد بو زیان طرق الإثبات في المنازعات الإدارية رسالة ماجستير، كلية الحقوق جامعة باجي مختار، الجزائر، 2011، ص 89
4- قرار محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة المصري رقم (7771) لسنة 58 -ق جلسة (2007/2/18) نقلاً عن د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة: أصول الإثبات وإجراءاته في الخصومة الإدارية، المصدر سابق، ص 158.
5- ينظر قراري المحكمة الإدارية العليا في مصر المرقمين 1361 لسنة 32 -ق جلسة (1993/6/20) و 3417 لسنة 40 -ق جلسة 1997/6/14). نقلاً عن د. عبد العزيز عبد المنعم خليفة المرافعات الإدارية في قضاء مجلس الدولة، دار الفكر الجامعي الإسكندرية، 2007 ، ص 302
6- المادة (140/ اولاً) من قانون الإثبات العراقي رقم 107 لسنة 1979 المعدل.
7- المادة (132) من القانون أنف الذكر التي نصت على أنه تتناول الخبرة الأمور العلمية والفنية وغيرها من الأمور للفصل في الدعوى دون المسائل القانونية". ينظر في السياق ذاته د . محمود فاهم الجبوري: مدى أهمية إصدار قانون أصول المرافعات الإدارية في العراق، مكتبة القانون المقارن، بغداد، 2023، ، ص 230-231.
8- المادة (133) من القانون نفسة والتي نصت على أنه إذا اقتضى موضوع الدعوى الاستعانة برأي الخبراء كلفت المحكمة الطرفين بالاتفاق على خبير أو أكثر على ان يكون عددهم وتراً ممن ورد اسمه في جدول الخبراء أو ممن لم يرد اسمه في هذا الجدول، وعند عدم اتفاق الطرفين على خبير معين تتولى المحكمة تعيين الخبير".
9- د. بشار حمد انجاد الجميلي: دور القضاء الإداري العراقي بإحلال التوازن في الخصومة الإدارية - دراسة مقارنة، ط1، كتبة القانون المقارن بغداد 2022 ، ص 252.
10- قرار محكمة القضاء الإداري في مجلس الدولة العراقي رقم (3072) قضاء اداري ، 2018 في 2018/11/19، قرار غیر منشور، نقلاً عن د. بشار حمد انجاد الجميلي: دور القضاء الإداري العراقي بإحلال التوازن في الخصومة الإدارية - دراسة مقارنة، ط1، كتبة القانون المقارن بغداد 2022 ، ص 202-253.