المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الحديث والرجال والتراجم
عدد المواضيع في هذا القسم 6242 موضوعاً

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

علاقة اقتصاديات السينما بالجوانب الأخرى
30-5-2022
حشرة دبور البلح Vespa orientalis
22-7-2020
Hydration of Alkynes
18-1-2022
عدم ناقضية المذي والوذي للوضوء
29-12-2015
أهداف العلاقات العامة الرقمية- 6. خطة النشر
14-8-2022
مدينة جدة
2-2-2016


كيف تعامل الصحابيّ الجليل عمّار (رضي الله عنه وأرضاه) مع الحكّام؟  
  
1158   03:19 مساءً   التاريخ: 2023-10-16
المؤلف : الشيخ محمّد جواد آل الفقيه.
الكتاب أو المصدر : عمّار بن ياسر.
الجزء والصفحة : ص 66 ـ 84.
القسم : الحديث والرجال والتراجم / أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) /

لا بدّ لنا ـ ونحن في سيرة عمّار ـ من جولةٍ قصيرة نلمح من خلالها طبيعة تعامله مع الخلفاء منذ اليوم الأول بشكل يسمح لنا أن نكوّن الصورة الملائمة عن مجمل تطلعاته وسلوكه على الصعيدين الديني والسياسي، وهذا يتطلب مناّ بالضرورة عرضاً لبعض النصوص التاريخية التي تتصل بحياته في هذا المضمار.

ولكنّنا قبل أن نجول في هذا الميدان، لا بد لنا من إدراك طبيعة تعامل المسلمين مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّها تشكّل الحدّ الفاصل بين عهدين، عهد النبوة وعهد ما بعد النبوة، ومن خلال ذلك يمكننا أن نأخذ موقفاً معيناً من مجريات الأمور ومن ثم نسجّل ملاحظاتنا ازاء مواقف الصحابة رضوان الله عليهم وفي طليعتهم عمّار بن ياسر الذي نحن الآن في سيرته.

إنّ طبيعة تعامل المسلمين مع النبي (صلى الله عليه وآله) تنطلق من مفهوم «تعامل الإنسان مع خالقه بواسطة الرسول» وهذا يعني الإذعان المطلق والخضوع الكامل لكل ما يأتي به ذلك الرسول، والتسليم لأوامره ونواهيه دون نقاش أو جدال (1) كما أنّ للنبي مكانة خاصة في نفوس المسلمين وله عليهم سلطة مجعولة من قبل المشرع الحكيم ترتقي به لأعلى درجات السلطة في العالم حيث أنّه أولى بهم من أنفسهم (2) وهذان الأمران من الثوابت التي لا يختلف فيها أحد من المسلمين إلا أن يحيد عن منطوق القرآن الكريم وعن مفاهيمه لذلك صنّف المشكّكون بهذا الأمر في خانة المنافقين، ومن ثَمَّ في صفّ الملحدين والمشركين .

أمّا تعامل المسلمين مع خلفائهم فإنّه يختلف عن ذلك غاية الاختلاف من حيث حرية إبداء الرأي، بل رفع الصوت عالياً حينما تقتضي الظروف ذلك، فالخليفة يخضع للنقد من قبل الصحابة فهم بين راضٍ ورافض، وأدل دليل على ذلك قول عبد الرحمن بن عوف لأبي بكر: «وإنّما الناس رجلان رجل رضي بما صنعت فرأيه كرأيك ورجل كره ما صنعت فأشار عليك برأيه» (3).

بل هو نفسه يدعو إلى ذلك وينتقد ذاته بذاته، وقد يعترف بالنقص أحياناً، وذلك كقول أبي بكر في مستهل خطبته التي خطبها بعد استخلافه: أمّا بعدُ أيّها الناس، فإنّي قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني (4).

وقوله: واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني أحيانا، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني (5).

وعلى هذا الأساس فلا نفاجأ بعد بما صدر من بعض الصحابة في سقيفة بني ساعدة من الاعتراض سواء على الكيفيّة التي تمّ بها اختيار الخليفة، أو على الخليفة نفسه، وإليك الصورة كما يرسمها لنا المؤرخون:

النبي (صلى الله عليه وآله) مسجّى على فراشه في بيته وعلي (عليه السلام) منهمك في تجهيزه إذ سُمِع صوتٌ دون أن يُرى شخص، يقول: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنّه حميد مجيد، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً. كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزِح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتُبلونّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً، وان تصبروا وتتقوا فإنّ ذلك من عزم الأمور. إنّ في الله خلفاً من كل هالك، وعزاءً من كل مصيبة، عظم الله أجوركم والسلام ورحمة الله (6) وكان المتكلّم جبرائيل (عليه السلام). وصار المسلمون يدخلون عليه أرسالاً يودّعونه، حتى إذا فرغ الرجال أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ثم أدخل العبيد (7) يودّعون المنقذ العظيم وهم بين ذاكرٍ لله، وبين متمتمٍ بأسمى آيات الإجلال والإعظام، وبين مرسلٍ دموعه الحري بهدوءٍ وهم يصلّون عليه ويسلّمون تسليماً كما أوصاهم (صلى الله عليه وآله). 

في هذه اللحظات الرهيبة كان الأنصار يجتمعون في سقيفة بني ساعدة وقد أجلسوا سعد بن عبادة الخزرجيّ وعصّبوه بعصابة وثنوا له وسادة وهم يريدون أن يبايعوه.

ممّا أثار حفيظة الأوس وأيقظ الفتنة بينهم وبين الخزرج، تلك الفتنة التي أطفأ الإسلام نائرتها، كما أثار حفيظة المهاجرين فحين علم أبو بكر وعمر باجتماعهم أتوا مسرعين فنحوا الناس عن سعد، وقالوا: «يا معاشر الأنصار! منّا رسول الله، فنحن أحق بمقامه»(8).

وقال سعد بن عبادة مخاطباً قومه: فشدّوا يديكم بهذا الأمر فإنّكم أحق الناس وأولاهم به. وقال الحباب بن المنذر: فمنّا أمير ومنكم أمير! فقال عمر بن الخطاب: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنّ العرب لا ترضى أن تؤمّركم ونبيّها من غيركم.

فقام الحباب وقال: لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من الأمر!

فقال أبو بكر: منّا الأمراء. وأنتم الوزراء. ونادى أبو عبيدة: يا معشر الأنصار، إنّكم كنتم أول من نصر، فلا تكونوا أول من غيّر وبدّل. وقال عبد الرحمن بن عوف: يا معشر الأنصار، إنّكم وإن كنتم على فضل، فليس فيكم مثل أبي بكر وعمر وعلي! فقال المنذر بن أرقم: ما ندفع فضل من ذكرت، وإنّ فيهم لرجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد! يعني علي بن أبي طالب. فلمّا رأى بشير بن سعد الخزرجي ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد ـ وكان حاسداً له ـ قال: إنّ محمداً (صلى الله عليه وآله) رجل من قريش وقومه أحق بميراث أمره! فقام أبو بكر وقال: هذا عمر وأبو عبيدة، بايعوا أيّهما شئتم. فقالا: والله لا نتولى هذا الأمر عليك، ابسط يدك حتى نبايعك، فلمّا بسط يده وذهبا يبايعانه سبقهما بشير بن سعد فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: يا بشير، عقَّك عقّاق والله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك!

قال البراء بن عازب ـ وكان خارج السقيفة ـ: فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي! (9) .

وجاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم وقال: يا معشر بني هاشم، بويع أبو بكر! فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثاً نغيب عنه، ونحن أولى بمحمد. فقال العباس: فعلوها، وربّ الكعبة! وكان خالد بن سعيد غائباً، فقدم فأتى علياً فقال: هَلُمَّ أبايعك، فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك.

وكان المهاجرون والأنصار لا يشكّون في علي، فلمّا خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس ـ وكان لسان قريش ـ فقال: يا معشر قريش، إنّه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه ونحن أهلها دونكم، وصاحبنا أولى بها منكم. وقام عتبة بن أبي لهب فقال:

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف      

عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن

عن أول الناس إيماناً وسابقة     

وأعلم الناس بالقرآن والسنن

وآخر الناس عهداً بالنبي ومن    

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما فيهم لا يمترون به     

وليس في القوم ما فيه في الحسن

وتخلّف عن البيعة قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب (عليه السلام)، منهم: العباس بن عبد المطلب وولده الفضل، والزبير بن العوام، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمّار بن ياسر (10) إلى غير ذلك ممّا رقّمه المؤرخون في كتبهم والذي لا حاجة بنا إلى ذكره.

والذي يهمّنا من هذا كلّه أن نعرف ماذا كان موقف عمّار؟ وكيف كانت نظرته؟

كانت نظرته للخلافة نظرةً مستقلةً في ذاتها لأول وهلة، حتى يخيل للقارئ أنّه انطوى على سرٍّ دون إخوانه من الصحابة والسابقين، ولكن حين نمعن النظر في كلماته وفي التطورات التي انتهت إليها الخلافة ندرك السر الذي ترك عماراً ينفرد مع فئةٍ قليلة من إخوانه في الصف المتخلّف عن البيعة.

لقد كان موقف عمّار في هذا المجال متأثراً بخطوات علي (عليه السلام) حتى يكاد ألّا يبرم أمراً دون مشورته وأخذ النصيحة منه، ومرد ذلك يرجع لأمرين أساسيّين.

الأول: أنّه يعلم مسبقاً بأنّ الوصي بعد رسول الله هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) سماعاً من النبي (صلى الله عليه وآله) صراحة في غدير خم حين حج آخر حجة حيث قال (صلى الله عليه وآله): «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاده وانصر من نصره واخذل من خذله» (11) حيث أعطاه الولاية على المؤمنين وهي أوسع من الوصاية. كما سمع منه (صلى الله عليه وآله) حديث المنزلة حيث قال مخاطباً إيّاه: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي (12) إلى غير ذلك من الأحاديث التي تصرّح أو تلمح إلى أحقيّته بالخلافة.

الثاني: أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) خاطب عمّاراً ذات يوم بقوله: "يا عمّار، إنّ علياً لا يردك عن هدى، ولا يدلك على ردى، يا عمّار، طاعة علي طاعتي، وطاعتي طاعة الله عزَّ وجلّ" (13)!

بعد أن يسمع هذا من النبي في حق علي (عليه السلام) فهل يعقل أن يبادر إلى أمر غاية في الخطورة والأهمية دون مشاورة علي فيه!؟ بالطبع لا، وألف لا؛ لأنّ علياً (عليه السلام) لا يرده عن هدى ولا يدله على ردى، سيما إذا كان الأمر يتعلق بمصيره الديني الذي ضحّى حياته من أجله.

أمّا علي (عليه السلام) فكان موقفه غايةً في الوضوح، وقد أجمله للذين طالبوه بالبيعة، حيث قال لهم: أنا عبد الله وأخو رسوله. فقيل له: بايع أبا بكر.

فقال: أنا أولى بهذا الأمر منكم لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (صلى الله عليه وآله) وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمكان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلّموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. نحن أولى برسول الله حياً وميتاً، فانصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون.. إلخ (14).

ولم يفت عمّاراً أن يدلي برأيه صراحةً بعدما لمس موقف على وشاهده عن كثب، فقام في المسجد وقاليا معشر قريش ويا معشر المسلمين، إن كنتم علمتم، وإلا فاعلموا أن أهل بيت نبيكم أولى به وأحق بإرثه وأقوم بأمور الدين، وآمن على المؤمنين، وأحفظ لملته وأنصح لأمته، فمروا صاحبكم فليرد الحق إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم. ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، وتختلفون فيما بينكم، ويطمع فيكم عدوكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعلي (عليه السلام) أقرب إلى نبيّكم وهو من بينهم وليّكم بعهد الله ورسوله وفرق ظاهر قد عرفتموه في حال بعد حال عند سدّ النبي (صلى الله عليه وآله) أبوابكم التي كانت في المسجد كلها غير بابه، وإيثاره إيّاه بكريمته فاطمة دون سائر من خطبها إليه منكم وقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها، ومن أراد الحكمة فليأتها من بابها، وأنّه مرجعكم جميعاً فيما أشكل عليكم من أمور دينكم إليه، وهو مستغنٍ عن كل أحدٍ منكم إلى ماله من السوابق التي ليست لأفضلكم، فما لكم تحيدون عنه، وتبتزون علياً حقه، وتؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، أعطوه ما جعله له الله ولا تولّوا عنه مدبرين ولا ترتدوا على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين(15) .

وقد جهد عمّار بعد ذلك في ثلة من الصحابة أن يرجعوا الأمر شورى بين المسلمين ولكنّهم لم يفلحوا في ذلك. قال البراء بن عازب: ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان، وحذيفة، وعمّاراً، وهم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين (16).

بيد أن هذا الاختلاف الذي أوجد عاصفة سياسية هوجاء سرعان ما زال حين أدرك المخلصون من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) خطورة الموقف وأبعاده فرجعوا متوادّين متعاضدين تجمعهم وحدة الهدف ووحدة المصير فواصلوا سيرهم في إكمال مسيرتهم الجهادية، وكان عماراً في الطليعة حين استصرخهم الواجب في الدفاع عن المسلمين فاشترك في حروب الردة، لا سيما في حرب اليمامة التي انتهت بنصر المسلمين والقضاء على المرتدين.

لقد سجّل المسلمون أعلى الانتصارات العسكرية في ميادين الجهاد بشكل سريع ومدهش، وذلك في برهةٍ وجيزة أعقبت الحصار والمطاردة والهجرة، ممّا جعلهم سادة الموقف بعد أن كانوا ضعفاء مقهورين، وأرباب السلطان والنفوذ بعد أن كانوا محكومين، وهكذا فقد أخذ الإسلام ـ بعد ذلك ـ يشق طريقه نحو النفوس بهدوء ومن دون أيّة وسائل قمعية، بل بروحيته السمحاء المستمدة من السماء، فرأيناه في زمان قصير يطبق أرجاء المعمورة أو يكاد، فيدخل بلاداً لم يطأها فاتح ولم تغزها قوة، بل أخذ أهلها ـ أو بعضهم ـ هذا الدين الجديد من أولئك المسلمين الذين كانوا يرتادون بلادهم للسياحة أو التجارة، فيشاهدون الإسلام عقيدة ونظاماً تجسدا في سلوك أولئك الزوار، في أخلاقهم وعباداتهم ومعاملاتهم .

لقد أرسى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) قواعد الرسالة الشريفة وأحكم دعائمها ووطد أركانها، وأعاد للإنسانية شرفها وكيانها بعد أن كانت ضحية أهواء الجبابرة وأرباب السلطان من شذاذ الآفاق الذين لا همَّ لهم إلا إشباع رغباتهم وشهواتهم على حساب الضعفاء من عامة الناس.

وحينما لحق النبي (صلى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى خيّل للمنافقين والملحدين أن الإسلام سينتهي بانتهاء حياة محمد، لذلك قاموا بحملات معادية مركزة استهدفت ضرب المسلمين وتشتيت وحدتهم ومن ثم القضاء على الرسالة الإسلامية المباركة، غير أن إرادة الله سبحانه حالت دون ذلك، فلقد تنبه أقطاب المسلمين من الصحابة لما يجري من حولهم من ممارسات فازدادوا تماسكاً وتوحداً، وبذلك استطاعوا تفويت الفرصة على أعدائهم.

ويمكن حصر تلك الحملات في جبهات ثلاثة، وهي:

1 ـ إثارة العصبيّات.

2 ـ تحرّك دعاة الردة.

3 ـ تحرّك بقايا فلول الشرك.

لقد شنّ الإسلام حرباً شاملةً ضد العصبيّات بشكل عام، وكافح دعاتها وطاردهم باعتبارها تشكل مصدراً واسعاً للفتنة، فالعصبية ـ قبليةً كانت أو عنصرية ـ لا ترتبط بأي مبدأٍ أخلاقي ولا تخضع لأي منطق عقلي، بل الحكم فيها يرجع للعاطفة وحدها، لأنّها بمفهومها الضيّق: ثورة عاطفيّة تنتاب الفرد أزاء قرابته أو بني قومه ولو على الباطل، وربّما يكون دافعها الأول: الشعور بوحدة المصير.

ولقد دعا الإسلام إلى قلب هذه العقلية التي يتسم بها المجتمع الإِنساني بشكل عام، وتوجيهها بطريقةٍ معاكسة نحو الإيمان، فالإيمان هو أداة الربط بين المؤمنين، وهو القضية الكبرى التي يدافعون عنها لأنهم يرون فيه سعادتهم، الإيمان بالله وبرسله وكتبه واليوم الآخر. قال الله تعالى: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (17).

وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (18).

إنّ الإيمان بالله وباليوم الآخر يولّد في نفس المؤمن الخوف من عقاب الله والطمع في ثوابه، وهاتان الخصلتان يشكلان حاجزاً رادعاً يكمن في صميم النفس الإنسانية، وسدّاً منيعاً أمام نزواتها ونزعاتها الشريرة، كما يوجدان دافعاً لها على فعل الخير، والتحلي بالخلق الفاضل الكريم ومعاشرة الناس بالحسنى! فالمؤمن لا يقتل بغياً، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يخيف السُبُل، ولا يذكر أخاه بسوء فضلاً عن أن يؤذيه، ويكف يده ولسانه عن الناس ويساعد من يطلب المساعدة، ويحترم الكبير ويحنو على الصغير، ويبادر إلى فعل الخيرات، وكفى بالإِيمان شرفاً يزين المؤمنين.

ولقد كان المسلمون كما أرادهم الله، يداً واحدة وقلباً واحداً، تجمعهم وحدة الهدف ووحدة المصير في ظل الإسلام والإيمان.

وحين ولي الخلافة أبو بكر حانت الفرصة لكثيرٍ ممن أسلموا رغبةً أو رهبة أن يستخدموا أسلوب «أثارة العصبيات» لإلقاح الفتنة بين المسلمين وإيقاع السيف فيما بينهم وتفكيكهم وتشتيت كلمتهم لتتسنى لهم العودة إلى أمجاد الماضي.

ولقد كان لإثارة العصبيات دور كبير في حركات الردّة، ونذكر هنا على سبيل المثال ما قاله طلحة النمري لمسيلمة الكذاب ـ وهو من أنصاره ـ قال: أشهد أنّك الكاذب، وأنّ محمداً صادق! ولكن كذّاب ربيعة أحبّ إلينا من صادق مضر!! (19) .

ولم يفت أبا سفيان أن يستعمل هذا الأسلوب إبان خلافة أبي بكر، فقد أقبل إلى علي، وهو يقول: «إنّي لأرى عجاجة» لا يطفئها إلا الدم! يا آل عبد مناف؛ فيمَ يلي أبو بكرٍ من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان علي والعباس؟ ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟! ثم قال لعلي: ابسط يدك لأبايعك، فوالله لئن شئت لأملأنّها عليه خيلاً ورجلاً، فأبى علي (عليه السلام). فتمثّل أبو سفيان بشعر المتلمس:

ولن يقيم على خسفٍ يراد به     

إلا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف معكوس برمته

وذا يشج فلا يبكي له أحد

فزجره علي (عليه السلام) وقال: والله إنّك ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنّك والله طالما بغيت للإسلام شرّاً، لا حاجة لنا في نصيحتك (20).

ولقد كان هذا الرد طبيعياً من أخي النبي (صلى الله عليه وآله) ووصيه ووزيره (21) رغم أنّه يرى نفسه صاحب الحق الشرعي (22) وكان يرمي من وراء ذلك إلى الحفاظ على وحدة المسلمين ووحدة كلمتهم ليبقى الإسلام ويستمر في مسيرته، كما أن الطرف الآخر كان يرمي من وراء نخوته الجاهلية إلى عكس ذلك، محاولاً إيقاع الفتنة بين المسلمين، ولكنه فشل، وقد كشف عما يدور في نفسه في أكثر من موقف. وقد حدث عبد الله بن الزبير فقال: كنت مع أبي باليرموك وأنا صبي لا أقاتل، فلما اقتتل الناس نظرت إلى ناسٍ على تلّ لا يقاتلون، فركبت وذهبت إليهم، فإذا أبو سفيان بن حرب ومشيخة من قريش من مهاجرة الفتح، فرأوني حدثاً فلم يتقوني، قال. فجعلوا ـ والله ـ إذا مال المسلمون وركبتهم الروم يقولون: إيهٍ بني الأصفر! فإذا مالت الروم وركبهم المسلمون، قالوا: ويح بني الأصفر! وكان يقول: وبنو الأصفر الملوك ملوك الروم لم يبقَ منهم مذكورُ (23).

فلمّا هزم الله الروم أخبرت أبي، فضحك وقال: قاتلهم الله أبوا إلا ضغناً لنحن خير لهم من الروم (24).

وأعيت الحيلة من هم على هذه الشاكلة في ضرب المسلمين وتشتيتهم، ولكن إرادة الله سبحانه كانت هي الأقوى في حماية هذا الدين، فكانوا أقصر من أن ينالوا منه، وكان هو أبعد شأواً وأشد منعة.

قال ابن الأثير: وارتدت كل قبيلة، عامة أو خاصة، إلا قريشاً وثقيفاً واستغلظ أمر مسيلمة الكذّاب وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيءٍ وأسد. وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن، فإنّه قال: نبي من الحليفين ـ يعني أسداً وغطفان ـ أحب إلينا من نبي من قريشٍ (25).

وهنا لا بد لنا من الإشارة إلى أنّ الردة كانت على نوعين.

1 ـ ردة صوريّة، أو مفتعلة:

سمّيت ردّة لتبرير الخطأ الكبير الذي ارتكبه خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة!

وحكاية ذلك: أنّه عد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) التبس الأمر على بعض القبائل العربية المسلمة بالنسبة لتشخيص الخليفة الشرعي بعد النبي، فامتنعوا عن أداء الزكاة، غير منكرين لوجوبها، وإنّما أرادوا إيصالها للخليفة الشرعي، ومن تلك القبائل «بنو يربوع» بزعامة مالك بن نويرة.

ويعتبر قتل مالك بن نويرة مع بعض أصحابه وبناء خالد بزوجته ليلى، من أعظم التجاوزات التي ارتكبت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).

ولقد أنكر عمر بن الخطاب على خالد فعلته الشنيعة «وألحَّ على أبي بكر في عزله» وقال: «عدوُّ الله، عدا على امرىء مسلمٍ فقتله، ثم نزا على امرأته»!

وحين دخل خالد المسجد وكان قد غرز في عمامته أسهماً «قام عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها، ثم قال: أرئاءً! قتلت امرأً مسلماً، ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنّك بأحجارك..» (26) .

2 ـ الردة الحقيقة:

وهي التي دعا إليها مسيلمة الكذاب، وسجاح بنت الحارث التميمية، والفجاءة السلمي وطلحة بن خويلد الأسدي، وعيينة بن حصن.

وممّا جاء به مسيلمة وزعم أنه وحي، هو قوله: يا ضفدع بنت ضفدع، نقّي ما تنقّين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين، لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدّرين! والطريف في الأمر، أنّ هذا القول انطبق عليه تماماً.

وكان اسم مؤذنّه عبد الله بن النواجة. والذي يقيم له حجير بن عمر، فكان حجير يقول في الإقامة، «أشهد أنّ مسيلمة يزعم أنّه رسول الله !!» ويرفع بها صوته، فقال له مسيلمة: أفصح يا حجير فليس في المجمجة خير!!

ومن طريف ما يذكره المؤرخون عن سجاح ومسيلمة: أن سجاح خرجت بالجنود قاصدةً مسيلمة فتحصن منها بادئ الأمر، ثم اجتمع بها بعد ذلك، فقالت له ما أوحى إليك ربك؟! فقال: ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، اخرج منها نسمةً تسعى بين صفاقٍ وحشي!»  قالت: ثم ماذا! قال: إنّ الله خلق النساء أفراجاً، وجعل الرجال لهنّ أزواجاً قالت: أشهد أنّك نبي. قال: هل لك أن أتزوجك وآكل بقومي وقومك العرب؟! قالت نعم. ففعل، وكان مهرها من مسيلمة أنّ أمر مؤذنه بأن ينادي في أصحابها: إنّ مسيلمة قد وضع عنكم صلاتين، صلاة الفجر وصلاة العشاء الآخرة، وفي سجاح يقول عطارد بن حاجب، وكان من أصحابها:

أمست نبيّتنا أنثى نطوف بها *** وأصبحت أنبياءُ الناس ذكرانا (27)

ولقد شكلت هذه الردة خطراً كبيراً على المسلمين رغم التفكير السخيف لدعاتها، وقلة عقولهم، فقد اجتمع مع مسيلمة من بني حنيفة «أربعون ألف مقاتل»! (28) .

ونذكر على سبيل المثال: أنّه في وقعة اليمامة ـ بينهم وبين المسلمين ـ استشهد من المهاجرين والأنصار ـ من أهل المدينة ـ ثلاثمائة وستون رجلاً، ومن غير المدينة ثلاثمائة رجل (29) عدا غيرهم من عامة المسلمين.

وكان عمّار بن ياسر رضي الله عنه قد أبلي بلاءً حسناً في ذلك اليوم. قال عبد الله بن عمر: «رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين، أمن الجنة تفرون؟؟ أنا عمار بن ياسر، هلموا إلى ـ وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب ـ وهو يقاتل أشد القتال.

وكان مركز هذه الحركة في البحرين، فقد اجتمعت قبيلة ربيعة على الردة، وارتأى آخرون أن يُردّ الملك إلى المنذر بن النعمان بن التميمي الملقب «بالغرور» وخرج الحُطَم بن ضبعة فاجتمع إليه من غير المرتدين ممن لم يزل مشركاً حتى نزل القطيف وهجر، وقد حوصر المسلمون في «جواثا» (30) من قبل المشركين والمرتدين حصاراً شديداً حتى أضرّ بهم الجوع، لكن الله تعالى أمدهم بالنصر وثبتهم بالصبر، فغلبوا على عدوهم، وقتل الحطم، وهرب من نجا من أتباعه.

 

ترجمة مالك بن نويرة:

كان مالك بن نويرة، رجلاً سرياً نبيلاً، يردف الملوك، وهو الذي يضرب به المثل فيقال: فتىً ولا كمالك! وكان فارساً شاعراً مطاعاً في قومه، وكان فيه خيلاء وتقدم، وكان ذا لمّة كبيرة ـ شعر كثيف ـ وكان يقال له الجفول.

قدم على النبي (صلى الله عليه وآله) فيمن قدم من العرب، فأسلم، فولّاه النبي (صلى الله عليه وآله) صدقات قومه. قال المرزبانيّ: فلمّا بلغته وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أمسك الصدقة وفرّقها في قومه وقال في ذلك:

فقلت خذوا أموالكم غير خائف  

ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالدين المخوّف قائم       

أطعنا وقلنا الدين دين محمد

وقد ذكر هذه الأبيات السيد المرتضى رحمه الله في كتابه «الشافي» مع أبيات أُخر لمالك استدل بها على أنّه حين بلغه وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أمسك عن أخذ الصدقة من قومه قائلاً لهم: تربّصوا حتى يقوم قائم بعده وننظر ما يكون من أمره.

(النص والاجتهاد 131 ـ 134).

 

مقتله:

حين فرغ خالد من «أسد وغطفان» توجّه نحو البطاح حيث مالك بن نويرة وقومه هناك فلما عرف الأنصار الذين كانوا مع خالد عزمه على ذلك، توقفوا عن المسير معه وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إن نحن فرغنا من «البزاخة» واستبرأنا بلاد القوم، أن نقيم حتى يكتب إلينا. فأجابهم خالد: إنّه ـ أي الخليفة ـ لم يكن عهد إليكم بهذا، فقد عهد إليّ أن أمضي وأنا الأمير، وإليَّ تنتهي الأخبار، ولو أنّه لم يأتني كتابٌ ولا أمر ثم رأيت فرصةً إن أعلمته بها فاتتني، لم أعلمه حتى انتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمرٍ لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به، وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصدٌ له بمن معي. وكان مالك قد فرق قومه ونهاهم عن الاجتماع، وقال: يا بني يربوع، إنّا دعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوآة قوم صنع لهم، فتفرقوا وادخلوا في هذا الأمر. فتفرّقوا على ذلك وسار خالد ومن معه قاصدين البطاح، فلم يجدوا فيها أحداً، فأرسل خالد سراياه في أثرهم فجاءته بمالك بن نويرة في نفرٍ من بني يربوع، فحبسهم!

وقد روى الطبري بسنده إلى أبي قتادة الأنصاري ـ وكان من رؤساء تلك السرايا ـ قال: إنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح! قال أبو قتادة، فقلنا: إنا المسلمون؛ فقالوا: ونحن المسلمون! قلنا، فما بال السلاح معكم؟ فقالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟؟ فقلنا: فإن كنتم كما تقولون، فضعوا السلاح، فوضعوا السلاح، ثم صلينا وصلّوا.

قال العقاد: وبعد الصلاة خفوا إلى الاستيلاء على أسلحتهم وشدّ وثاقهم، وسوقهم أسرى إلى خالد ـ وفيهم زوجة مالك ليلى بنت المنهال أم تميم ـ وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال ولا سيما جمال العينين والساقين، وقد تجادل خالد في الكلام مع مالك ـ وهي إلى جنبه ـ فكان ممّا قاله خالد: إنّي قاتلك! قال له مالك: أو بذلك أمرك صاحبك؟ ـ يعني أبا بكر ـ قال: والله لأقتلنّك. وكان عبد الله بن عمر وأبو قتادة الأنصاري إذ ذاك حاضرين، فكلّما خالداً في أمره، فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد، ابعثنا إلى أبي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا، فقد بعثت إليه غيرنا ممّن جرمه أكبر من جرمنا! وألح عبد الله بن عمر وأبو قتادة على خالد بأن يبعثهم إلى الخليفة، فأبى عليهما ذلك! وقال خالد: لا أقالني الله إن لم أقتله، وتقدم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه. فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني.

فقال له خالد: بل الله قتلك برجوعك عن الإِسلام. فقال له مالك: إنّي على الإسلام.

فقال خالد: يا ضرار، اضرب عنقه، فضرب عنقه، وجعل رأسه أثفيةً لقدرٍ من القدور المنصوبة. ثم قبض خالد على زوجته ليلى، فبنى بها في تلك الليلة، وفي ذلك يقول أبو زهير السعدي:

ألا قل لحيٍّ أوطئوا بالسنابك     

تطاول هذا الليل من بعد مالكِ

قضى خالدٌ بغياً عليه لعرسه      

وكان له فيها هوىً قبل ذلك

فأمضى هواه خالدٌ غير عاطفٍ 

عنان الهوى عنها ولا متمالك

وأصبح ذا أهلٍ وأصبح مالك     

على غير شيءٍ هالكاً في الهوالك

فمن لليتامى والأرامل بعده        

ومن للرجال المعدمين الصعالك

أصيبت تميم غثها وسمينها        

بفارسها المرجو سحب الحوالك

وكان خالد قد أمر بحبس الأسرى من قوم مالك، فحبسوا والبرد شديد، فنادى مناديه في ليلةٍ مظلمة: أن أدفئوا أسراكم!! وهي في لغة كنانة كناية عن القتل! فقتلهم بأجمعهم. وكان قد عهد إلى الجلّادين من جنده أن يقتلوهم عند سماع هذا النداء، وتلك حيلة منه توصّل بها إلى ألا يكون مسؤولاً عن هذه الجناية، لكنّها لم تخف على أبي قتادة وأمثاله من أهل البصائر، وإنّما خفيت على رعاع الناس وسوادهم.

والتفت أبو قتادة الأنصاري إلى خالد وقال: هذا عملك؟!! فنهره خالد، فغضب ومضى. وكان أبو قتادة ممّن شهد لمالك بالإِسلام ـ كما قدّمنا ـ وقد كان عاهد الله ألّا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً بعدها أبداً.

حين وصلت أنباء البطاح ومقتل مالك إلى المدينة، أثارت موجة سخط في أوساط كبار المسلمين، فحين بلغ ذلك عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر وقال: عدو الله، عدا على امرىءٍ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته.

وأقبل خالد بن الوليد قافلاً، حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامةٍ له قد غرز فيها أسهماً، فلمّا دخل قام إليه عمر، فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ـ ثم قال: أرئاءً. قتلت امرىء مسلماً.. الخ.

وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمان بن عوف كلام في ذلك، فقال له عبد الرحمن: عملت بأمر الجاهليّة في الإسلام؟ وأنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة. وقدّم متمم بن نويرة أخو مالك إلى المدينة ينشد أبا بكر دمه، ويطلب إليه ردّ السبي، فكتب إليه برد السبي، وأنشد:

أدعوته بالله ثم غدرته *** لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدرِ

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صريح القرآن الكريم بذلك، ومنه قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} الحشر ـ 7. وقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} النجم ـ 3. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} الأحزاب ـ 36.

(2) قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 24.

(4) الطبري 3 / 210.

(5) الإمامة والسياسة 1 / 22.

(6) اليعقوبي 2 / 114 وقيل للإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) من كنتم ترونه؟ فقال: جبريل!

(7) الطبري 3 / 213.

(8) اليعقوبي 2 / 123.

(9) أبو ذر الغفاري للمؤلف / 96 وهو مفصل هناك.

(10) اليعقوبي 2 / 124.

(11) حديث متواتر.

(12) حديث المنزلة أيضاً من الأحاديث المشهورة مروج الذهب 2 / 425.

(13) فرائد السمطين 1 / 145.

(14) الإمامة والسياسة 1 / 18 تتمة النص: فقال له عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع؛ فقال له على (عليه السلام): احلب حلباً لك شطره، وأشدد له اليوم أمره يردده عليك غداً ثم قال: والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه! فقال له أبو بكر: فإن لم تبايع فلا أكرهك. وكان بنو هاشم قد اجتمعوا علىٰ عليّ في هذا الأمر.

(15) الاحتجاج 1 / 102.

(16) شرح النهج 1 / 219 ـ 220.

(17) المجادلة: 22.

(18) الحجرات: 13.

(19) الكامل 2 / 362.

(20) الكامل 2 / 362 والطبري 3 ـ 209 وشرح النهج 1 / 47.

(21) للتفصيل راجع الكامل 2 / 63 حين نزلت الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.

(22) لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه في حجة الوداع: من كنت مولاه فهذا علي مولاه الخ.. وقوله (صلى الله عليه وآله): «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» ودعائه (صلى الله عليه وآله)في حديث الطائر وقد قدمه إليه أنس: «اللهم ادخل إلى أحب خلقك إليك.. الخ ـ مروج الذهب 2 / 425.

(23) الكامل 2 / 414.

(24) النصائح الكافية 87.

(25) الكامل 2 / 359.

(26) الطبري 3 / 280.

(27) الكامل 2 / 356.

(28) نفس المصدر 361.

(29) الاستيعاب 2 / 476.

(30) جواثا: بلدة من أعمال البحرين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 




علم من علوم الحديث يختص بنص الحديث أو الرواية ، ويقابله علم الرجال و يبحث فيه عن سند الحديث ومتنه ، وكيفية تحمله ، وآداب نقله ومن البحوث الأساسية التي يعالجها علم الدراية : مسائل الجرح والتعديل ، والقدح والمدح ؛ إذ يتناول هذا الباب تعريف ألفاظ التعديل وألفاظ القدح ، ويطرح بحوثاً فنيّة مهمّة في بيان تعارض الجارح والمعدِّل ، ومن المباحث الأُخرى التي يهتمّ بها هذا العلم : البحث حول أنحاء تحمّل الحديث وبيان طرقه السبعة التي هي : السماع ، والقراءة ، والإجازة ، والمناولة ، والكتابة ، والإعلام ، والوجادة . كما يبحث علم الدراية أيضاً في آداب كتابة الحديث وآداب نقله .، هذه عمدة المباحث التي تطرح غالباً في كتب الدراية ، لكن لا يخفى أنّ كلاّ من هذه الكتب يتضمّن - بحسب إيجازه وتفصيله - تنبيهات وفوائد أُخرى ؛ كالبحث حول الجوامع الحديثية عند المسلمين ، وما شابه ذلك، ونظراً إلى أهمّية علم الدراية ودوره في تمحيص الحديث والتمييز بين مقبوله ومردوده ، وتوقّف علم الفقه والاجتهاد عليه ، اضطلع الكثير من علماء الشيعة بمهمّة تدوين كتب ورسائل عديدة حول هذا العلم ، وخلّفوا وراءهم نتاجات قيّمة في هذا المضمار .





مصطلح حديثي يطلق على احد أقسام الحديث (الذي يرويه جماعة كثيرة يستحيل عادة اتفاقهم على الكذب) ، ينقسم الخبر المتواتر إلى قسمين : لفظي ومعنوي:
1 - المتواتر اللفظي : هو الذي يرويه جميع الرواة ، وفي كل طبقاتهم بنفس صيغته اللفظية الصادرة من قائله ، ومثاله : الحديث الشريف عن النبي ( ص ) : ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) .
قال الشهيد الثاني في ( الدراية 15 ) : ( نعم ، حديث ( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ) يمكن ادعاء تواتره ، فقد نقله الجم الغفير ، قيل : أربعون ، وقيل : نيف وستون صحابيا ، ولم يزل العدد في ازدياد ) .



الاختلاط في اللغة : ضمّ الشيء إلى الشيء ، وقد يمكن التمييز بعد ذلك كما في الحيوانات أو لا يمكن كما في بعض المائعات فيكون مزجا ، وخالط القوم مخالطة : أي داخلهم و يراد به كمصطلح حديثي : التساهل في رواية الحديث ، فلا يحفظ الراوي الحديث مضبوطا ، ولا ينقله مثلما سمعه ، كما أنه ( لا يبالي عمن يروي ، وممن يأخذ ، ويجمع بين الغث والسمين والعاطل والثمين ويعتبر هذا الاصطلاح من الفاظ التضعيف والتجريح فاذا ورد كلام من اهل الرجال بحق شخص واطلقوا عليه مختلط او يختلط اثناء تقييمه فانه يراد به ضعف الراوي وجرحه وعدم الاعتماد على ما ينقله من روايات اذ وقع في اسناد الروايات، قال المازندراني: (وأما قولهم : مختلط ، ومخلط ، فقال بعض أجلاء العصر : إنّه أيضا ظاهر في القدح لظهوره في فساد العقيدة ، وفيه نظر بل الظاهر أنّ المراد بأمثال هذين اللفظين من لا يبالي عمّن يروي وممن يأخذ ، يجمع بين الغثّ والسمين ، والعاطل والثمين)