حقائق أساسية متفق عليها عموما في حياة الإسكندر الكبير(المقدوني). |
1048
08:49 مساءً
التاريخ: 2023-07-28
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-03-29
1119
التاريخ: 2023-07-31
718
التاريخ: 11-9-2016
1827
التاريخ: 2023-08-11
815
|
على الرغم من أن طبيعة الشواهد المتعلقة بالإسكندر الثالث المقدوني يصعب معها - إن لم يكن يستحيل - اكتشاف كينونته الداخلية، فثمة ما يكفي من أوجه الاتفاق بين المصادر القديمة لرسم سيرة حياته بدرجة معقولة من اليقين فيما يخص الأحداث الكبرى وتواريخها. تختلف المصادر الأساسية المعنية بالإسكندر من نواحٍ مهمة عديدة، فهي تغطي الفترة من حياة الإسكندر إلى القرن الثاني الميلادي، ويُضمر مؤلّفوها أغراضًا متباينة من وراء كتابتها، ومعظمها ناقص، وبعضها لا يوجد إلا على هيئة شذرات متناثرة في مصادر أخرى، والشهادة التي تقدمها غالبا ما تختلف مع المصادر الأخرى. أهم أسباب هذا الخلاف المستمر هو طبيعة المصادر التي وصلت إلى أيدينا؛ إذ إن أقدم الروايات التاريخية الموثوق فيها ضاعت أو في أحسن الأحوال لم تُحفَظ إلا على هيئة شذرات متناثرة، وأما التي كتب لها البقاء فهي كتابات متأخرة، وغالبًا ما يتضارب بعضها مع بعض، وتنطوي على أهدافها الخاصة. لكن هناك فعلا بعض المصادر ومن خلال العمل الصبور الدؤوب الذي بذله الباحثون تسنى لهم تحديد المواد الأسبق التي اعتمد عليها المؤلفون المتأخرون. وتتيح «شجرة النسب هذه بدورها للقراء استبانة موثوقية العديد من الروايات التاريخية أو عدم موثوقيتها؛ فأتمُّ الروايات التاريخية مثلا اعتمدت على اثنين من صحابة الإسكندر، بينما يوجد مؤلّف آخر متهم بتأليف رواية خيالية. وأظهرت مقارنة الروايات التاريخية أوجه الاتفاق والاختلاف فيما بينها؛ ومن ثَمَّ قدَّمت شيئًا أشبه بموقف مشترك تجاه جوانب معينة من سيرة الإسكندر. تتراوح أهم المصادر الموجودة من حيث تاريخها بين أواخر القرن الرابع قبل الميلاد والقرن الثاني بعد الميلاد، وأبكرها هو التقرير الرسمي الذي أعده نيارخوس عن الرحلة البحرية من مصب نهر السند إلى الخليج الفارسي. وفد نيارخوس، الكريتي المولد، على مدينة أمفيبوليس في مقدونيا أثناء حكم فيليب الثاني، ويوجد رأي معقول يقول إنه كان واحدًا من المستشارين الأكبر سنًا للإسكندر الشاب، وقد أ أسندت. إليه مناصب مهمة أثناء حكم الإسكندر، منها على سبيل المثال مَرزُبان ليقيا وبامفيليا، لكن المنصب الذي سجل وقائعه هو أميرال المهمة الاستطلاعية البحرية من جنوب الهند إلى رأس الخليج الفارسي وكُتب لهذا الوصف البقاء لأنه كان الأساس الذي قام عليه فيما بعد تقرير آريانوس المتأخر المعروف باسم «إنديكا». سرد تاريخ العالم الذي وضعه ديودورس الصقلي بعنوان «مكتبة التاريخ»، والواقع 40 كتابا أحداثا يعود زمانها إلى منشأ العالم ويمتد إلى فترة حياته هو شخصيا، وتحديدًا سنة 60 قبل الميلاد. ولم يُكتب البقاء إلا لخمسة عشر كتابا منها، لكن من حُسن حظ الباحثين المعنيين بمقدونيا أن من بينها الكتابين 16 و17 اللذين يتناولان فيليب والإسكندر. يرقى مؤلف كورتيوس روفوس عن الإسكندر إلى القرن الأول أو مطلع القرن الثاني بعد الميلاد. ضاع الكتابان الأولان من كتبه الأصلية العشرة، وتوجد ثغرات في الأجزاء المحفوظة، التي تتناول الأحداث حتى تاريخ توزيع الإسكندر مناصب الولاة سنة 324 قبل الميلاد. وعلى الرغم من دعوة بعض الباحثين إلى إعادة تقييم دقيقة لهذا المصدر، يوجد تقييم عام لجدارته أورده معجم أكسفورد الكلاسيكي «لا يوجد إلا قليل من الاتساق ... ومقتضيات البلاغة. هي التي تقرر اختيار المادة المصدرية. ومن ثَمَّ، يتنقل المؤلف تنقلا عشوائيا من مصدر إلى مصدر، وأحيانًا يمزج هذه المصادر في خليط عديم المعنى، وكثيرًا ما اتهم بتعمده كتابة الخيال.» يكاد يتزامن مع كورتيوس روفوس، مستريوس بلوتارخس، ابن مدينة خيرونية بمقاطعة بويطية في وسط اليونان - التي ألحق فيها فيليب وجنوده المقدونيون الهزيمة بالجيش الإغريقي سنة 338قبل الميلاد - وعاش في الفترة ما بين عامي 50 و 120 تقريبًا بعد الميلاد كان بلوتارخُس مؤلّفا غزير الإنتاج؛ إذ تعدد قائمةٌ وُضعت في فترة لاحقة 227 مؤلفًا من وَضْعه من أشهرها السِّير المقارنة لعظماء اليونان والرومان» الذي اشتمل على سير 23 من العظماء اليونانيين، ومثلهم من العظماء الرومانيين، مع مقارنة كلُّ واحدٍ منهم بنظيره، ومن بينها سيرة الإسكندر الأكبر وسيرة قرينه يوليوس قيصر. ألف بلوتارخُس أيضًا، ربما في مرحلة مبكرة من مشواره التأليفي، مقالا بعنوان «عن حظ الإسكندر» ضمَّنَه كتابه «الأخلاق». وصف دبليو دبليو تارن، وهو من الباحثين البارزين المتخصصين في الإسكندر في منتصف القرن العشرين الفرق في العملين قائلا: «وضع بلوتارخُس الجزء الأول من «عن حظ الإسكندر» في شبابه وبكل حماس الشاب المنكب على تصحيح ما اعتبره خطاً كبيرًا، لكن بحلول الوقت الذي وضع فيه بلوتارخُس المسن، أثناء اشتغاله بوظيفته السهلة المريحة في دلفي كتاب «حياة الإسكندر»، كانت جذوة الحماس قد فترت، وكان الرجل متأثرًا بفعل قراءاته الوفيرة» (1948: 296إف). يُنسب ماركوس جونيانيوس جوستينوس – أو جوستين – على وجوه مختلفة إلى القرن الثاني أو الثالث أو الرابع الميلادي، وجاءت مساهمته في دراسة الإسكندر على هيئة ملخص للدراسة الطويلة التي وضعها مؤلف سبقه، وهو بومبيوس تروجوس، بعنوان «التواريخ الفيليبية» في 44 كتابًا. وعن هذا العمل قال تارن لكن الإسكندر كما يصوره تروجوس - أو لعل الأحرى أن نقول: كما يصوره جوستين - شديد السوء، عدا في نقطة واحدة، لدرجة أن الأمر لا يكاد يستحق استقصاء المصادر بالكلية (122:1948). على النقيض من ذلك، فإن الدراسة التي وضعها آريانوس – أو لوكيوس فلافيوس آريانوس – في القرن الثاني كُتب لها البقاء كاملةً أو تكاد، وتعتبر بوجه عام التأريخ الأكثر موثوقية من بين ما وصل إلى أيدينا من تأريخات. وتُعزى هذه الموثوقية إلى اثنين من مصادر آريانوس؛ إذ اعتمد آريانوس أولًا على السجل الذي أعده أرسطوبولوس، الذي صاحب الإسكندر في حملته كخبير فني؛ ومن ثُمَّ نجد تفاصيل كثيرة تعكس اهتماماته غير العسكرية كبناء السفن والجسور وأما المصدر الثاني فهو الذي وضعه صديق الإسكندر وخليفته بطليموس، الذي شارَكَ أيضًا في تلك الحملة من المعقول أن نعتقد أن بطليموس وضع مؤلفه في أواخر حياته (مات سنة 283 قبل الميلاد) بعد تعزيز سيطرته على مملكته المصرية. ما يتساوى في أهميته في الحكم على جدارة «أنباسة الإسكندر» لآريانوس كشفه عن نيته السير في كتابته التاريخية على خُطى ثلاثي المؤرخين الإغريق الكلاسيكيين: هيرودوت وثوكيديدس وزينوفون وصلت إلى أيدينا بقايا مصادر كثيرة وجدت ذات يوم وتناولت الإسكندر؛ فكانت الحملة تضم مؤرخًا رسميًّا هو كاليستينيس، تلميذ أرسطو وأحد أقربائه؛ وعندما فقد كاليستينيس حظوته لدى الإسكندر، انتهى أيضًا دوره كمؤرخ. معروف أن حاجب الإسكندر كاريس الميتيليني كتب «قصصا» عن الإسكندر في 10 كتب، كما فعل آخرون من ضمنهم أونيسيكريتوس، الفيلسوف الذي شارَكَ في الرحلة البحرية مع نيارخوس. استحوذ فيليب والإسكندر على اهتمام كبير. ويُنسب إلى مؤرخ مقدوني يُسمى مارسيا البيلي: كتابة تاريخ لمقدونيا في 10 كتب، بالإضافة إلى رسالة بعنوان «عن تعليم الإسكندر». ويستمر النقاش حول وجود عدد من التأريخات الأخرى، التي تتراوح بين وصف للمرتزقة الإغريق الذين يخدمون مع ملك الفرس، و«وصية» تخص الإسكندر، وشذرات من «يوميات» (روزنامة) للحملة ذاتها ما يفاقم هذه المشكلة وجود حوالي 80 نسخة مختلفة من «رومانسية الإسكندر» بأربع وعشرين لغة وهي عبارة عن مجموعة أساطير تقدم الإسكندر باعتباره الجَدَّ الأعلى الذي تحدَّرَتْ منه العائلة المالكة الملايوية، وكقاتل تنانين، وكرجل يكلّم الأشجار، وكمؤمن برب اليهود والنصارى، وفي هيئات أخرى كثيرة. الحقيقة يوجد أكثر من إسكندر واحد. ويقدِّم ريتشارد ستونمان عددًا من هذه الأساطير، وجمع الباحث الألماني فيليكس ياكوبي شذرات الأعمال الضائعة. ويتمخض التوفيق بين هذه الشواهد المتباينة عن السرد التقريبي التالي. ولد الإسكندر في صيف عام 356 ق. م لفيليب الثاني ملك المقدونيين آنذاك، وأوليمبياس، التي تزوجها فيليب قبل ذلك بسنة على الأرجح. كان محل ميلاده مدينة بيلا، التي صارت المركز الرئيس في مقدونيا في أوائل القرن الرابع وباتَتْ آنذاك بمنزلة القلب السياسي للمملكة. قام على تعليم الإسكندر العديد من المعلمين؛ إذ كان ليونيداس – أحد أقرباء أوليمبياس - وإغريقي يُسمى ليسيماخوس قوتين مهمتين في سنواته الأولى، وعندما استهل الإسكندر العقد الثاني من عمره، استعين بالفيلسوف الإغريقي أرسطو لتعزيز نضجه الفكري ومعه العديد من رفاقه وأصدقائه. عاش التلاميذ ومعلمهم منفصلين عن بيلا في موضع يُعرَف باسم نمفايون، أو مكان حوريات الماء. وتوجد خيوط تلقي بعض الضوء على الموضوعات التعليمية التي تناولها أرسطو، وسنتناول ما نرجحه منها في الفصل الرابع. جاءت المعرفة الضرورية الأخرى، بطريق مباشر أو غير مباشر، من أبوي الإسكندر، وهذا موضوع الفصل الثالث. يتجلى لنا أن التدريب البدني كان يشكل جزءًا كبيرًا من تلك المعرفة من واقع قدرة الإسكندر على ترويض جواد بري لم يقدر حتى الرجال المتمرسون الأسن منه على امتطاء صهوته صار هذا الجواد المسمى بوسيفالوس جواد مروضه الأثير، فسافَرَ معه إلى نهر السند ومات هناك. وتضمَّنَتْ صور التدريب الأخرى جميع المهارات التي كان يحتاج إليها ابن الملك فيليب وخليفته المحتمل. وتتضح الشواهد الدالة على نجابته كتلميذ في حكم الأب فيليب على الإسكندر، وهو في السنة السادسة عشرة من عمره، بأنه كفء لحكم مقدون في غيابه (340)، وبعد ذلك بعامين بأنه مؤهل لقيادة ميسرة الجيش المقدوني في خيرونية، التي ألحق فيها الجيش المقدوني، بقيادة فيليب والإسكندر المشتركة هزيمة بالإغريق (338). شاب السنة التالية خلاف خطير بين الأب وابنه بسبب زواج فيليب من زوجته السابعة كليوباترا، وكان من خطورة هذا الخلاف أن رحل الإسكندر وأمه عن بيلا قاصدين مملكتها الأصلية إبيروس؛ ثم عقدت مصالحة سنة 336 عادا على إثرها إلى مقدونيا، وفي تلك السنة اغتيل فيليب الثاني. وهكذا كانت سنة 336 مستهل حكم الإسكندر طالب خلفاء محتملون آخرون من أبناء الأسرة الأرغيَّة أيضًا بأحقيتهم في الحكم، ومنهم ابن آخر لفيليب الثاني، وابن شقيق بينما كان طفلا سنة 359 فيليب الذي لم يكن يقدر الذي تمخَّضَ عنه موتُ أبيه على النقيض من ذلك، ففي سنة 336 كان الإسكندر قد برهن بالفعل على قدرته برهانا كافيًا لكي تنادي به جمعية الجيش ملكًا، ولكي يضمن دَعْمَ ضباط والده وأصدقائه، وكلاهما حيوي للوصول إلى الملك. استهلت فترة حكمه التي دامت 13 سنة بانتفاضات في شمال مقدونيا وفي اليونان، حيث حنَّتْ كلتا المنطقتين إلى استقلالها السابق. وفي سنة 335 كان الجيش يشن حملة بقيادة الإسكندر فيما يُعرَف اليوم باسم ألبانيا، عندما استدعي للتعامل مع ثورة قامت في وسط اليونان، وتحديدًا في طيبة. وعندما تم الاستيلاء على طيبة ونهبها خضعت بقية اليونان مجددًا للهيمنة المقدونية التي سبق أن بسطها فيليب. تحقق آنذاك الهدف من وراء «الحلف الكورنثي» الذي ا أقامه فيليب بعد انتصاره في خيرونية؛ إذ كان أعضاء الحلف قد وافقوا على تحالف هجومي ودفاعي بقيادة الملك المقدوني بهدف محدد، هو شن حملة ضد بلاد فارس. والحقيقة أن فيليب أرسَلَ قبل موته قوةً متقدمة إلى آسيا الصغرى، وبعد أن استتبت الأوضاع للإسكندر في اليونان وعلى حدوده الشمالية صار بإمكانه الالتفات إلى الحملة الكبرى التي أشعل فتيلها أبوه، ونعني العملية ضد الفرس. كانت معظم التحضيرات الأساسية للحملة جاهزة؛ وهكذا، بعد أن عين الإسكندر أنتيباتروس، أحد كبار ضباط والده، وصيًّا على العرش، قاد جيشه المؤلف من نحو30 ألفا من المشاة و5 آلاف من الخيالة عبر الدردنيل في ربيع سنة 334. لم تكن وجهته الأولى ساحة قتال لتحدي السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى، بل ساحة القتال الأسطورية طروادة. وعلى الرغم من أن هذا الاختيار مدهش في أعين دارسي الإسكندر في العصر الحديث، فإنه كان قرارًا طبيعيًّا من رجل من نسل آخيل مُقْدِم على الانتقام من محاولة الفرس السيطرة على مقدونيا واليونان. غير أن المقدونيين تحدوا في الخطوة التالية السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى في معركة دارَتْ عند نهر جرانيكوس، ولم يكن الجيش الفارسي بقيادة ملك فارس بل بقيادة مرازبة الأناضول. وما من شك بخصوص المحصلة، التي كانت انتصارًا مقدونيا كبيرًا فتَحَ البابَ إلى الأناضول؛ فاستسلمت سارديس، أقصى عاصمة فارسية في الغرب، وعمل الإسكندر على إحلال السلام في المنطقة طوال ما تبقى من تلك السنة وغالبية السنة التالية. وفي خريف سنة 333 مضى قدما تاركًا ضابطًا آخر من كبار ضباط فيليب، وهو أنتيغونوس، ليقود العملية الجارية لتعزيز السيطرة المقدونية على الأناضول التقى الجيشان من جديد في موقعة إيسوس في شمال سوريا، وكان الجيش الفارسي الذي يُقدَّر قوامه بستمائة ألف رجل - في هذه المواجهة بقيادة ملكهم داريوس الثالث ومع أن هذا القوام مشكوك فيه بشدة، فإن الفرس كانوا يفوقون المقدونيين عددًا، لكن تبيَّن أن كثرة عدد الفرس عديمة الفائدة لضيق المكان». بعد الانتصار المقدوني في الميدان تمكَّنَ داريوس من الفرار، لكنَّ مَن اصطحابهم معه من أفراد أسرته وقعوا في الأسر، ولتأمين إطلاق سراحهم عرَضَ التنازل عن الأراضي الفارسية الواقعة غرب نهر الفرات، فردَّ الإسكندر على ذلك بطريقتين؛ إذ رفض العرض، وراح يفتح منطقة سوريا وفلسطين استسلمت مدن كثيرة للمقدونيين، وبعضها تم الاستيلاء عليه دون صعوبة كبيرة، لكنهم اضطروا إلى ضرب حصار دام سبعة أشهر للاستيلاء على مدينة صور الحصينة، التي كانت موقعا حيويا للسيطرة على القوة البحرية. وبعد أن تمكَّنَ الإسكندر وجيشه من فتح صور في النهاية، واصلوا مسيرتهم جنوبًا إلى غزة، آخر مدن جنوب فينيقيا، وكانت محاطة بأسوار حصينة شأنها شأن صور، ويتطلب الاستيلاء عليها إقامة استحكامٍ مضاد بارتفاع 250 قدمًا (75 مترا) وآلات حصار وحفر أنفاق تحت سورها. في أعقاب الاستيلاء على المدينة وقتل سكانها أو استرقاقهم، واصل المقدونيون مسيرتهم نحو أقصى أقاليم الإمبراطورية الفارسية غربًا وهو مصر، فوصلوها في أواخر خريف سنة .332 لم يتطلب تغيير تبعية مصر أي قتال. ظل الإسكندر على مدى أشهر مشغولاً بالمسائل الإدارية، فوضع الخطط لإقامة عاصمة جديدة هي الإسكندرية، وفي جولة أخرى مفاجئة، سار نحو 370 ميلًا (600 كيلومتر) عبر الصحراء الغربية لاستشارة عرافة آمون الشهيرة على خلاف محصلة المعارك، يتركّز قدر كبير من النقاش على سبب هذه. الرحلة الطويلة الشاقة، وكذلك على السؤال الذي يطرحه الإسكندر والإجابة التي تقدمها العرافة؛ فهل علم فعلا أن أباه الحقيقي ليس فيليب بل آمون-زيوس؟ وسنعود إلى هذه المسألة وأفعال أخرى مماثلة في الفصل الختامي. شهد ربيع سنة 331 عودة الإسكندر إلى سوريا مستأنفا التعامل مع مسائل إدارة مملكته المتسعة قبل مواصلته طريقه نحو بلاد ما بين النهرين، وبعد عبوره نهري دجلة والفرات دون مقاومة، أراح جنوده استعدادًا للمعركة المقبلة التي كان الفرس يتأهبون لها. كانت تلك المعركة، التي دارت رحاها خريفًا عند جاوجاميلا في شمال بلاد ما بين النهرين مجهودًا هائلا من جانب الفرس؛ إذ ربما كانوا يفوقون المقدونيين عددًا بما يصل إلى ستة أمثالهم، لكن لم تستطع الأعداد ولا العجلات الحربية ذات المناجل، التي نُشرت لبثّ الفوضى بين الجنود المقدونيين، تحقيق النصر في المعركة. وعلى الرغم من فرار الملك داريوس من جديد، ضمن النصر المقدوني الكنوز الفارسية الموجودة في المدينة القريبة من ساحة المعركة، وفتح طريقًا عبر بلاد ما بين النهرين، ثم آخر إلى العاصمتين الفارسيتين شرق دجلة. استسلمت بابل وحذت شوشان حَذْوَها. وبعد إجراء تعيينات رسمية وإحداث بعض من إعادة التنظيم في صفوف الجيش، سار الإسكندر صوبَ الجنوب الشرقي نحو العاصمتين الفارسيتين تخت جمشيد وباسار جاد. كان يقوم على حماية الأولى مرزبان وتحت يده قوة قوامها 40 ألفًا من المشاة آريانوس الكتاب الثالث، 18، 2، متخذين مواقع استراتيجية لوقف الزحف المقدوني، وتطلب الاستيلاء عليها الالتفاف حول مواقع العدو بالسير عبر تضاريس وعرة. أما باسارجاد فلم تتطلب مجهودًا مماثلا تمخَّضَ الاستيلاء على المدينتين عن ثروة طائلة على هيئة كنوز، لكنه تمخَّضَ أيضًا عن الوصول إلى مركز السلطة الفارسية، فصار بإمكان الإسكندر إعلان انتزاعه عرش الأسرة المالكة الأخمينية. وفي تخت جمشيد، أعفى الفرقة الإغريقية من المزيد من المشاركة في مهمة الحلف الكورنثي، ثم أحرق المدينة؛ وهذا فعل آخر يتطلب دراية بعقل الإسكندر وعواطفه، وبما أننا لا نعرف كينونته الداخلية يظل سبب تدمير المدينة محل جدل شديد. ثم راح الإسكندر يطارد داريوس، سائرًا شمالاً صوب ميديا. وبينما كان يؤكد السيطرة المقدونية على ميديا، وصلت إليه أنباء مرور داريوس عبر بوابات قزوين في طريقه إلى الأقاليم الشرقية بالإمبراطورية الفارسية. وعندما وصل المقدونيون إلى جنوب منطقة قزوین، اكتشفوا مقتل الملك السابق داريوس على أيدي رفاق سفره. واصل الإسكندر طريقه شرقًا في صيف سنة 330 سعيًا وراء المطالبين الجدد بالملك، ولفتح ما تبقى من أرض الإمبراطورية على ما يبدو. تبيَّن أن الهدف الأول أصعب من الثاني؛ فبينما شقَّ الجيش المقدوني طريقه عبر المرزبات الشرقية في عامي 330 و329، عرض كثير من المرازبة استسلامهم بينما واصل آخرون القتال. ولم يتحقق إعدام بيسوس، وهو أول من أُعلن خليفةً لداريوس على عرش البلاد، إلا سنة 328؛ فواصَلَ الوريث المعلن الثاني، وهو سبيتامينيس، حشد القوات ومحاربة المقدونيين لمدة نصف سنة أخرى أو نحو ذلك. وواصل الإسكندر وقواته تهدئة الأوضاع واستتبابها في سوقديانا وباخترا لسنة أخرى، وتحديدًا حتى صيف سنة 327. هذه السنوات الثلاث جديرة بالملاحظة لأسباب هي أكثر من مجرد توسيع السيطرة المقدونية والقضاء على المطالبين بعرش فارس بخلاف الإسكندر نفسه. وأخيرًا اتخذ قرار الزواج، فوقع اختياره على رُخسانة ابنة وخش آراد أحد أعيان سوقديانا، لتكون زوجته الأولى. كانت رُخسانة - بجانب زوجة وخش آراد وابنتين أخريين له – قد وقعت في الأسر في حصار ناجح، ومع أن قرار الزواج بها كان من ثمرته كسب دعم أبيها، يقال أيضًا إنها كانت ثاني أجمل امرأة في آسيا كلها، ولم تفقها جمالاً إلا زوجة داريوس الثالث، وإن الإسكندر وقع في غرامها من أول نظرة. ثمة نتيجة أخرى أقل سرورًا بكثير لكن تتساوى في الأهمية، وهي أن المقدونيين بدءوا يعبرون عن عدائهم لملكهم، على المستوى الفردي وربما في صورة مؤامرات على حد سواء؛ فتورّط بارمنيون، أحد كبار ضباط الإسكندر والشخص الذي اختاره فيليب لقيادة القوة المتقدمة التي زحفت إلى آسيا الصغرى سنة 337، في مؤامرة شهيرة حاكها ابنه فيلوتاس، وهو الآخر شخصية مهمة في حاشية الإسكندر . ولدى علم الإسكندر بالمؤامرة المحاكة ضده، أمر باستدعاء فيلوتاس أمام جمعية الجيش فدافع فيلوتاس عن نفسه في مواجهة اتهامه بالتورط، لكن ثبت أنه مذنب لعدم مبادرته إلى إبلاغ الإسكندر بالمؤامرة على الرغم من الاتصال اليومي بينهما. قُتِل فيلوتاس والمتآمرون الآخرون برماح رماها مقدونيون، وابتعث آخر من أصحاب الإسكندر بأوامر إلى القادة الذين تركوا في ميديا بقتل بارمنيون أبي فيلوتاس على أساس أنه كان ضالعًا في المؤامرة، ولو لم يكن ضالعًا فيها فعلى أساس أنه كان عنصر استقطاب محتمل للغضب ضد الملك لما يتمتع به هو وأسرته من احترام كبير لدى الجنود المقدونيين والمرتزقة. وفي السنة التالية، قُتل كلايتوس الأسود – الذي تذكر المصادر التي وصلت إلينا أنه أنقذ حياة الإسكندر في معركة نهر جرانيكوس - أثناء ندوة شهدت إسرافًا في الشراب؛ فبينما كان أصحاب الإسكندر يتملقونه، ذكَّرَ كلايتوس الصحبة بأهمية العون الذي قدمه المقدونيون الآخرون، فنشبت مجادلة صاخبة انتهت بتناول الإسكندر رميًا أو حربة من أحد الحراس، وقتله الرجل الذي حماه أثناء معركة جرانيكوس. شهدت السنة ذاتها مؤامرة أخرى مزعومة، وأثارها هذه المرة عدد من غلمان الإسكندر الصغار، وضلع فيها مؤرخ الحملة الرسمي كاليستينيس، وكان قد فقد حظوته لدى الإسكندر لسببين: أولهما اقتراحه ضرورة التخفيف من التسبيح بحمد الملك، وثانيهما رفضه السجود للإسكندر الذي استحدثه على الطريقة الفارسية أسفرت المؤامرة المزعومة عن موت كاليستينيس رجمًا أو شنقًا أو بسبب إنهاكه نتيجة جرجرته في أغلاله بصحبة الجيش الزاحف. بعد أن حلَّ الإسكندر - على المدى القصير على الأقل - القضايا المقدونية الداخلية وحقق السيطرة الاسمية على معظم المنطقة الشرقية من الإمبراطورية الفارسية، استعد لمواصلة الزحف شرقًا في الهند أقيمت مستوطنات جديدة بكثرة في المرزبات الشرقية للإمبراطورية الفارسية التي كان معظمها قد أخضع آنذاك، وأقيم العديد من المدن الجديدة التي حملت اسم الإسكندرية في فرادا، وهيرات وقندهار، وغزني، وميرف، وترمذ، وعلى جبال هندوكوش وعلى نهر سيحون، وأعيد تأسيس مدينة باخترا باسم الإسكندرية. بالإضافة إلى ذلك، أُنشئت حاميات في خوجند وفي المنطقة الواقعة بين خوجند والحد الشمالي للحملة عند نهر سيحون وفي ظل وجود خط للمواصلات، شقَّتْ قوةٌ قوامها نحو 35 ألف رجل طريقها عبر جبال هندوكوش إلى وادي نهر السند في صيف 327. ثم فتحت الهزيمة التي وقعت بجيش الملك الهندي بوروس سنة 326 عند نهر هايداسبيس طريقا إلى شبه القارة الشاسعة؛ فسار الجيش المقدوني شرقًا حتى بلغ نهر بياس (أقصى نقطة شرقًا في شبكة الأنهار الكبيرة، وعندئذٍ ظهر على السطح ردُّ فعل مقدوني آخَر؛ إذ رفض رجال الإسكندر مواصلة الزحف تقدّر عملية حسابية أجراها الكونت يورك فون فارتنبورغ أن المقدونيين كانوا قد قطعوا 12 ألف ميل أو أكثر من 19 ألف كيلومتر في ثماني سنوات ونصف سنة) فاضطر إلى موافقتهم والعودة إلى الغرب عادت القوة أدراجها غربا إلى نهر هايداسبيس الذي كان يجري بناء أسطول فيه، ثم شقَّتْ طريقها جنوبًا برا وبحرا حتى وصلت إلى دلتا نهر السند في صيف 325 . وضع الإسكندر الأسس لإدارة الأقاليم المستولى عليها حديثا، ثم نظم عملية العودة، فواصَلَ جزء من القوة سيره بحرًا بهدف استكشاف الطريق من مصب نهر السند إلى مصبي نهري دجلة والفرات في الخليج الفارسي، على أن يواصل جزء من القوة البرية مسيره متخذا طريقًا شمال صحراء جيدروسيا، وأما الإسكندر فسار على رأس بقية الجيش عبر الصحراء ذاتها مباشرةً شهدت المجموعات الثلاث صعوبات بالغة، لكن مَن كُتِبت لهم النجاة من الجيشين التأموا مجددًا غرب الصحراء الكبرى، والتقى الأسطول الإسكندر داخل مضيق هرمز بالضبط، فواصل الأسطول إبحاره شمالا، وأما الجيش فسار نحو باسارجاد التي بلغها مطلع 324. وفي ربيع ذلك العام، توجه الإسكندر إلى العاصمة الفارسية شوشان وفي الربيع التالي إلى بابل. كان الإسكندر، خلال آخر سنة ونصف سنة من حياته، أكثر انشغالا بنتائج حملته الناجحة منه بتجريد حملات أخرى، وإن كانت ثمة مصادر تروي أنه كان يخطط لحملات جديدة كالإبحار حول شبه الجزيرة العربية. أسس الإسكندر أيضًا المزيد من المستوطنات. كان شاغله الأكبر محاربيه القدامى والرجال الذين أسند إليهم مهمة العمل على استتباب الأوضاع والحكم، وكان بعضهم غير كفء للمهمة أو غير مخلص للملك أو الاثنين معا. وأثناء الإقامة في شوشان، تُوجَتِ العلاقات الغرامية التي جمعت كثيرين من جنوده بنساء آسيويات يذكر آريانوس أنهم كانوا أكثر من 10 (آلاف بالزواج، وكان الإسكندر نفسه يقدم هدايا الزفاف وقدَّم أيضًا شكلا آخر من الهدايا بسداده ديون الجيش التي بلغ مجموعها 20 ألف وزنة تزوّج الإسكندر أيضًا وأصحابه المقربون بنات عائلات فارسية كبيرة؛ إذ تزوّج الإسكندر نفسه ابنة داريوس الكبرى، والابنة الصغرى لنبيل فارسي من فرع آخر من فروع الأسرة المالكة الفارسية. ويذكر آريانوس زيجات هفايستيون وكراتيروس وبيرديكاس وبطليموس ويومينس ونيارخوس وسلوقس، ويفيد بعقد نحو80 زيجة مماثلة بين أصحاب آخرين وبنات نبلاء الفرس والميديين. لكن شوشان شهدت التئامًا آخر بوصول 30 ألف شاب آسيوي بعد تدريبهم على الطريقة المقدونية؛ إذ أسفرت تداعيات هذا الوصول عن مزيد من التمرد في صفوف جيشه المقدوني، عندما أعلن الإسكندر أنه بصدد تسريح عدد كبير من محاربيه القدامى وإعادتهم إلى مقدونيا استقبل كثيرون من المقرر تسريحهم هذا الإعلان بغضب ساخر، مطالبين إياه بتسريح جميع المقدونيين ومواصلة الحرب بمساعدة أبيه «الحقيقي» الإله آمون. ولم يكونوا أيضًا راضين كل الرضا عن صحبه الآسيويين الجدد. كان أول رد للإسكندر أن أمر باعتقال رءوس التحريض وقتلهم، ثم ألقى خطابًا غاضبًا وبَّخَ فيه البقية، واختتمه بكلمة «انصرفوا!» وذهب عنهم. أبدى قدامى المحاربين ندمهم واسترحموا مليكهم، فصولحوا بمأدبة ضخمة، وبعدها كان نحو 10 آلاف محارب قديم متأهبين للعودة إلى مملكة مقدونيا تحت قيادة أحد كبار قواد الإسكندر، وهو كراتيروس. كان تدبير إدارة الإمبراطورية التي ظفر بها الإسكندر حاجةً أخرى مُلِحَّة؛ إذ كان كثيرون ممن تركهم وراءه في مواقع السلطة يعتقدون على ما يبدو أنه لن ينجو من حملته الشرقية، فحُوسِب عدد منهم وعوقبوا واستبدلوا. لم يكن الأفراد وحدهم بحاجة إلى ترتيب بل كانت أقاليم بأكملها خارج نطاق الإمبراطورية الفارسية السابقة تحتاج إلى ترتيب أوضاعها، وخصوصًا اليونان؛ ففي أواخر ثلاثينيات القرن الرابع، جمع الملك الإسبرطي أجيس بين هدف استعادة قوة إسبرطة وهدف ثان هو القضاء على السيطرة المقدونية على اليونان، ولتحقيق هاتين الغايتين نجح في حشد جيش من المشاة قوامه 20 ألف رجل، بالإضافة إلى 10 سفن وأموال من بلاد فارس. وكان في أثينا جندي محترف يشغل منصب القائد العسكري منهمكا في حشد ائتلاف ضد المقدونيين سنة 324. وعلى مبعدة أكبر من ذلك، يُروى أن وفودًا من شعوب منطقة البحر المتوسط والشعوب الأوروبية جدَّتْ في التماس هذا الفاتح الشاب المذهل. تدخل الموت ليختصر هذه الجهود ويربكها. في البداية جاء موتُ الرجل الذي صار أقرب صديق ومعاون له، وهو هفايستيون، في أواخر 324، مما أحزن الإسكندر حزنًا عظيمًا. وسرعان ما أصابت الإسكندر نفسه حمى في ربيع 323، فمات في يونيو الثالث عشر من الشهر هو التاريخ المقبول عمومًا قُبَيْل عيد ميلاده الثالث والثلاثين. كان الإسكندر الثالث المقدوني شخصًا لافتًا للأنظار خلال حياته، وأسبغَتْ عليه إنجازاته لقب الإسكندر الأكبر منذ القدم، وهو لقب مرتبط دومًا باسمه. كان بطلا في أعين الكثيرين من الطامحين إلى محاكاته بداية من خلفائه ذاتهم إلى الإمبراطور الروماني تراجان الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، إلى نابليون بونابرت الذي كتب يقول: «غزا الإسكندر ثلاثمائة ألف فارسي بعشرين ألف مقدوني، وقد حققت نجاحًا مشهودًا في مساع جريئة.» ويمكن القول بأن الوصف الذي أورده المؤرخ إف إيه رايت للإسكندر هو الأروع؛ إذ بعد أن قال إن الإسكندر ويوليوس قيصر وكارل الكبير ونابليون «أعظم بكثير من المستوى العادي للقدرات البشرية، حتى إنه قَلَّما يمكن الحكم عليهم بالمعايير العادية»، أكد رايت أن الإسكندر في عمله وفي شخصيته يستحقُ المرتبة الأولى» (1934: 1). إننا نتوق إلى ما هو أكثر من بعض التواريخ والأحداث فيما يخص شخصًا كهذا. فما الذي كان يدفعه؟ وماذا كانت أهدافه الحقيقية؟ وماذا كانت خواطره وردود أفعاله ومخاوفه، هذا إن كانت انتابته مثل هذه الانفعالات التي لا تليق بالأبطال؟ هذه هي أنواع الأسئلة التي يثيرها الإسكندر، والتي لا تتسنى لنا الإجابة عنها إجابةً واضحة. لكن عندما ننظر إلى عالمه، سنقترب من التوصل إلى فهم ما.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|