مارس الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) تصحيحاً في الأسس والاتجاهات القائمة في الثقافة والفكر والعقل منطلقاً من مقتضيات العقيدة الجديدة كما جاء بها القرآن الكريم، ومن رؤيتها الخاصة لتناقضات الحياة وموقفه منها، وتعكس آيات القرآن الكريم صور الجدل الثقافي والفكري بين الرسول (صل الله عليه وآله وسلم) والمشركين والمنافقين واليهود وتعكس كذلك أسس تشكيل العقلية العربية الجديدة وأسلوبها، فالدعوة الى التوحيد صححت الأفكار السائدة عن الكون والخلق مثلما أجرت قصص الأنبياء الفصل المطلوب بين الثقافة القومية والثقافة الأجنبية وصححت رؤية العربي للتاريخ ووعيه له، وقد قوم البناء القيمي في الإسلام البناء النفسي والأخلاقي وأسس الموقف الإرادي وفي هذا المناخ وبناء على ضرورة فهم العقيدة الجديدة وأساسها القرآن الكريم، انطلقت الحياة العلمية والثقافية للعرب. لقد تمحورت الحياة العلمية حول القرآن والقصص، فقد شكلت قراءة القرآن وتفسيره وقصص مغازي الرسول (صلى الله عليه وأله وسلم) وأيام المسلمين في عهده اتجاهات الحركة الفكرية الرئيسة وفي وقت مبكر ⁽¹⁾. وقد يساء الظن فيتبادر إلى الذهن أن تركز الحياة العلمية في المدينة ومكة كان لهذا الاعتبار ولكن مثل هذا الظن نوع من الوهم العلمي فالقرآن الكريم كان في صدور الصحابة وعقولهم، وقد اقتضت ضرورات تنفيذ الهدف الأعلى للإسلام، وسياسة الرسول(صل الله عليه وآله وسلم ) أن ينتشر الصحابة في الأمصار بمجرد بدء حركة التحرير وقد استقرت مجموعات منهم في الأمصار بعد إنجاز مهام التحرير مشكلة أدوات تعميم لمجتمع المدينة ووسائل نشر للعقيدة الجديدة فضلاً عن تعليم الناس القرآن الكريم وحفظه وتفسيره وقص القصص على الناس، بما يعني أنهم أصبحوا أدوات صنع الحياة الفكرية الجامدة، وعندما ظهر الاهتمام بالحديث النبوي الشريف وظهرت معه حركة انتقال واسعة بين الأمصار إلى حيث يوجد من يحفظ شيئاً عن الرسول (صل الله عليه وآله وسلم ) أدى اتصال هذه البؤر ببعضها إلى نشوء تقاليد ومنهجية موحدة في دراسة هذه الموضوعات ⁽²⁾. لقد رافق الاهتمام بعلوم القرآن والحديث والمغازي تطور في الشعر وفي الرواية ومن مجمل هذه الموضوعات تشكلت الحركة الفكرية وأدت التنظيمات وممارسات الحياة اليومية دورها في فرز موضوعات جديدة للحركة الفكرية ⁽³⁾. لقد أسهم الإسلام في تشكيل العقلية العربية من خلال العقيدة الجديدة والمعارف المتصلة بالإنسان والكون وما أشاعت من دراسات في القرآن والحديث أدت إلى نشاط عقلي تمخض عنه دراسات في اللغة والفقه والتاريخ وعلم الكلام كما أن التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع الجديد واتساع حدود الدولة مع اتساع انتشار الإسلام واحتواء شعوب وثقافات وعقائد أخرى أوجدت حاجة إلى تنظيمات جديدة في المجتمع ومؤسساته الاقتصادية والاجتماعية وأثارت مشكلات جديدة حفزت ونشطت البحث والتقصي وفرضت الحاجة إلى نهضة علمية شاملة، وعزرت عملية التعريب الوحدة الفكرية عندما فرضت وحدة الأداة. كما كان للأجواء الجديدة التي اتسمت بالتسامح الديني وحرية الانتشار التي أتاحها الإسلام وصيغة التمازج التي وفرتها الدولة والاهتمامات الشخصية والرسمية للخلفاء والعلماء وسمة الانفتاح الحضاري للأمة العربية وان مرت الظروف المناسبة للبحث العلمي ودراسة الموروث أيا كان وتطويره والإضافة إليه والوصول إلى ميادين علمية جديدة، لقد مر تطور العلوم العقلية عند العرب بثلاث مراحل هي : مرحلة تنظم العلوم والمعارف القديمة التي ازدهرت على يد معاوية بن أبي سفيان أيام ولايته الشام وتوليه خلافة المسلمين فقد اتسمت بتسجيل معارف العرب وعلومهم. والثانية هي مرحلة الاتصال الحضاري وأما الثالثة فمرحلة الإبداع وإجابة متطلبات الحياة اليومية والحاجات الاجتماعية وإشباع الطموح الذاتي للعلماء أنفسهم ⁽⁴⁾.

.....................................

1-ينظر فيصل شكري، المجتمعات الإسلامية في القرن الأول، دار العلم للملايين بيروت، 1978م: 74 عبد العزيز محمد الحسيني، الحياة العلمية في الدولة الإسلامية، بيروت 1973م: 84 الحديثي، المرجع السابق: 33-39. هاملتون، دراسات في حضارة الإسلام تحرير: ستانفورد شووليم بولك، ترجمة احسان عباس (واخرون)|، ط 2، دار العلم للملايين، بيروت، 1974: 184.

2-ينظر: الجبوري، عبد الستار حمدون أحمد، الزهري ومنهجه في التدوين التاريخي، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة الموصل، كلية الآداب ،1989م :18-28.

3- ينظر: الشمالي، عبدة دراسات في تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية واثار رجالها، ط4، بيروت، 1965م: 149 طوقان، قدري، حافظ العلوم عند العرب سلسلة الألف كتاب القاهرة 165. الطويل، توفيق، العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، دار النهضة المصرية القاهرة، 1971م: 56. معروف اصالة الحضارة العربية: 431 الدوري عبد العزيز بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1960م: 78.

4- ينظر: طوقان المرجع السابق: 114 الحديثي المرجع السابق: 42 وما بعدها. الدوري، عبد العزيز، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، المطبعة الكاثوليكية، 1960 م: 50-51 ،كفاني المرجع السابق : 117 ،معروف، المرجع السابق: 474.