أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-04-02
1785
التاريخ: 21-05-2015
3545
التاريخ: 21-05-2015
3874
التاريخ: 2023-03-29
943
|
استمرّ المأمون على منهجه السابق في التظاهر بالإحسان لأهل البيت ( عليهم السّلام ) وقد تظاهر بإكرام الإمام الجواد ( عليه السّلام ) فزوّجه ابنته وحاول التقرّب اليه كثيرا لكنه في الوقت ذاته كان يكيد للإمام من خلال تحجيم دوره وتشديد الرقابة عليه ، بالرغم من تظاهره بالولاء لأهل البيت ( عليهم السّلام ) والرعاية له بشكل خاص . وذلك لما عرفناه من موقف المأمون من أبيه الرضا ( عليه السّلام ) فيما سبق من بحوث ، وبه نفسّر كل ما صدر من المأمون تجاه الإمام الجواد ( عليه السّلام ) .
وسنتطرق إلى الثغرات الرئيسية في العلاقة بين الإمام ( عليه السّلام ) والمأمون فيما بعد .
تزويج المأمون ابنته من الإمام الجواد ( عليه السّلام ) :
قال المؤرخون : « لمّا أراد المأمون ان يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي ( عليه السّلام ) بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم ، واستنكروه وخافوا ان ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرّضا ( عليه السّلام ) فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل بيته الأدنون منه . فقالوا : ننشدك اللّه يا أمير المؤمنين ان تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فإنّا نخاف ان يخرج به عنا أمر قد ملّكناه اللّه عز وجل ، وينزع منّا عزّا قد ألبسناه اللّه ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا ، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك ، من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ( عليه السّلام ) ما عملت فكفانا اللّه المهم من ذلك .
فاللّه اللّه ان تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا ، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .
فقال لهم المأمون : أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم ، واما ما كان يفعله من قبلي بهم ، فقد كان قاطعا للرّحم ، وأعوذ باللّه من ذلك ، واللّه ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف الرضا ( عليه السّلام ) ولقد سألته ان يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى ، وكان أمر اللّه قدرا مقدورا .
واما أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل ، مع صغر سنه ، والأعجوبة فيه بذلك ، وانا أرجو ان يظهر للناس ما قد عرفته منه ، فيعلمون ان الرأي ما رأيت فيه .
فقالوا له : ان هذا الفتى وإن راقك منه هديه فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه ، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك .
فقال لهم : ويحكم اني اعرف بهذا الفتى منكم وان أهل هذا البيت علمهم من اللّه تعالى وموادّه والهامه ، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال ، فان شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله .
قالوا : قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه ، فخلّ بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة ، فان أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه ، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه . فقال لهم المأمون : شأنكم وذلك متى أردتم .
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم ، وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها ، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك ، وعادوا إلى المأمون وسألوه ان يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك .
فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون ان يفرش لأبي جعفر دست[1] ويجعل له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر ( عليه السّلام ) .
فقال يحيى بن أكثم للمأمون : يأذن لي أمير المؤمنين أن اسأل أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون : استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم ، فقال :
أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : « سل إن شئت » .
قال يحيى : ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا ؟
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : « قتله في حلّ أو في حرم ، عالما كان المحرم أو جاهلا ، قتله عمدا أو خطأ ، حرّا كان المحرم أو عبدا ، صغيرا كان أو كبيرا ، مبتدئا بالقتل أو معيدا ، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها ، من صغار الصيد أم من كبارها ، مصرّا على ما فعل أو نادما ، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار ، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما ؟ »
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى عرف جماعة أهل المجلس أمره . فقال المأمون : الحمد للّه على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم : اعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم اقبل على أبي جعفر ( عليه السّلام ) فقال له : أتخطب يا أبا جعفر ؟
فقال : نعم يا أمير المؤمنين . فقال له المأمون : اخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وانا مزوّجك أم الفضل ابنتي وان رغم قوم ذلك .
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : الحمد للّه إقرارا بالنعمة ، ولا اله إلّا اللّه إخلاصا لوحدانيته وصلى اللّه على محمد سيد بريّته ، والأصفياء من عترته .
اما بعد فقد كان من فضل اللّه على الأنام ، ان أغناهم بالحلال عن الحرام ، فقال سبحانه : وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .
ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب امّ الفضل بنت عبد اللّه المأمون ، وقد بذل لها من الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد ( عليهما السّلام ) وهو خمسمائة درهم جيادا فهل زوّجته يا أمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟
فقال المأمون : نعم قد زوّجتك يا أبا جعفر أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور ، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : قد قبلت ذلك ورضيت به .
فأمر المأمون ان يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة .
قال الريّان : ولم نلبث ان سمعنا أصواتا تشبه أصوات الملّاحين في محاوراتهم ، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال من الإبريسم ، على عجلة مملوّة من الغالية ، ثم أمر المأمون ان تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية ، ثم مدّت إلى دار العامّة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى كلّ قوم على قدرهم .
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي ، قال المأمون لأبي جعفر ( عليه السّلام ) : ان رأيت جعلت فداك ان تذكر الفقه الذي فصّلته من وجوه من قتل المحرم لنعلمه ونستفيده .
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : نعم ان المحرم إذا قتل صيدا في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير ، وكان من كبارها ، فعليه شاة ، فان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا ، وإذا قتل فرخا في الحلّ فعليه حمل قد فطم من اللبن وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ ، فإذا كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة ، وإن كان نعامة فعليه بدنة وان كان ظبيا فعليه شاة وان كان قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة .
وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه ، وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى ، وان كان إحرامه بالعمرة نحره بمكة ، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء ، وفي العمد عليه المأثم وهو موضوع عنه في الخطأ ، والكفّارة على الحرّ في نفسه ، وعلى السيّد في عبده ، والصغير لا كفّارة عليه ، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة ، والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة .
فقال المأمون : أحسنت يا أبا جعفر أحسن اللّه إليك فان رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك .
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) ليحيى : أسألك ؟ قال : ذلك إليك جعلت فداك ، فإن عرفت جواب ما تسألني والا استفدته منك .
فقال له أبو جعفر ( عليه السّلام ) : أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار حلّت له ، فلما زالت الشمس حرمت عليه ، فلما كان وقت العصر حلّت له ، فلما غربت الشمس حرمت عليه ، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له ، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه ، فلما طلع الفجر حلّت له ، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه ؟
فقال له يحيى بن أكثم : لا واللّه لا اهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا اعرف الوجه فيه ، فان رأيت أن تفيدناه .
فقال أبو جعفر ( عليه السّلام ) : هذه أمة لرجل من الناس ، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه ، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له ، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلت له ، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه ، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له ، فلما كان نصف الليل طلّقها واحدة ، فحرمت عليه ، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له .
قال : فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم : هل فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب ، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟
قالوا : لا واللّه ان أمير المؤمنين اعلم وما رأى .
فقال : ويحكم ! ان أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من الفضل ، وان صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال . اما علمتم ان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلمّ ) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ) وهو ابن عشر سنين ، وقبل منه الإسلام وحكم له به ، ولم يدع أحدا في سنّه غيره ، وبايع الحسن والحسين ( عليهما السّلام ) وهما ابنا دون الست سنين ، ولم يبايع صبيا غيرهما ، أو لا تعلمون ما اختص اللّه به هؤلاء القوم ؟ ! وانهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم . فقالوا : صدقت يا أمير المؤمنين ثم نهض القوم .
فلما كان من الغد احضر الناس وحضر أبو جعفر ( عليه السّلام ) وسار القوّاد والحجّاب والخاصة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر ( عليه السّلام ) فأخرجت ثلاثة أطباق من الفضة ، فيها بنادق مسك وزعفران ، معجون في أجواف تلك البنادق رقاع مكتوبة بأموال جزيلة ، وعطايا سنية ، واقطاعات ، فأمر المأمون بنثرها على القوم من خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق يده له ، ووضعت البدر ، فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم ، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز والعطايا . وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين ، ولم يزل مكرما لأبي جعفر ( عليه السّلام ) معظما لقدره مدة حياته ، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته »[2].
حقيقة العلاقة بين الإمام ( عليه السّلام ) والمأمون
بعد استعراضنا لقضية زواج الإمام ( عليه السّلام ) من بنت المأمون وبيان ملابساتها وما دار خلالها من نقاش وسجال وحوار ، نسجل الملاحظات الآتية لبيان الثغرة في علاقة المأمون العباسي بالإمام الجواد ( عليه السّلام ) .
1 - كان المأمون يدرك جيدا ان الجواد ( عليه السّلام ) هو الوارث الحقيقي لخط الإمامة وهو القائد الشرعي لامة جده رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ) ، لذلك تعامل في تخطيطه السياسي معه تعاملا جادّا بصفة ان الإمام ( عليه السّلام ) كان قطبا مهما من أقطاب الساحة السياسية الإسلامية وقائدا مطاعا من قبل الطليعة الواعية في الأمة مع ما يمتلكه من مكانة واحترام في نفوس قطّاعات واسعة من الأمة .
وقد اعلن المأمون تصوره هذا أمام العباسيين عندما قالوا له :
يا أمير المؤمنين أتزوج ابنتك وقرة عينك صبيا لم يتفقه في دين اللّه ؟ ولا يعرف حلاله من حرامه ؟ ولا فرضا من سنة ؟ ولأبي جعفر ( عليه السّلام ) إذ ذاك تسع سنين ، فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام .
فقال المأمون : « انه لأفقه منكم واعلم باللّه ورسوله وسنته واحكامه ، وأقرأ لكتاب اللّه منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله ، منكم » . لذلك لا بدّ أن يكون المأمون مع الإمام الجواد ( عليه السّلام ) مخططا له بعناية وحنكة . وهذا يفسر البعد الضخم الذي اكتسبه زواج الجواد ( عليه السّلام ) من بنت المأمون ومدى اهتمام المأمون به من قبل القوّاد والحجّاب والخاصّة .
2 - على أساس النقطة السابقة فقد تظاهر المأمون بحبه وتقديره للإمام الجواد ( عليه السّلام ) طالبا بذلك :
أ - كسب الجماهير المسلمة الموالية لأهل البيت ( عليهم السّلام ) بصفته من الموالين والمكرمين لآل الرسول ، وهو نظير ما يقوم به السياسيون المعاصرون من رفعهم للشعارات التي تطمح الأمة إلى تحقيقها .
ب - التغطية على جريمة قتله للإمام الرضا ( عليه السّلام ) ، وذلك باظهار الحب والشفقة والاحترام لولده الجواد ( عليه السّلام ) وبهذا التصرف استطاع المأمون ان يخدع الرأي العام .
3 - كانت علاقة المأمون بالجواد ( عليه السّلام ) كعلاقته السابقة مع أبيه الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ، تنطوي على اغراض سياسية أي انه كان ظاهرها حسنا جميلا وباطنها يتضمّن النيّة الشريرة والمكر السيئ ! !
لقد كاد المأمون للإمام الجواد ( عليه السّلام ) ، ولكنه لم يستطع تحقيق أغراضه في الانتقاص منه واسقاطه ، فكانت آخر محاولة له مع الجواد هي تزويجه لبنته ، فقد روي في الكافي :
عن محمد بن الريّان أنّه قال : « احتال المأمون على أبي جعفر ( عليه السّلام ) بكل حيلة ، فلم يمكنه فيه شيء فلما اعتلّ وأراد ان يبني عليه ابنته دفع إلى مائتي وصيفة من أجمل ما يكون إلى كل واحدة منهن جاما فيه جوهر يستقبلن أبا جعفر ( عليه السّلام ) إذا قعد في موضع الأخيار فلم يلتفت إليهن وكان رجل يقال له مخارق صاحب صوت وعود وضرب ، طويل اللحية فدعاه المأمون ، فقال :
يا أمير المؤمنين ان كان في شيء من امر الدنيا فأنا أكفيك أمره ، فقعد بين يدي أبي جعفر ( عليه السّلام ) فشهق مخارق شهقة اجتمع عليه أهل الدار ، وجعل يضرب بعوده ويغنّي ، فلما فعل ساعة وإذا أبو جعفر لا يلتفت اليه يمينا ولا شمالا ، ثم رفع اليه رأسه وقال : اتق اللّه يا ذا العثنون . قال : فسقط المضراب من يده والعود ، فلم ينتفع بيديه إلى أن مات ، قال : فسأله المأمون عن حاله فقال : لما صاح بي أبو جعفر فزعت فزعة لا أفيق منها أبدا »[3].
يتجلّى لنا من هذه الرواية انّ المأمون احتال بكل حيلة لاظهار عدم صلاحية الإمام الجواد ( عليه السّلام ) للإمامة والقيادة أمام الناس وأنه أولى منه بالخلافة والقيادة ، لكنه فشل في ذلك مما اضطرّه لتجريب أسلوب آخر يحتوي به حركة الإمام ، وذلك بتزويجه ابنته . على أنّ هذا الزواج كان تحديدا للإمام وليس إكراما له ، كما أنه قد كشف عن واقعه مآله وعاقبته التي تجلّت في اغتيال أم الفضل للإمام الجواد ( عليه السّلام ) ، كما سيأتي تفصيله .
أمّا توجّهات قاضي القضاة ابن أكثم في التصدي لإحراج الإمام بالأسئلة الصعبة فما كانت إلّا بدافع من المأمون ، والرواية الآتية تدل على ذلك :
قال المأمون ليحيى بن أكثم : اطرح على أبي جعفر محمد بن علي الرضا ( عليهما السّلام ) مسألة تقطعه فيها . فقال : يا أبا جعفر ، ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا أيحل ان يتزوجها ؟ فقال ( عليه السّلام ) : « يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه . ثم يتزوج بها إن أراد ، فإنما مثلها مثل نخلة اكل رجل منها حراما ثم اشتراها فأكل منها حلالا » . فانقطع يحيى[4].
ولكن دهاء المأمون وحنكته السياسية جعلاه يظهر الفرح عندما يجيب الإمام الجواد ( عليه السّلام ) على المشكلات من المسائل فتظهر توجهات ابن أكثم وكأنها توجهات فردية . وهذا لون من ألوان السياسة المتبعة حتى الآن وهي ان القائد يظهر الودّ لجهة ما ، لكنه يأمر اتباعه وأذنابه بمحاربة تلك الجهة .
وإذا انطلت هذه الأحابيل على البسطاء فإنها لم تنطل على الموالين للإمام ( عليه السّلام ) ففي رواية نقلها الكليني تفيد ان بعض الأوساط السياسية آنذاك كانت غير منخدعة بتزويج المأمون ابنته للإمام الجواد ( عليه السّلام ) بل كانت تحتمل وجود مكيدة سياسية خلف العملية . فعن محمد بن علي الهاشمي قال :
« دخلت على أبي جعفر ( عليه السّلام ) صبيحة عرسه حيث بنى بابنة المأمون - وكنت تناولت من الليل دواء - فأول من دخل عليه في صبيحته أنا وقد أصابني العطش وكرهت ان ادعو بالماء ، فنظر أبو جعفر ( عليه السّلام ) في وجهي وقال : « أظنك عطشان ؟ » فقلت : أجل .
فقال : يا غلام - أو يا جارية - اسقنا ماء . فقلت في نفسي : الساعة يأتونه بماء يسمّونه به ، فاغتممت لذلك ، فأقبل الغلام ومعه الماء ، فتبسم في وجهي ، ثم قال :
يا غلام ناولني الماء ، فتناول الماء فشرب ، ثم ناولني فشربت ، ثم عطشت أيضا وكرهت ان ادعو بالماء ، ففعل ما فعل في الأولى ، فلمّا جاء الغلام ومعه القدح قلت في نفسي مثل ما قلت في الأولى ، فتناول القدح ثم شرب ، فناولني وتبسم »[5].
فلقد كان هذا الهاشمي يتوقّع اغتيال الإمام ( عليه السّلام ) في ظلّ العداء الذي يكنّه المأمون وجهازه الحاكم للإمام ( عليه السّلام ) ، لذلك اغتمّ عندما طلب الإمام ( عليه السّلام ) الماء .
السبب في تزويج المأمون ابنته للإمام الجواد ( عليه السّلام )
انّ هذا الزواج إضافة لما سيحققه من دعاية للمأمون تظهر حبّه وولاءه لأهل البيت ( عليهم السّلام ) ، فإنّ ثمة سببا آخر نرجّحه على غيره ونراه السبب الأساس وهو وضع الجاسوس والرقيب الخاص على الإمام ( عليه السّلام ) يلازمه في بيته ، يحصي عليه سكناته وحركاته ويرفعها إلى الجهة التي زرعته وهكذا كانت امّ الفضل ابنة المأمون العبّاسي مع الإمام الجواد ( عليه السّلام ) .
موقف العباسيين :
اتّسم موقف العباسيين بالحقد والتعصب والسذاجة . فقد استاؤوا مما تصوروه من تساهل المأمون مع الإمام ( عليه السّلام ) فقد كانت المظاهر تؤثر عليهم كثيرا ، دون ادراكهم البعد العميق والحقيقي الذي كان يقصده المأمون وقد استفاد المأمون من وضعهم هذا عندما راح يفنّد مزاعمهم فيظهر وكأنه موال حقيقة لأهل البيت ( عليهم السّلام ) .
موقف الإمام الجواد ( عليه السّلام ) من ابن الأكثم :
لقد تصدى الإمام ( عليه السّلام ) للرد على ابن الأكثم واظهار عجزه أمام الناس للأسباب الآتية .
أ - اثبات إمامته وعلمه أمام الناس في وقت راحت الجهات المعادية تشن حملة إعلامية شديدة على الإمام بادعائها انه ( عليه السّلام ) لا يفقه من الدين شيئا وذلك لصغر سنه .
ب - ان تفنيده وإفحامه لابن الأكثم كان يعتبر تفنيدا وإفحاما للنظام الحاكم باعتبار أنّ ابن الأكثم عالم المأمون وقاضي قضاته .
ج - تثقيف الناس وكشف العلم الصحيح لهم من خلال الإجابات على أسئلته .
مدة إمامة الجواد ( عليه السّلام ) في عهد المأمون :
استلم الإمام الجواد ( عليه السّلام ) منصب الإمامة ونهض بأعباء قيادة الأمة سنة ( 203 ه ) بعد شهادة أبيه الإمام الرضا ( عليه السّلام ) ، وكان المأمون قد تسنّم منبر الخلافة وقتذاك . وتوفي المأمون سنة ( 218 ه ) بالبدندون من أقصى الروم ونقل إلى طوس فدفن فيها[6].
وبذلك يكون الإمام الجواد ( عليه السّلام ) قد قضى خمس عشرة سنة من إمامته التي استمرت سبع عشرة سنة في خلافة المأمون ، وهذا يعني أنّ أغلب سنوات إمامته كانت في فترة حكم المأمون .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|