خطبة الزهراء ( عليها السّلام ) في مسجد النبيّ ( صلّى اللّه عليه واله ) |
3407
05:04 مساءً
التاريخ: 15-5-2022
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-5-2022
1877
التاريخ: 16-12-2014
3546
التاريخ: 13-3-2019
2280
التاريخ: 16-12-2014
3939
|
حينما قرّرت السلطة أن تمنع فاطمة ( عليها السّلام ) فدكا وبلغها ذلك قرّرت الاعلان عن مظلوميتها بالذهاب إلى المسجد وإلقاء خطاب مهم في الناس ، وسرى الخبر في المدينة أنّ بضعة النبيّ ( صلّى اللّه عليه واله ) وريحانته تريد أن تخطب في الناس في مسجد أبيها ( صلّى اللّه عليه واله ) وهزّ الخبر أرجاء المدينة واحتشد الناس في المسجد ليسمعوا هذا الخطاب المهم .
وروى لنا عبد اللّه بن الحسن عن آبائه ( عليهم السّلام ) صورة من هذا الخطاب قائلا : إنّه لمّا أجمع أبو بكر وعمر على منع فاطمة ( عليها السّلام ) فدكا وبلغها ذلك ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله )[1] حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنبطت دونها ملاءة[2] ، فجلست ثمّ أنّت أنّة أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيئة حتّى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم ؛ افتتحت الكلام بحمد اللّه والثّناء عليه والصلاة على رسوله ( صلّى اللّه عليه واله ) فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت ( عليها السّلام ) :
« الحمد للّه على ما أنعم ، وله الشّكر على ما ألهم ، والثناء بما قدّم من عموم نعم ابتدأها ، وسبوغ آلاء أسداها ، وتمام منن أولاها ، جمّ عن الاحصاء عددها ، ونأى عن الجزاء أمدها ، وتفاوت عن الادراك أبدها ، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتّصالها ، واستحمد إلى الخلائق بإجزالها ، وثنى بالندب إلى أمثالها ، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، كلمة جعل الاخلاص تأويلها ، وضمّن القلوب موصولها ، وأنار في التفكّر معقولها .
الممتنع من الأبصار رؤيته ، ومن الألسن صفته ، ومن الأوهام كيفيّته ، ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها ، كوّنها بقدرته ، وذرأها بمشيّته ، من غير حاجة منه إلى تكوينها ، ولا فائدة له في تصويرها ، إلّا تثبيتا لحكمته ، وتنبيها على طاعته ، وإظهارا لقدرته وتعبّدا لبريّته وإعزازا لدعوته ، ثمّ جعل الثواب على طاعته ، ووضع العقاب على معصيته ، ذيادة[3] لعباده عن نقمته ، وحياشة[4] لهم إلى جنّته .
وأشهد أنّ أبي محمّدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله ، وسمّاه قبل أن اجتباه ، واصطفاه قبل أن ابتعثه ، إذ الخلائق بالغيب مكنونة ، وبستر الأهاويل مصونة ، وبنهاية العدم مقرونة ، علما من اللّه تعالى بمآيل الأمور ، وإحاطة بحوادث الدهور ، ومعرفة بمواقع الأمور ، ابتعثه اللّه إتماما لأمره ، وعزيمة على إمضاء حكمه ، وإنفاذا لمقادير حتمه ، فرأى الأمم فرقا في أديانها ، عكّفا على نيرانها ، عابدة لأوثانها ، منكرة للّه مع عرفانها .
فأنار اللّه بأبي محمّد ( صلّى اللّه عليه واله ) ظلمها ، وكشف عن القلوب بهمها[5] ، وجلى عن الأبصار غممها ، وقام في النّاس بالهداية ، فأنقذهم من الغواية ، وبصّرهم من العماية ، وهداهم إلى الدين القويم ، ودعاهم إلى الطريق المستقيم .
ثمّ قبضه اللّه إليه قبض رأفة واختيار ، ورغبة وإيثار ، فمحمّد ( صلّى اللّه عليه واله ) من تعب هذه الدار في راحة ، قد حفّ بالملائكة الأبرار ، ورضوان الربّ الغفّار ، ومجاورة الملك الجبّار ، صلّى اللّه على أبي نبيّه ، وأمينه ، وخيرته من الخلق وصفيّه ، والسّلام عليه ورحمة اللّه وبركاته » .
ثمّ التفتت إلى أهل المجلس وقالت : « أنتم عباد اللّه نصب أمره ونهيه ، وحملة دينه ووحيه ، وامناء اللّه على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الأمم ، زعيم حق له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقيّة استخلفها عليكم ، كتاب اللّه الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، منجلية ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائدا إلى الرضوان اتّباعه ، مؤدّ إلى النّجاة استماعه ، به تنال حجج اللّه المنوّرة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة .
فجعل اللّه الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماء في الرزق ، والصيّام تثبيتا للإخلاص ، والحجّ تشييدا للدين ، والعدل :
تنسيقا للقلوب ، وطاعتنا نظاما للملّة ، وإمامتنا أمانا للفرقة ، والجهاد عزّا للإسلام ، والصبّر معونة على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة ، وبرّ الوالدين وقاية من السخط ، وصلة الأرحام منسأة في العمر ومنماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييرا للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس ، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة ، وترك السرقة إيجابا للعفّة ، وحرّم اللّه الشرك إخلاصا له بالربوبيّة .
فاتّقوا اللّه حقّ تقاته ، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون ، وأطيعوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنّه إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء .
ثمّ قالت : أيّها الناس ! اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمّد ، أقول عودا وبدوا ، ولا أقول ما أقول غلطا ، ولا أفعل ما أفعل شططا {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمّي دون رجالكم ، ولنعم المعزّي[6] إليه ، فبلّغ الرسالة صادعا بالنذارة[7] مائلا عن مدرجة المشركين ، ضاربا ثبجهم[8] آخذا بأكظامهم[9] داعيا إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجف الأصنام وينكث الهام ، حتّى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، حتّى تفرّى اللّيل عن صبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدّين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ[10] النفاق ، وانحلّت عقد الكفر والشقاق ، وفهتم[11] بكلمة الإخلاص في نفر من البيض الخماص[12] وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة[13] الشارب ونهزة[14] الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام تشربون الطرق[15] ، وتقتاتون القدّ[16] أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم النّاس من حولكم ، فأنقذكم اللّه تبارك وتعالى بمحمد ( صلّى اللّه عليه واله ) ، بعد اللتيا والّتي ، وبعد أن مني ببهم[17] الرجال وذؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب ، كلّما أوقدوا نارا للحرب أطفأها اللّه ، أو نجم قرن الشيطان[18] ، أو فغرت فاغرة[19] من المشركين قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ جناحها بأخمصه[20] ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات اللّه ، مجتهدا في أمر اللّه ، قريبا من رسول اللّه ، سيّدا في أولياء اللّه ، مشمّرا ناصحا ، مجدّا كادحا ، لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، وأنتم في رفاهيّة من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر[21] وتتوكّفون الأخبار[22] وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال .
فلمّا اختار اللّه لنبيّه ( صلّى اللّه عليه واله ) دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ظهر فيكم حسكة[23] النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم[24] الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق[25] المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه[26] هاتفا بكم فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحشمكم[27] فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، ووردتم غير مشربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرّسول لمّا يقبر ، إبتدارا[28] زعمتم خوف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [29].
فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنّى تؤفكون ، وكتاب اللّه بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لايحة ، وأوامره واضحة ، وقد خلّفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تريدون ؟ أم بغيره تحكمون ؟ ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا[30] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [31].
ثمّ لم تلبثوا إلّا ريث أن تسكن نفرتها[32] ، ويسلس[33] قيادها ، ثمّ أخذتم تورون وقدتها ، وتهيّجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغويّ ، وإطفاء أنوار الدّين الجليّ ، وإهمال سنن النبيّ الصفيّ ( صلّى اللّه عليه واله ) ، تشربون حسوا في ارتغاء[34] وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضرّاء[35] ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ووخز السنان في الحشا ، وأنتم الآن تزعمون : أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهليّة تبغون ؟ ومن أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون ! أفلا تعلمون ؟ ! بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية : أنّي ابنته ، أيّها المسلمون أأغلب على إرثي ؟ .
يا بن أبي قحافة أفي كتاب اللّه ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريّا ! أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ[36] ، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريّا إذ قال : فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[37] وقال : وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ[38] وقال : يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ[39] وقال : إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[40].
وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا ، أفخصّكم اللّه بآية أخرج أبي منها ؟ أم هل تقولون : إنّ أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي ؟ .
فدونكها مخطومة مرحولة[41] تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم اللّه ، والزعيم محمّد ( صلّى اللّه عليه واله ) ، والموعد القيامة ، وعند السّاعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقرّ وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم » .
ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت : « يا معشر النقيبة[42] وأعضاد الملّة وحضنة الاسلام ، ما هذه الغميزة[43] في حقّي والسنة عن ظلامتي ؟ أما كان رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) أبي يقول : « المرء يحفظ في ولده » ؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة[44] ولكم طاقة بما أحاول ، وقوّة على ما أطلب وازاول ، أتقولون مات محمّد ( صلّى اللّه عليه واله ) ؟ فخطب جليل استوسع وهنه واستنهر[45] فتقه وانفتق رتقه[46] ، واظلمّت الأرض لغيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماته ، فتلك واللّه النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة[47] عاجلة ، أعلن بها كتاب اللّه جلّ ثناؤه في أفنيتكم ، ولقبله ما حلّ بأنبياء اللّه ورسله حكم فصل ، وقضاء حتم : وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ[48].
إيها بني قيلة[49] أاهضم تراث أبي ؟ وأنتم بمرأى منّي ومسمع ، ومنتدى[50] ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الحيرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوّة ، وعندكم السلاح والجنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصّلاح ، والنخبة الّتي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت ، قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الأمم وكافحتم البهم ، لا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأتمرون حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت ثغرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة
الهرج ، واستوسق نظام الدّين ، فأنّى حزتم بعد البيان ؟[51] وأسررتم بعد الاعلان ؟ ونكصتم بعد الاقدام ؟ وأشركتم بعد الإيمان ؟ .
بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، وهمّوا بإخراج الرّسول ، وهم بدأوكم أوّل مرّة ، أتخشونهم فاللّه أحقّ أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ، ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض[52] وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وخلوتم بالدعة[53] ونجوتم بالضّيق من السعة ، فمججتم[54] ما وعيتم ، ودسعتم[55] الذي تسوّغتم[56] فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإنّ اللّه لغني حميد[57].
ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالجذلة[58] الّتي خامرتكم[59] والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس[60] ونفثة الغيظ ، وخور القناة[61] وبثّة الصدر[62] وتقدمة الحجّة ، فدونكموها فاحتقبوها[63] دبرة[64] الظهر ، نقبة الخفّ[65] باقية العار ، موسومة بغضب الجبّار وشنار الأبد ، موصولة بنار اللّه الموقدة ، الّتي تطّلع على الأفئدة ، فبعين اللّه ما تفعلون وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[66] ، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون » .
وبعد هذا لجأ أبو بكر إلى أسلوب التضليل والاستغفال في محاولة منه لتدارك الموقف فقال : يا بنت رسول اللّه ، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما رؤوفا رحيما ، على الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما ، إن عزوناه[67] وجدناه أباك دون النّساء ، وأخا إلفك دون الأخلّاء[68] آثره على كلّ حميم ، وساعده في كلّ أمر جسيم ، لا يحبّكم إلّا سعيد ، ولا يبغضكم إلّا شقيّ بعيد ، فأنتم عترة رسول اللّه الطيّبون ، الخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنّة مسالكنا .
وأنت يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء صادقة في قولك ، سابقة في وفور عقلك ، غير مردودة عن حقّك ، ولا مصدودة عن صدقك ، واللّه ما عدوت رأي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) ولا عملت إلّا بإذنه ، والرائد لا يكذب أهله ، وإنّي اشهد اللّه وكفى به شهيدا أنّي سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) يقول : « نحن معاشر الأنبياء لا نورّث ذهبا ولا فضّة ولا دارا ولا عقارا وإنّما نورّث الكتاب والحكمة والعلم والنبوّة ، وما كان لنا من طعمة فلوليّ الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه » وقد جعلنا ما حاولته في الكراع[69] والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفّار ، ويجالدون[70] المردة الفجّار ، وذلك بإجماع من المسلمين[71] ، لم أنفرد به وحدي ، ولم أستبد بما كان الرأي عندي وهذه حالي ومالي ، وهي لك وبين يديك ، لا تزوى[72] عنك ، ولا تدّخر دونك وإنّك وأنت سيّدة امّة أبيك ، والشجرة الطيّبة لبنيك ، لا ندفع ما لك من فضلك ، ولا يوضع في فرعك وأصلك ، حكمك نافذ فيما ملكت بيداي ، فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك ( صلّى اللّه عليه واله ) ؟
فقالت ( عليها السّلام ) : « سبحان اللّه ما كان أبي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) عن كتاب اللّه صادفا[73] ولا لأحكامه مخالفا ! بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور ، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل[74] في حياته ، هذا كتاب اللّه حكما عدلا ، وناطقا فصلا يقول : يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ[75] ويقول : وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ[76] وبيّن عزّ وجلّ فيما وزّع من الأقساط ، وشرع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظّ الذكران والإناث ما أزاح به علّة المبطلين ، وأزال التظنّي والشبهات في الغابرين ، كلّا بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل واللّه المستعان على ما تصفون » .
فقال أبو بكر : صدق اللّه ورسوله ، وصدقت ابنته ، أنت معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، وعين الحجّة ، لا أبعد صوابك ، ولا انكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلّدوني ما تقلّدت ، وباتّفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبدّ ، ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود .
وهذه أولى محاولة لأبي بكر استطاع فيها من إخماد عواطف المسلمين وحرف رأيهم عن مناصرة الزهراء ( عليها السّلام ) من خلال التضليل والتظاهر بالصلاح واتّباع سنّة النبيّ ( صلّى اللّه عليه واله ) .
ثمّ التفتت فاطمة ( عليها السّلام ) إلى الناس وقالت : « معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية[77] على الفعل القبيح الخاسر ، أفلا تتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟ كلّا بل ران على قلوبكم ما أسأتم من أعمالكم . فاخذ بسمعكم وأبصاركم ولبئس ما تأوّلتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اغتصبتم ، لتجدنّ واللّه محمله ثقيلا ، وغبّه[78] وبيلا ، إذا كشف لكم الغطاء وبان ما وراءه [79] الضرّاء ، وبدا لكم من ربّكم ما لم تكونوا تحتسبون وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ[80].
ثم عطفت على قبر النبيّ ( صلّى اللّه عليه واله ) وقالت :
قد كان بعدك أنباء وهنبثة[81] * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختلّ قومك فاشهدهم ولا تغب
وكلّ أهل له قربى ومنزلة * عند الإله على الأدنين مقترب
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لمّا مضيت وحالت دونك الترب
تجهّمتنا رجال واستخفّ بنا * لمّا فقدت وكلّ الأرض مغتصب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك ينزل من ذي العزّة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا * فقد فقدت وكلّ الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا * لمّا مضيت وحالت دونك الكتب[82]
أنهت الزهراء خطابها وقد أوضحت فيه الحقّ بأجلى صورة ، واستجوبت الخليفة وفضحت مخططاته بالأدلّة والبراهين الساطعة المحكمة ، وذكرت فضائل الخليفة الحقيقي في الإسلام وكمالاته المطلوبة ، فتوتّر الجوّ وانساق الرأي العام لصالح الزهراء ( عليها السّلام ) وجعلت أبا بكر في زاوية حرجة وأمام طريق مسدود .
قال ابن أبي الحديد : سألت ابن الفارقي مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، وقلت له : أكانت فاطمة صادقة ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدكا وهي عنده صادقة ؟ فتبسّم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا : لو أعطاها اليوم فدكا لمجرد دعواها ؛ لجاءت إليه غدا وادّعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه ولم يمكن الاعتذار والموافقة ، لأنّه يكون قد سجّل على نفسه أنهّا صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود[83].
[1] أي : ما تنقص مشيتها مشية أبيها ، كأنّه هو .
[2] أي : ضرب بينها وبين القوم ستر وحجاب .
[3] ذيادة : دفعا .
[4] حياشة : جمعا وسوقا .
[5] البهم : معضلات الأمور ومشكلاتها .
[6] المعزّي : المنتسب .
[7] صادعا : مبيّنا ، والنذارة : الانذار .
[8] الثبج : وسط الشيء ومعظمه .
[9] الكظم : مخرج النفس من الحلق .
[10] الوشيظ : الخسيس من الناس .
[11] فهتم : تلفّظتم .
[12] الخماص : الجياع ، وهنا اختيارا .
[13] المذقة : اللبن الممزوج بالماء كناية عن سهولة شربه .
[14] النهزة : الفرصة .
[15] الطرق : الماء الذي خوضته الإبل وبركت فيه .
[16] القدّ : قطعة جلد غير مدبوغ .
[17] البهم : الشجعان الأقوياء .
[18] نجم قرن الشيطان : طلع أتباعه .
[19] الفاغرة : الطائفة .
[20] الأخمص : باطن القدم .
[21] الدوائر : العواقب السيئة .
[22] تتوكفون الأخبار : تنتظرون أخبار السوء بنا .
[23] الحسكة : العداوة والحقد .
[24] كاظم : ساكت .
[25] الهدير : ترديد البعير صوته في حنجرته . والفنيق : الفحل المكرّم من الإبل الذي لا يهان ولا يركب لكرامته على أهله.
[26] مغرزه : مخبئه .
[27] أحشمكم : أغضبكم .
[28] ابتدر القوم : تسابقوا في الأمر .
[29] التوبة ( 9 ) : 49 .
[30] الكهف ( 18 ) : 50 .
[31] آل عمران ( 3 ) : 85 .
[32] نفرتها : جزعها .
[33] يسلس : يسهل .
[34] الحسو : الشرب شيئا بعد شيء . والارتغاء : شرب الرغوة ، وهي اللبن الممزوج بالماء ، وجملة « حسوا في ارتغاء » مثل يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره .
[35] الخمر : ما واراك من شجر وغيره . والضراء : الشجر الملتفّ في الوادي .
[36] النمل ( 27 ) : 16 .
[37] مريم ( 19 ) : 5 - 6 .
[38] الأنفال ( 8 ) : 75 .
[39] النساء ( 4 ) : 11 .
[40] البقرة ( 2 ) : 180 .
[41] دونكها : أي خذها . والخطام : الزمام . والرحل للناقة كالسرج للفرس . والمقصود : خذ فدكا جاهزة مهيّئة .
[42] النقيبة : الفتية .
[43] الغميزة : نقص في العقل أو العمل . والسنة : النعاس من غير نوم .
[44] الإهالة : الودك وهو دسم اللحم ، وجملة : « سرعان ذا إهالة » مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته
[45] استنهر : اتّسع .
[46] اتفتق رتقه : أي انشق المكان الملتثم منه .
[47] البائقة : الداهية .
[48] آل عمران ( 3 ) : 144 .
[49] بنو قيلة : هم الأنصار من الأوس والخزرج .
[50] المنتدى : النادي بمعنى المجلس .
[51] استوسق : اجتمع وانتظم . وفي الاحتجاج : « فأنّى حرتم بعد البيان » .
[52] الخفض : السعة في العيش .
[53] الدعة : الراحة والسكون .
[54] مججتم : رميتم .
[55] دسعتم : قيّأتم .
[56] تسوّغتم : شربتم بسهولة .
[57] اقتباس من سورة إبراهيم : 8 .
[58] جذل : فرح .
[59] خامرتكم : خالطتكم .
[60] فيضة النفس : إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهمّ وغلبة الحزن .
[61] كناية عن ضعف النفس .
[62] بثّة الصدر : إظهار ما فيه من الحزن .
[63] احتقبوها : إحملوها على ظهوركم .
[64] الدبرة : قرحة الدابّة تحدث من الرحل ونحوه .
[65] نقبة الخف : رقّته .
[66] الشعراء ( 26 ) : 227 .
[67] عزوناه : نسبناه .
[68] الأخلّاء : مفرده الخليل وهو الصديق .
[69] الكراع : - بضمّ الكاف - : جماعة الخيل .
[70] يجالدون : يضاربون .
[71] قال ابن أبي الحديد في شرح النهج : 16 / 221 : أنّه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلّا أبو بكر وحده . وله كلام في ذلك أيضا في ص 227 و 228 فراجع ، وقال السيوطي في تاريخ الخلفاء : 73 وأخرج أبو القاسم البغوي ، وأبو بكر الشافعي في فوائده وابن عساكر عن عائشة قالت : اختلفوا في ميراثه ( صلّى اللّه عليه واله ) فما وجدوا عند أحد من ذلك علما ، فقال أبو بكر : سمعت رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه واله ) يقول : إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ما تركناه صدقة .
[72] لا تزوى : لا تمنع .
[73] صادفا : معرضا .
[74] الغوائل : المهالك .
[75] مريم ( 19 ) : 6 .
[76] النمل ( 27 ) : 16 .
[77] المغضية : غضّ طرفه أي أطبقه ، والمغضية أي المطبقة .
[78] غبّه : عاقبته .
[79] أي : ظهر لكم الشيء الذي وراءه الشدّة .
[80] غافر ( 40 ) : 78 .
[81] الهنبثة : الأمر الشديد .
[82] الاحتجاج : 1 / 253 - 279 طبعة منظمة الأوقاف ( انتشارات أسوة ) .
[83] شرح ابن أبي الحديد : 16 / 284 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|