أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-07-2015
848
التاريخ: 3-07-2015
928
التاريخ: 3-07-2015
924
التاريخ: 6-08-2015
859
|
ذهب ضرار بن عمرو الضبّيّ إلى أنّ للّه تعالى مائيّة زائدة على سائر صفاته، وزعم أنّه لا يعلمها إلّا اللّه تبارك وتعالى. وقد ناقض في قوله هذا، من حيث انّه قال: أعلم انّ له مائيّة، ثمّ قال: لا يعلم تلك المائيّة إلا اللّه.
وهذه مناقضة ظاهرة. وبيانه أن نقول له:
أتعلم أنّ له هذه المائيّة أو لا تعلم؟ فإن قال: لا أعلم أبطل قوله كفانا مئونة
جدالته ومناظرته، من حيث أقرّ بأنّه أثبت ما لا يعلمه، وإن قال: أعلم أنّ له هذه
المائيّة، قلنا: فقد أبطلت قولك: إنّه لا يعلمها إلّا هو تبارك وتعالى.
فإن اعتذر من لزوم المناقضة بأنّ يقول: أنا
إنّما أعلم تلك المائيّة على الجملة، واللّه يعلمها على التفصيل، وكان مرادي بقولي
لا يعلمها إلّا اللّه تعالى، أنّه لا يعلمها على التفصيل غيره، ولا يكون في كلامي
تناقض.
قلنا: وإذا قنعت من الفرق بينك وبينه تبارك
وتعالى في العلم بتلك المائيّة بالجملة والتفصيل، فاقنع بمثله في استدلالك على
إثبات هذه المائيّة، وفي ذلك إبطال استدلالك. وذلك لأنّه يحتجّ في إثبات هذه
المائيّة بإجماع الامّة على أنّه تبارك وتعالى أعلم بنفسه منّا. فلو لم يثبت له من
الصفات إلّا ما علمناه لما كان هو أعلم بنفسه منّا.
فنقول له: معنى ذلك أنّه يعلم من تفاصيل أوصافه
بكونه مريدا كارها مدركا، ومن تفاصيل متعلّقات أوصافه بكونه قادرا عالما ما لا
نعلمه، لا ما نعلمه على هذه الصفات على طريق الجملة، وهو يعلم التفاصيل التي أشرنا
إليها، فنقول: هذا هو معنى كونه أعلم بنفسه منّا، كما انّه فصّل بين علمه
بالمائيّة وبين علمه تعالى بها بالجملة والتفصيل.
ثم يقال له: يلزمك على هذا القول أن تثبت له
تبارك وتعالى مائيّة لا يعلمها إلّا أنبياؤه، لأنّ الأمّة كما أجمعت على أنّه أعلم
بنفسه منّا، أجمعت على أنّ أنبياءه، عليهم السلام، أعلم به منّا. وكذلك يلزمه أن
يثبت لكلّ شيء مائيّة لا يعلمها إلّا هو، لأنّ الامّة أجمعت أيضا على أنّه تعالى
أعلم بكلّ شيء منّا.
ثمّ الذي يدلّ على أنّه لا مائيّة له تبارك
وتعالى ما قد علمنا أنّه لا طريق إلى إثباتها. وما لا طريق إلى إثباته لا يجوز
إثباته على ما بيّناه من قبل.
يبيّن ما ذكرناه- من أنّه لا طريق إلى إثبات
مزيّة له تبارك وتعالى- أنّ الطريق إلى إثباته تبارك وتعالى إنّما هو افعاله لا
غير، وصفاته تبارك وتعالى إنّما تثبت من هذا الطريق أيضا بانّ يدلّ على الفعل عليه
أو وجه من وجوهه أو واسطة من وسائطه، ومعلوم أنّ الفعل ووجوهه ووسائطه لا يدلّ
شيء منها على أنّ له مائيّة.
وإنّما قلنا ذلك، لأنّ الفعل نفسه يدلّ على
ثبوته تبارك وتعالى، وصحّته تقتضي كونه قادرا، وإحكامه يدلّ على كونه عالما، ووقوعه
على وجه دون وجه يقتضي كونه مريدا...، وصحّة كونه عالما قادرا يدلّ على كونه حيّا،
وكونه حيّا يقتضي كونه مدركا عند وجود المدركات، ووجوب انتهاء الحوادث إلى أوّل
يقتضي كونه قديما. وليس وراء ذلك شيء آخر يمكن الاستدلال به على أنّ له مائيّة.
يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّه ليس إثبات مائيّة
له تبارك وتعالى، والحال ما وصفناه، أولى من إثبات مائيّتين ومن إثبات كيفيّة
اخرى، ومن إثبات كيفيّة اخرى ومن إثبات ثالث ورابع، لأنّ للكلّ إثبات ما لا دليل
عليه، فيجب بطلانه.
فإن قيل: أفتصفونه تبارك وتعالى بالصفة
الخامسة التي أثبتها أبو هاشم؟
قلنا: لا، وذلك لأنّه لا يدلّ على إثبات تلك
الصفة دليل ولا طريق أيضا إليه، ولا يجوز إثباتها على ما مضى القول فيه.
فإن قيل: كيف تقولون لا طريق إليها؟ وقد
استدلّ أصحاب أبي هاشم عليها بالمخالفة وبوجوب كونه تعالى قادرا عالما حيّا.
أمّا استدلالهم بالمخالفة فهو أنّ قالوا: قد
ثبت أنّه تعالى بخلاف الذوات المحدثات، فلا يخلو من أن يكون مخالفته لها لأمر أو
لا لأمر. وباطل أن يكون لا لأمر، لأنّه لو كان كذلك لم يكن بأن يكون مخالفا أولى
من أن يكون مماثلا.
وإذا كان لأمر، فذلك الأمر إمّا أن يكون
ذاته تبارك وتعالى، أو صفة من صفاته، أو كيفيّة صفة من صفاته.
قالوا: ولا يجوز أن يخالف بمجرّد الذات،
لأنّ مخالفه أيضا ذات، فتعيّن أنّه يخالفه بصفاته أو كيفيّات صفاته.
قالوا: وصفاته تنقسم إلى صفات ذات وإلى صفات
المعاني، ككونه مريدا وكارها، وإلى صفة يستحقّها لا لنفسه ولا لمعنى، ككونه مدركا،
وإلى صفات الفعل، ككونه خالقا ورازقا ومنعما ومتفضّلا، وكيفيّة صفاته وجوب كونه
قادرا عالما حيّا موجودا.
قالوا: ولا يجوز أن يخالف بصفات المعاني أو
التي يستحقّها لا للنفس ولا للمعنى، أو بشيء من صفات الأفعال، لأنّ جميع هذه
الأوصاف امور متجدّدة والخلاف يسبقها، ثمّ وصفات الأفعال ليست امورا راجعة إلى
ذاته تعالى، حتى يخالف بها، إذ معنى كونه خالقا وجود الخلق منه ومعنى كونه رازقا
محسنا وجود الرزق والإحسان منه، لا يفيد أمرا زائدا على هذا.
قالوا: ولا يجوز أن يخالف بكونه قادرا عالما
حيّا موجودا، لأنّ فيما يخالفه من يستحقّ هذه الصفات، كأحدنا، فإنّ الواحد منّا
قادر عالم حيّ موجود.
قالوا: ولا يجوز أن يخالف بكيفيّة هذه
الصفات وهي وجوبها، لأنّ الخلاف إذا لم يقع بأصل الصفة لا يجوز وقوعه بكيفيّتها،
فتعيّن أنّه إنّما يخالف بأمر وراء هذه الامور، وهو الذي نريد إثباته.
و أمّا استدلالهم بوجوب كونه تعالى قادرا
عالما حيّا موجودا على تلك الصفة، فتحريره أن قالوا: هذه الصفات قد استحقّها تعالى
فاستحققناها أيضا. ثمّ كانت واجبة له تبارك وتعالى جائزة في حقّنا، فلو لا أمر
يخصّه تبارك وتعالى، والّا لوجب أن تكون واجبة في الموضعين أو جائزة فيهما، وقد
علمنا خلاف ذلك. وذلك الأمر هو الذي نريد إثباته.
قلنا: أما الكلام على الطريقة الأولى فهو
أنّ نقول لا يصحّ الاستدلال بالمخالفة على ثبوت ما يؤثّر فيها، لا انّ العلم
بالمخالفة لا يحصل من دون العلم بما يقدر مؤثّر فيها.
وأصحاب أبي هاشم يوافقون على هذا ويقرّون به
ويقولون: العلم بالمخالفة يتفرّع على العلم بما يؤثّر فيها جملة أو تفصيلا، كما
أنّ العلم بالحسن والقبح يتفرّع على العلم بما يؤثّر فيهما جملة أو تفصيلا.
ثم وتحديد هم المختلفين بأنّهما الشيئان
اللذان لا يسدّ أحدهما مسدّ الآخر فيما يرجع إلى ذاتيهما يشعر بأنّ العلم
بالمخالفة لا يحصل إلّا مع العلم بما يؤثّر فيهما.
وذلك
لأنّه لا يمكن أن يعلم أنّ أحد الشّيئين لا ينوب مناب الآخر فيما يرجع إلى ذاتيهما
مع انتفاء العلم بما يرجع إلى ذاتيهما.
إذا ثبت وتقرّر أنّ العلم بالمخالفة إنّما
يحصل مع العلم بما يؤثّر فيها لم يمكن الاستدلال بالمخالفة على إثبات ما يؤثّر
فيها، إذ من حقّ الدليل وممّا يكون طريقا إلى أمر أن يكون العلم به سابقا على
العلم بذلك الأمر.
ثمّ يقال: والمخالفة ليست حكما زائدا على
الذات، إذ معناها كون أحد الشيئين غير مساو للشيء الآخر في حقيقتهما، وهذا آئل
إلى النفي. بخلاف صحّة الفعل وصحّة الإحكام، واحتمال الجواهر للعرض، وصحّة تنقله
إلى الجهات، إلى غير ذلك، لأنّ جميع ذلك آثار صادرة عن الذوات زائدة عليها، فيمكن
أن نطلب لها علّة. والمخالفة بخلاف ذلك، لأنّ المرجع بها إلى ما ذكرناه من نفي
المساواة بين الشيئين فيما يرجع إلى حقيقتهما. ولئن جاوزتا عن ذلك، فلم لا يجوز أن
يخالف تعالى غيره من المحدثات بذاته المقدّسة.
و قولهم: «مخالفه أيضا ذات» نقول عليه:
إنّما وقع الاشتراك بين ذاته تعالى وبين ذات غيره من المحدثات في التسمية. وإلّا
فأين حقيقة ذاته تعالى من حقيقة ذات غيره. ما وقوع لفظ الذات على الحقائق المختلفة
إلّا كوقوع لفظ العين على حقائقه المختلفة، فغير مسلّم أن ذات غيره كذاته تعالى،
حتّى أنّه لا يجوز وقوع الخلاف بمجرّد ذاته.
و من عجيب القول أنّهم يذهبون إلى أنّ مجرّد
الذات غير معقول ولا معلوم، ثمّ يقولون: الذوات كلّها مشتركة متساوية في الذاتيّة،
ويبنون عليه القول بأنّه تعالى لا يجوز أن يخالف ما يخالفه بذاته. فما لا يكون معقولا
ولا معلوما، كيف يعلم التساوي أو الاختلاف فيه.
ثم نقول: وكما أنّ الذوات كلّها اشتركت في
كونها ذوات عندكم، فكذلك الصفات كلّها اشتركت في كونها صفات، فلئن كان اشتراك
الذوات في الذاتيّة يمنع من وقوع الخلاف بالذوات فليمنع اشتراك الصفات في الصفتيّة
من وقوع الخلاف بها أيضا.
فإن قالوا: الصفات اشتركت في التسمية بأنّها
صفات وإلّا فهي مختلفات.
قلنا: فاقبلوا منّا مثله في الذوات، فإنّها
أيضا إنّما اشتركت في التسمية بأنّها ذوات وإلّا فهي حقائق مختلفة، وإن قالوا: نحن
لا نقول إنّ الصفات مختلفة، وإنّما نقول: الموصوفات مختلفة.
قلنا: فالذوات المختلفة كلّها اشتركت في
كونها موصوفات فيجب أن لا يخالف البعض البعض بأنّه موصوف.
فان قالوا: إنّما يخالف بعض الأشياء بعضه،
لا بأنّه موصوف مائل بأنّه موصوف مخصوص، وذلك ممّا لا يشترك فيه المختلفات.
قلنا: والذوات أيضا عندنا إنّما يخالف بعضها
بعضا، لأنّ كلّ واحد منها مخصوص بنفسه.
فإن قالوا: لا يمكنكم أن تقولوا في الذوات
المجرّدة ما نقوله في الذوات المخصوصة، وذلك لأنّا إذا ما نقوله في الذوات المجردة
قلنا: ذوات مخصوصة أشرنا في خصوصيّتها إلى صفتها التي هي عليها، فيتصوّر أن تكون
مخصوصة بالصّفة. وليس كذلك ما تقولون، لأنّكم لا تثبتون أمرا وراء الذات، فكيف
تكون الذّات مخصوصة بنفسها؟
قلنا: وأنتم إذا قلتم إنّ الذات مخصوصة
بصفة، أ فهي مخصوصة بصفة، أيّة صفة كانت؟ أو تعنون به كونها مخصوصة بصفة خاصّة لها
حكم مخصوص. إن قلتم بالأوّل فالذوات كلّها مشتركة في المعنى الأوّل وإن قلتم
بالثاني وهو أنّها مخصوصة بصفة خاصّة، قلنا: والصفة كانت خاصّة باعتبار آمر آخر أو
بنفسها كانت خاصّة إن قلتم بالأوّل لزمكم التسلسل، وإن قلتم بالثاني، قلنا:
فاقنعوا منّا بمثله في الذوات، إذ قد حصل الاتفاق على أنّه يمكن أن يكون الأمر مخصوصا
بنفسه من دون أمر زائد.
فإن قالوا: إنّما نعنى بالذات المعلوم، ولا
شكّ في أن المعلومات اشتركت في كونها معلومات، فلا يلزمنا ما قلتموه من أنّ ما لا
يعلم كيف توقعون الاشتراك فيها؟
قلنا: فكيف يجوز القول بأنّ المفهوم من
الذات هو المفهوم من المعلوم، مع ما قد علمنا أنّ المعلوم إنّما يكون معلوما
باعتبار تعلّق العلم به حتّى لو لم يعلمه عالم، لم يكن معلوما. وهذا الاعتبار ساقط
في كونه ذاتا والمفهوم منها.
ومن وجه آخر: لا يصحّ المصير إلى أن معنى
الذات هو معنى المعلوم عند أبي هاشم وذلك أنّه لا شكّ في أنّ أبا هاشم يعلّل صحّة
كون المعلوم معلوما بكونه ذاتا على صفة، فلو كان المفهوم من الذات هو المفهوم من
المعلوم عنده لكان كأنّه قال إنّما يصحّ كون الذات ذاتا لأنّها ذات. وإنّما يصحّ
كون المعلوم معلوما، لأنّه معلوم. وذلك فاسد، لأنّ صحّة ثبوت الشيء لا يكون
معلّلا بثبوته، بل يمكن أن يستدلّ بثبوت الشيء على صحّة ثبوته التي هي بمعنى نفي
الاستحالة.
ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يعلّل صحّة كونه
قادرا بثبوت كونه قادرا، وصحّة كونه عالما بثبوت كونه عالما، وإنّما يعلل صحّة
الصفتين بكونه حيّا. وكذلك لا يجوز أن يعلّل صحّة التحرّك بثبوت التحرّك، وإنّما
يعلّل بالتحيّز. بلى يستدل بثبوت كونه قادرا عالما على أنّهما لا يستحيلان، فأمّا
أن يعلّل صحّة ثبوتهما بثبوتهما فلا.
ثمّ نقول: وهب أنّه يصحّ تفسير الذات
بالمعلوم على مذهب أبي هاشم، فإنّا نقول في المعلوم مثل قولنا في الذات: من أنّه
ما وقع اشتراك بين المعلومات في أمر معنويّ، وإنّما وقعت الشركة بينهما في التسمية
بأنّها معلومة، ألا ترى أنّ السواد معلوم بأنّه سواد، والبياض معلوم بأنّه بياض، والجوهر
بانّه جوهر، والاشتراك بين هذه الأعيان المختلفة في أمر معنويّ.
يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّه لا وصف للمعلوم
بكونه معلوما إلّا تعلّق العلم به ولا يكتسب له حالا. فإذا ليس هناك إلّا تعلّق
المعلوم والمعلومات، فإن نظرنا إلى العلوم فهي حقائق مختلفة، فأين اشتراك معنويّ
بينها.
فإن قيل: ألسنا نفهم من قولنا: «معلوم على
الإطلاق»، معنى، لا التفات له إلى سواد أو بياض أو جوهر أو شيء من المعيّنات. وكذا
القول في قولنا:
«ذات على الإطلاق» كما يفهم من قولنا «حيوان
على الإطلاق»، معنى لا يلتفت إلى إنسان أو جمل أو فرس أو معيّن من الحيوانات. وكذلك
القول في المفهوم من سائر أسماء الأجناس المطلقة، فنقول: المعلومات اشتركت في ذلك
المفهوم المطلق، فلا يجوز أن يقع بين المعلومات خلاف بما اشتركت فيه.
قلنا: هذا إشارة إلى تصوّر الحقائق التي هي
علوم بحقائق الأشياء التي لا متعلّق لها فإنّه إن كان في الوجود علم لا متعلّق له،
فليس ذلك العلم إلّا هذه العلوم. وإذا كان كذلك فهذه علوم ثابتة للعاقل وليس لها معلوم
خارج عقله، حتى يدّعى اشتراك الأعيان المختلفة فيه، ألا ترى أنّ السواد لم يثبت
فيه لونيّة مطلقة، بل هو لون بما هو سواد. وكذا القول في البياض، فإنّه لون بما هو
بياض، فليس في واحد منهما لونيّة على الإطلاق، فثبت أنّ هذا المفهوم المشار إليه
ليس شيئا يثبت في الأعيان حتّى يدّعى الاشتراك فيها.
فإن
قيل: المعنيّ بالذات الّتي نقول الذوات كلّها اشتركت فيه هو ما يصحّ أن يعلم، لا
المعلوم الذي تعلّق العلم به.
قلنا: فهذا القول ينبئ عن أنّ الذات هي التي
يصحّ كونها معلومة. والذي يصحّ أن يكون معلوما في السواد إنّما هو أنّه سواد حتّى
لو دفعنا أنّه سواد من الوهم لما صحّ أن يكون معلوما وكذا القول في البياض، وكذا
القول في الجوهر، فإنّه إنّما صحّ أنّ يعلم لأنّه جوهر. ولو رفعت كونه جوهرا من
الوهم، لما صحّ أن نعلمه . فتبيّن أنّه ليس بين هذه الأعيان اشتراك معنويّ فيما
يصحّ كونها معلومات. فثبت بهذه الجملة أن لا معنى لقولهم: اشتركت الذوات في معنى
الذاتيّة، فلا يصحّ وقوع الخلاف بها.
ثمّ نقول: ولو تجاوزنا عن هذه المناقشات وساعدناكم
على أنّ الذوات اشتركت في حقيقة معنويّة، وأنّها إنّما تخالف بصفات تكون عليها،
كان ذلك مصيرا إلى أنّ الصفات تختلف، لا الذوات، لا الشيء لا يصير مخالفا لغيره
في نفسه بأن ينضمّ إلى كلّ واحد منها شيء يخالف ما ينضمّ إلى الآخر، كالجوهرين
إذا حلّ أحدهما سواد والآخر بياض، فإنّ المختلفين في هذه الصورة إنّما هما السواد
والبياض لا الجوهران.
ثمّ يقال لهم: ولو نزلنا عن هذه المناقشة
أيضا وسلّمنا لكم تسليم جدل، أنّ المخالفة إنّما تقع بين الذوات بالصفات، فلم لا
يجوز أن يخالف القديم، جل جلاله، ما يخالفه بكونه قادرا عالما حيّا. قولهم: «هذه
الصفات حاصلة لمخالفه»، غير مسلّم وذلك لأنّ المخالفة حكم راجع إلى آحاد الذات، وليست
من الأحكام الراجعة إلى الجمل، كصحّة الفعل وصحة الأحكام وصحّة كونه عالما قادرا.
فإذا قلنا في جملة إنّما مخالفة لشيء مخالفة حقيقيّة، إنّما نعني به أنّ كلّ جزء
منه مخالف له. كما إذا وصفناه جملة بأنّها موجودة، فإنّما نعني أنّ كلّ جزء منه
موجود، وبيانه أنّ جملة الواحد منّا يخرج عن كونها جملة بالتفرّق والتشذّب ولا
يخرج عن كونها مخالفة له تبارك وتعالى ولكلّ ما يخالفه من الأعراض.
إذا تقرّر هذا، فالقديم، جلّ جلاله، مخالف
لكلّ ذات من الذوات المحدثة، وكلّ ذات من الذوات المحدثة، مخالفة له تبارك وتعالى.
وإذا كان كذلك فلا ذات واحدة من الذوات المحدثة تكون قادرة عالمة حيّة، فلم يشارك
القديم تعالى ما يخالفه في شيء من هذه الصفات.
ثمّ يقال لهم: قولكم: «لا يجوز أن يشارك
الشيء غيره في الصفة التي بها يخالفه»، تعنون به في عين تلك الصفة أو فيما
يماثلها أو في قبيلها؟ أمّا العين فمحال وقوع الشركة فيها في المتماثل والمختلف
جميعا. وإن عنيتم المتماثل، فانّكم تذهبون إلى أنّ صفة القادر في القادرين صفات
مختلفة، إذ يستحيل اقتدار القادرين على مقدور واحد. فعلى هذا ما شارك القديم، جلّ
جلاله، ما يخالفه في صفة تماثل صفته بكونه قادرا. وإن عنيتم أنّه لا يجوز أن يقع
الشركة بين المختلفين في قبيل الصفة التي بها يختلفان، فذلك باطل بالقدر، لأنّها
عندكم مختلفة، ومع ذلك فكلّ قدرة شاركت الأخرى في قبيل الصفة التي بها خالفتها.
وكذا القول في الأصوات المختلفة والإرادات
المختلفة، لأنّها على اختلافها اشتركت في كونها مسموعة. وكذا القول في الطعوم والروائح
المختلفة والإرادات المختلفة وغير ذلك.
ثمّ يقال: وهب أنّ مخالفة- تبارك وتعالى-
مشاركه في صفات هي في حكم المماثلة لصفاته- تبارك وتعالى- بكونه قادرا عالما حيّا.
فإنّما يقدح ذلك في الخلاف إذا كانت الصفات ذاتيّة في الموصوفين، لأنّ حقيقة
المختلفين هكذا تقتضي، إذ حقيقتهما هما الشيئان اللذان لا ينوب أحدهما مناب الآخر
فيما يرجع إلى ذاتيهما على ما مضى، وإذا كان كذلك فمعلوم أنّ هذه الصفات ليست
ذاتيّة في مخالفه تبارك وتعالى، فلا يقدح في الخلاف. ألا ترى أنّه تبارك وتعالى
قادر عالم حيّ لذاته، ومخالفه الذي فرضتموه ليس قادرا عالما حيّا لذاته، وإنّما هو
متحيّز لذاته أو جوهر لذاته، ولا شك في أنّ المتحيّز لذاته لا ينوب مناب القادر
لذاته، ولا القادر لذاته ينوب مناب المتحيّز لذاته، فإذا كان كذلك فقد وفّينا
الخلاف حقّه.
أمّا قوله: «لا يجوز وقوع الخلاف بكيفيّة
الصفة، إذا لم يقع بأصل الصفة»، فباطل. وذلك لأنّه أيضا يوقع الخلاف بالصفة
باعتبار كيفيّتها. وبيان ذلك بأن يقال: له الصفة الخامسة التي أثبتها، لو لم تكن
ذاتيّة بل كانت متجدّدة أ فكنت توقع الخلاف بها، فلا بدّ من أن يقول لا، فحينئذ
يقال له: فهل هذا إلّا اعتبار الكيفيّة للصفة، في المخالفة. ويقال له أيضا: أ ليس
يصحّ منه تبارك وتعالى الجواهر أو الأجناس المخصوصة من الأعراض التي لا نقدر
عليها، أ فصحّة إيجاد هذه الأجناس معلّلة بكونه قادرا؟ فهذا ممّا لا وجه له، لأنّ
أحدنا قادر، ولا نقدر على هذه الأجناس، فلا بدّ من أن يقال: إنّما صحّ منه هذه
الأجناس، لأنّه قادر لذاته لا بقدرته، فحينئذ نقول له: وهل هذا إلّا تعليل الحكم
بالصفة، باعتبار كيفيّتها؟
فإن قالوا: نحن لا نعلّل هذا الحكم
بالكيفيّة وحدها، وإنّما نعلّل بالصفة لمكان كيفيّتها.
قلنا: وكذلك مخالفك في المذهب الأوّل لا
يعلل مخالفة القديم- تبارك وتعالى- لما يخالفه بمجرّد كيفيّة هذه الصفات، وإنّما
يعلّل بهذه الصفات لمكان كيفيتها.
وأمّا الكلام على الطريقة الثانية، وهي
قولهم: «هذه الصفات واجبة له - تبارك وتعالى- جائزة في حقّنا»، فوجب أنّ يكون
وجوبها له- تبارك وتعالى- لمزيّة تثبت فيه وهي التي نريد إثباتها، فهو أن نقول: ما
تعنون بوجوب هذه الصفات له تبارك وتعالى؟ أ تعنون به استمرارها مطلقا؟ أم تعنون به
استمرارها لم يزل؟ أم تعنون به استحالة خلافها، أي: استحالة أن لا يكون موصوفا
بها؟ إن أردتم الأوّل، فاستمرار هذه الصفات قائم فينا، لأنّها أيضا مستمرة لنا. وإن
عنيتم الثاني وهو أزليّة هذه الصفات، فإنّها إنّما كانت ثابتة له- تبارك وتعالى-
لم يزل، لأنّها ذاتيّة له تعالى صادرة عن ذاته الأزليّة، ولا يتوقف على شروط مترقبة
ولا حاجة إلى إثبات مزيّة. وإن عنيتم الثالث وهي استحالة خلافها، أفهذه الصفات
واجبة له تعالى وجوبا مطلقا باعتبار ذاته فحسب، أو باعتبار أمر وراء الذات، إن
وجبت باعتبار أمر وراء ذاته؟ قلنا: فإذا علمتم وجوبها باعتبار أمر وراء الذات، لم
يمكنكم الاستدلال بهذا الوجوب على إثبات أمر وراء الذات، لأنّكم إنّما علمتم على
هذا التفسير الوجوب باعتبار ذلك الأمر، ومن حقّ الدليل أن يكون العلم به سابقا
للعلم بالمدلول.
ثم وفيه وجه آخر من الفساد: وهو أنّ فيه أخذ
المدلول في الدليل. وبعد، فأنّ هذا الوجوب قائم في اتصافنا بهذه الصفات، لأنّها
أيضا واجبة فينا باعتبار أمر وراء ذواتنا، وهي المعاني الموجبة لها عندكم وإن وجبت
مطلقا باعتبار ذاته من دون اعتبار أمر آخر، فتعليل هذا الوجوب ينقضه، أي ينقض
إطلاقه.
ألا ترى أنّهم قالوا: وجبت هذه الصفات مطلقا
باعتبار ذاته فحسب، ثمّ قالوا عند التعليل: إنّها لا تجب باعتبار ذاته فحسب وإنّما
تجب باعتبار أمر آخر. وهذا تناقض ظاهر.
يؤكّد ما ذكرنا من أنّ هذا الوجوب لا يجوز
تعليله أنّهم يستدلّون في جملة ما يستدلّون على الصفاتيّة، بأنّ هذه الصفات واجبة
له تبارك وتعالى، والصفة بوجوبها تستغني عمّا يؤثّر فيها. يزيده تأكيدا أنّ الصفة
التي يثبتها أبو هاشم بهذه الطريقة إنّما يغنيها عن أمر يؤثّر فيها ويمتنع من
تعليلها لوجوبها، إذ لو كانت جائزة غير واجبة لما امتنع عن تعليلها.
فإن قالوا: لا نعني بالوجوب وجوبا معلّقا من
دون اعتبار أمر آخر. ومع ذلك فإنّه لم يثبت هذا الوجوب في حقّنا. وذلك لأنّه إنّما
وجب فيه تبارك وتعالى هذه الصفات باعتبار صفته الذاتيّة، وفينا إنّما وجبت باعتبار
المعاني التي توجبها، فلا مساواة بين الشاهد والغائب في وجوب هذه الصفات.
قلنا: وجوب هذه الصفات فيه تبارك وتعالى
باعتبار صفته الذاتيّة ممّا لا يمكنكم أن تعلموه قبل إثبات تلك الصفة وأنتم بعد في
إثبات تلك الصفة بهذه الطريقة، فكيف تعلمون وجوبها باعتبار تلك الصفة. فأنتم بين
أمرين في هذه المقام إمّا أن تقولوا: نعلم وجوبها مطلقا من دون اعتبار أمر وراء
ذاته، وهذا يقتضي أن لا يعلّل، لأنّ في تعليله نقض الوجوب ...؛ وإمّا أن تقولوا:
إنّها واجبة باعتبار أمر في الجملة، إذ لا يمكنكم أن تعيّنوا هذا الأمر قبل إتمام
هذه الطريقة، والوجوب باعتبار أمر في الجملة قائم فينا، فلا مفارقة بين الشاهد والغائب
في هذا الوجوب.
ثمّ نقول: ولئن دلّت هذه الطريقة على إثبات
مزيّة، فلم لا يجوز أن يثبت المزيّة في حقّنا دونه تبارك وتعالى بأن نقول: المزيّة
فينا هي أنّا نستحقّ هذه الصفات لمعان لا لذواتنا، فلهذا كانت جائزة فينا غير
واجبة، وهذا الأولى لأنّ إيقاع التعليل في جنبة الجواز أولى من إيقاعه في جنبة
الوجوب. وذلك لأنّ الوجوب بالاستغناء عن التعليل أولى، فثبت بهذه الجملة أنّ هذه
الطريقة أيضا لا تدلّ على إثبات تلك الصفة وصحّ قولنا: إنّه لا طريق إلى إثباتها.
فإنّ قيل: فأين أنتم عمّا يستدلّ به أبو
هاشم وأصحابه على إثبات الصفة الخامسة من قولهم: يجب في كلّ ذات أن تثبت على صفة
لو رئيت لرئيت عليها، مرئيّة كانت الذات أو غير مرئية. فعلى هذا يجب أن يكون تعالى
على صفة لو رئي لرئي عليها ومن الظاهر أنّه لا يجوز أن يرى على كونه قادرا أو
عالما أو حيّا أو موجودا؟ لأنّه جميع هذه الصفات حاصل فينا؟ ونحن مرئيّون على
التحقيق. ومع ذلك لا نرى على شيء من هذه الصفات، فيجب أن نثبت له صفة زائدة على
هذه الصفات حتى لو رئي لرئي عليها وتلك الصفة هي التي نثبتها فما الجواب عن هذه
الطريقة؟
قلنا: هذه الطريقة آئلة إلى الطريقة الأولى،
ويتضح ذلك بمطاليتهم بتصحيح الأصل الذي بنوا عليه الطريقة، وهو قولهم: يجب في كلّ
ذات أن يكون على صفة لو رئيت لرئيت عليها. فيقال لهم لم قلتم ذلك؟ فلا بدّ لهم، من
أن يقولوا في بيان ذلك: الإدراك أصل لطرق معرفة الخلاف والوفاق، وذلك لأنا ما لم
نعرف الخلاف والوفاق من طريق الإدراك في المدركات لا نعلم حقيقة الخلاف والوفاق. ولا
ذلك إلّا بسبب أنّ الإدراك يتعلّق بصفة لها أثر في الخلاف والوفاق إن كان للشيء
موافق، ولا شكّ في أنّ كلّ شيء يجب أن يكون على صفة لها يخالف ما يخالفه ويوافق
ما يوافقه إن كان له موافق، وهذا على ما ترى رجوع إلى الطريقة الأولى.
ثم يقال لهم: ولم لا يجوز أن يقال: لو رئي
تبارك وتعالى، لرئي على واحدة من هذه الصفات، قولهم: «إن احدنا مرئي في التحقيق، ومع
ذلك لا يرى على واحدة من هذه الصفات»، [إنّما يدلّ على أنّ رؤية الشيء على واحدة
من هذه الصفات] محال، ونحن نقول بموجبه، إلّا أنّه كما يستحيل تعلّق الإدراك
بالذات على شيء من هذه الصفات كذلك رؤية اللّه تبارك وتعالى محال. فإذا قدّرنا
ذلك المحال، لزم عليه هذا المحال ولا يبعد لزوم محال على محال.
ثمّ
نقول: وقد علمنا بالاتفاق أنّ إدراك لا يتعلّق إلّا بالموجود، وأنّ إدراك المعدوم
محال. ولم يكن ذلك كذلك إلّا بسبب أنّ الإدراك إنّما يتعلّق بصفة مشروطة بالوجود
تابعة له. فلو دلّت هذه الطريقة على إثبات صفة زائدة على هذه الصفات لوجب أن تكون
مشروطة بالوجود حتى يقدّر تعلّق الإدراك بالذات عليها، ومعلوم أنّ الصفة التي
أثبتها أبو هاشم وأصحابه ليست مشروطة بالوجود ولا تابعة له، فتحقق أنّ هذه الطريقة
لو دلّت لدلّت على غير ما أثبتوه، فلا فائدة لهم فيها.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|