أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-11-2014
2062
التاريخ: 17-3-2016
5533
التاريخ: 10-10-2014
1749
التاريخ: 9-10-2014
4838
|
ثمّة من ناقش القول بوجود المجاز في القرآن ، بحجّة أنّ التجوّز في الكلام حياد عن الحقيقة ، وربّما كان أقرب إلى الكذب منه إلى صدق الحديث. وأيضاً فإنّ المتكلّم لا يعدل من الحقيقة إلى المجاز إلاّ إذا ضاق به المجال فيستعير ، وهو مستحيل على الله سبحانه.
قال الإمام بدر الدين الزركشي : «أنكر جماعة وجود المجاز في القرآن ، منهم أبو العبّاس أحمد بن أحمد الطبري المعروف بابن القاصّ ، أحد فقهاء الشافعيّة (ت 335 هـ ). وداود علي بن خلف الأصبهاني المعروف بالظاهري ، صاحب المذهب المستقلّ (ت 270 هـ ) ، وابنه محمّـد (ت 297 هـ ). وأبو مسلم محمّـد بن بحر الأصبهاني ، من فقهاء المعتزلة (ت 370 هـ ) . وابن خُرَيْز منداذ من علماء المالكيّة (ت ح 400 هـ )..» (1).
قال جلال الدين السيوطي : «وشبهتهم أنّ المجاز أخو الكذب ، والقرآن منزّه عنه ، وأنّ المتكلّم لا يعدل إليه إلاّ إذا ضاقت به الحقيقة ، فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى..» قال : «وهذه شبهة باطلة ، ولو سقط المجازُ من القرآن ، سقط منه شطر الحُسْن; فقد اتّفق البُلَغاء على أنّ المجاز أبلغ من الحقيقة...»(2).
وكما قال الشيخ عبـد القاهر الجرجاني : «قد أجمع الجميع على أنّ الكناية أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح ، وأنّ للاستعارة مزيّة وفضلا ، وأنّ المجاز ـ أبداً ـ أبلغ من الحقيقة» (3).
والمناقشون في هذا المجال هم فريقان : فريق أهل الظاهر ، حيث استعظموا التجوّز بالتأويل في صفات الذات المؤدّي إلى نفيها في المآل ، وفريق أهل المعنى ، حيث يرون من بيانات القرآن كلّها حقائق راهنة ثابتة في الأعيان ، لا مجاز فيها ولا استعارة ولا تخييل.
أمّا الفريق الأوّل فيتزعّمهم أبو العبّاس أحمد بن عبـد الحليم ابن تيميّة (ت 728 هـ ) وشايعه على ذلك كبار تلاميذه والمقتفون لأثره السلفيّون..
قال الشنقيطيّ (4) : «قال قوم من المالكيّة والشافعيّة والظاهريّة : لا يجوز أن يقال في القرآن مجاز.. وبالغ في إيضاح المنع ، الشيخ أبو العبّاس ابن تيميّة ، وتلميذه ابن قيّم الجوزيّة (ت 751هـ )..» قال : «وأوضح دليل على منعه : أنّ المجاز يجوز نفيه.. ولاشكّ أنّه لا يجوز نفي شيء من القرآن.. ولأنّه يؤدّي إلى القول بتعطيل الصفات بشأنه تعالى. وغير ذلك من التوالي الفاسدة...»(5).
والفريق الثاني يترأسّهم أبو عبـدالله محمّد بن علي بن محمّد ابن عربي صاحب الفتوحات (ت 638هـ ). وقد تبعه على ذلك جماعة ممّن سمّوا أنفسهم أهل التحقيق.
قال ابن عربي : «الذي ينبغي من الكلام هو أن لا يُقدَّر فيه محذوف إلاّ عند الحاجة إليه ولابدّ ، لاختلال في المعنى بدونه.. وأن لا يُنتَقل في الكلمة من الحقيقة إلى المجاز إلاّ بعد عدم إمكان حملها على الحقيقة» (6).
قال : وكلام العرب مبنيّ على الحقيقة والمجاز عند الناس وإن كنّا خالفناهم في هذه المسألة بالنظر إلى القرآن ، فإنّا ننفي أن يكون في القرآن مجاز ، بل في كلام العرب (7) عند المحقّقين من أهل الكشف والشهود. وأمّا من حيث النظر والاعتبار فيجري مجرى العرب في كلامها من استعارات ومجاز ، بأدنى شبهة وأيسر صفة ، ففي القرآن من هذا القبيل كثير; إذ القرآن نزل على لغة العرب ، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «وإنّما أنزل القرآن بلساني لسان عربيّ مبين...» قال : «وعلى هذا يفرّق بين التفسير على الحقيقة لأهل الكشف والشهود ، فلا مجاز عندهم ، وبين التفسير لأهل النظر والاعتبار بالأفكار ، فهو على مجرى لسان العرب ، فيكون فيه المجاز»(8).
وقد راقت بعضهم روعة هذا الكلام ـ فيما حسبوا ـ وراحوا يحاولون إنكار وجود المجاز في القرآن. قال قائلهم : نعتقد أنّ جميع التعابير الواردة في القرآن تعابير حقيقيّة ، تعبّر عن معانيها الأصيلة ، لا تجوّز فيها ولا استعارة ولا تخييل (9) ; نظراً لأنّ القرآن نزل هداية للناس ، فيجب أن يكون ذا دلالة ظاهرة ، لا غموض فيها ولا تعقيد ذاك الغموض والتعقيد الذي يستدعيه المجاز والاستعارة... ثمّ أخذ يعدّد محاذير القول بوجود المجاز في القرآن.
منها : أنّ احتمال المجاز في القرآن يوجب سقوطه عن الحجّيّة ، حيث الإبهام في فهم المراد من هكذا كلام.
ومنها : الالتباس في فهم معاني الصفات ، وخفاء معارف الدين المتعالية ، والآبية عن الخضوع لمثل هذه التعابير والأساليب الكلاميّة القاصرة.
ومنها : أنّ القرآن لو تنزّل إلى مرتبة أساليب الكلام الدارجة ، لذهب عنه رواء الإعجاز الخارق لمتعارف الكلام (10)... إلى أمثالها من تعاليل هي معاذير فارغة.
ولسيّدنا الإمام الخميني (رضي الله عنه) كلام قد يصلح شرحاً وتبييناً لما ذكره أرباب التحقيق ـ على حدّ تعبير ابن عربي ـ أورده حول تفسير وصفي الرحمان والرحيم ، وأنّهما مشتقّان من الرحمة ، هي صفة تدلّ على العطوفة والرقّة ، كما روي عن ابن عبّاس : «إنّهما اسمان رقيقان ، أحدهما أرقّ من الآخر : فالرحمان الرقيق ، والرحيم العطوف على عباده بالرزق والنعم» (11).
قال : «وحيث إنّ العطوفة والرقّة وصفان انفعاليان ، ينشئان عن رقّة في القلب وتأثّر نفساني رقيق.. فإطلاق مثل هذا الوصف على ذاته تعالى وتقدّس بحاجة إلى تأويل وتوجيه يؤول إلى كونه مجازاً في التعبير.
وبعضهم أخذ في توجيه ذلك بأنّه من باب «خذ الغايات ودع المبادئ» (12) ، ليكون إطلاق مثل هذه الصفات على ذاته تعالى المقدّسة ، إنّما هو بلحاظ غاياتها والآثار المترتّبة عليها ، وليس بلحاظ اقتران مبادئها بالذوات كما في غيره تعالى! [وهذا نظير صفات الفعل ، في مثل الغضب والحبّ والكراهة ، حيث غضبه تعالى كان بمعنى : أنّه يفعل فعل الغضوب ، وهكذا الحبّ والكراهة ، يعنيان فعل المحبّ والكاره].
فالرحمان والرحيم يعنيان فعل الرحمة مع عباده ، وهكذا فرض المعتزلة ما يقرب من هذا المعنى بشأن جميع الصفات.
وعليه ، فيكون إطلاق مثل هذه الأوصاف على ذاته المقدّسة إطلاقاً مجازيّاً.. الأمر الذي يُستبعد على أيّ حال.. ولاسيّما في مثل صفة «الرحمان» ، حيث يستدعي ذلك أن يكون هناك مجاز بلا حقيقة.. إذ لا يصحّ إطلاق هذا الوصف على غيره تعالى; نظراً لدلالته على سعة رحمة بحيث لا يمكن فرضها بشأن أحد سوى الله.. والفرض أنّ إطلاقه على الله أيضاً مجاز.. فيلزم أن تكون هناك لفظة لا تُستعمل إلاّ مجازاً.. فتدبّر جيّداً !!
ولكن لأهل التحقيق هنا كلام قد يحلّ من المشكلة ، ذلك أنّهم قالوا : إنّ مثل هذه الألفاظ قد وضعت لمفاهيم عامّة وحقائق مطلقة ، نسبتها إلى جميع موارد استعمالاتها سواء.. حيث إنّها وضعت لروح المعاني ، وإنّما جاءت التقيّدات من قبل الاستعمال ، من غير أن تكون دخيلة في صميم الموضوع له.. فالتقيّد بالعطوفة والرقّة ، كان من نحت أذهان العامّة لهذه المفاهيم ، لا أنّها من ملاحظ الواضع في الموضوع له حين الوضع.
وهذا قد يستبعد بالنظر إلى أنّ واضعي اللغات هم من أفراد العامّة ، ويبعد أن تتفرّغ أذهانهم من نحو التقيّدات الملحوظة لدى الاستعمال.. لأّنهم إنّما وضعوا الألفاظ للمألوف من المعاني ، لا المفاهيم المتجرّدة منها.
نعم ، قد يكون كلام أهل التحقيق ناظراً إلى جانب عموم المفهوم ، الملحوظ عند الوضع ، بحيث يشمل المألوف وغير المألوف. مثلا : لفظة «النور» وضعت لما يشعّ ضياءً ، سواء أكان في المحسوس أم في غير المحسوس ، حيث الجهة النوريّة كانت هي الملحوظة بالذات ، الأعمّ من كونها في صفاء خالص ، كالأنوار الملكوتيّة.. أو مشوبة بالأكدار ، كالأنوار المشهودة بهذا الحسّ القريب.. فالموضوع له هي النوريّة المحضة ، الشاملة لكلا النوعين.
وهكذا لفظة «النار» وضعت حينما وضعت ، وكان الملحوظ هي نيران الدنيا ، لكن لا خصوصيّة للدنيويّة في أصل اللحاظ.. ومن ثَمَّ يشمل نيران الآخرة ، نظراً في صميم اللحاظ العامّ.
إذن فإطلاق لفظة النور على نور الأنوار الخالص الصفاء ، أقرب إلى حقيقة الموضوع له من إطلاقه على الأنوار المتكدّرة.. حيث المعنى كلّما خلص من الشوائب والأكدار الأجانب كان إلى الحقيقة أقرب ، وإطلاق اللفظ عليه أولى.
بل يمكن القول بأنّ لفظة النور إذا كانت موضوعة للظاهر بذاته المظهر لغيره ، فإطلاقها على غير الذات المقدّسة وإن كان مجازاً عند قاصري العقول.. لكنّه عند أرباب العقول الكبيرة المؤيّدة ، وأصحاب المعارف العالية ، حقيقة.. وهكذا جميع الألفاظ التي وضعت للمعاني الكماليّة ، والتي كان مورد صدقها الأتمّ هو ذات الجمال والكمال..
وعليه فلفظتا «الرحمان» و«الرحيم» حيث وضعتا لمعنى كماليّ فائق.. فإطلاقهما على الذات المقدّسة ، بنفس هذا اللحاظ ، حقيقة بلا ريب (13).
تلك دلائل أهل الكشف والشهود; تبريراً لموقفهم في إنكار وجود المجاز في القرآن! لكنّ الذي دعا بهم إلى هذا الرفض الباتّ هو زعم أنّ التجوّز في الكلام يستدعي نفي الحقيقة رأساً ، ليكون المجاز وَهْم تخييل ، الأمر الذي يتحاشاه كلام الحكيم.
لكنّه خلط بين مصطلحين في المعنيّ بالحقيقة ، التي هي عند أهل الفلسفة : هو الموجود في العين.. وعند علماء البيان : هو المعنى الأصل الموضوع له.
فقولهم في المجاز : إنّه يجوز سلب الحقيقة عنه ، يعني : سلب المعنى الموضوع له الأصل ، كما في قولنا : رأيتُ أسداً يرمي.. أي رجلا شهماً شجاعاً يرمي النبال ، فيصحّ سلب المعنى الحقيقي للأسد ـ وهو الحيوان المفترس ـ عنه ، فيقال : ليس أسداً بذاك المعنى الأصل ، بل هو مشابه له في الجرأة والشجاعة (14).
وهذا لا يعني : أنّ المعنيّ بهذا اللفظ أمر وهميّ خياليّ ، بل هو موجود ، ذات تشخّص عينيّ خارجيّ ، الأمر الذي هو حقيقة عينيّة في مصطلح الفلسفة.
فالقول بالمجاز لا يعني نفي الحقيقة العينيّة ، كما توهّمه هؤلاء ، وإنّما هو نفي للحقيقة بمصطلح علماء البيان خاصّاً.
إذن فكلّ تعابير القرآن تُنبؤك عن حقيقة واقعة لا ريب فيها ، هذا من غير فرق بين أساليب الأداء ، إن حقيقةً أو مجازاً ، أو كنايةً أو استعارةً ، أو غيرها من أساليب الكلام البارعة ، فكلّها تنمّ عن حقائق الأعيان ، بعيداً عن الخَيَلان والأوهام.
فقول ابن عربيّ : إنّا ننفي أن يكون في القرآن مجاز ، بل في كلام العرب (15).. إن أراد إثبات الحقيقة بمعناه الفلسفي ، فهذا أمر لا يُنكر ، ولا منازع له ، وإن أراد الحقيقة بمعناها البلاغي ، أي المعنى الموضوع له الأصل ، فهذا شيء لا يُعرف ولا مجال للالتزام به ، بل هو خلاف الوجدان والمرتكز في الأذهان. فقولة الشاعر :
وإذا المنيّة أنشبت أظفارها *** ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
استعارة تخييليّة ، حيث أضمر تشبيه المنيّة بالسبع الضاري ، ودليلا على هذا التشبيه المضمر أثبت للمشبَّه ما يخصّ المشبَّه به وهي الأظفار ، وهذا ما يسمّى عندهم بالترشيح.
ومن المعلوم بضرورة الوجدان أنّ المنيّة لا أظفار لها ، وجاء ذكرها رمزاً إلى ذاك التشبيه المضمر في النفس.
والقرآن ملؤه الاستعارة والكناية والمجاز ، وبحقٍّ تُعدّ استعارات القرآن من أبدع وأبرع وأروع الاستعارات التي عرفته العرب.
قال ابن رشيق : «الاستعارة هي أفضل أنواع المجاز ، وأوّل أبواب البديع. وليس في حُلى الشعر أعجب منها ، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها ونزلت موضعها» (16).
وهي من التوسّع في الكلام والتفنّن فيه ، مفيضاً عليه ملامح الإدلال والاستدلال ، بما فيه من التشبيه والتخييل وروعة التمثيل.
وفي الاستعارة نوع من المبالغة القريبة ، فيها أناقة ولطف ، تُقرّب المعنى وتوضّحه بما فيه من التشبيه والتمثيل ، وتكسوه جمالا وروعة ، بما فيه من التصوير والتخييل. فكانت الاستعارة في الكلام أناقة في التصوير ، وإجادة في التعبير.
وقد حصر الشيخ عبـد القاهر الجرجاني أسرار البلاغة ، ودلائل إعجاز البيان ، في فنون التشبيه والتمثيل والاستعارة (17).
قال : «قد أجمع الجميع على أنّ الكناية أبلغ من الإفصاح ، والتعريض أوقع من التصريح. وأنّ للاستعارة مزيّة وفضلا ، وأنّ المجاز أبداً أبلغ من الحقيقة».
قال : «وأمّا الاستعارة فسبب ما ترى لها من المزيّة والفخامة ، أنّك إذا قلت : رأيت أسداً ، كنت قد تلطّفت لما أردت إثباته له من فرط الشجاعة ، حتّى جعلتها كالشيء الذي يجب له الثبوت والحصول ، وكالأمر الذي نُصب له دليل يُقطع بوجوده. وذلك أنّه إذا كان أسداً فواجب أن تكون له تلك الشجاعة العظيمة ، وكالمستحيل أو الممتنع أن يُعرَّى عنها. وإذا صرّحت بالتشبيه فقلت : رأيت رجلا كالأسد ، كنت قد أثبتّها إثبات الشيء ، بترجّح (18) بين أن يكون وبين أن لا يكون ، ولم يكن من حديث الوجوب في شيء».
قال : «وحكم التمثيل (19) والاستعارة سواء ، فإنّك إذا قلت : أراك تقدّم رِجْلا وتؤخّر أُخرى ، فأوجبت له الصورة التي يقطع معها بالتحيّر والتردّد ، كان أبلغ لا محالة من أن تجري على الظاهر ، فتقول : قد جعلت تتردّد في أمرك. فأنت كمن يقول : أخرُجُ ولا أخرُجُ ، فيقدّم رجلا ويؤخّر أُخرى...» (20).
وهكذا استعارات القرآن فائقة الجمال ، بالغة الكمال ، لا غموض فيها ولا تعقيد في البيان ، لائحة المفاد ، واضحة المراد ، وهي إن دلّت فإنّما تدلّ على حقائق راهنة ، تحتضنها دقائق تعابير رائعة. فإن كان هناك تخييل أو تمثيل ، فإنّما هو في أساليب الأداء ، لا في المؤدّيات وهي أعيان ثابتة في عرصات الوجود.
انظر إلى هذا التعبير الرائع : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق : 30].
هذا من أروع وأبدع أنواع الاستعارة التخييليّة ، حيث شُبِّهت جهنّم بذي جشع نهم ، رحب البلعوم ، مندحق البطن ، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد (21) وهو من أدقّ التشبيه وأظرفه.
قال الزمخشري : «وسؤال جهنّم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب وتثبيته...».
قال : «وفيه معنيان ، أحدهما : أنّها تمتلئ مع اتّساعها وتباعد أطرافها ، حتّى لا يسعها شيء ، ولا يزاد على امتلائها ; لقوله تعالى : {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ } [الأعراف : 18].
والثاني : أنّه من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد...».
ثم قال : «ويجوز أن يكون قوله : (هَلْ مِن مَزِيد) استكثاراً للداخلين فيها ، واستبداعاً (22) للزيادة عليهم لفَرْط كثرتهم ، أو طلباً للزيادة غيظاً على العُصاة» (23).
نعم ، هذا لون من ألوان «التخييل» يمكن أن نسمّيه «التشخيص» ، يتمثّل في خلع الحياة على الموادّ الجامدة ، والظواهر الطبيعيّة الهامدة ، وللانفعالات الوجدانيّة الخامدة.
تلك الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانيّة ، تشمل الموادّ والظواهر والانفعالات ، وتمنح لها عواطف آدميّة ، وأحاسيس بشريّة ، تشارك بها الآدميّين ، وتأخذ منهم وتعطي ، وتتبدّى لهم في شتّى الملابسات ، وتجعلهم يحسّون الحياة في كلّ شيء تقع عليه العين ، أو يتلبّس به الحسّ ، فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه ، في توفّز وحسّاسيّة وإرهاف (24).
قال سيّد قطب : «وهذه جهنّم ، جهنّم النهمة المتغيّظة التي لا يفلت منها أحد ، ولا تشبع بأحد! جهنّم التي تدعو من كانوا يُدْعَوْن إلى الهدى ويدبرون ، وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون! جهنّم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيّظ وتفور! {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق : 30] ، {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } [الفرقان : 12]. {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } [الملك : 7 ، 8]. {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى } [المعارج : 15 - 18].
وهذا هو الظلّ الذي يلجأ إليه المجرمون : {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة : 43 ، 44] ، ففي ذاته كزازة وضيق وشحّ ، لا يُحسِن استقبالهم ، ولا يحفل بهم ، ولا يهشّ لهم هشاشة الرجل الكريم.. فهو ليس فقط «لا بارد» ، ولكن كذلك «لا كريم» !! (25).
وقال الشريف الرضيّ في قوله تعالى : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق : 30] قال : «وهذه استعارة ، لأنّ الخطاب للنار والجواب منها ، في الحقيقة لا يصحّ.. وإنّما المراد : أنّها فيما ظَهَر من امتلائها وبانَ من اغتصاصها (26) بأهلها ، بمنزلة الناطقة بأن لا مزيد فيها ولا سعة عندها.. كما قال الشاعر :
امتلأ الحوض وقال قطني *** مهلا رويداً قد ملأت بطني
ولم يكن هناك قول من الحوض على الحقيقة ، ولكنّ المعنى : أنّ ما ظهر من امتلائه في تلك الحال ، جار مجرى القول منه. فأقام تعالى الأمر المُدرَك بالعين ، مقام القول المسموع بالأُذُن» (27).
_____________________
1 . البرهان 2 : 255. النوع : 43.
2 . الإتقان 3 : 109. النوع : 52.
3 . أسرار البلاغة : 48.
4 .هو محمّـد أمين بن محمّـد المختار الجكني ، من المتأخّرين ، المتوفّى سنة 1393هـ . له رسالة في المنع ، سنتعرّض لها.
5 . رسالة منع جواز المجاز في المنزّل للتعبّد والإعجاز : 36 ـ 37.
6 . إعجاز البيان في الترجمة عن القرآن ، المطبوع بهامش (رحمة من الرحمان) لمحمود محمود الغرّاب 1 : 334 ذيل الآية : 222 من سورة البقرة (يسألونك عن المحيض...).
7 . راجع : كلامه في الفتوحات المكّيّة 1 : 253.
8 . رحمة من الرحمان 1 : 14. وانظر : علوم القرآن عند المفسّرين 1 : 1.
9 . انظر : تفسير روشن لحسن مصطفوي 2 : 8.
10 . راجع : رسالته في أُصول الترجمة والتفسير : 73 ـ 76.
11 . الدّر المنثور 1 : 24 نقلا عن البيهقي في الأسماء والصفات : 51.
12 . راجع : أسرار الحكم للمحقّق السبزواري : 52.
13 . آداب الصلاة : 248 ـ 250.
14 . قال زهير : لدي أسـد شـاكي السـلاح مقـذَّف لــه لِـبَــد أظـفــارُه لـم تـقـلَّــم
15 . الفتوحات المكّيّة 1 : 253.
16 . العمدة لابن رشيق 1 : 268 باب 37.
17 . فقد وضع كتابه «أسرار البلاغة» في ضروب التشبيه وأنواع الاستعارات فحسب.
18 . أي : يتأرجح ويتذبذب.
19 . التمثيل : التشبيه في صورة جُمَل ، كقولك : أراك تقدّم رِجْلا وتؤخّر أُخرى ، تمثيل لمن كان يتردّد في أمر ، يفعله أو لا يفعله.
20 . دلائل الإعجاز : 48 و50.
21 . حسبما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في النهج : 92 خ 57. ورحب البلعوم : أي واسعه ، ومندحق البطن : أي عظيم البطن بارزه ، كأنّه لعظمه مندلق من بدنه يكادُ يَبينُ عنه. وأصل اندحق : بمعنى انزلق.
22 . أي : استغراباً لمثل هذه الزيادة المفرطة.
23 . تفسير الكشّاف 4 : 288 ـ 289.
24 . يقال : توفّز للأمر أي تهيّأ له وتوثّب إليه. وأرهف السيف : رقّق حدّه. أي : استعدّ للكفاح والنضال في ميادين الحياة.
25 . التصوير الفنيّ في القرآن : 57 ـ 59.
26 . يقال : اغتص بهم المكان إذا ضاق.
27 . تلخيص البيان في مجازات القرآن : 229.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
جامعة كربلاء: مشاريع العتبة العباسية الزراعية أصبحت مشاريع يحتذى بها
|
|
|