أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014
1886
التاريخ: 11-10-2014
1582
التاريخ: 11-10-2014
2047
التاريخ: 11-10-2014
2226
|
تتضمن سورة (سبأ) ثلاث حكايات أو أقاصيص هي : داود ، سليمان ، سبأ.
وقد تعاقبت هذه الحكايات ، دون ان يفصل بينها ، نثر غير قصصي ، مما يعني انها تتواشج فيما بينها بصلات محددة أمام المتلقي.
ولسوف نوضح مفصلا ، معالم هذا التواشج أو الترابط بين الحكايات الثلاث. لكننا ـ قبل ذلك ـ ينبغي أن نقف على كل أقصوصة بمفردها.
ونبدأ أولا بالحكاية الرئيسية التي انتظمها عنوان السورة ، بالرغم من انها جاءت في المرتبة الثالثة من حيث تسلسل الأقاصيص.
ولنقرأ النص :
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ : 15]
هكذا تبدأ الحكاية أو أقصوصة (سبأ). تبدأ برسم (بيئة) ذات صلة بأقوام اتيحت لهم أرض زراعية ملأى بالخصب والثمر والجمال.
ويلاحظ من هذه البداية القصصية ، انها تشدد تعلى (عطاء) يزاوج بين (الطعام) و(الجمال).
وواضح ، أن هاتين الحاجتين تتصلان بأشد الدوافع إلحاحا عند الكائن الآدمي.
أما الحاجة إلى (الطعام) فلا تحتاج إلى تعقيب.
وأما الحس الجمالي ، فانه واحد من الحاجات الحيوية التي تحقق للكائن الآدمي ، توازنه الداخلي حينما يتاح لها إشباع ثر : من نحو ما يحققه المرأى الطبيعي من ماء وشجر وثمر ونحوه ، بما تنطوي عليه هذه المشاهد من خصائص جمالية ، وبما تنطوي عليه أشكال التناسق بين المرائي المذكورة من خصائص جمالية أيضا.
إن إشباع تينك الحاجتين الحيويتين ، بما يستتليه من توازن داخلي للشخصية ، ينبغي أن لا نفصله عن (العطاء) الذي رسمته البداية القصصية ، مصحوبا بجملة من الظواهر ، هي : [الشكر لله] ، والتذكير بأنه [غافر للذنوب] ، فضلا عن التذكير بأن (البيئة] المذكورة هي : (بلدة طيبة).
ولنقرأ من جديد :
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ : 15]
ونكرر من جديد ، بأن هدفنا من الأقصوصة هو توضيح خصائصها الجمالية والفكرية.
وإذا أدركنا ان الخصيصة الفكرية تتمثل في عملية (الشكر) للسماء ، مصحوبة بتذكر (المغفرة) أيضا ،… أمكننا حينئذ أن نستجلي خصائص القيم الفنية لهذه (البداية) في الأقصوصة.
فبداية الرسم القصصي تتحدث عن (جنتين) أي : مزرعتين عن يمين البلد وشماله. ومجرد مواجهتنا لمثل هذا المرأى الطبيعي : من الممكن أن يحدد استجابتنا في البعد الجمالي للمرأى أو المنظر المذكور ، وبخاصة أن الرسم حدد (اليمين) و(الشمال) من البلدة التي تقع المزرعتان فيها. مما يعني أننا حيال مرأى (جميل) يشبع حاجتنا إلى ما هو متناسق ، وحي من الظواهر.
بيد ان الرسم القصصي ، سرعان ما ينعطف بنا نحو قيم (فكرية) ، عندما يوجه حوارا من السماء إلى القوم الذين تضمهم هذه الأرض الجميلة ، بقوله :
{كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ ..} [سبأ : 15]
إذن : ثمة قيم فنية وقيم فكرية ، تضمنتها بداية الأقصوصة ، يتحتم أن نوازن بينهما في عملية الرسم القصصي (للبداية) المذكورة.
إن أهم ما يمكن استخلاصه ـ فنيا ـ في هذه البداية القصصية ، هو : ملاحظة الجانب المتصل بإشباع الحاجة الحيوية (الطعام) ، وملاحظة الجانب المتصل بإشباع الحاجة الحسية (الجمال).
أما الحاجة الحيوية ، فان فقرة (كلوا) ، تفصح عنها بوضوح ، … كما أن فقرة [عن يمين وشمال] ، تفصح عن الحاجة الحسية ،… في حين ان فقرة (بلدة طيبة) ، تفصح عن الحاجتين معا.
والمتلقي مدعو لأن يتأمل بدقة ، هذا البناء الهندسي لبداية الأقصوصة : ليس من خلال تضمنها للبعدين : الحسي والحيوي من الحاجات فحسب ، بل من خلال تنظيم البعدين المذكورين وتوشيجهما في عملية الاستجابة أيضا.
ان العبارة القصصية (بلده طيبة) تواشج بين البعدين المذكورين [الحسي والحيوي : الجمال الطبيعي والطعام] انها تواشج بينهما بعد أن تفردهما أولا على حدة : حيث توضح ان المزرعتين عن يمين البلد وشماله (البعد الحسي] ، وحيث توضح أنهما حافلتان بالرزق (كلوا من رزق ربكم) ،… ثم تجمعها في (عطاء) واحد هو (بلدة طيبة) : حيث ان (الطيب) يشمل كلا من البعدين المذكورين ، كما هو واضح :
وهذا كله من حيث المبنى الهندسي لصياغة العبارة القصصية.
بيد ان ما يعنينا ـ من ثم ـ هو : صلة الجانب الفني بالجانب الفكري من الأقصوصة.
ترى : كيف تم صياغة ذلك ؟
قلنا ، ان البداية القصصية ، سرعان ما ربطت بين إشباع الحاجتين المذكورتين [الرزق والجمال] ، وبين ظاهر (الشكر) لله ، كما انها ربطت ذلك بتذكير القوم بان الله (غفور) أيضا.
والسؤال هو :
ما الذي يمكننا ان نستخلصه من رسم ظاهرتي (الشكر) و(الغفران) في هذه البداية القصصية؟
مما لا شك فيه ، أن (الشكر) من الممكن أن يتبينه المتلقي بوضوح ، حينما يضع في الاعتبار ان (السماء) تطلب من القوم أن يقدروا هذا العطاء الذي أغدقته السماء عليهم.
غير ان ظاهرة (الغفران) من الممكن أن يقف المتلقي حيالها بنحو من الاستجابة الغامضة ، فيما يتساءل :
ما المقصود من (الغفران) ؟
هل إن القصة ستتناول لاحقا ، مصائر شخوص يشملهم (الغفران) : مما يعني أنهم مارسوا مفارقات أعقبها الندم بحيث (تغفرها) السماء في نهاية المطاف؟
ان متابعة القصة حتى نهايتها ، لا تفصح عن ان (الندم) قد غلف شخوص القوم ، إلا إذا افترضنا أن البعض منهم قد ندم فعلا ، أو انه منذ البداية لم يقم بمفارقة ما , فيما يترتب على ذلك أن تظل (المغفرة) من نصيب هذا البعض.
ولعل بعض الفقرات القصصية التي سنواجهها لاحقا ، تفصح عن ذلك بشكل أو بآخر.
لكن المتلقي ـ بالرغم من ذلك ـ سيظل حيال استجابة فنية موشحة بأكثر من استخلاص كما سنرى : في مواجهته لظاهرة (الغفران) وصلتها بظاهرة (الشكر) : ثم صلتهما [الشكر والغفران] بأحداث القصة التي نبدأ بمتابعتها.
لقد رسم النص في البداية القصصية لحكاية سبأ ، المعطى الزراعي والجمالي لمدينة (سبأ) ، مرتبطا (بالشكر) و(بالغفران) كما لحظنا.
والآن : فإن التفسير الفني لهذه البداية القصصية ، يعني ان كلا من الظواهر الأربع التي تضمنتها (البداية) ، لابد أن تتنامى وتتطور بحيث تعكس آثارها على الأجزاء اللاحقة من الأقصوصة.
والظواهر الأربعة هي ـ كما لحظنا ـ : المعطى الزراعي ، والمعطى الجمالي للمدينة ، ثم صلتهما بظاهرة (الشكر) لله على المعطيين المذكورين ، وبظاهرة [غفران السماء].
هذه الظواهر الأربع [الرزق ، الجمال ، الشكر ، الغفران] ، هي الظواهر التي نتوقع ـ فنيا ـ ان تتطور وتتنامى من خلال ما نواجهه من أحداث ومواقف في القصة.
والآن ، ما هي الاحداث التي رسمها القسم الأول من الأقصوصة؟
بدأ القسم الأول من الأقصوصة على النحو التالي :
يقول النص عن أقوام سبأ :
(فأعرضوا).
وهذا هو رد الفعل ، أو الاستجابة التي صدرت عن هؤلاء الأقوام حيال المعطى الذي اغدقته السماء عليهم. انهم (أعرضوا) عن ذلك المعطى ، ولم (يشكروا) السماء عليه ، إذن : ظاهرة (الشكر) التي طرحتها البداية القصصية ، عكست فاعليتها في القسم الأول من الأقصوصة ، بحيث تجسدت عملا سلبيا على العكس مما ينبغي أن يسلكه القوم حيال عطاءات السماء.
فالسماء طالبتهم بأن (يشكروا) الله على العطاءات المذكورة. لكن القوم (أعرضوا) عن ذلك بدلا من الشكر.
والآن ، وقد أعرض القوم عن ذلك ، فماذا نتوقع من السماء حيال الاعراض المذكور؟؟
القسم الثاني من الأقصوصة ، هو الذي يتكفل ـ فنيا ـ بالإجابة على السؤال المذكور.
يبدأ القسم الثاني من الأقصوصة ، برسم (الاحداث) التي ترتبت على (إعراض) القوم عن (شكرهم) للسماء.
وها هو النص يرسم نتائج الإعراض المذكور :
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [سبأ : 16]
انها احداث خطيرة كل الخطورة دون أدنى شك.
فبعد ان كانت هذه المدينة الجمالية ـ كما يصفها النص القرآني ونصوص التفسير ـ ذات مزرعتين عن يمين البلد وشماله ، وبعد ان كانت المزرعتان تمطر ان بالرزق الضخم على نحو تسرده نصوص التفسير من أن المرأة مثلا عندما كانت تمشي والمكتل على رأسها ، فان المكتل يمتلئ بالفواكه من غير ان تمس يدها شيئا من ذلك.
وبعد أن كانت هذه المدينة سالمة من أية آفة ، أو أذى يمس شخوصها على نحو لم يدب فيها حتى البعوض والذباب والهوام التي تواكب ـ عادة ـ المناطق الزراعية. وبعد أن كان التفاف الشجر حولها على نحو لم تمسها الشمس ، … بعد أن كانت ذلك كله ، إذا بالمزرعتين المذكورتين تتحولان إلى نمط آخر ، بعد ان يسبق ذلك حدث خطير هو : (سيل العرم).
هذا الحدث ، توضحه النصوص المفسرة من أن أرض سبأ ، كان الماء يأتي إليها من أدوية (اليمن) ، وكان ثمة جبلان يجتمع الماء عندهما ، … قد سد ما بين الجبلين ، بحيث كانوا يبقونه عند الحاجة لسقي مزارعهم.
وتقول بعض النصوص المفسرة ، ان سليمان ـ عليه السلام ـ كان قد أجرى خليجا ومجاري وردما من الصخر والكلس ،… فيما استخدم للغرض الزراعي المذكور.
والمهم ، ان المعطيات المذكورة جميعا ، قد اكتسحها حدث خطير هو : ان الجرذ نقبت السد الذي لم يستطع الرجال قلع صخوره ، ففاض الماء على المدينة حتى خر بها واتلف مزارعها ، حتى انهم هربوا من المدينة نتيجة للسيل المذكور.
وهذا هو الحدث الأول.
أما الحدث الثاني ، فقد اتجه إلى المزرعتين ذاتهما ، حيث بدلتا بمزرعتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل.
وحين نتجه إلى النصوص المفسرة التي ترسم معالم هذا التغير ، نجد ان المعالم تحسس المتلقي بالوحشة التي تغمر المرأى بعد ذلك الخصب والغنى.
لقد بدل الثمر بالشوك ، والإخضرار باليبس ، والقطاف الثر بشيء قليل من السدر فحسب.
وهكذا تغيرت ملامح المدينة ، والمزرعة ، بعد ذلك العطاء الضخم الذي لحظناه.
أولئك جميعا ، تجيء نتيجة لعدم (الشكر) ، نتيجة لتكذيبهم رسل السماء.
إذن : السيل العرم ، وإبدال الجنتين ، يشكلان (حدثا) متطورا أو متناميا من (موقف) سلبي صدر عن القوم ، حيال السماء : إنه [عدم الشكر] الذي مهدت له بداية الأقصوصة ، حينما طالبت بأن (يشكر) القوم السماء على معطياتها : معطى الطعام ، ومعطى الجمال. أما الطعام فقد بدل ، بل قد تلف إلا القليل من السدر الذي لا يغني. وأما (الجمال) فقد تحول إلى (وحشة) إلى خمط واثل ، إلى شوك ويبس ، إلى مزرعة قاحلة.
ويجيء القسم الثالث من الأقصوصة ، مؤكدا ـ من خلال عنصر (التكرار) ـ أسباب التحول الجديد :
{ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا..} [سبأ : 17]
وللمرة الجديدة ، يؤكد النص القصصي ان عدم (الشكر) أو (الكفران) بالنعم ، يجيء سببا مباشرا لعملية التحول المذكورة.
ومع هذا التكرار ، يرسم النص تفصيلات جديدة لم تتضمنها البداية القصصية.
البداية القصصية لم تتحدث ـ كما لحظنا ـ إلا عن (الرزق) بعامة ، وإلا عن (الجمال) المتمثل في البناء المعماري للمزرعتين.
أما التفصيل الجديد الذي ينهض به القسم الثالث من الأقصوصة ، فانه يتناول أبعادا أخرى من المعطى المادي والجمالي ، من المعطى الحيوي (الطعام) والمعطى الحسي (الجمال) ، على النحو التالي :
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [سبأ : 18 ، 19]
إن هذه التفصيلات الجديدة ، تتضمن مبنى هندسيا وفكريا ، ينبغي ان نقف عنده مفصلا ، وفصل بينه ـ من تم ـ وبين الاحداث السابقة.
يقوم البناء الهندسي لأقصوصة (سبأ) على شطرين من الحركة :
الأول منها : يتحدث عن الجنتين ، وموقعهما الجمالي ، ومصيرهما البائس : نتيجة لعدم (الشكر). وكانت حركة الأقصوصة داخل سبأ ذاتها. وقد تقدم الحديث عن ذلك مفصلا.
أما الشطر الثاني من الأقصوصة فيتحدث عن الحركة خارج سبأ :
(وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ، قرى ظاهرة).
كان الشطر الأول من الأقصوصة يتحرك ضمن أسوار المدينة : بما تتضمنها المدينة من (معطيات).
أما الشطر الثاني ، فيعبر أسوار المدينة ، ليصل بينها وبين بلاد أخرى ، متحدثا أيضا عن (المعطيات) التي اغدقتها السماء على أقوام سبأ في أسفارهم وتجارتهم.
وقبل ان نتحدث مفصلا عن هذا الشطر من الأقصوصة ، ينبغي أن نلفت الانتباه إلى البناء الهندسي لها بعامة ، بغية الوقوف على الأسرار الفنية لانشطار الأقصوصة داخل حركتين : المدينة وخارجها.
ان المتلقي بمقدوره أن يثير أكثر من تساؤل عن السر الفني لهذا الرسم.
فالملاحظ ان الشطر الأول من الأقصوصة ، رسم المزرعتين وما فيهما من النعم. ثم رسم [عدم الشكر] على النعم المذكورة ، وما استتلاه من إبادة النعم.
والشطر الثاني من الأقصوصة يتحدث أيضا عن (النعم) وكفران القوم بها ، وما استتلاه من إبادة النعم.
والسؤال هو :
ان الأقصوصة كان من الممكن ان تتحدث عن النعم : داخل سبأ وخارج أسوارها دفعة واحدة : ثم تتحدث عن إبادة النعم دفعة واحدة أيضا : ما دام الأمر في الحالتين يتصل بالقوم أنفسهم ، وبالنعم عليهم ، وتمردهم على النعم المذكورة.
فلماذا شطرت ذلك قسمين؟؟ بحيث تحدثت مرتين عن النعم ، ومرتين عن الإبادة.
وبكلمة جديدة :
لماذا قطعت الأقصوصة : الحوادث والبيئات والمواقف ، ثم وصلت بينها ؟
لماذا أنهت الشطر الأول من الحوادث بإبادة الجنتين ، والشطر الآخر منها بإبادتهم ، أو بتمزيقهم ؟؟
إن الإجابة على السؤال المتقدم ، تتضح تماما حين نضع في الاعتبار كثر من مسوغ جمالي وفكري للتقطيع المذكور.
فأولا : ان طبيعة التحرك داخلا وخارجا يتطلب شطره إلى شريحتين : فالمقيم أو الحاضر داخل المدينة ، متميز عن المسافر خارج أسوارها.
وإذا كان (المقيم) ـ عادة ـ تتاح له اشباعات خاصة ، فان (المسافر) قد لا يتاح له ذلك.
ان الفارق كبير بين (مقيم) داخل مزرعتين محفوفتين بكل أنماط الإشباع ، وبين (مسافر) قد يواجه صحارى ومنازل ومتاعب تفرضها عملية السفر ، وتبعا لوجود مثل هذه الفارقية بين (المقيم) و(المسافر) ، فإن شطر الحركة القصصية إلى قسمين ، يظل أمرا له مسوغاته الهندسية والفكرية.
ثانيا : بالرغم من وجود الفارقية بين المقيم والمسافر ، فإن الأقصوصة في صدد تبيين النعم الضخمة على القوم ،… حتى ان النعم كانت من التنوع والضخامة ، إلى الدرجة التي هيأتها السماء حتى (للمسافر) من هؤلاء القوم.
ومن الواضح ، أن تبيين ضخامة النعم حتى على المسافر الذي لا تتوفر له ـ عادة ـ نعم الاقامة ، يتطلب فرزها على حدة ، وتخصيص قسم لها يتواسق وخصوصية النعم التي هيأتها السماء لهؤلاء القوم.
إذن : خصوصية النعم ، تناسقت مع خصوصية الشطر القصصي لها.
وهذا هو المسوغ الثاني : هندسيا وفكريا ، لتقطيع الأحداث والبيئات والمواقف.
ثالثا : يترتب على ذلك ، أن المصائر الدنيوية التي لحقت هؤلاء القوم ، ستفرز أيضا ضمن شطرين يتناسبان مع سلوكهم من جانب ، ومع الفارقية التي تفرز المسافر عن المقيم من جانب ثان.
ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح ، حينما نجد أن المصير الدنيوي في الشطر الأول من القصة كان ناجما ـ كما هو ظاهر نصوص التفسير ـ من تكذيبهم الرسل : مضافا إلى عدم شكرهم للمعطيات الحيوية والجمالية التي تفرزها المزرعتان.
أما الشطر الآخر من القصة ـ كما سنرى ـ فانه ناجم عن (الترف) الذي طالب القوم باستبداله وبكلمة جديدة :
ان نعم المدينة لم يصاحبها (شكر) على وجودها. أما نعم (الأسفار) فقد صاحبها (اقتراح) باستبدالها. والفارق كبير بين الاستجابتين :
الاستجابة الأولى : إقرار بالنعم دون ان يصحبها شكر.
الاستجابة الثانية عدم الإقرار بها أساسا.
ومثل هذه الفارقية تتطلب فرز قسم قصصي لها كما هو واضح.
إذن : للمرة الثالثة ، تتضح أمامنا جملة من المسوغات الفنية والفكرية لشطر الأقصوصة قسمين : تتقطع الأحداث والبيئات والمواقف خلالهما ، و(توصل) بنحو فني : يشيع فضلا عن الامتاع الجمالي ، إمتاعا فكريا قائما على فرز مفردات السلوك الذي صدر عن القوم ، ومفردات النعم التي أتيحت لهم ، والمصائر التي انتهوا إليها.
هذا ، وينبغي ألا يغيب عن بالنا ان (المصائر) الدنيوية لهؤلاء القوم قد أفرزت بدورها ، بحيث كان المصير الأول لهم هو : إبادة الجنتين ،… بينما كان المصير الآخر ـ كما سنرى ـ هو تمزيقهم كل ممزق.
وهذا يعني ، ان المصير الأول متميز عن المصير الثاني. وهذا التميز يفرض شطر الأقصوصة ـ هندسيا وفكريا ـ إلى قسميها اللذين تحدثنا عنهما.
وبعامة :
فإن المسوغات الفنية والفكرية الأربعة المذكورة ، تفسر لنا أهمية البناء الهندسي الذي قامت الأقصوصة عليه.
إنه بناء عماري ممتع ، قد لا يعيه متذوق عادي ، لكنه (يتحسسه) دون ان يدرك السر الفني وراء ذلك.
بيد ان الذي خبر تذوق القصص ، أو الفن بعامة ، بمقدوره أن يستخلص الدلالات الفنية لهذا النمط من بناء القصة : بما يواكب ذلك من إمتاع جمالي وإمتاع فكري : قد استهدفته القصة وراء صياغتها بالنحو المذكور.
قلنا ، أن سورة سبأ تتضمن ثلاث حكايات أو أقاصيص هي : داود ، سليمان ، سبأ.
وقد انتهينا من قصة (سبأ) التي حملت عنوان السورة ، فيما رأينا أنها حامت على [عطاء الله] الذي أمد المدينة ، بالمزرعتين الجميلتين ، وبالمواصلات التي تربط بين المدينة والبلدان الأخرى : حيث كانوا يسيرون فيها ليالي وأياما آمنين.
لكن القوم بطروا ، فلم يشكروا السماء على (الرزق) الذي اغدقتهم عليه ، ولم يقدروا نعمة المواصلات بينهم وبين الشام ، حتى طالبوا باستبدال الراحة تعبا : ثم جاءت الخاتمة إرسال سيل العرم عليهم ، وتمزيقهم : جزاء لكفرانهم بالنعم المذكورة.
وحين نتجه إلى الحكايتين الأخريين : داود وسليمان نجد أنهما تحومان على [عطاء الله] أيضا ، لكنهما من خلال طرح آخر ، أو بالأحرى : ليس من خلال الكفران بالنعم ، بل من خلال عملية منح العطاء ذاته بما ينطوي عليه من ضخامة تتجاوز (المألوف) و(الاعتيادي) من العطاء.
وبالرغم من ان العطاء الذي شمل مدينة (سبأ) يظل مطبوعا بسمة [غير المألوف] و[غير الاعتيادي] بصفة ان المزرعتين والمواصلات بين المدينة (سبأ) وبين (الشام) ، يشكلان عطاء خاصا متميزا لأهالي (سبأ) ،… إلا ان هذه السمة لا تتجاوز [غير المألوف] إلى ما هو (معجز) بل تتجاوز غير المألوف إلى ما هو خاص و(متميز).
والمهم ان خصوصية العطاء وتميزه ، تظل منسحبة [من حيث البناء الهندسي للحكايات الثلاث] على الحكايات جميعا ، لكنها ـ أي الخصوصية ـ تتجاوز ذلك إلى حجم أكبر يتسم بـ(المعجز) في أقصوصتي (داود) و(سليمان) بنحو يتناسب مع خصوصية وتميز البطلين : داود وسليمان من حيث سمة (النبوة) التي تطبع البطلين المذكورين : فيما تشكل هذه الخصوصية بعدا هندسيا آخر يساهم في جمالية الأقاصيص : من حيث البناء الفني لها.
على أية حال ، فان أول الحكايات التي بدأتها سورة سبأ ، هي حكاية داود عليه السلام.
وهذه الحكاية من حيث الحجم ، لا تتجاوز آيتين فحسب ، أما حكاية سليمان فلم تتجاوز ثلاث آيات ، في حين كانت حكاية (سبأ) خمس آيات… وهذا يعني ان الحكايات جميعا تتسم بحجم صغير يتساوق ومصطلح (الحكاية) ، كما انها تدرجت من حيث تسلسلها : من الحجم الصغير إلى الأكبر منه : مع ملاحظة : أن خضوعها لحجم (الحكاية) من جانب ، وللتدرج من جانب آخر ، يساهم في إكسابها بناء هندسيا له إمتاعه الفني الكبير : كما هو واضح.
ويهمنا الآن ، أن نبدأ بحكاية داود التي لم تتجاوز آيتين ، سردهما النص على النحو التالي :
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ : 10 ، 11]
ويلاحظ بوضوح : ان الحكاية تتضمن حدثين أو أكثر ، تتسم جميعا بطابع (المعجز).
ويلاحظ ثانيا ، ان الحكاية تتحرك في (بيئة) إنسانية ، وحيوانية ، وصناعية ، وطبيعية.
ويلاحظ ثالثا : ان البيئات الثلاث : الإنسانية ، والحيوانية ، والطبيعية : قد اكتسبت طابعا (حركيا) أو فلنقل : طابع (الشخوص) الذي يمارسون سلوكا (واعيا).
ويلاحظ رابعا : أن البيئات المذكورة أو الشخوص وظفت بأكملها لألقاء الإنارة على بطل رئيسي واحد هو داود عليه السلام.
ولنبدأ بتوضيح هذه الملاحظ الأربعة ، والصياغة الفنية لها.
من حيث (الحدث) ، فإن طابع (الاعجاز) ، بسم كلا من الجبال ، والطير ، والحديد. فالحكاية تبدأ بطرح قضية (العطاء) الذي يشكل (فكرة) تتخلل الحكايات الثلاث داود ، سليمان ، سبأ. انها ـ أي الحكاية ـ تحدد بوضوح : عطاء (الله) لداود ـ عليه السلام ـ : (ولقد آيتنا داود فضلا).
ثم تتقدم بعرض مستويات العطاء المذكور ، بادئة بالحادث المعجز ، وهو [تسبيح الجبال] ثم ، (الطير).
{يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ : 10]
ويلاحظ [من حيث لغة الحكاية] ن عرض (العطاء) لم يصغ من خلال (السرد) بل من خلال (الحوار) :
(يا جبال : أوبي…).
ويلاحظ أيضا : ان الحوار قد صبغ أحادي الطرف ، وإلى انه خطاب وجهته السماء إلى (الجبال) : أمرتها ان (تسبح) مع داود.
ويعنينا الآن ان نوضح الأسرار الفنية لصياغة التسبيح (حوارا) بدلا من (السرد) فيما يتصل بالجبال. مثلما يعنينا ان نتعرف على (الطير) من حيث صياغته (حوارا) أيضا ، أو احتمال كونه (سردا) ، ثم ما يواكب ذلك من دلالات فنية لصياغة الموقف حوارا أو سردا.
ومن البين ان السماء لم تصغ فيما يتصل (بالطير) حوارا مماثلا للجبال (يا جبال أوبي معه ، والطير) ، بل عطفت (والطير) على (الجبال) ، فيما يمكننا ان نستكشف احتمالين فنيين.
انه من الممكن ـ كما لاحظ بعض النحاة ـ ان تكون (الطير) معطوفة على الجبال ، بحيث تصبح (حوارا). ومن الممكن ـ كما لاحظ البعض أيضا ـ ان تكون بمعنى (سخرنا) ، فتكون (سردا).
وأيا كان الأمر ، فإن (الحوار) فيما يتصل بظاهرة (الجبل) ، ينطوي على دلالة فنية أشد فاعلية من (السرد) ما دام الأمر متصلا ببيئة طبيعية هي (الجبال) : فيما لم يعهد منها (الوعي) فضلا عن (النطق).
من هنا ، فإن أية صياغة لتخسيرها ، وجعلها متجاوبة مع داود عليه السلام. ستأخذ فاعليه أشد حينما يخلع عليها طابع (الوعي) و(النطق) ، مقترنين بخطاب موجه إليها ، أي : (بحوار) من السماء يتجه إلى الجبال.
وإذا أدركنا ان الفارق بين الطير والجبل ، ان الأول منهما يحمل خصيصتين لم يحملهما الآخر ، ونعني : (الوعي) و(اللغة) الحيوانيين ، أمكننا ـ حينئذ ـ أن نتبين سر الخطاب الموجه إلى موجودات تفتقر إلى الوعي واللغة بحيث يحملنا ذلك على استكشاف القيمة العظيمة لعطاء (الله) ، فيما بلغت الدرجة التي جعل ـ من خلالها ـ أن (يعي) الجبل ، وأن (يسبح) أو أن (يرجع) التسبيح : على الأقل من خلال نمط العناية الالهية التي وجهت خطابا مباشرا إلى الجبال بدلا من مجرد تسخيرها بشكل غير مباشر ،… مما نستشف من خلاله أن العناية أو الفضل كان من الخطورة بنحو : خلع (الله) على الجبال (وعيا) ، ثم أضاف إلى ذلك فضلا آخر هو : انه وجه إليها خطابا مباشرا للتدليل على درجة الاهتمام بالموقف الذي كان من الممكن ان يتم التسخير من خلاله بنحو غير مباشر.
إذن : خطورة الحوار تتضح تماما من حيث الخصائص الفنية التي تشكل مسوغا لصياغته بهذا الشكل ، بدلا من مجرد (السرد).
لحظنا أن (الاعجاز) هو السمة التي رافقت قصة داود في قضية (الجبال) التي أمرها الله أن تسبح مع داود.
وحين نتابع هذه السمة الاعجازية ، نجد ان النصوص المفسرة ، تتراوح في عدة استخلاصات تتصل بالدلالة التي انطوت عليها ظاهرة (التأويب) : {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ : 10]
فهناك من الدلالات ما يشير إلى (التسبيح). وهناك ما يشير إلى دلالة (الترجيع) ، وهناك ما يشير إلى دلالة (المسير) أي : الجبال سخرت لتسير مع داود لإنجاز مهماته المختلفة فيما يتصل بحفر الآبار والعيون والمعادن والطرق.
بيد ان (التسبيح) يظل أشد الدلالات المذكورة في هذا الصدد.
والمهم ، ان الدلالات بأكملها ، تبقى مطبوعة بسمة (الإعجاز) ، مع ملاحظة ان التسبيح أو ترجيعه وفقا لبعض نصوص التفسير الذاهبة إلى ان داود عند قراءته (الزبور) في البراري ، إنما كانت الجبال والطير تسبح معه : مما نستكشف ان مثل هذه الدلالة [أي : التسبيح] ليست مجرد (ظاهرة) اعجازية فحسب ، بل تنطوي على دلالات أخرى ، يستكشفها المتلقي ، حينما يدقق في (الفضل) الذي منحته السماء لـ(داود) (ولقد آتينا داود منا فضلا) ، وفي دلالة (التسبيح) الذي واكب داود فيما يتصل بنمطين من الكائنات : الجبال والطير.
إن خلع (الوعي) على الجبال ، مضافا إلى (النطق) ،… وخلع [الدلالة الهادفة : التسبيح] على الطيور ، من الممكن أن يستثيرا لدى المتلقي أكثر من (دلالة) فكرية يفيد منها في هذه الفقرة من السرد.
1 ـ فثمة حقيقة يستكشفها بوضوح ، حينما يحاط علما بان (الكون) بأكمله قد وظف لأداء المهمة العبادية أو الخلافية ، بما في ذلك : الجماد والحيوان.
2 ـ ان (اللغة) ـ غير البشرية ـ تظل حقيقة لا مناقشة في صدورها عن كائنات لم نفق لغتها ، حتى وان كانت (جمادا) : (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) كما هو صريح آية قرآنية كريمة في غير هذه السورة.
3 ـ ان (تسبيح) كائنات غير مألوفة لدى الاعتياديين من البشر ، وجعله (أي التسبيح) مفهوما لدى كائن محدد مثل شخصية (داود) ، يعني : إكساب هذه الشخصية طابعا متميزا خاصا يتساوق وظاهرة (الفضل) التي أشارت الآية إليه في بدء الأقصوصة يضاف إلى ذلك :
ان تسبيح الجبال والطير نفسه ، يدلنا ـ ليس على مجرد ـ (الفضل) الذي منحته السماء لداود فحسب من حيث كونه (يفقه) لغتها ، بل ان (تجاوبها) مع داود ، يدلنا على خطورة التسخير : تسخير الكائنات الأخرى للآدميين في حالة تأديتهم للمهمة العبادية.
4 ـ إذا كانت الجبال والطير متسمة بالتجاوب مع رسالة السماء من خلال [كائن آدمي] : فحري بالآدميين أنفسهم ان يتجاوبوا مع [خليفة على الأرض] يشار كونه الوعي واللغة المماثلتين لوعي الخليفة ولغته.
ان الدلالات الفكرية المذكورة ، يعززها النص بظاهرة أخرى تتصل ببيئة صناعية هي :
صناعة الدرع.
ويلاحظ من حيث البناء الفني للأقصوصة انها قامت على فقرتين أو آتين : أولاهما تحدثت عن (التسبيح) وما واكبه. والأخرى : تحدثت عن (الصناعة).
ونحن ينبغي الا نمر عابرا على هذه الخصيصة المعمارية في الأقصوصة : حين نلحظ ان الآية الأولى نتحدث عن مهمة عبادية خطيرة تتصل بكل الكائنات : إنسانا وحيوانا وجمادا ،… في حين تتحدث الآية الأخرى عن مجرد عمل صناعي يتصل بالدرع…
لكننا بأدنى تأمل ، يمكننا أن ندرك السر الفني لشطر الأقصوصة شطرين متوازنين يخصص أحدهما للتسبيح ، والآخر للعمل اليدوي… أن هذا يعني ان الأقصوصة تستهدف لفت أنظارنا إلى خطورة العمل اليدوي وأهميته الكبيرة لدى السماء في زحمة المهمة العبادية التي ألقتها على الكائن الآدمي.
ان النصوص الإسلامية طالما تشير ان (العمل) هو (عز) الرجل ، وإلى ان من يعيل الآخرين أشد فاعلية [من حيث معطى العمل العبادي] من الممارس لعملية العبادة بمعناه الخاص ،… هذا فضلا عما ينطوي عليه (العمل) من وأد للذات ، ودفع للنشاط ، واستثمار له من أجل استمرارية المهمة الخلافية… ولعل النماذج المصطفاة من انبياء وأئمة ، وممارساتهم للأعمال اليدوية ، يفصح عن الحقيقة المذكورة ، بوضوح.
والمهم ، أننا ـ حتى بعيدا عن إنارة النصوص الإسلامية لهذا الجانب ـ يمكننا ان نستخلص ـ فنيا ـ هذه الحقيقة ، ما دامت الأقصوصة تخصص شطرا مماثلا لشطر (التسبيح) في رسمها للمهمة العبادية.
ومع ذلك ، فان النصوص المفسرة تحدد لنا هذا الجانب المتصل بشخصية داود ، حينما أوضحت ان السماء أوحت لداود بانه [نعم العبد] لكنه يأكل من بيت المال. وعندها بكى داود أربعين صباحا فالآن الله له الحديد ، وعمل منه الدروع ، وأفاد منها في رزقه.
إن لفت انتباه داود إلى انه يأكل من بيت المال ، يشير إلى ما استخلصه المتلقي ـ فنيا ـ من خطورة العمل اليدوي ومعطياته النفسية والعبادية ،… مضافا إلى أن حرص السماء حتى على إعطاء التفصيلات المتصلة بممارسة العمل الصناعي : فيما خاطبت داود بقولها : (وقدر في السرد).
هذا الحرص على تفصيل (العمل) حتى فيما يتصل بتنظيمه وتعديله ، يفصح عن خطورة العمل اليدوي وموقعه من الوظيفة العبادية بعامة.
على أية حال : تضمنت أقصوصة داود ـ عليه السلام ـ هدفا فكريا محددا هو (الفضل) أو النعم التي تغدقها السماء على الآدميين. مثلما تضمنت رسما لبعض أنماط (النعم) المختلفة ، فيما أوضحت المقدمة {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} [سبأ : 10] مفهوما عاما عن (النعم) : ثم فصلت بعضها فيما يتصل بداود.
وسيجيء أيضا في الأقصوصة الثانية سليمان مثل هذا المفهوم للفضل وتفصيلات أخرى.
كما سيجيء ـ مثلما رأينا ـ مثل هذا المفهوم فيما يتصل بسبأ. وكل ذلك يكشف عن البناء الهندسي للأقاصيص الثلاثة التي يجمع بينها هدف موحد ، وتفصيلات متنوعة تلتم عند ذاك (الهدف).
ولا يغب عن بالنا ان أقصوصة داود قد ختمت بقوله تعالى :
(واعملوا صالحا…).
حيث يجيء هذا الختام مرتبطا بضرورة (الشكر) للنعم المذكورة ، وانعكاس هذا الختام على هيكل الأقاصيص اللاحقة من سورة سبأ : فيما وقفنا على قصة سبأ منها ، وعدم شكر السبأيين للنعم التي اغدقتها السماء عليهم : نعم المزرعتين والمواصلات بين المدن ، على نحو ما تقدم مفصلا.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|