أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-6-2021
3377
التاريخ: 18-11-2014
3445
التاريخ: 12-6-2021
2644
التاريخ: 2023-02-26
1398
|
لقد شاءت إرادته سبحانه أن تستمر خلافة الإنسان في الأرض بعد أن أهلك قوم نوح بذنوبهم ، إذ أنشأ من بعدهم أم ، كما وعد نوحاً بقوله : {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود : 48] فكان قوم عاد (وهم من ذرية نوح) من الأمم الني أخبر سبحانه أنهم يمتعون ثم يعذبون بسبب طغيانهم ، وقد بعث الله إليهم هوداً لأجل هدايتهم وتذكيرهم : {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف : 65] .
كما أنه سبحانه بعث صالحاً بعد هود إلى قوم ثمود (وهم من ذرية نوح أيضاً) : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف : 73] .
فمصير القومين بداية ونهاية واحد .
أما نسب هود فيذكر المؤرخون (١) أنه ينتهي إلى نوح بالنسب التالي : هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عادن عوص بن إرم بن سام بن نوح .
والعجب ان قصة قوم هود لم تذكر إلا في القرآن الكريم ، ولم نجد لها أثراً في التوراة وغيرها .
كان قوم هود يسكنون الأحقاف : {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف : 21] .
والأحقاف-كما يذكر عبدالوهاب النجار-تقع في شمال حضرموت ، وفي شمال الربع الخالي ، وفي شرقها عمان ، وموضع بلادهم اليوم رمال ليس بها أنيس بعد ذلك العمران والنعيم المقيم ، ولم يتعرض أحد من الأوربيين الباحثين والمنقبين الى الكشف عن بلادهم والتنقيب في أرضهم ، ولعل تحت الرمال من الثروة العلمية ما لو كشف لكان عظيم القيمة في عالم الآثار وأبان عن مدينة عظيمة مطمورة تحت تلك الكثبان ، وقد أخبرني السيد عبد الله بن أحمد بن عمر بن يحيى العلوي من أهل حضرموت أنه قام في جماعة إلى إحدى المدن البائدة في شمال حضرموت ونقب فيها وعثر على بعض الآنية من المرمر عليها كتابة بالخط المسماري؛ ثم ترك التنقيب لمضايقة البدو له وإثقال كاهله بالمطالب المالية . (2)
وقد ذكر القرآن الكريم اسم النبي هود سبع مرات ، (3) واسم الذين بعث إليهم-قوم عاد-أربعاً وعشرين مرة . (4)
أهم المحاور في حياة النبي هود (عليه السلام) :
١ . خصائص قوم هود .
٢ . مضمون دعوته ومنهجها .
٣ . حواره مع قومه ، ورد التهم الموجهة إليه .
٤ . التهديد بالعذاب .
٥ . وقوع العذاب ، وهلاك قومه .
٦ . الدروس والعبر .
خصائص قوم هود
{وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} [الأعراف : 69] .
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر : 6 - 8] .
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء : 128، 129] .
{أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء : 133 ، 134] .
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف : 26]
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء : 130] .
{وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت : 15] .
ذكر القصاصون (5) عن قوم هود أخباراً أشبه بالأساطير وروي أكثرها عن كعب الأحبار ووهب بن منبه الأبناوي الصنعاني ( ٣٤ - ١١٤ هـ) المعروفين برواية الإسرائيليات (6) ، ولا محيص للمحقق إلا الاعتماد على ما جاء في القرآن الكريم مما يرجع إلى حياتهم .
يقول العلامة الطباطبائي : وقد انقطعت أخبار قوم هود وانمحت آثارهم فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم على نحو تطمئن إليه النفس إلا ما قصه القرآن الكريم من إجمال قصتهم ، انهم كانوا بعد قوم نوح ، قاطنين بالأحقاف ، وكانوا ذوي بسطة في الخلق ، أولي قوة وبطش شديد ، وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة ، لهم بلاد عامرة وأراضي خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم . (7)
وستوافيك الآيات التي تؤدي إلى هذه المعاني .
لقد وصف سبحانه قوم هود بصفات عديدة ، نشير إليها :
١. البسطة في لخلق
كانوا طوال الأجسام مدي دي القامات ، أقوياء الأبدان ، حتى أن الله سبحانه شبه أجساد موتاهم بأصول نخل بالية نخرة : {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة : 7] (8) .
٢. مساكنهم الرفيعة
وصف سبحانه مساكنهم بأنها كانت ذات عماد ، يقول سبحانه : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر : 6 - 8] .
فقوله «إرم» عطف بيان لـ((عاد)) ، والعماد جمعه عمد ، وهو ما تعتمد عليه الأبنية ، وظاهر الآيتين أن إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية وعمد ممددة . (9)
وتحدثت آية أخرى عن تلك الأبنية الرفيعة ، حيث خاطب النبي هود قومه بقوله : {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء : 128 ، 129].
والريع هو المرتفع من الأرض ، والآية العلامة ، والعبث الفعل الذي لا غاية له ، وكأنهم كانوا يبنون على قلل الجبال وكل مرتفع من الأرض أبنية كالأعلام يتنزهون فيها ويتفاخرون بها من غير ضرورة تدعوهم إلى ذلك ، بل لهواً واتباعاً للهوى ، وكانوا لا يقتصرون على ذلك بل يعملون الحصون ا لمنيعة والقصور المشيدة شأن من يرجو الخلود في الحياة . كما يشير إليه قوله : {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} .
٣. النعم الوفيرة
كان قوم هود يتمتعون بثروة طائلة وغنى واسع وقوة لا ترام ، ويتنعمون بعيش رغيد وحياة رافهة . فأبطرتهم النعمة ، وغرتهم القوة ، وتمادوا في الظلم والفساد ، فخاطبهم نبيهم بقوله : {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء : 132 - 134] .
٤. روح الاعتداء والتنكيل
كان قوم هود يفتكون بشدة ويمارسون القمع بعنف اغتراراً بقوتهم وسطوتهم ، كما وصفهم سبحانه بقوله : {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء : 130] .
٥. تكبّرهم على الباري تعالى
إن القوة التي امتاز بها قوم هود ، بعثت فيهم الغرور والخيلاء والاستعلاء وراحوا يتباهون بها قائلين : {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} ناسين أو متناسين {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت : 15] ان الداء العياء أن يزعم الإنسان الضعيف الذي لا يملك لنفسه موتاً ولا حياة ولا بعثاً ولا نشوراً أنه أقوى موجود في العالم ، غافلا عن أنه مخلوق ضعيف يقتله (الجرثوم) الصغير غير المرئي .
إن النعم الإلهية إذا تيسرت للمؤمن العاقل ، انتفع بها ، وبذلها في سبيل الخيرات وازداد شكراً للمنعم وإخلاصاً له ، وإذا تيسرت للجاهل العالي طغى بها وبغى وأفسد .
مضمون دعوته ومنهجها
{يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود : 50] .
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء : 135] .
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء : 125] .
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف : 68 ، 69] .
{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود : 51] .
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود : 52] .
{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف : 69] .
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود : 57] .
مضمون دعوته
يستفاد من الآيات ا لماضية ان مضمون دعوته ، يتلخص في أمور ثلاثة :
أ . الدعوة إلى عبادة الله وحده والتنزه عن عبادة غيره .
ب . الانذار من عذاب الله يوم القيامة .
ج . الدعوة إلى الإيان برسالته والتصديق بأنه رسول من الله وأمين من جانبه تعالى .
وهذه الأصول الثلاثة التي يناط بها الإيمان تجدها حتى في الرسالة الخاتمية .
ثم إن هوداً جاء بكلمة بليغة ذكر فيها رسالات ربه ووصف نفسه بالنصح والأمانة وأنذرهم بعذاب من تقدمهم من قوم نوح وقال : {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف : 68 ، 69] ، هذا ما يتعلق بالمضمون .
وأما منهج دعوته ، فيقوم على الأصول التالية :
أ . عدم طلب الأجر على دعوته
إن سيرة الأنبياء العظام وكل المصلحين ، جرت على الإخلاص في الدعوة والتبليغ وترفعهم عن طلب الأجر ، إيمانا منهم بأهدافهم وتفانيهم من أجلها ، وتعبيراً عن تنزههم عن المطامع والمآرب الشخصية . {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود : 51].
ب . الرجوع إلى الله لغاية زيادة النعم
سبقه إلى هذا الوعد النبي نوح (عليه السلام) . والنبيان الجليلان صدرا عن ضابطة كلية ، وهي وجود الصلة بين الإيمان والاستغفار وكثرة النعم . قال نوح : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح : 10 – 11] .
وقال هود على غرار ذلك : {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود : 52] .
وعلى هذا الأساس كان يذكرهم بنعمة الله تبارك وتعالى مرة بعد أخرى : {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ج . تحذيرهم من مغبة العصيان
انتهج قوم هود ذات الطريق التي سلكها قوم نوح : إعراضاً عن عبادة الله وإقبالاً على عبادة الأوثان ، وصداً عن سبيل الحق ، وبغياً على العباد ، فلا محالة إذن أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم نوح ، من العذاب والانتقام .
لقد أنجز (عليه السلام) ما عليه من المسؤولية ، وأوضح لهم نهج الحق ، وحذرهم من مخالفته ومن الإمعان في اقتراف المظالم والمآثم ، وإن هم أصروا على عنادهم ، فليس على الله بعزيز أن يهلكهم ويستخلف غيرهم في الأرض ، كما فعل نظير ذلك بقوم نوح : {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود : 57] .
ومنهج دعوته هذا هو عين منهج نوح ومن جاء بعده من الأنبياء ، إذ كلهم ينهلون من معين واحد .
حواره مع قومه ، ورد التهم الموجهة إليه
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف : 66] .
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ ....} [هود : 53] .
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ...} [هود : 54] .
{أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ} [الأعراف : 63] .
{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت : 14] .
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف : 70]
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف : 67 – 68] .
{إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود : 54 ، 55]
{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود : 56] .
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف : 71] .
أدى نبي الله هود (عليه السلام) رسالته على الوجه الأكمل ، وكابد في سبيلها أنواع المشاق ، وتعرض لشتى التهم الكاذبة والاعتراضات الساذجة ، شأنه في ذلك شأن النبي نوح (عليه السلام) ، ولم يسلم منها باقي الأنبياء (عليه السلام) ، بل واجه قسطاً منها المصلحون من غير الأنبياء على اختلاف في طريقة عرضها والتعبير عنها .
التهم الملصقة بهود :
1. السفاهة
اتهموه بخفة العقل التي تقضي إلى خطل ما يدعو إليه من آراء وأفكار . وكيف لا يرمونه بالسفاهة وهو يخالف الرأي العام ، ويضاد ما ألفوه من عبادة للأوثان ومن تقاليد وثنية ، اتبعوا فيها آباءهم ؟
إن المقلدين والمنتفعين لا يروق لهم الإصلاح والتغيير اللذين ينغصا عليهم العيش في ظل الأوضاع الفاسدة ، غافلين أو متغافلين عن أن الرجال الإلهيين لا يكترثون لزخرف الباطل ولا لكثرة أنصاره .
٢. الكذب
والعجب أنهم كانوا لا يقطعون بكذبه بل يقولون (نظن أنه كاذب) ، أي أنهم يلصقون به الكذب على وجه الظنة ، لئلا يؤاخذوا بطلب الدليل ، فلو قالوا له : «إنك من الكاذبين» لكان من حق المخالف أن يسأل عن الدليل على ذلك . وأما الظن فهو أمر طارئ على القلب ، وربما لا يكون له أساس .
٣. الخبل
كان قوم هود يزعمون أن بعض آلهتهم قد مسته بضر لسبه إياها ، فصار يهذي بكلام غير معقول {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
هذه هي التهم التي رموا بها هوداً (عليه السلام) ، والتي تدل بنفسها على أنهم م يجدوا في حياته وسلوكه ما يصمونه به ، وإلا لطبلوا وزمروا له ، وما كلفوا أنفسهم هذا العناء في خلق مثل هذه التهم .
الاعتراضات الموجهة له
أما الاعتراضات فكانت واهية ، لا تعتمد حتى على دليل سطحي فضلا عن غيره ، وهي :
أ. كونه بشراً
اعترض المترفون المتكبرون من قوم هود وصالح على بشرية النبي ، قائلين : {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت : 14] .
وتكرر هذا القول من المعرضين عن دعوة النبي : {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون : 33 ، 34] .
ومنشأ هذا الاعتراض هو تخيلهم أن الرسول يجب أن يكون من جنس أرفع وأعلى ، ولا يحصل هذا إلا إذا كان ملكاً لا بشراً يأكل ويشرب ويلبس مثلهم . ولكنهم غفلوا عن نكتة مؤثرة في أمر التبليغ وهي أن الرسول الذي يبعث من نفس جنس المرسل إليهم يكون قريباً منهم قادراً على الاتصال بهم ، وتفهم حاجاتهم ، ومعرفة ميولهم وطبائعهم .
ب . أسطورة الأولين
تصام المترفون الطغاة من قوم هود عن سماع دعوة نبيه (عليه السلام) إلى توحيد الله سبحانه وطاعته ، وعبروا عن هذا التمرد يقولهم : {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء : 136] ، ثم قالوا إن سجيتك في الدعوة سجية الماضين من أصحاب الأساطير والخرافات : {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء : 137] (10) .
ج . أين البينة ؟
لقد بلغ قوم هود من اللجاج والعناد ، والكذب في سوق اعتراضاتهم أن ادعوا أن نبيهم لم يأت بحجة واضحة ودلالة كافية على صحة ما يدعو إليه : {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} ولكن السر في هذا الكذب قد بان بقولهم : {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ، إذ كيف يستجيبون لما يخالف أهواءهم الفاسدة وعقولهم المتحجرة ؟ وهل تستطيب الخنازير الاّ العيش في الأوساخ :
فنعيم الحمام خوض أثير ونعيم الخنزير في الأدران (11)
إلى هنا تعرفنا على تهم القوم واعتراضاتهم ، فهلم معي ندرس كيف واجه النبي هود هذه التهم والاعتراضات حتى أسكتهم وأفحمهم .
أما الاتهام بالسفاهة والكذب فأجاب عنهما بقوله : {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف : 67-68] .
ففي قوله : {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} رد لكلا الاعتراضين وهو أنه ناصح ، وليس بسفيه ، أمين وليس بكاذب .
ولو ان النبي هوداً طلب من حكماء عصره أن يختبروه ويشهدوا بسلامته من الجنون والسفاهة ، لعد ذلك منه اعتناء بتهمتهم ، ولكن الرسول الذي يريد هداية قومه يجب أن يكون ذا صدر رحب واسع وأن لا يهتم بالاعتراضات إلا بشكل عابر .
ثم إن من مميزات أنبياء الله ورسله هو الكفاح وتحدي الأعداء والشجاعة في أمر التبليغ دون تسرب الخوف إلى قلوبهم ، وهذا ما نشاهده في موقف نبي الله هود من طغاة قومه ، معلناً براءته من آلهتهم التي زعموا أتها مسته بسوء أفقده عقله ، وخاطبهم بأنه لا يخشى أذاهم ومكرهم بالرغم من جبروتهم وشدة بطشهم ، وتحدا هم أن يجرأوا على قتله ، قال سبحانه حاكياً هذا الموقف الشجاع والحالة الروحية السامية : {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود : 54 ، 55] .
يقول الزجاج : وهذا من أعظم آيات الأنبياء أن يكون الرسول وحده وأمته متعاونة عليه فيقول لهم : (كيدوني» فلا يستطيع واحد منهم ضره . وكذلك قال نوح لقومه : {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} [يونس : 71] .
ومثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله وبأنه يحفظه منهم ويعصمه من أذاهم .
ومما نلفت إليه نظر القارئ ان المنطق الذي اعتمد عليه الرسولان : نوح وهود ، هو بذاته منطق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) حيث قال : {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف : 195] .
التهديد بالعذاب
{قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف : 71] .
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود : 57] .
{فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف : 22 ، 23] .
{رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون : 39] .
{قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون : 40] .
***
جرت سنة الله سبحانه على أن يوصل الإنسان إلى الكمال الذي خلق لأجله ، فمادام هو في ذلك المسير بل مادام هناك بصيص من الرجاء لوصوله إلى الغاية ، فالقوى الظاهرية والباطنية تكون معينة له . وعلى العكس من ذلك فلو أن الإنسان ابتعد عن هذا المسير ولم يكن هناك رجاء لكماله فيعمه العذاب ويختم حيا تهمن أصلها .
وقد اتبع هود تلك السنة ، حيث استمر في دعوة قومه إلى التوحيد والهدى إلى أن يئس من استجابتهم وانصياعهم للحق ا إلا قليلاً منهم — وعند ذاك هددهم بنزول العذاب كما هو لائح من الآيات المتقدمة ، التي تحدثت عن استحقاقهم للرجس (العذاب) لشدة إنكارهم للحق ومجادلتهم بالباطل .
ومع هذه الإنذارات المتكررة التي تؤثر في أغلب الناس ، ولكن قوم هود لم يعيروا لها أدنى اهتمام ، ولم يبالوا وعيده ، وخاطبوه بقولهم : {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف : 22] .
إن هذا التحدي والتكذيب لم يخرج هوداً عن سمت النبي الكريم ، ولم يقعده عن بيان هذه الحقيقة وهي أنه ليس سوى رسول ، وليس عليه إلا البلاغ ، أما العذاب فلا يعلم وقت نزوله إلا الله ، وهو الذي يقدر المصلحة في تعجيله أو تأجيله . (12) ومن هنا وصفه (عليه السلام) بالجهل والجهالة ، إذ لولا الجهل لما أظهروا مثل هذا التحدي الأرعن ، فإن احتمال نزوله ولو كان ضعيفاً يوجب عليهم التوقي والمرونة في الكلام والتدبر في حقيقة الدعوة .
كلّ ذلك يدل على أن هؤلاء قد فقدوا الأهلية في أن يكونوا خلفاء الله في الأرض إذ يجب أن يكون بين الخليفة والمخلف صلة معنوية ، والأقوام اللجوجة العنودة التي تستقل العذاب لا تستحق ذلك المنصب ، وعند ذلك دعا هود ربه فقال : {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون : 39] .
فوافاه الخطاب من اله سبحانه : {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون : 40] .
فلندرس إجابة دعوة هود وهي ، نزول العذاب عليهم وإبادتهم وإهلاكهم .
وقوع العذاب ، وهلاك قومه
{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف : 24] .
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف : 25] .
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت : 16] .
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة : 6 - 8] .
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر : 19] .
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات : 41 ، 42] .
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت : 13] .
***
شاءت إرادته سبحا نه أن يبيد القوم الذين سخروا من نبيهم واتهموه واعترضوا عليه بأمور واهية ، فأرسل عليهم سحاباً أسود ، خيل للقوم في بادئ أمرهم أنه سوف يُمطرهم ويسقي زروعهم ، ففرحوا به ، لانحباس المطر عنهم -كما يبدو- لمدة ليست بالقليلة ، ولكنهم جهلوا بحقيقته إذ كان نذير شؤم وعذاب مؤلم ، إنه ريح عصوف تحطم كل شيء تمر به وتدمره تدميراً {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف : 25] . ولم ينج من ذلك العذاب إلا هوداً وأتباعه المؤمنين ، كما قال سبحانه : {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف : 72] .
وكانت الريح عاتية باردة مهلكة ، استغرق وقت هبوبها سبع ليال وثما نية أيام متتالية ، تناثرت بعدها أشلاء القوم على وجه الأرض كأنها أصول نخل بالية ، لمرحت على الأرض .
وكانت هذه الأيام الثمانية أيام شؤم عليهم ، كما قال سبحانه : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت : 16] .
وقد أريد من الأيام هنا مع لياليها لما مرّ في قوله سبحانه : {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة : 6 ، 7] .
فربما تطلق الأيام ويراد بها الأيام مع لياليها .
وعليه ، فقد بدأ العذاب نهاراً ، وتم قبل ليل اليوم الثامن ، فبينهما سبع ليال .
وأما قوله سبحانه : {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر : 19] ، فاستمرار النحس كناية عن استمرار العذاب ، فاستمر عليهم وفق الآيات السابقة بنحوسة سبع ليال وثما نية أيام .
هذا ، وقد عبر القرآن الكريم عن العذاب الذي أهلك عاداً بتعابير مختلفة : ريح صرصر ، والريح العقيم ، والصاعقة (راجع ما تقدم من الآيات الكريمة) .
والريح العقيم هي التي لا أثر فيها لخير أو فائدة من تنشئة سحاب أو تلقيح شجر ، ونحو ذلك ، بل أثرها الإهلاك و التدمير والإبلاء (ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم) أي كالشيء الهالك البالي .
وأما الصاعقة ، فهي الصوت الشديد ، وقد يطلق القرآن هذه اللفظة ، ويريد بها آثارها ومظاهرها ، مثل الموت ، كقوله تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزمر : 68] والعذاب ، كقوله : {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت : 13] ؛ والنار الساقطة من السماء عن برق ورعد ، كقوله : {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد : 13] (13) .
خلاصة قصة هود (عليه السلام)
ثمة أمة موغلة في القدم امتلكت أسباب القوة والعزة ، فطغت واستكبرت وجحدت برتها ، فبعث الله فيهم نبياً منهم . تلك قبيلة (عاد) التي أورثها الله تعالى الأرض من بعد قوم نوح ، ونبيهم المرسل إليهم هود (عليه السلام) .
وكان قوم هود يسكنون الأحقاف (وهي كما يقول أهل الأخبار من أرض اليمن المتصلة بالحجاز) ، وكانوا ذوي بسطة في الخلق وثروات طائلة ، فاغتروا بقوتهم وكثرة أموالهم ، حتى ظنوا وهم في سكرة غرورهم و تكبرهم أنيم خالدون في هذه الدنيا : يبنون القصور الفخمة على الربى لهواً وعبثاً وإسرافاً ورغبة في التباهي {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} ، ويسطون على الآخرين بعنف ويسلبون حقوقهم ظلماً وبغياً {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} .
شرع هود في أداء رسالته ، بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فردوا عليه بعقلية المقلد الذي حجر على نفسه التفكير {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} ، فأراد (عليه السلام) أن يفتح عيونهم على واقع الأوثان ، وينبههم إلى حقيقتها الفارغة ، فقال : {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ولكنهم لم يصروا على تقديس عقيدة آبائهم فحسب ، وإنما سعوا - من أجل الحد من تأثير كلماته في النفوس _ الى ا لتأكيد على أنّ كلماته غير مسؤولة ولا اعتبار لها ، لأنها صادرة _ في زعمهم _ عن رجل مسّتهُ بعض آلهتهم بسوء لمهاجمته إياها ، فأصيب بالهذيان !! {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} .
واستمروا في الضغط عليه للتأثير سلباً على منزلته الاجتماعية ، فاتّهموه بالسفه وخفّة العقل والكذب {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} .
واجه هود (عليه السلام) عقائد قومه وتقاليدهم واتهاماتهم الظالمة له بودٍ وهدوء بعيداً عن التشنج والانفعال ، محاولاً إقناعهم بالدليل والبرهان ، معلناً أنه ناصح أمين ، يسعى لخيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، غير طامع في أموالهم .
ولم يفتأ يذكّرهم بالنعم السوابغ ، والآلاء الرّوافغ التي خصّهم الله تعالى بها ، ويعدُهم بأن تكثر خيراتهم ، وتشتدّ قوّتهم إن هم أنابوا الى ربهم ، وسلكوا طريق الهدى والتقوى ولم يزيغوا عنه {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} ، ويحذرهم في الوقت نفسه من المصير القاتم الذي يلاقونه إذا تمادوا في اعراضهم عن الحق والعدل ، وأن الله قادر على أن يستخلف قوماً غيرهم لا يضرونه شيئاً .
لم تلق كلُّ هذه المواعظ النُّذُر آذاناً صاغيةُ منهم {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} .
لم تبلّدت أفكارهم وتجمّدت مشاعرهم وماتت قلوبهم ، فلم ينتفعوا بها {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأحقاف : 26] ، ومن هنا طلبوا من نبيهم – في تحدّ أجوف – أن يأتيهم بالعذاب الذي أوعدهم به {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فأجابهم (عليه السلام) بلهجة الصادق الناصح : {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} .
ثم التجأ (عليه السلام) الى ربه القوي العزيز بعد أن يئس من إجابتهم لدعوته وانقيادهم للحق مستمداً منه النصر {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} ، فوافاه جواب الربّ القدير {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} ، وجاء أمره سريعا حاسما ، جزاء وفاقاً لاستكبارهم وعتوهم واستعجالهم للعذاب {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وهكذا عصفت بهم الريح {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} [الحاقة : 7] وتركتهم أشلاء متناثرة مجدلة على الأرض ، كأنها {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} ، واستؤصل جميع المترفين الطغاة {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} ، وأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم ، ونجى الله هوداً والذين آمنوا معه برحمة منه ، ونجّاهم من عذاب غليظ .
الدروس والعبر
في قصة هو مع قومه دروس وعبر ، نشير الى جانب منها :
1. المثابرة والتحمل في طريق الدعوة ، ومواجهة تكذيب القوم وعنادهم بعزم لا يلين ، وثقة بالله لا تتزعزع ، ومحاورتهم بمودة و صدق وجرأة في كل ما أثاروا من شبهات ، واختلقوا من اتهامات .
2 . الترغيب الى الايمان عن طريق التذكير بنعم الله عليهم : {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ} ، وفي الوقت نفسه يُلفت نظرهم الى العوامل الغيبية وهي أن الايمان والرجوع الى الله تعالى يفتح أبواب السماء عليهم ، قال (عليه السلام) مخاطباً قومه : {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} .
وفي هذا أسوة لك لمصلح إلهي ، فعليه أن يدخل من بابي التذكير بالنعم الموجودة ، ثم الوعد بالمزيد من النعم الذي هو رهن الرجوع الى الله .
3. الصلابة في الموقف ، وعدم التردد والمساومة مع الأعداء في القضايا الهامة التي تتصل بالمبدأ والعقيدة ، قال : {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} ، والسرّ في هذا الحزم هو قوله : {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، فهل يحسّ إذن بخوف أو وجل أو يشعر بضعف أو وهن ، وهو يثق بالخالق القادر المهيمن كلّ هذه الثقة ، ويطمئن الى وعده كلّ هذا الاطمئنان ؟ وهذا درس بليغ لكلّ المصلحين والعاملين في سبيل الله ، الذين قد تدفع بهم الضغوط الى المساومة مع الأعداء ، و التراجع عن مواقفهم الأساسية .
وما ذكرنا من خصائص ، لا تنحصر بهود (عليه السلام) ، بل هي بارزة في حياة كافة الأنبياء ، لا سيما النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله) الذي أمره الله أن يقول : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون : 1 ، 2] .
4. ان الغنى والثروة والقوة من نعم الله سبحانه ، التي يستوجب شكرُها استعمالها في ما يرضي الله تعالى ، واستثمارها في كلّ ما يعود على الفرد والمجتمع من خير ونفع ورُقيّ وتقدم .
وقد يُساء استعمال هذه النعم ، باتخاذها وسائل الى اللهو والعبث ، والاستغلال والاستعلاء على الآخرين واستعبادهم والبطش بهم .
ولا شكّ في ان مآل من يغترّ بها ويستكبر الى الهلاك والزوال والخسران المبين .
وصفحات التاريخ – القديم والحديث – مليئة بالشواهد على النهاية المأساوية للأُمم الطاغية (ومنهم قوم هود) . قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : " فاعتبروا بما أصاب الأُمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ، ووقائعه ومثُلاته ، واتعظوا بمثاوي خدودهم ، ومصارع جنوبهم " . (14)
_____________________
١. تاريخ اليعقوبي ، تاريخ ابن واضح الأخباري ، ط النجف الأشرف .
2. قصص الأنبياء : ٥١ .
3. انظر : الأعراف : ه٦؛ هود : ٥٠ ، ٥٣ ، ٥٨ ، ٨٩؛ الشعر : ؛ ١٢ .
4. انظر : الأعراف : ٤٥-٧٦؛ لتوبة : ٧٠؛هود : ٥٠- ٦٠ و٨٩؛إبراهيم : ٩؛ لحج : ٤٢؛ لفرقان : ٣٨؛ الشعراء : ١٢٣و١٢٤؛ العنكبوت : ٣٨؛ص : ١٢؛غافر : ٣١؛ فصلت : ١٣و١٥؛لأحقاف : ٢١؛ ق'١٣٠؛ الذاريات : ٤١؛ القمر : ١٨ : النجم : ٠ ه؛ الحاقة : ٤؛ الفجر : ٦ .
5. انظر مجمع البيان : ٤٨٦/٥ .
6. نقل محمود أبو رية عن الأستاذ محمد رشيد رضا أنه قال : إن شر رواة هذه الإسرائيليات أو أشدهم تلبيساً وخداعاً للمسلمين هذان الرجلان (يعني وهب وكعب الأحبار) . أضواء على السنة المحمدية :
7. الميزان : ٢٨٠/٢٠ .
8 . انظر الميزان في تفسير القرآن : ١٧٨/٨ .
9 . الميزان : ٢٨٠/٢٠ .
10. الشعراء : ١٣٧ . قال السيد الطباطبائي في تفسير هذه الآية : يمكن أنتكون الإشارة بهذا إلى ما هم فيه من الشرك وعبادة ا لآلهة من دون الله ابتداء بآبائهم الأولين كقولهم : {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .
11. البيت للشاعر الكبير بولس سلامة ، وهو أحد أبيات ملحمته الخالدة في أهل البيت (عليهم السلام) .
12. انظر : في ظلال القرآن : ٣٦/١٢(الطبعة الأولى) .
13. انظر : مفردات الراغب : مادة «صعق»؛ والميزان : ٣١٧/١١و٣٧٦/١٧ .
14. نهج البلاغة : 290 ، الخطبة 192 (وتسمى القاصعة) . العقوبات ، ومثاوي جمع مثوى : المنزل ، و المعنى . مواضع خدودهم من الأرض بعد الموت .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|