أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-03-2015
2638
التاريخ: 5-05-2015
2258
التاريخ: 2024-01-14
1908
التاريخ: 2024-01-28
1477
|
اعلم ان القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي عليه السلام ، بل هو من أكبر المعجزات وأشهرها. غير أن الكلام في إعجازه ، وجهة إعجازه ، واختلاف الناس فيه ، لا يليق بهذا الكتاب ، لأنه يتعلق بالكلام في الأصول. وقد ذكره علماء أهل التوحيد ، وأطنبوا فيه ، واستوفوه غاية الاستيفاء. وقد ذكرنا منه طرفاً صالحاً في شرح الجمل ، لا يليق بهذا الموضع ، لأن استيفاءه يخرج به عن الغرض واختصاره لا يأتي على المطلوب ، فالإحالة عليه أولى.
والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه ، وفنون أغراضه. وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به ايضاً ، لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها. والنقصان منه ، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى (ره) ، وهو الظاهر في الروايات غير أنه رويت روايات كثيرة ، من جهة الخاصة والعامة ، بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع الى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملا ، والأولى الاعراض عنها ، وترك التشاغل بها ، لأنه يمكن تأويلها. ولو صحت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين ، فان ذلك معلوم صحته ، لا يعترضه احد من الأمة ولا يدفعه.
ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسك بما فيه ، وردِّ ما يردُ من اختلاف الأخبار في الفروع اليه. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) رواية لا يدفعها احد ، انه قال : (اني مخلف فيكم الثقلين ، ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا : كتاب اللَّه ، وعترتي أهل بيتي ، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض).
وهذا يدل على انه موجود في كل عصر ، لأنه لا يجوز ان يأمر بالتمسك بما لا نقدر على التمسك به. كما أن اهل البيت ، ومن يجب اتباع قوله حاصل في كل وقت. وإذا كان الموجود بيننا مجمعاً على صحته ، فينبغي ان نتشاغل بتفسيره ، وبيان معانيه ونترك ما سواه.
واعلم ان الرواية ظاهرة في اخبار أصحابنا بأن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح عن النبي صلى اللَّه عليه وآله ، وعن الائمة عليهم السلام ، الذين قولهم حجة كقول النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ، وان القول فيه بالرأي لا يجوز.
وروى العامة ذلك عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)انه قال : (من فسر القرآن برأيه وأصاب الحق ، فقد اخطأ) وكره جماعة من التابعين وفقهاء المدينة القول في القرآن بالرأي : كسعيد بن المسيب وعبيدة السلماني ، ونافع ، ومحمد بن القاسم ، وسالم بن عبد اللَّه ، وغيرهم. وروي عن عائشة أنها قالت : لم يكن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)يفسر القرآن إلا بعد أن يأتي به جبرائيل (عليه السلام).
والذي نقول في ذلك : إنه لا يجوز ان يكون في كلام اللَّه تعالى وكلام نبيه تناقض وتضاد. وقد قال اللّه تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف : 3] وقال : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [الشعراء : 195] وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } [إبراهيم : 4] وقال : «فيه تبيان كل شيء» وقال : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 38] فكيف يجوز ان يصفه بانه عربي مبين ، وانه بلسان قومه ، وانه بيان للناس ولا يفهم بظاهره شيء؟ وهل ذلك إلا وصف له باللغز والمعمى الذي لا يفهم المراد به إلا بعد تفسيره وبيانه؟ وذلك منزه عنه القرآن. وقد مدح اللَّه أقواماً على استخراج معاني القرآن فقال : { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء : 83] , وقال في قوم يذمهم حيث لم يتدبروا القرآن ، ولم يتفكروا في معانيه : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24] وقال النبي (صلى الله عليه واله وسلم). (اني مخلف فيكم الثقلين : كتاب اللَّه ، وعترتي أهل بيتي)
فبين ان الكتاب حجة ، كما أن العترة حجة. وكيف يكون حجة ما لا يفهم به شيء؟
وروى عنه عليه السلام انه قال : (إذا جاءكم عني حديث ، فاعرضوه على كتاب اللَّه ، فما وافق كتاب اللَّه فاقبلوه ، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط).
وروي مثل ذلك عن أئمتنا عليهم السلام ، وكيف يمكن العرض على كتاب اللَّه ، وهو لا يفهم به شيء؟ وكل ذلك يدل على ان ظاهر هذه الاخبار متروك والذي نقول به : إن معاني القرآن على أربعة أقسام :
أحدها- ما اختص اللَّه تعالى بالعلم به ، فلا يجوز لأحد تكلف القول فيه ، ولا تعاطي معرفته ، وذلك مثل قوله تعالى : { سْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف : 187] الى آخرها. فتعاطي معرفة ما اختص اللّه تعالى به خطأ.
وثانيها- ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه ، فكل من عرف اللغة التي خوطب بها ، عرف معناها ، مثل قوله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] ومثل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] وغير ذلك.
وثالثها- ما هو مجمل لا ينبئ ظاهره عن المراد به مفصلا. مثل قوله تعالى : {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } [البقرة : 43] ومثل قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا } [آل عمران : 97] وقوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141] وقوله : { فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } [المعارج : 24] وما أشبه ذلك. فان تفصيل أعداد الصلاة وعدد ركعاتها ، وتفصيل مناسك الحج وشروطه ، ومقادير النصاب في الزكاة لا يمكن استخراجه إلا ببيان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ووحي من جهة اللَّه تعالى. فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه ، يمكن ان تكون الاخبار متناولة له.
ورابعها- ما كان اللفظ مشتركا بين معنيين فما زاد عنهما ، ويمكن ان يكون كل واحد منهما مراداً. فانه لا ينبغي أن يقدم احد به فيقول : ان مراد اللَّه فيه بعض ما يحتمل- إلا بقول نبي او امام معصوم- بل ينبغي ان يقول : ان الظاهر يحتمل لأمور ، وكل واحد يجوز أن يكون مراداً على التفصيل. واللَّه أعلم بما أراد.
ومتى كان اللفظ مشتركا بين شيئين ، أو ما زاد عليهما ، ودل الدليل على انه لا يجوز ان يريد إلا وجهاً واحداً ، جاز ان يقال : إنه هو المراد.
ومتى قسمنا هذه الأقسام ، نكون قد قبلنا هذه الاخبار ولم نردها على وجه يوحش نقلتها والمتمسكين بها ، ولا منعنا بذلك من الكلام في تأويل الآي جملة.
ولا ينبغي لأحد ان ينظر في تفسير آية لا ينبئ ظاهرها عن المراد تفصيلا ، أو يقلد أحداً من المفسرين ، إلا ان يكون التأويل مجمعاً عليه ، فيجب اتباعه لمكان الإجماع ، لأن من المفسرين من حمدت طرائقه ، ومدحت مذاهبه ، كابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد وغيرهم. ومنهم من ذمت مذاهبه ، كأبي صالح ، والسدي والكلبي وغيرهم. هذا في الطبقة الاولى.
وأما المتأخرون فكل واحد منهم نصر مذهبه ، وتأول على ما يطابق أصله ، ولا يجوز لأحد أن يقلد أحداً منهم ، بل ينبغي ان يرجع الى الادلة الصحيحة : إما العقلية ، أو الشرعية ، من اجماع عليه ، أو نقل متواتر به ، عمن يجب اتباع قوله ، ولا يقبل في ذلك خبر واحد ، خاصة إذا كان مما طريقه العلم ، ومتى كان التأويل يحتاج الى شاهد من اللغة ، فلا يقبل من الشاهد إلا ما كان معلوماً بين اهل اللغة ، شائعاً بينهم. وأما طريقة الآحاد من الروايات الشاردة ، والألفاظ النادرة ، فانه لا يقطع بذلك ، ولا يجعل شاهداً على كتاب اللَّه وينبغي أن يتوقف فيه ويذكر ما يحتمله ، ولا يقطع على المراد منه بعينه ، فانه متى قطع بالمراد كان مخطئاً ، وان أصاب الحق ، كما روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لأنه قال تخميناً وحدساً ولم يصدر ذلك عن حجة قاطعة. وذلك باطل بالاتفاق.
واعلموا ان العرف من مذهب أصحابنا والشائع من اخبارهم ورواياتهم ان القرآن نزل بحرف واحد ، على نبي واحد ، غير انهم اجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القراء وأن الإنسان مخير باي قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجويد قراءة بعينها بل أجازوا القراءة بالمجاز الذي يجوز بين القراء ولم يبلغوا بذلك حد التحريم والحظر.
وروى المخالفون لنا عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال : (نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف.) وفي بعضها : (على سبعة أبواب)
وكثرت في ذلك رواياتهم. ولا معنى للتشاغل بإيرادها. واختلفوا في تأويل الخبر ، فاختار قوم ان معناه على سبعة معان : أمر ، ونهي ، ووعد ، ووعيد ، وجدل ، وقصص ، وأمثال
وروى ابن مسعود عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) انه قال : (نزل القرآن على سبعة أحرف : زجر ، وأمر ، وحلال ، وحرام ، ومحكم ، ومتشابه ، وأمثال.)
وروى ابو قلامة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)انه قال : [نزل القرآن على سبعة أحرف :
أمر ، وزجر ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، وأمثال.]
وقال آخرون :
[نزل القرآن على سبعة أحرف.] أي سبع لغات مختلفة ، مما لا يغير حكما في تحليل وتحريم ، مثل. هلم. ويقال من لغات مختلفة ، ومعانيها مؤتلفة. وكانوا مخيرين في أول الإسلام في أن يقرءوا بما شاءوا منها. ثم اجمعوا على حدها ، فصار ما اجمعوا عليه مانعاً مما اعرضوا عنه. وقال آخرون : [نزل على سبع لغات من اللغات الفصيحة ، لأن القبائل بعضها افصح من بعض] وهو الذي اختاره الطبري . وقال بعضهم : [هي على سبعة أوجه من اللغات ، متفرقة في القرآن ، لأنه لا يوجد حرف قرئ على سبعة أوجه.] وقال بعضهم : [وجه الاختلاف في القراءات سبعة :
أولها- اختلاف اعراب الكلمة او حركة بنائها فلا يزيلها عن صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو قوله : { هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } [هود : 78] بالرفع والنصب { وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ : 17] بالنصب والنون وهل يجازى إلا الكفور؟ بالياء والرفع. وبالبخل والبخل والبخل برفع الباء ونصبها. وميسرة وميسرة بنصب السين ورفعها.
والثاني- الاختلاف في اعراب الكلمة وحركات بنائها مما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها في الكتابة مثل قوله : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [سبأ : 19] على الخبر.
ربنا باعد على الدعاء. {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور : 15] بالتشديد وتلقونه بكسر اللام والتخفيف .
والوجه الثالث - الاختلاف في حروف الكلمة دون اعرابها ، مما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو قوله تعالى : { كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [الفاتحة : 259] بالزاء المعجمة وبالراء الغير معجمة .
والرابع- الاختلاف في الكلمة مما يغير صورتها ولا يغير معناها نحو قوله :
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [الفاتحة : 29] والازقية. وكالصوف المنفوش و{كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة : 5] .
والخامس- الاختلاف في الكلمة مما يزيل صورتها ومعناها نحو { وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ } [الواقعة : 29] وطلع. {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ } [ق : 19] السادس- الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو قوله : { بِالْحَقِّ} [ق : 19] وجاءت سكرة الحق بالموت.
السابع- الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو قوله : وما عملت أيديهم وما عملته بإسقاط الهاء وإثباتها. ونحو قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [الحديد : 24] وان الله الغني الحميد. في سورة الحديد اية 24.
وهذا الخبر عندنا وان كان خبراً واحداً لا يجب العمل به فالوجه الأخير أصلح الوجوه على ما روي عنهم عليه السلام من جواز القراءة بما اختلف القراءة فيه.
و اما القول الأول فهو على ما تضمنته لأن تأويل القرآن لا يخرج عن احد الأقسام السبعة : إما أمر. او نهي. او وعد. او وعيد. او خبر. او قصص. او مثل. وهو الذي ذكره أصحابنا في اقسام تفسير القرآن.
فاما ما روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم)انه قال : [ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن.]
وقد رواه ايضاً أصحابنا عن الائمة عليهم السلام فانه يحتمل ذلك وجوها :
أحدها- ما روي في أخبارنا عن الصادقين عليهما السلام. وحكي ذلك عن أبي عبيدة أن المراد بذلك القصص بإخبار هلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين.
والثاني- ما حكي عن ابن مسعود انه قال : [ما من آية إلا وقد عمل بها قوم ولها قوم يعملون بها.] والثالث- معناها أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها ذكره الطبري واختاره البلخي والرابع- ما قاله الحسن البصري : [انك إذا فتشت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها] وجميع اقسام القرآن لا يخلو من ستة : محكم. ومتشابه وناسخ. ومنسوخ. وخاص. وعام.
فالمحكم ما انبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار امر ينضم اليه سواء كان اللفظ لغويا او عرفيا. ولا يحتاج الى ضروب من التأويل. وذلك نحو قوله :
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة : 286] وقوله : { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام : 151] وقوله : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص : 1] وقوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص : 3 ، 4] وقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت : 46] وقوله { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56] ونظائر ذلك.
والمتشابه ما كان المراد به لا يعرف بظاهره بل يحتاج الى دليل وذلك ما كان محتملا لأمور كثيرة أو أمرين ولا يجوز ان يكون الجميع مراداً فانه من باب المتشابه. وانما سمي متشابها لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد وذلك نحو قوله : { يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [الزمر : 56] وقوله : { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر : 67] وقوله : {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر : 14] وقوله { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } [الفاتحة : 27] وقوله : { فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد : 23]
وطبع على قلوبهم» ونظائر ذلك من الآي التي المراد منها غير ظاهرها. فان قيل : هلا كان القرآن كله محكماً يستغنى بظاهره عن تكلف ما يدل على المراد منه حتى دخل على كثير من المخالفين للحق شبهة فيه وتمسكوا بظاهره على ما يعتقدونه من الباطل؟ أ تقولون إن ذلك لم يكن مقدوراً له تعالى ؟ فهذا هو القول بتعجيزه ! أو تقولون هو مقدور له ولم يفعل ذلك فلم لم يفعله؟ قيل الجواب على ذلك من وجهين :
أحدهما- ان خطاب اللَّه تعالى- مع ما فيه من الفوائد- المصلحة معتبرة في ألفاظه فلا يمتنع أن تكون المصلحة الدينية تعلقت بان يستعمل الألفاظ المحتملة ويجعل الطريق الى معرفة المراد به ضرباً من الاستدلال ولهذه العلة أطال في موضع وأسهب واختصر في آخر وأوجز واقتصر وذكر قصة في موضع وأعادها في موضع آخر.
واختلفت أيضاً مقادير الفصاحة فيه وتفاضلت مواضع منه بعضه على بعض والجواب الثاني : ان اللّه تعالى انما خلق عباده تعريضاً لثوابه وكلفهم لينالوا على المراتب وأشرفها ولو كان القرآن كله محكماً لا يحتمل التأويل ولا يمكن فيه الاختلاف لسقطت المحنة وبطل التفاضل وتساوت المنازل ولم تَبِن منزله العلماء من غيرهم. وانزل اللَّه القرآن بعضه متشابهاً ليعمل أهل العقل افكارهم ويتوصلوا بتكلف المشاق والنظر والاستدلال الى فهم المراد فيستحقوا به عظيم المنزلة وعالي الرتبة.
فان قيل : كيف تقولون ، ان القرآن فيه محكم ومتشابه ، وقد وصفه اللَّه تعالى بأنه اجمع محكم؟ ووصفه في مواضع أخر بأنه متشابه وذكر في موضع آخر ان بعضه محكم ، وبعضه متشابه- كما زعمتم- وذلك نحو قوله : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } [هود : 1] وقال في موضع آخر : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا } [الزمر : 23]. وقال في موضع آخر : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [آل عمران : 7] وهل هذا إلا ظاهر التناقض؟
قلنا : لا تناقض في ذلك ، لأن وصفه بأنه محكم كله ، المراد به انه بحيث لا يتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض ، بل لا شيء منه إلا وهو في غاية الأحكام- إما بظاهره او بدليله ، على وجه لا مجال للطاعنين عليه. ووصفه بانه متشابه أنه يشبه بعضه بعضاً في باب الأحكام الذي أشرنا اليه ، وأنه لا خلل فيه ولا تباين ولا تضاد ولا تناقض. ووصفه بان بعضه محكم ، وبعضه متشابه ما أشرنا اليه ، من ان بعضه ما يفهم المراد بظاهره فيسمى محكماً ومنه ما يشتبه المراد منه بغيره وان كان على المراد والحق منه دليل فلا تناقض في ذلك بحال.
واما الناسخ فهو كل دليل شرعي يدل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الأول في المستقبل على وجه لولاه لكان ثابتاً بالنص الاول مع تراخيه عنه. اعتبرنا دليل الشرع لأن دليل العقل إذا دل على زوال مثل الحكم الثابت بالنص الاول لا يسمى نسخاً. ألا ترى أن المكلف للعبادات ، إذا عجز أو زال عقله ، زالت عنه العبادة بحكم العقل ، ولا يسمى ذلك الدليل ناسخاً؟ واعتبرنا زوال مثل الحكم ، ولم نعتبر الحكم نفسه لأنه لا يجوز أن ينسخ نفس ما أمر به ، لأن ذلك يؤدي الى البداء. وانما اعتبرنا أن يكون الحكم ثابتاً بنص شرعي ، لأن ما ثبت بالعقل إذا أزاله الشرع لا يسمى بأنه نسخ حكم العقل. ألا ترى أن الصلاة والطواف لولا الشرع لكان قبيحاً فعله في العقل وإذا ورد الشرع بهما لا يقال نسخ حكم العقل؟ واعتبرنا مع تراخيه عنه لأن ما يقترن به لا يسمى نسخاً وربما يكون تخصيصاً ان كان اللفظ عاماً او مقيداً ان كان اللفظ خاصاً. ألا ترى أنه لو قال : اقتلوا المشركين الا اليهود لم يكن قوله إلا اليهود نسخاً لقوله اقتلوا المشركين ؟
وكذا لو قال : فسيحوا في الأرض اربعة أشهر فقيد بهذه الغاية لا يقال لما بعدها نسخ. وكذا لما قال في آية الزنا : { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [النور : 2] لا يقال لما زاد عليه منسوخ لأنه مقيد في اللفظ.
والنسخ يصح دخوله في الامر والنهي بلا خلاف. والخبر ان تناول ما يصح تغييره عن صفة جاز دخول النسخ فيه لأنه في معنى الأمر. ألا ترى أن قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران : 97] خبر؟ وقوله : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة : 228] أيضاً خبر؟ وكذلك قوله : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } [آل عمران : 97] خبر ومع ذلك يصح دخول النسخ فيه فاما ما لا يصح تغييره عن صفة فلا يصح دخول النسخ فيه ، نحو الاخبار عن صفات اللّه تعالى ، وصفات الأجناس - لما يصح عليه التغيير ، لم يصح فيه النسخ حيث أن العبارة بالأخبار عنه بأنه قادر ، عالم ، سميع بصير ، لا يصح النسخ فيه ، لأنه يمتنع دخول النسخ في الاخبار- ان كان الخبر لا يصح تغييره في نفسه.
ولا يخلو النسخ في القرآن من أقسام ثلاثة :
أحدها- نسخ حكمه دون لفظه - كآية العدة في المتوفى عنها زوجها المتضمنة للسنة [سورة البقرة. آية 240] فان الحكم منسوخ والتلاوة باقية. وكآية النجوى [ سورة المجادلة. آية 12] وآية وجوب ثبات الواحد للعشرة [سورة الانفال. آية 65]. فان الحكم مرتفع ، والتلاوة باقية. وهذا يبطل قول من منع جواز النسخ في القرآن لأن الموجود بخلافه.
والثاني- ما نسخ لفظه دون حكمه ، كآية الرجم فان وجوب الرجم على المحصنة لا خلاف فيه ، والآية التي كانت متضمنة له منسوخة بلا خلاف وهي قوله : (و الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، فإنهما قضيا الشهوة جزاء بما كسبا نكالا من اللَّه واللّه عزيز حكيم.)
الثالث - ما نسخ لفظه وحكمه ، وذلك نحو ما رواه المخالفون من عائشة : أنه كان فيما أنزل اللَّه ان عشر رضعات تحرمن ، ونسخ ذلك بخمس عشرة فنسخت التلاوة والحكم.
وأما الكلام في شرائط النسخ ، فما يصح منها وما لا يصح وما يصح أن ينسخ به القرآن ، وما لا يصح أن ينسخ به. وقد ذكرناه في كتاب العدة- في اصول الفقه- ولا يليق ذلك بهذا المكان.
وحكى البلخي في كتاب التفسير فقال : (قال قوم- ليسوا ممن يعتبرون ولكنهم من الأمة على حال- ان الأئمة المنصوص عليهم- بزعمهم - مفوض اليهم نسخ القرآن وتدبيره ، وتجاوز بعضهم حتى خرج من الدين بقوله : ان النسخ قد يجوز على وجه البداء وهو أن يأمر اللَّه عز وجل عندهم بالشيء ولا يبدو له ، ثم يبدو له فيغيره ، ولا يريد في وقت أمره به أن يغيره هو ويبدله وينسخه ، لأنه عندهم لا يعلم الشيء حتى يكون ، إلا ما يقدره فيعلمه علم تقدير ، وتعجرفوا فزعموا ان ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة) وأظن انه عنى بهذا أصحابنا الإمامية ، لأنه ليس في الأمة من يقول بالنص على الأئمة عليهم السلام سواهم. فان كان عناهم فجميع ما حكاه عنهم باطل وكذب عليهم ، لأنهم لا يجيزون النسخ على أحد من الأئمة (عليهم السلام) ولا احد منهم يقول بحدوث العلم. وانما يحكى عن بعض من تقدم من شيوخ المعتزلة- كالنظام والجاحظ وغيرهما- وذلك باطل. وكذلك لا يقولون : ان المتأخر ينسخ المتقدم إلا بالشرط الذي يقوله جميع من أجاز النسخ ، وهو ان يكون بينهما تضاد وتناف لا يمكن الجمع بينهما ، واما على خلاف ذلك فلا يقوله محصل منهم.
والوجه في تكرير القصة بعد القصة في القرآن ، أن رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) كان يبعث الى القبائل المتفرقة بالسور المختلفة فلو لم تكن الأنباء والقصص مكررة ، لوقعت قصة موسى الى قوم وقصة عيسى الى قوم ، وقصة نوح الى قوم آخرين ، فأراد اللَّه بلطفه ورحمته أن يشهر هذه القصص في أطراف الأرض ويلقيها في كل سمع ، ويثبتها في كل قلب ، ويزيد الحاضرين في الافهام وتكرار الكلام من جنس واحد ، وبعضه يجري على بعض ، كتكراره في : {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون : 1] ، وسورة المرسلات ، والرحمن فالوجه فيه ، ان القرآن نزل بلسان القوم ، ومذهبهم في التكرار- ارادة للتوكيد وزيادة في الافهام- معروف كما ان من مذهبهم الإيجاز والاختصار ارادة للتخفيف. وذلك أن افتنان المتكلم والخطيب في الفنون ، وخروجه من شيء الى شيء ، أحسن من اقتصاره من المقام على فن واحد. وقد يقول القائل : واللَّه لأفعله ثم واللَّه لأفعله ، إذا أراد التوكيد كما يقول : افعله بحذف اللام إذا أراد الإيجاز. قال اللَّه تعالى : { كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [التكاثر : 3 ، 4] وقال : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 5 ، 6] وقال اللَّه تعالى : {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة : 34 ، 35] وقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } [الانفطار : 17 ، 18] كل هذا يراد به التوكيد. وقد يقول القائل لغيره : اعجل اعجل وللرامي ارم ارم قال الشاعر :
كم نعمةٍ كانت لكم |
كم كم وكم |
|
وقال آخر :
هلا سألت جموع كن |
دة يوم ولوا اين أينا |
|
وقال عوف بن الخزرج :
وكادت فزارةُ تَصلى بنا |
فأولى فزار فأولى فزار |
|
فاما تكرار معنى واحد بلفظين مختلفين ، كقوله : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [الفاتحة : 1] وقوله : { نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } [الزخرف : 80] والنجوى هو السر ، فالوجه فيه ما ذكرنا من ان عادة القوم ، تكرير المعنى بلفظين مختلفين ، اتساعاً في اللغة ، كقول الشاعر.
كذباً ومينا. وهما بمعنى واحد وقول الآخر :
لمياء في شفتيها حوة لعس |
وفي اللثات وفي أنيابها شنب |
|
واللمي : سواد في الشفتين. والحوة. واللعس كلاهما سواد في الشفتين وكرر لاختلاف اللفظ. والشنب : تحزز في الأنياب كالمنشار ، وهو نعت لها. ورحمن ورحيم ، سنبين القول فيهما فيما بعد. وقوله : { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم : 54] وقوله : { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه : 78] وقوله : {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الفاتحة : 38] على ما قلناه من التوكيد ، كما يقول القائل : كلمته بلساني ، ونظرت اليه بعيني ، ويقال بين زيد وبين عمرو ، وانما البين واحد. والمراد بين زيد وعمرو. وقال الشاعر أوس بن الحجر :
ألم تكسف الشمس شمس النها |
رمع النجم والقمر الواجب) 1) |
|
والشمس لا تكون إلا بالنهار ، فأكد.
ذكرنا هذه الجملة تنبيهاً عن الجواب عما لم نذكره ، ولعلنا نستوفيه فيما بعد إذا جرى ما يقتضي ذكره ولو لا عناد الملحدين ، وتعجرفهم ، لما احتيج الى الاحتجاج بالشعر وغيره للشيء المشتبه في القرآن ، لأن غاية ذلك أن يستشهد عليه ببيت شعر جاهلي ، او لفظ منقول عن بعض الاعراب ، أو مثل سائر عن بعض أهل البادية. ولا تكون منزلة النبي (صلى الله عليه واله وسلم)- وحاشاه من ذلك- أقل من منزلة واحد من هؤلاء. ولا ينقص عن رتبة النابغة الجعدي ، وزهير بن الكعب وغيرهم. ومن طرائف الأمور ان المخالف إذا أورد عليه شعر من ذكرناه ، ومن هو دونهم سكنت نفسه ، واطمأن قلبه. وهو لا يرضى بقول محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب. ومهما شك الناس في نبوته ، فلا مرية في نسبه ، وفصاحته ، فانه نشأ بين قومه الذين هم الغاية القصوى في الفصاحة ، ويرجع اليهم في معرفة اللغة. ولو كان المشركون من قريش وغيرهم وجدوا متعلقاً عليه في اللحن والغلط والمناقضة ، لتعلقوا به ، وجعلوه حجة وذريعة الى إطفاء نوره وإبطال أمره ، واستغنوا بذلك عن تكلف ما تكلفوه من المشاق في بذل النفوس والأموال. ولو فعلوا ذلك لظهر واشتهر ، ولكن حب الإلحاد والاستثقال لتحمل العبادات ، والميل الى الفواحش أعماهم وأصمهم ، فلا يدفع أحد من الملحدين- وان جحدوا نبوته (صلى الله عليه واله وسلم)- انه اتى بهذا القرآن ، وجعله حجةً لنفسه ، وقرأه على العرب. وقد علمنا انه ليس بأدون الجماعة في الفصاحة. وكيف يجوز ان يحتج بشعر الشعراء عليه ، ولا يجوز أن يحتج بقوله عليهم وهل هذا إلا عناد محض ، وعصبية صرف؟ وانما يحتج علماء الموحدين بشعر الشعراء وكلام البلغاء ، اتساعاً في العلم ، وقطعاً للشغب ، وازاحه للعلة ، وإلا فكان يجب ألا يلتفت الى جميع ما يطعن عليه ، لأنهم ليسوا بان يجعلوا عياراً عليه بأولى من ان يجعل هو عليه السلام عياراً عليهم.
وروي عن ابن مسعود ، انه قال : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن.) وروي انه استعمل علي (عليه السلام) عبد اللَّه بن العباس على الحج فخطب خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا.
ثم قرأ عليهم سورة النور- وروي سورة البقرة- ففسرها. فقال رجل : (لو سمعت هذا الديلم لأسلمت) ويروى عن سعيد بن الجبير ، انه من قرأ القرآن ثم لم يفسره كان كالاعجمي أو الاعرابي.
______________
( 1) الواجب : الغائب
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|