إن علمي المعاني والبيان من أبرز العلوم التي يحتاج اليها المفسر فلا يستطيع الوصول الى المعنى القرآن إلا بإتقان هذين العلمين لكي يبقى النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع فيه التحدي يكون سليما من القدح [1]
تعريف البلاغة: هي وضع الألفاظ في موضعها المناسب من البيان حسب مقتضيات الخطاب سوآء كانت تلك الألفاظ طويلة أم قصيرة ليكون الكلام موجزا.
1- علم المعاني: هي أصول وقواعد تعرف من خلالها حالات اللفظ العربي التي بها يطابق اللفظ مقتضى الحال. [2]
2- علم البيان: هي أصول وقواعد يعرف بها إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة وخفائها على ذلك المعنى [3] وهما ركنا البلاغة الأساسيان.
1- أسلوب المجاز: المجاز: هو من جاز الشيء إذا تعداه وهو العدول باللفظ عما يوجبه أصل اللغة الى معنى آخر لزيادة الفائدة (أي أجازوا بالمعنى عن موضعه الأصلي الى موضع آخر لزيادة وضوح المعنى).
أو المجاز: بعبارة أخرى هو إستعمال اللفظ في غير موضعه. (ولا بد للمفسر من الوقوف على الدقائق التي تعينه على معرفة المعاني في الخطاب القرآني واستبيان كنوز القرآن الكريم وأسراره وإن المجاز أبدا أبلغ من الحقيقة) [4]. مثال على المجاز في القرآن: قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشۡتَرَىٰ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَنفُسَهُمۡ وَأَمۡوَٰلَهُم بِأَنَّ لَهُمُ ٱلۡجَنَّةَۚ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَيَقۡتُلُونَ وَيُقۡتَلُونَۖ وَعۡدًا عَلَيۡهِ حَقّٗا فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ وَٱلۡقُرۡءَانِۚ وَمَنۡ أَوۡفَىٰ بِعَهۡدِهِۦ مِنَ ٱللَّهِۚ فَٱسۡتَبۡشِرُواْ بِبَيۡعِكُمُ ٱلَّذِي بَايَعۡتُم بِهِۦۚ وَذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ } [التوبة: 111] فهذه الآية الكريمة على سبيل المجاز لأن المشتري في الحقيقة هو الذي يشتري مالا يملك والله تعالى مالك أنفسنا وأموالنا فسماه شراءا فأجرى لفظه مجرى ما لا يملكه إستدعاء للثواب وترغيبا فيه. [5]
مثال آخر:
قال تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ } [يونس: 67] هذا من المجاز لأن النهار غير مبصر وهذا من قبيل توصيف السبب بأوصاف المسبب كما يقال ليل نائم في حين أن الليل لا ينام بل هو سبب لنوم الناس خلاله. مثال آخر على المجاز قال تعالى: {وَيَوۡمَ نَحۡشُرُهُمۡ جَمِيعٗا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشۡرَكُواْ مَكَانَكُمۡ أَنتُمۡ وَشُرَكَآؤُكُمۡۚ فَزَيَّلۡنَا بَيۡنَهُمۡۖ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمۡ إِيَّانَا تَعۡبُدُونَ} [يونس: 28] وهذا مجاز عن برآءة ما عبدوه من عبادتهم فانما عبدوا في الحقيقة أهوائهم لأنها الأمرة بالشرك وليس الذي أشركوا به.
مثال آخر على المجاز قال تعالى: {أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ} [التوبة: 109] الجرف الهار مجازا عن الباطل والمعنى فهوى به الباطل في نار جهنم فكان المبطل أسس بنيانه على حافة جهنم فسقط به الى قعرها. مثال آخر على المجاز قال تعالى: {كَلَّآۖ إِنَّهَا لَظَىٰ 15 نَزَّاعَةٗ لِّلشَّوَىٰ 16 تَدۡعُواْ مَنۡ أَدۡبَرَ وَتَوَلَّىٰ} [المعارج: 15-17].
فإن الدعاء من النار مجاز. مثال آخر على المجاز قال تعالى: {حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ} [محمد: 4] يعني حتى تنتهي الحرب وهذا من المجاز.
وقوله تعالى: {تُؤۡتِيٓ أُكُلَهَا كُلَّ حِينِۭ بِإِذۡنِ رَبِّهَاۗ } [إبراهيم: 25] أي أنها دائمة الثمر الجاهز للأكل طيلة العام وهذا من المجاز. وقال تعالى: {فَأُمُّهُۥ هَاوِيَةٞ } [القارعة: 9] وإسم الأم الهاوية مجازا أي كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له كذلك النار مأوى ومرجع للكافرين. وقال تعالى: {يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ قَدۡ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكُمۡ لِبَاسٗا يُوَٰرِي سَوۡءَٰتِكُمۡ} [الأعراف: 26] فإن النازل عليهم ليس هو نفس اللباس بل الماء المنبت للزرع والمتخذ منه الغزل الذي ينسج منه اللباس وهذا من دقائق المجاز.
2- أسلوب الاستعارة:
الاستعارة: هي نقل المعنى من لفظ واستحداث معنى جديد في اللفظ بحيث تكون الكلمة ذات دلالة جديدة غير الكلمة الأصلية لزيادة الفائدة في الاستعال الجديد لم تكن ظاهرة المعنى في الاستعمال الحقيقي. [6]
مثال قال تعالى: {إِذَآ أُلۡقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقٗا وَهِيَ تَفُورُ 7 تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ ٱلۡغَيۡظِۖ كُلَّمَآ أُلۡقِيَ فِيهَا فَوۡجٞ سَأَلَهُمۡ خَزَنَتُهَآ أَلَمۡ يَأۡتِكُمۡ نَذِيرٞ} [الملك: 7-8]
فحقيقة الشهيق هو الصوت الفظيع وهما لفظان والشهيق لفظ واحد فهو أوجز بالإضافة الى مافيه من زيادة البيان تميز بمعنى تتشقق من غير تباين والاستعارة أبلغ لأن التميز في الشيء هو أن يكون كل نوع منه مختلف عن غيره وهو أبلغ من التشقق لأن التشقق قد يحصل في الشيء من غير اختلاف. أما لفظة الغيظ فمعناها شدة الغليان وإنما ذكر الغيظ لأن مقدار شدته معروف ومحسوس وأن العقاب الإلهي يقع على قدره ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه حقيقة أخرى مطلقا.
ولذلك فإن الاستعارة قد حققت في الألفاظ الثلاثة: (الشهيق تميز الغيظ) دلالة لا يمكن معرفتها في ألفاظها الحقيقية الموضوعة لها في أصل اللغة. وفي هذا التعبير المستعار صوت نار جهنم بصورة هائلة لو تخيلها السامع إزداد منها رعبا وملئ منها فزعا وكأنها مخلوق ذو قوة وبطش شديد. [7]
مثال على الاستعارة قال تعالى: {وَإِذۡ يَعِدُكُمُ ٱللَّهُ إِحۡدَى ٱلطَّآئِفَتَيۡنِ أَنَّهَا لَكُمۡ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَٰتِهِۦ وَيَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَٰفِرِينَ} [الأنفال: 7] إستعار لفظ الشوكة ليدل به على القوة. مثال على الاستعارة قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا } [الإسراء: 13] إن الطائر إستعارة عن عمل الانسان في الدنيا. مثال آخر على الاستعارة قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنۡ حَيۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ} [البقرة: 199] لأن أصل الافاضة تعني الصبر ولكنها إستعيرة بمعنى الاندفاع في السير. مثال أخر على الاستعارة قال تعالى: {وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ} [آل عمران: 103] ومعناه الزموا دين الله وهو الإسلام لأن التمسك فيه سبب النجاة من السقوط والموت كما إن التمسك بالحبل سلامة من السقوط والموت. مثال آخر قال تعالى: {وَٱلصُّبۡحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] إستعير خروج النفس شيئا فشيئا عن خروج النور في المشرق عند إنشقاق الفجر قليلا قليلا على وجه التدرج.
وكما في قوله تعالى: {وَءَايَةٞ لَّهُمُ ٱلَّيۡلُ نَسۡلَخُ مِنۡهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظۡلِمُونَ} [يس: 37] (1) فاستعير عن ظهور النهار بالسلخ من الليل كما تسلخ الذبيحة من جلدها شيئا فشيئا. مثال آخر على الاستعارة قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّي وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَيۡبٗا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّٗا} [مريم: 4] (2).
فالمستعار منه هو النار والمستعار هو الشيب والوجه هو أن الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب وكل ذلك محسوس وهو أبلغ مما لو قيل واشتعل شيب الرأس لانه يفيد عموم الشيب لجميع الرأس.
مثال آخر قال تعالى: {فَٱصۡدَعۡ بِمَا تُؤۡمَرُ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِينَ } [الحجر: 94] (3) هذه استعارة موجزة ولكنها تنطوي على معاني كثيرة. المستعار منه كسر الزجاجة والمستعار له التبليغ الجامع التام ومعناه أظهر الأمر إظهار لا عودة كما لا يعود كسر الزجاجة الى الالتحام.
3- أسلوب الكناية:
الكناية: هي أن تتكلم عن شيء وتريد به غيره. [8]
أو هي لفظ يراد به غير معانه الذي وضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي مثل الجماع والغائط والرفث وغيرها. [9]
أسباب وجود الكناية في القرآن:
1- التنبيه على عظيم القدر للمتحدث عنه مثل قوله تعالى: {هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٖ ثُمَّ قَضَىٰٓ أَجَلٗاۖ وَأَجَلٞ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ} [الأنعام: 2]
كناية عن آدم لأن بني آدم لم يخلقوا من الطين.
2- ترك اللفظ الى ماهو أجمل منه مثل (الرفث كناية عن الجماع).
3- أن يكون التصريح مما يستقبح ذكره مثل الكناية عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول كقوله تعالى: {أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ} [المائدة: 6]
4- قصد البلاغة والمبالغة مثل قوله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّؤُاْ فِي ٱلۡحِلۡيَةِ وَهُوَ فِي ٱلۡخِصَامِ غَيۡرُ مُبِينٖ} [الزخرف: 18]
حيث كنى عن النساء بأنهن ينشغلن في الحلية والترافة والتزين عن النظر في دقائق الأمور والمخاصمات العظيمة ولو جاء بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد به نفي ذلك عن الملائكة.
مثال آخر قال تعالى: {بَلۡ يَدَاهُ مَبۡسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] كناية عن سعة جوده وكرمه تبارك وتعالى.
5- بقصد الاختصار كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل مثل قوله تعالى: {فَإِن لَّمۡ تَفۡعَلُواْ وَلَن تَفۡعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُۖ أُعِدَّتۡ لِلۡكَٰفِرِينَ} [البقرة: 24] أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله لا تستطيعون الاتيان بكله.
6- التنبيه عن مصير شيء مثل قوله تعالى في سورة المسد: {تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ 1 مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ 2 سَيَصۡلَىٰ نَارٗا ذَاتَ لَهَبٖ 3 وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ 4 فِي جِيدِهَا حَبۡلٞ مِّن مَّسَدِۭ} [المسد: 1-5]
أي إن مصير أبي لهب الى جهنم وكذلك زوجته فهي نمامه مصيرها حطب جهنم وفي جيدها غل. وتنقسم الكناية على أربعة أقسام:
1- التعريض 2- التلويح 3- الرمز. 4- الايماء. [10]
مثال في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ وَإِن كُنتُمۡ جُنُبٗا فَٱطَّهَّرُواْۚ وَإِن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجۡعَلَ عَلَيۡكُم مِّنۡ حَرَجٖ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمۡ وَلِيُتِمَّ نِعۡمَتَهُۥ عَلَيۡكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} [المائدة: 6]
فإن قوله تعالى: (لامستم) تعني الجماع ويؤكد ذلك قوله تعالى على لسان مريم: {قَالَتۡ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَلَمۡ يَمۡسَسۡنِي بَشَرٞ وَلَمۡ أَكُ بَغِيّٗا} [مريم: 20] وهذا ما أجمع عليه مفسر والإمامية وما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير هذا المقطع من الآية الكريمة. [11]
فإذن الكناية من ألطف أساليب البلاغة وأدقها لأن الانتقال فيها يكون من الملزوم الى اللازم.
مثال آخر على أسلوب الكناية قوله تعالى: {كَذَٰلِكَ سَلَكۡنَٰهُ فِي قُلُوبِ ٱلۡمُجۡرِمِينَ} [الشعراء: 200] أي أدخلنا القرآن في قلوب الكفار لإتمام الحجة عليهم. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَٰهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةٖ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُۥٓ أَنَّهُۥ عَدُوّٞ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ لَأَوَّٰهٌ حَلِيمٞ} [التوبة: 114] أي كان التأوه وهو كناية عن الرحمة ورقة القلب وكثرة الدعاء. مثال آخر على الكناية قال تعالى: {حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَطۡلِعَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَطۡلُعُ عَلَىٰ قَوۡمٖ لَّمۡ نَجۡعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتۡرٗا} [الكهف: 90] في هذا النص كناية عن إن حياة هؤلاء الناس كانت بدائية جدا ولا يملكون سوى القليل من ما يستر أجسامهم والذي لا يكفي لتغطية أبدانهم من الشمس. التعريض: هو أن تذكر شيء تدل به على شي لم تذكره. مثل قوله تعالى: {قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63] نسب الفعل الى كبير الأصنام المتخذة آلهة كأنه غضب أن تعبد الأصنام مع الله تلويحا لعابدها بأنها لا تصلح أن تكون آله.
مثال آخر على التعريض قال تعالى: {أَفَمَن يَعۡلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ مِن رَّبِّكَ ٱلۡحَقُّ كَمَنۡ هُوَ أَعۡمَىٰٓۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ} [الرعد: 19] فإنه تعريض بذم الكفار وأنهم في حكم البهائم الذين لا يتذكرون. التلويح: هو أن المتكلم يؤشر فيه للسامع بما يريده كما في قوله تعالى: {قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِيرُهُمۡ هَٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُواْ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 63] لان غرض المتكلم بـ فسئلوهم هو الاستهزاء بهم وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سألوا ولم يرد بقوله (فعله كبير هم هذا) نسبة الفعل الصادر عنه الى الصنم فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.
4- أسلوب التقديم والتأخير: وهو أحد أساليب البلاغة التي تؤدي المعنى وتوصله الى قلب السامع إذ أن للكلام البليغ في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق .
أسباب وجود التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 1- التبرك مثل تقديم لفظ الجلالة (الله) في الأمور ذات الشأن العظيم مثل قوله تعالى: {شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلۡعِلۡمِ قَآئِمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
2- التعليم مثل قوله تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا } [الأحزاب: 56] (1) 3- التشريف مثل تقديم الذكر على الأنثى كقوله تعالى: {إِنَّ ٱلۡمُسۡلِمِينَ وَٱلۡمُسۡلِمَٰتِ وَٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡقَٰنِتِينَ وَٱلۡقَٰنِتَٰتِ وَٱلصَّٰدِقِينَ وَٱلصَّٰدِقَٰتِ وَٱلصَّٰبِرِينَ وَٱلصَّٰبِرَٰتِ وَٱلۡخَٰشِعِينَ وَٱلۡخَٰشِعَٰتِ وَٱلۡمُتَصَدِّقِينَ وَٱلۡمُتَصَدِّقَٰتِ وَٱلصَّٰٓئِمِينَ وَٱلصَّٰٓئِمَٰتِ وَٱلۡحَٰفِظِينَ فُرُوجَهُمۡ وَٱلۡحَٰفِظَٰتِ وَٱلذَّٰكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرٗا وَٱلذَّٰكِرَٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمٗا} [الأحزاب: 35]
وكذلك تقديم الحر على العبد كقوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِي ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ} [البقرة: 178] وتقديم الحي على الميت كقوله تعالى: {يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ} [الأنعام: 95] ومنه تقديم النبي على نوح عليه السلام في قوله تعالى: {وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مِيثَٰقَهُمۡ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٖ وَإِبۡرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ٱبۡنِ مَرۡيَمَۖ وَأَخَذۡنَا مِنۡهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظٗا} [الأحزاب: 7]
سؤال/ لماذا قدم الأنعام على الناس في قوله تعالى: {أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّا نَسُوقُ ٱلۡمَآءَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡجُرُزِ فَنُخۡرِجُ بِهِۦ زَرۡعٗا تَأۡكُلُ مِنۡهُ أَنۡعَٰمُهُمۡ وَأَنفُسُهُمۡۚ أَفَلَا يُبۡصِرُونَ} [السجدة: 27] ؟ الجواب/ لأنه تقدم ذكر الزرع وهذا يناسب تقديم الأنعام بموجب سياق النص فقدم الأنعام على الأنفس.
4- المناسبات وذلك لمناسبة المتقدم لسياق الكلام مثل قوله تعالى: {وَلَكُمۡ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسۡرَحُونَ } [النحل: 6] فإن الجمال وان كان ثابت في حال الإستراحه والسراح إلا أنها في حالة إراحتها وهو مجيئها من المرعى يكون الجمال بها أحسن لأنها تكون شبعة ومتلئت أجوافها.
5- الحث على الشيء والقيام به حذرا من التهاون به كتقديم الوصية على الدين في قوله تعالى: {مِنۢ بَعۡدِ وَصِيَّةٖ يُوصِي بِهَآ أَوۡ دَيۡنٍۗ} [النساء: 11] مع إن الدين مقدم على الوصية شرعا.
6- السبق: وهو إما في الزمان بسبب الايجاد كتقديم الليل على النهار والظلمات على النور وآدم على نوح والأزواج على الذرية. والسنة على النوم في قوله: {لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ} [البقرة: 255]
وذلك لأن من عادة العرب الفصحاء أنهم إنا يبتدئون من الأهم والأولى. وفي قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّأَزۡوَٰجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ يُدۡنِينَ عَلَيۡهِنَّ مِن جَلَٰبِيبِهِنَّۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَن يُعۡرَفۡنَ فَلَا يُؤۡذَيۡنَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} [الأحزاب: 59] فإن البنات أفضل من الأزواج ومع ذلك فقد قدمهن في الكلام لأن الأزواج أسبق بالزمان إلا أن البنات أفضل منهن لأنهن بضعة من الانسان كما روي عن النبي : فاطمة بضعة مني [12] فهذا التقديم من باب السبق بالزمان والايجاد وليس تقديم الأفضلية.
7-السبيبة: مثل تقديم العزيز على الحكيم لأنه عز فحكم والعليم على الحكيم لأن الاحكام والاتقان ناشئ عن العلم. 8- الكثرة: مثل قوله تعالى: {فَمِنكُمۡ كَافِرٞ وَمِنكُم مُّؤۡمِنٞۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2] لأن الكفار أكثر من المؤمنين. وقوله تعالى: {فَمِنۡهُمۡ ظَالِمٞ لِّنَفۡسِهِۦ} [فاطر: 32] قدم الظالم لنفسه لكثرته. في حين أشار الى تقديم الأزواج في قوله تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} [التغابن: 14] وهذا من باب التغليب والكثرة حيث أن وقوع العداوة من الأزواج أكثر وأغلب من وقوعه من الأولاد فقدم الأزواج لأن المقصود أن فيهم أعداء ووقوع ذلك من الأزواج أكثر منه في الأولاد فكان أوقع في المعنى المراد فقدمه. وكذلك قوله تعالى: {وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقۡطَعُوٓاْ أَيۡدِيَهُمَا جَزَآءَۢ بِمَا كَسَبَا نَكَٰلٗا مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٞ} [المائدة: 38] قدم السارق لأن السرقة في الذكور أكثر. وفي قوله تعالى: {ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} [النور: 2] حيث قدم الزانية على الزاني في النساء أكثر وهن أدعى للزنا من الرجال.
9- الترقي من الأدنى الى الأعلى مثل قوله تعالى: {أَلَهُمۡ أَرۡجُلٞ يَمۡشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَيۡدٖ يَبۡطِشُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ أَعۡيُنٞ يُبۡصِرُونَ بِهَآۖ أَمۡ لَهُمۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۗ قُلِ ٱدۡعُواْ شُرَكَآءَكُمۡ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ} [الأعراف: 195]
بدء بالأدنى لغرض الترقي لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر.
10- التدلي من الأعلى الى الأدنى مثل قوله تعالى: {لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} [النساء: 172]
[2] الشريف الجرجاني التعريفات: ج1ص50.
[4] دلائل الاعجاز: الجرجاني: 1/ 23
[5] أحكام القرآن الجصاص: 3/ 322
[6] أصول البيان العربي في ضوء القرآن الكريم: ص113-114
[7] أصول البيان العربي: ص118
[8] الجوهري الصحاح: ج6ص2477
[10] مختصر المعاني التفتازاني: ص257-262
[11] مجمع البيان/ العياشي.
[12] الزركشي/ البرهان: 3ص239
الاكثر قراءة في مواضيع عامة في علوم القرآن
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة