المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17644 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
اية الميثاق والشهادة لعلي بالولاية
2024-11-06
اية الكرسي
2024-11-06
اية الدلالة على الربوبية
2024-11-06
ما هو تفسير : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ؟
2024-11-06
انما ارسناك بشيرا ونذيرا
2024-11-06
العلاقات الاجتماعية الخاصة / علاقة الوالدين بأولادهم
2024-11-06

Continuity-Borel Hierarchy
25-4-2018
الديكور.. نعمة أم نقمة؟
19-4-2022
صحَّة الأقسام
26-09-2015
Crossed Claisen Condensation
25-11-2019
مدلول فكرة المصلحة العامة
2-4-2016
الحكم بن الحارث السلمي
22-7-2017


تفسير الأية (65-76) من سورة طه  
  
6522   07:04 مساءً   التاريخ: 7-9-2020
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الطاء / سورة طه /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-9-2020 5661
التاريخ: 9-9-2020 9851
التاريخ: 6-9-2020 4414
التاريخ: 6-9-2020 2978

 

قال تعالى:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى }  [طه: 65-76]

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } هذا قول السحرة خيروه بين أن يلقوا أولا ما معهم أويلقي موسى عصاه ثم يلقون ما معهم {قال} موسى {بل ألقوا} أنتم ما معكم أمرهم بالإلقاء أولا ليكون معجزة أظهر إذا ألقوا ما معهم ثم يلقي هوعصاه فتبتلع ذلك وهاهنا حذف أي فألقوا ما معهم { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} الضمير في إليه راجع إلى موسى وقيل: إلى فرعون أي: يرى الحبال من سحرهم أنها تسير وتعدو مثل سير الحيات وإنما قال يخيل إليه لأنها لم تكن تسعى حقيقة وإنما تحركت لأنهم جعلوا داخلها الزئبق فلما حميت الشمس طلب الزئبق الصعود فحركت الشمس ذلك فظن أنها تسعى .

{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} معناه: فأحس موسى ووجد في نفسه ما يجده الخائف ويقال أوجس القلب فزعا أي أضمر والسبب في ذلك أنه خاف أن يلتبس على الناس أمرهم فيتوهموا أنهم فعلوا مثل فعله ويظنوا المساواة فيشكوا ولا يتبعونه عن الجبائي وقيل إنه خوف الطباع إذا رأى الإنسان أمرا فظيعا فإنه يحذره ويخافه في أول وهلة وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس قبل إلقائه العصا وقبل أن يعلموا ببطلان السحرة فيبقوا في شبهة وقيل: إنه خاف لأنه لم يدر أن العصا إذا انقلبت حية هل تظهر المزية لأنه لا يعلم أنها تتلقفها فكان ذلك موضع خوف لأنها لوانقلبت حية ولم تتلقف ما يأفكون ربما ادعوا المساواة لا سيما والأهواء معهم والدولة لهم فلما تلقفت زالت الشبهة وتحقق عند الجميع صحة أمر موسى وبطلان سحره.

 { قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } عليهم بالظفر والغلبة { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } يعني العصا { تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تبتلع ما صنعوا فيه من الحبال والعصي لأن الحبال والعصي أجسام ليست من صنعهم قالوا ولما ألقى عصاه صارت حية وطافت حول الصفوف حتى رآها الناس كلهم ثم قصدت الحبال والعصي فابتلعتها كلها على كثرتها ثم أخذها موسى فعادت عصا كما كانت {إنما صنعوا كيد ساحر} أي: إن الذي صنعوه أوأن صنيعهم كيد ساحر أي مكره وحيلته {ولا يفلح الساحر} أي: لا يظفر الساحر ببغيته إذ لا حقيقة للسحر {حيث أتى} أي: حيث كان من الأرض وقيل لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره لأن الحق يبطله.

 { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا } هاهنا محذوف وهو فألقى عصاه وتلقف ما صنعوا فألقي السحرة سجدا أي: سجدوا { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } أضافوه سبحانه إليهما لدعائهما إليه وكونهما رسولين له {قال} فرعون للسحرة {آمنتم له} أي: لموسى والمعنى قد صدقتم له {قبل أن آذن لكم} أي: من غير إذني لأنه بلغ من جهله أنه لا يعتقد دين إلا بإذنه والفرق بين الإذن والأمر أن في الأمر دلالة على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك وقوله {فإذا حللتم فاصطادوا} إذن وقوله {أقيموا الصلاة} أمر.

 { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } معناه: أنه لأستاذكم وأنتم تلامذته وقد يعجز التلميذ عما يفعله الأستاذ وقيل إنه لرئيسكم ومتقدمكم وأنتم أشياعه وأتباعه ما عجزتم عن معارضته ولكنكم تركتم معارضته احتشاما له واحتراما وإنما قال ذلك ليوهم العوام أن ما أتوا به إنما هو لتواطؤ من جهتهم ليصرفوا وجوه الناس إليهم { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ } أي: أيديكم اليمني وأرجلكم اليسرى { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: على جذوع النخل {ولتعلمن} أيها الحسرة {أينا أشد عذابا} لكم {وأبقى} وأدوم أنا على إيمانكم أم رب موسى على ترككم الإيمان به.

 { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } أي: لن نفضلك ولن نختارك على ما أتانا من الأدلة الدالة على صدق موسى وصحة نبوته والمعجزات التي تعجز عنها قوى البشر {والذي فطرنا} أي: وعلى الذي فطرنا أي خلقنا وقيل: معناه لن نؤثرك والله الذي فطرنا على ما جاءنا من البينات وما ظهر لنا من الحق {فاقض ما أنت قاض} أي: فاصنع ما أنت صانعه على إتمام وإحكام وقيل: معناه فاحكم ما أنت حاكم وليس هذا بأمر منهم ولكن معناه أي شيء صنعت فإنا لا نرجع عن الإيمان { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: إنما تصنع بسلطانك أوتحكم في هذه الحياة الدنيا دون الآخرة فلا سلطان لك فيها ولا حكم وقيل معناه إنما تقضي وتذهب هذه الحياة الدنيا دون الحياة الآخرة { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } من الشرك والمعاصي { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ } إنما قالوا ذلك لأن الملوك كانوا يجبرونهم على تعليم السحر كيلا يخرج السحر من أيديهم وقيل: إن السحرة قالوا لفرعون أرنا موسى إذا نام فأراهم إياه فإذا هو نائم وعصاه تحرسه فقالوا ليس هذا بسحر إن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى عليهم إلا أن يعملوا فذلك إكراههم عن عبد العزيز بن أبان.

 { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: والله خير لنا منك وثوابه أبقى لنا من ثوابك وقيل: معناه والله خير ثوابا للمؤمنين وأبقى عقابا للعاصين منك وهذا جواب لقوله { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } وهاهنا انتهى الإخبار عن السحرة ثم قال الله سبحانه { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا } وقيل: إنه من قول السحرة قال ابن عباس في رواية الضحاك المجرم الكافر وفي رواية عطاء يعني الذي أجرم وفعل مثل ما فعل فرعون { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا} فيستريح من العذاب {ولا يحيي} حياة فيها راحة بل هو معاقب بأنواع العقاب.

{ومن يأته مؤمنا} مصدقا بالله وبأنبيائه {قد عمل الصالحات} أي: أدى الفرائض عن ابن عباس { فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} يعني درجات الجنة وبعضها أعلى من بعض والعلى جمع العليا وهي تأنيث الأعلى {جنات عدن} أي: إقامة {تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} معناه: أن الثواب الذي تقدم ذكره جزاء من تطهر بالإيمان والطاعة عن دنس الكفر والمعصية وقيل: تزكى طلب الزكاء بإرادة الطاعة والعمل بها .

_______________

1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص36-41.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

{ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى }. تقدم نظيره في الآية 113 وما بعدها من سورة الأعراف ج 3 ص 378 .

{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى } . قال أكثر المفسرين أوالكثير منهم :

ان موسى خاف على نفسه كما هو مقتضى الطبيعة البشرية . . والصحيح انه ما خاف على نفسه ، كيف وهو يعلم أن السحرة مفترون ، وان اللَّه قال له ولأخيه :

اني معكما ، وانما خاف موسى ان يلتبس الأمر على الناس ، وينخدعوا بأباطيل السحرة { قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلى } . لا تخف ان يلتبس الحق على الناس . .

كلا ، فسيتضح للعيون والعقول انك المحق وهم المبطلون ، وسيعترف السحرة أنفسهم بأنك الصادق الأمين ، وانهم أصحاب تزوير ، ومكر ، وخداع ، وان فرعون هو الذي أكرههم على الكذب والافتراء .

{ وأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ ومُوسى قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وأَبْقى } انا أوموسى .

وتقدم مثله في الآية 117 وما بعدها من سورة الأعراف ج 3 ص 378 . انظر تلخيص قصة موسى مع فرعون واسم أم موسى في ج 3 ص 372 .

{قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ والَّذِي فَطَرَنا} . أراد فرعون من السحرة ان يتركوا اللَّه ، ويتبعوه بعد ان اتضح لهم غيه وضلاله ، فقالوا له :

على أي شيء نختارك ونؤثرك ، أرغبة في دنياك التي أنت تاركها وظاعن عنها ، أم رهبة من عذابك ، وعذاب اللَّه أشد وأعظم ؟ { فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ } احكم وافعل ما شئت يا فرعون فلا نبالي ببطشك وتنكيلك ما دمنا على يقين من ربنا {إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} حلوة كانت أومرة ، وما نحن من أبنائها وانما نحن من أبناء الآخرة ، وهي باقية ببقاء اللَّه تعالى ، ولا سلطان لك فيها حتى على نفسك .

وهكذا كل مخلص لا يبالي بسيف الجلاد من أجل دينه ومبدئه . . ومحال أن يعيش دين من الأديان أومبدأ من المبادئ إذا لم يجد أنصارا من هذا الطراز .

{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي وليغفر لنا أيضا ما أكرهتنا عليه من السحر ، وهومن باب عطف الخاص على العام { واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقى } منك ومن ثوابك يا فرعون . . كانت المباراة بين موسى والسحرة في ظاهرها ، وبين حزب اللَّه وحزب الشيطان في واقعها ، ومن الشوط الأول أيقن كل من شاهد المباراة حتى فرعون والسحرة أنفسهم ، أيقنوا جميعا بأن حزب اللَّه هم الغالبون ، وأعلن السحرة ان يقينهم هذا عن علم لا يقبل الشك ، وانهم كانوا على ضلال في تحديهم لموسى ، وان فرعون هو الذي ألجأهم إليه ، وأكرههم عليه ، وسألوا اللَّه سبحانه العفووالصفح عما مضى . . وفي اعتراف السحرة هذا دلالة واضحة على أن السحر لا واقع له ، وانه تمويه وتضليل ، تماما كما قال تعالى : « يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى » .

{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها ولا يَحْيى }هذا كناية عن دوام العذاب ، ومثله : { لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها } - 36 فاطر ، وكلمة مجرم تتناول كل من أفسد وأساء في قول أوعمل كافرا كان أوغير كافر ، والدليل على أن المراد بالمجرم من هو أعم من الكافر قوله تعالى : {ومَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى} . حيث قرن سبحانه الايمان بالعمل الصالح ، ومعنى هذا ان الايمان بلا عمل لا يجدي صاحبه شيئا . وبكلام آخر : ان المؤمنين هم الصالحون في مقاصدهم وأعمالهم ، أما الذين يسعون في الأرض فسادا فهم في زمرة المجرمين ، وان ملأوا الدنيا تهليلا وتكبيرا .

{ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى } .

الجنات والدرجات عند اللَّه هي للذين زكت أنفسهم بالحب والإخلاص للناس كل الناس ، وتطهرت من شوائب الخيانة والطمع والكراهية ، ومئات الآيات من آي الذكر الحكيم تتضمن هذا المعنى تصريحا أوتلويحا .

___________

1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص229-230.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى:{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } إلى آخر الآية التالية، الحبال جمع حبل والعصي جمع عصا، وقد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات وثعابين أمثال ما كان يظهر من عصا موسى (عليه السلام).

وهنا حذف وإيجاز كأنه قيل فأتوا الموعد وقد حضره موسى فقيل فما فعلوا؟ فقيل:{قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - وإما أن نكون أول من ألقى} وهذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالإلقاء أويصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي،{قال موسى: بل ألقوا} فأخلى لهم الظرف كي يأتوا بما يأتون به وهو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق واضطراب وقد قال له ربه فيما قال:{إنني معكما أسمع وأرى}.

وقوله:{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} فيه حذف، والتقدير: فألقوا وإذا حبالهم وعصيهم إلخ، وإنما حذف لتأكيد المفاجاة كأنه (عليه السلام) لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال والعصي.

والذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر:{ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ:} الأعراف: 116، غير أنه ذكر هاهنا موسى من بينهم وكان ذلك ليكون تمهيدا لما في الآية التالية.

قوله تعالى:{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} قال الراغب في المفردات،: الوجس الصوت الخفي، والتوجس التسمع، والإيجاس وجود ذلك في النفس، قال:{فأوجس منهم خيفة} فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى.

فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها ولا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة ويتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر وتحرز وإلا لظهر أثره في ظاهر البشرة وعمل الإنسان قطعا، وإلى ذلك يومىء تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبأ به، ومن العجيب قول بعضهم: إن التنكير للتفخيم وكان الخوف عظيما وهو خطأ ولوكان كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته ولم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه.

فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم وأنه بحسب التخيل مماثل أوقريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور وهو كنفس الخطور لا أثر له.

وقيل: إنه خاف أن يلتبس الأمر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون.

وفيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقد قال له ربه قبل ذلك:{ بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ:} القصص: 35.

وقيل: إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعي التساوي ويخيب السعي.

وفيه: أنه خلاف ظاهر الآية فإن ظاهر تفريع قوله:{فأوجس في نفسه خيفة} إلخ، على قوله:{ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ} إلخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الأمر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك لم يسمح لهم بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه (عليه السلام):{ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} ولقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا.

وكيفما كان يظهر من إيجاسه (عليه السلام) خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أويقرب منه وإن كان ما أتوا به سحرا لا حقيقة له وما أتى به آية معجزة ذات حقيقة وقد استعظم الله سحرهم إذ قال:{ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}: الأعراف: 116.

ولذا أيده الله هاهنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة وهو تلقف العصا جميع ما سحروا به.

قوله تعالى:{ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى - إلى قوله - حيث أتى} نهي بداعي التقوية والتأييد وقد علله بقوله:{إنك أنت الأعلى} فالمعنى: أنك فوقهم من كل جهة وإذا كان كذلك لم يضرك شيء من كيدهم وسحرهم فلا موجب لأن تخاف.

وقوله:{ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} إلخ أمر بإلقاء العصا لتكون حية وتلقف ما صنعوا بالسحر والتعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير وأعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشيء من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا وإن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شيء ثم التعبير عن حياتهم وثعابينهم بقوله:{ما صنعوا} يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الأشياء في أساميها وحقائقها وبين هذا الصنع البشري الذي لا يعدوأن يكون كيدا باطلا وكلمة الله هي العليا والله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف.

وفي هذه الجملة أعني قوله:{ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} بيان لكونه (عليه السلام) أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه.

وقوله:{ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } تعليل بحسب اللفظ لقوله:{تلقف ما صنعوا} و{ما} مصدرية أوموصولة وبيان بحسب الحقيقة لكونه (عليه السلام) أعلى لأن ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له وما معه آية معجزة ذات حقيقة والحق يعلوولا يعلى عليه.

وقوله:{ولا يفلح الساحر حيث أتى} بمنزلة الكبرى لقوله:{ما صنعوا كيد ساحر} فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له ولا فلاح ولا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له.

فقوله:{ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} نظير قوله:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ:} الأنعام: 144،{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }: المائدة: 108، وغيرهما والجميع من فروع{إن الباطل كان زهوقا:} الإسراء: 81،{ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ:} الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا ويشبهها بالحق ولا يزال الحق يمحوه ويلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أوبطيئا فمثل عصا موسى وسحر السحرة يجري في كل باطل يبدووحق يلقفه ويزهقه، وقد تقدم في تفسير قوله:{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا:} الرعد: 17، كلام نافع في المقام.

قوله تعالى:{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فألقي السحرة وفي التعبير بقوله:{فألقي السحرة} بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشارة إلى إذلال القدرة الإلهية لهم وغشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الأرض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك وإنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو؟.

وقولهم:{ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} شهادة منهم بالإيمان وإنما أضافوه تعالى إلى موسى وهارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى ورسالة موسى وهارون معا وفصل قوله:{قالوا} إلخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا إلخ.

قوله تعالى:{ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} إلى آخر الآية، الكبير الرئيس وقطع الأيدي والأرجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والتصليب تكثير الصلب وتشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع وتشديده والجذوع جمع جذع وهوساقة النخل.

وقوله:{ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا والجملة استفهامية محذوفة الأداة والاستفهام للإنكار أوخبرية مسوقة لتقرير الجرم، وقوله:{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطئوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله ويأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه واجتمعوا على مغالبته تخاذلوا وانهزموا عنه وآمنوا واتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم وأخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر:{ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا:} الأعراف: 123، وإنما رماهم بهذا القول تهييجا للعامة عليهم كما رمى موسى (عليه السلام) بمثله في أول يوم.

وقوله:{ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ} إلى آخر الآية، إيعاد لهم وتهديد بالعذاب الشديد ولم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا؟.

قوله تعالى:{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في معناه رفيع في منزلته يغلي ويفور علما وحكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة وقد ملأت هيبة فرعون وأبهته قلوبهم وأذلت زينات الدنيا وزخارفها التي عنده - وليست إلا أكاذيب خيال وأباطيل وهم - نفوسهم يسمونه ربا أعلى ويقولون حينما ألقوا حبالهم وعصيهم:{ بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة وسلطان ولما عنده من زينة الدنيا وزخرفها من قدر ومنزلة وغشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن والملق واتباع الهوى والتوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا ومكنت فيها التعلق بالحق والدخول تحت ولاية الله والاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله ولا يرجون إلا الله ولا يخافون إلا الله عز اسمه.

يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون وبينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يرى إلا نفسه ويضيف إليه أنه رب القبط وله ملك مصر وله جنود مجندة، وله ما يريد وله ما يقضي وليست في نظر الحق والحقيقة إلا دعاوي وقد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله والحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - وفي جبلتها الفهم والقضاء - بشعورها وإدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، ولا يذعن قلوبهم ولا توقن بحق إلا عن إجازته وهو قوله للسحرة:{ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ }.

ويرى أن لا حقيقة للإنسان إلا هذه البنية الجسمانية التي تعيش ثم تفسد وتفنى وأن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، وذلك قوله:{ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } وليتدبر في آخر كلامه.

وأما هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحق وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها سرابا خياليا وزينة غارة باطلة، وأنهم إذا خيروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق والباطل والحقيقة والسراب، وحاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أويقدموا الباطل على الحق والسراب على الحقيقة وهم يشهدون ذلك شهادة عيان وذلك قولهم:{لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا} فليس مرادهم به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذوروح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضة بمالها ومنالها.

وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة الدنيا وهو يرى أن ليس للإنسان إلا الحياة التي فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون الأمر بالعكس من ذلك وأن للإنسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شيء.

وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الأخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون – وهو جواب تهديده إياهم بالقتل -{فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا} ثم الآيات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل وتوضيح لقولهم:{ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا }.

وفي قولهم:{ما جاءنا من البينات} تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها الأولى، ويمكن أن يكون{من} للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحدة وآمنوا بأن لله آيات أخرى كثيرة ولا يخلومن بعد.

قوله تعالى:{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة وقوله:{وما أكرهتنا عليه} معطوف على{خطايانا} و{من السحر} بيان له والمعنى وليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على المقابلة والمغالبة.

وأول الآية تعليل لقولهم:{لن نؤثرك} إلخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الآية:{والله خير وأبقى} من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: وإنما آثرنا غفرانه على إحسانك لأنه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الإطلاق - فلا يؤثر عليه شيء وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون:{ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى}.

وقد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، وثانيا بربنا، وثالثا بالله، أما الأول فلأن كونه تعالى فاطرا لنا أي مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود ويتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه وأن ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان منشأ كل ترجيح والمقام مقام الترجيح بينه تعالى وبين فرعون.

وأما الثاني فلأن فيه إخبارا عن الإيمان به وأمس صفاته تعالى بالإيمان والعبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك والتدبير.

وأما الثالث فلأن ملاك خيرية الشيء الكمال وعنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، وعلى هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى والمعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذي فطرنا، لأنه فطرنا وإنا آمنا بربنا لأنه ربنا والله خير لأنه الله عز اسمه.

قوله تعالى:{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للإيمان بالله أي لأن من لم يغفر خطاياه كان مجرما ومن يأت ربه مجرما{إلخ}.

قوله تعالى:{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} إلى آخر الآية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم وتقابلها الدركة فهي المنزلة حدورا ولذا يقال درجات الجنة ودركات النار، والتزكي هو التنمي بالنماء الصالح والمراد به أن يعيش الإنسان باعتقاد حق وعمل صالح.

والآيتان تصفان ما يستتبعه الإيمان والعمل الصالح كما كانت الآية السابقة تصف ما يستتبعه الإجرام الحاصل بكفر أو معصية والآيات الثلاث الواصفة لتبعة الإجرام والإيمان ناظرة إلى وعيد فرعون ووعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع والصلب وادعى أنه أشد العذاب وأبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها ولا يحيى لا يموت فيها حتى ينجومن مقاساة ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت وفيه نجاة المجرم المعذب، ولا يحيى فيها إذ ليس فيها شيء مما تطيب به الحياة ولا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.

ووعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه والأجر كما حكى الله تعالى:{ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}: الأعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك - وفي الإشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - وهذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالإيمان والعمل الصالح وهذا يقابل وعده لهم بالأجر.

_________________

1- تفسير الميزان ،الطباطبائي ،ج14،ص143-150.

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

موسى (عليه السلام) ينزل إلى الساحة:

لقد اتّحد السّحرة ظاهراً، وعزموا على محاربة موسى (عليه السلام) ومواجهته، فلمّا نزلوا إلى الميدان { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى}.

قال بعض المفسّرين: إنّ إقتراح السّحرة هذا إمّا أن يكون من أجل أن يسبقهم موسى (عليه السلام)، أو إنّه كان إحتراماً منهم لموسى، وربّما كان هذا الأمر هو الذي هيّأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسى (عليه السلام) ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.

إلاّ أنّ هذا الموضوع يبدو بعيداً جدّاً، لأنّ هؤلاء كانوا يسعون بكلّ ما اُوتوا من قوّة لأن يسحقوا ويحطّموا موسى ومعجزته، وبناءً على هذا فإنّ التعبير آنف الذكر ربّما كان لإظهار إعتمادهم على أنفسهم أمام الناس.

غير أنّ موسى (عليه السلام) بدون أن يبدي عجلة، لإطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز {قال بل ألقوا}. ولا شكّ أنّ دعوة موسى (عليه السلام) هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدّمة لإظهار الحقّ، ولم يكن من وجهة نظر موسى (عليه السلام) أمراً مستهجناً، بل كان يعتبره مقدّمة لواجب.

فقبل السّحرة ذلك أيضاً، وألقوا كلّ ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرّواية التي تقول: إنّهم كانوا آلاف الأفراد، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة اُلقيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}!

أجل، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيّات صغيرة وكبيرة متنوّعة، وفي أشكال مختلفة ومخيفة، ونقرأ في الآيات الاُخرى من القرآن الكريم في هذا الباب: { سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }(الاعراف،116) وبتعبير الآية (44) من سورة الشعراء: { وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}.

لقد ذكر كثير من المفسّرين أنّ هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي مواداً كالزئبق الذي إذا مسّته أشعّة الشمس وإرتفعت حرارته وسخن، فإنّه يولّد لهؤلاء ـ نتيجة لشدّة فورانه ـ حركات مختلفة وسريعة «إنّ هذه الحركات لم تكن سيراً وسعياً حتماً، إلاّ أنّ إيحاءات السّحرة التي كانوا يلقنونها الناس، والمشهد الخاص الذي ظهر هناك، كان يظهر لأعين الناس ويجسّد لهم أنّ هذه الجمادات قد ولجتها الروح، وهي تتحرّك الآن. (وتعبير (سحروا أعين الناس) إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، وكذلك تعبير (يخيّل إليه) يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضاً).

على كلّ حال، فإنّ المشهد كان عجيباً جدّاً، فإنّ السّحرة الذين كان عددهم كبيراً، وتمرسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً، وكانوا يعرفون جيداً طريقة الإستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفيّة، إستطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كلّ هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح. فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} وكلمة «أوجس» أخذت من مادّة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي، وبناءً على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحيّاً وخفيفاً، ولم يكن يعني أنّه أولى إهتماماً لهذا المنظر المرعب لسحر السّحرة، بل كان خائفاً من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحقّ.

أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيّأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحقّ لهم، كما نقرأ في خطبة الإمام علي (عليه السلام) الرقم (6) من نهج البلاغة: «لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال»(2). ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الاُخرى التي قيلت في باب خوف موسى (عليه السلام).

على كلّ حال، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن:{ قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى}. إنّ هذه الجملة وبتعبيرها المؤكّد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتّم ـ فإنّ (إنّ) وتكرار الضمير، كلّ منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى، وكذلك كون الجملة إسميّة ـ وبهذه الكيفيّة، فقد أرجعت لموسى إطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة أُخرى بقوله تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.

«تلقف» من مادة «لقف» بمعنى البلع، إلاّ أنّ الراغب يقول في مفرداته: إنّ معناها في الأصل تناول الشيء بحذق، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفمّ. وفسّرها بعض اللغويين بأنّها التناول بسرعة.

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول {الق ما في يمينك} وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الإهتمام بالعصا، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة، بل المهم إرادة الله وأمره، فإنّه إذا أراد الله شيئاً، فليست العصا فقط، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدّرة!

وهنا نقطة تستحقّ الذكر أيضاً وهي: إنّ كلمة (ساحر) في الآية وردت أوّلا نكرة، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس، وربّما كان هذا الإختلاف لأنّ الهدف في المرتبة الأُولى هو عدم الإهتمام بعمل هؤلاء السّحرة، ومعنى الجملة: إنّ العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلاّ مكر ساحر. أمّا في المورد الثّاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام، وهو أنّه ليس هؤلاء السّحرة فقط، بل كلّ ساحر في كلّ زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يُفلح.

الإنتصار العظيم لموسى(عليه السلام):

إنتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى أُمر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين، وقد عُقبت هذه المسألة في هذه الآية، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل التي كانت واضحة قد حذفت، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه، فتحوّلت إلى حيّة عظيمة لقفت كلّ آلات وأدوات سحر السّحرة، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين، فاستوحش فرعون وإرتبك، وفغر أتباعه أفواههم من العجب.

فأيقن السّحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل، وكانوا يفرّقون جيداً بين السحر وغيره، إنّ هذا الأمر ليس إلاّ معجزة إلهيّة، وإنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله، فاضطربت قلوبهم، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات:

{ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى}. إنّ التعبير بـ (اُلقي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى، وتأثّروا بمعجزته إلى الحدّ الذي سجدوا معه دون إرادة.

ونقطة أُخرى يلزم ذكرها وتستحقّ الإلتفات، وهي أنّهم لم يقتنعوا بمجرّد الإيمان القلبي، بل رأوا أنّ من واجبهم إظهار هذا الإيمان بصورة جليّة، بتعابير لا يشوبها أي إبهام، أي التأكيد على ربوبية ربّ موسى وهارون، حتّى يرجع اُولئك الذين ضلّوا بسبب سحرهم، ولا تبقى على عاتقهم مسؤولية من هذه الجهة.

من البديهي أنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبّارة المستبدّة الظالمة، وهزّ كلّ أركانها، لأنّ الإعلام كان قد ركّز على هذه المسألة مدّة طويلة في جميع أنحاء مصر، وكانوا قد جلبوا السّحرة من كلّ أرجاء البلاد، ووعد هؤلاء بكلّ نوع من المكافئات والجوائز والإمتيازات إذا ما غلبوا وإنتصروا في المعركة!

إلاّ أنّه يرى الآن أنّ أُولئك الذين كانوا في الصفّ الأوّل من المعركة، قد إستسلموا فجأةً للعدو بصورة جماعية، ولم يسلموا وحسب، بل أصبحوا من المدافعين الصلبين عنه، ولم تكن هذه المسألة في حسبان فرعون أبداً، ولا شكّ أنّ جمعاً من الناس قد اتّبعوا السّحرة وآمنوا بدين موسى. ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلاّ أن يجمع كيانه ويلملم ما تبّقى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ، فتوجّه نحو السّحرة و { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ }.

إنّ هذا الجبّار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب، بل كان يريد أن يقول: إنّ قلوبكم تحت تصرّفي أيضاً، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني، وهذا هو العمل الذي يؤكّد عليه كلّ الفراعنة على إمتداد العصور.

فالبعض ـ كفرعون مصر ـ يجريها على لسانه حمقاً عند إضطرابه وقلقه، والبعض إحتفظ بهذا الحقّ لنفسه ويبيّنه بصورة غير مباشرة عن طريق وسائل الإعلام، وطوابير العملاء، ويعتقد بأنّ الناس يجب أن لا يعطوا الإستقلالية في التفكير، بل إنّه في بعض الأحيان قد يسلب الناس الحرية باسم حرية التفكير.

وعلى كلّ حال، فإنّ فرعون لم يكتف بذلك، بل إنّه ألصق بالسّاحرين التهمة وقال: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}.

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه، ولم يكن بالإمكان أن تحدث مثل هذه المؤامرة في جميع أنحاء مصر ويجهل جنوده وشرطته بالأمر، وكان فرعون قد ربّى موسى (عليه السلام) في أحضانه، وغيبته عن مصر كانت من المسلّمات لديه، فلو كان كبير سحرة مصر لكان معروفاً بذلك في كلّ مكان، ولا يمكن أن يخفى أمره. إلاّ أنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حقّ يتعرّض للخطر.

ثمّ إنّه لم يكتف بهذا، بل إنّه هدّد السّحرة أشدّ تهديد، التهديد بالموت، فقال: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى}(3).

في الحقيقة إنّ جملة (أيّنا أشدّ عذاباً) إشارة إلى تهديد موسى (عليه السلام) له من قبل، وكذلك تهديده للسحرة في البداية {وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}. والتعبير بـ(من خلاف) إشارة إلى قطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس، وربّما كان إختيار هذا النوع من التعذيب للسحرة، لأنّ موت الإنسان يكون أكثر بطأً وأشدّ عذاباً في هذه الحالة، أي أنّ النزيف سيكون أبطأ، وسيعانون عذاباً أشدّ، وربّما أراد أن يقول: سأجعل بدنكم ناقصاً من جانبيه.

أمّا التهديد بالصلب على جذوع النخل، فربّما كان لأنّ النخلة تعدّ من الأشجار العالية، وكلّ شخص ـ سواء البعيد أو القريب ـ يرى المعلّق عليها.

والملاحظة التي تستحقّ الذكر أنّ الصلب في عرف ذلك الزمان لم يكن كما هو المتعارف عليه اليوم، فلم يكونوا يضعون حبل الإعدام في رقبة من يريدون صلبه، بل كانوا يشدّون به الأيادي أو الأكتاف حتّى يموت المصلوب بعد تحمّل العذاب الشديد.

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السّحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة، و { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ}لكن، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على القضاء في هذه الدنيا، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون، وستلاقي أنت أشدّ العقاب { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}.

وعلى هذا، فإنّهم قد بيّنوا هذه الجمل الثلاث الراسخة أمام فرعون:

الأُولى: إنّنا قد عرفنا الحقّ وإهتدينا، ولا نستبدله بأي شيء.

والاُخرى: إنّنا لا نخاف من تهديداتك مطلقاً.

والثّالثة: حكومتك وسعيك سوف يدومان إلاّ أيّاماً قليلة من الدينا!

ثمّ أضافوا بأنّا قد إرتكبنا ذنوباً كثيرة نتيجة السحر، فـ{ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وخلاصة القول: إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي، فنحن نريد أن نصل عن هذا الطريق إلى السعادة الأبدية، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم!

وهنا ينقدح سؤال، وهو: إنّ السّحرة قد أتوا بأنفسهم إلى حلبة الصراع ظاهراً، بالرغم من أنّ فرعون قد وعدهم وعوداً كبيرة، فكيف عبّرت الآية بالإكراه؟

ونقول في الجواب: إنّنا لا نملك أي دليل على أنّ السّحرة لم يكونوا مجبورين منذ البداية، بل إنّ ظاهر جملة { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}(الاعراف،112)، أنّ السّحرة العلماء بالفنّ كانوا ملزمين بقبول الدعوة، ومن الطبيعي أنّ هذا الأمر يبدو طبيعيّاً في ظلّ حكومة فرعون المستبدّة، بأن يجبر أفراداً في طريق تحقيق نيّاته، ووضع الجوائز وأمثال ذلك لا ينافي هذا المفهوم، لأنّنا رأينا ـ كثيراً ـ حكومات ظالمة مستبدّة تتوسّل بالترغيبات المادية إلى جانب إستعمال القوّة.

ويحتمل أيضاً أنّ السّحرة عند أوّل مواجهة لهم مع موسى (عليه السلام) تبيّن لهم من خلال القرائن أنّ موسى (عليه السلام) على الحقّ، أو أنّهم على أقل تقدير وقعوا في شكّ، ونشب بينهم نزاع وجدال، كما نقرأ ذلك في الآية (62) من هذه السورة: { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ }، فأطلع فرعون وأجهزته على ما جرى، فأجبروهم على الإستمرار في المجابهة.

ثمّ واصل السّحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح فـ{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه { لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى } بل إنّه يتقلّب دائماً بين الموت والحياة، تلك الحياة التي هي أمر من الموت، وأكثر مشقّة منه.

{ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}.

وهناك بحث بين المفسّرين في أنّ الجمل الثلاث الأخيرة تابعة لكلام السّحرة أمام فرعون، أم أنّها جمل مستقلّة من جانب الله سبحانه جاءت تتمّة لكلامهم؟ فبعضهم إعتبرها تابعة لكلام السّحرة، وربّما كان الإبتداء بـ(انّه) التي هي في الواقع لبيان العلّة، يؤيّد وجهة النظر هذه.

إلاّ أنّ التفصيل الذي جاء في هذه الآيات الثلاث حول مصير المؤمنين الصالحين، والكافرين المجرمين، الذي ينتهي بجملة {وذلك جزاء من تزكّى}وكذلك الأوصاف التي جاءت فيها حول الجنّة والنّار، تؤيّد الرأي الثّاني، وهو أنّها من كلام الله، لأنّ السّحرة ينبغي أن يكونوا قد تلقّوا حظّاً وافراً من المعرفة والعلوم الإلهيّة في هذه الفترة القصيرة بحيث يستطيعون أن يقضوا بهذا الجزم والقطع، وعن علم وإطّلاع ووعي من أمر الجنّة والنّار ومصير المؤمنين والمجرمين. إلاّ أن نقول: إنّ الله سبحانه قد أجرى هذا الكلام على ألسنتهم لإيمانهم، وإن كان هذا لا يفرّق عندنا ولا يختلف من ناحية التربية الإلهيّة والنتيجة سواءً كان الله تعالى قد قال ذلك، أو أنّ السّحرة قد تعلّموه من الله، خاصةً وأنّ القرآن ينقل كلّ ذلك بنغمة متناسقة.

______________

1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص154-164.

2- لقد قال الإمام علي (عليه السلام) هذا الكلام في وقت كان قلقاً من إنحراف الناس، ويشير إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ قلقي ليس نابعاً من شكّي في الحقّ.

3-  من المعلوم أنّ (في) في جملة (ولأصلبنّكم في جذوع النخل) تعني (على)، أي اُعلّقكم على جذوع النخل، إلاّ أنّ الفخر الرازي يعتقد أنّ (في) هنا تعطي نفس معناها، لأنّ (في) للظرفيّة، والظرفيّة تناسب كلّ شيء، ونعلم أنّ خشبة الإعدام كالظرف والوعاء بالنسبة للفرد الذي يعلّق للإعدام. إلاّ أنّ هذا التوجيه لا يبدو صحيحاً.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .