أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-9-2020
5751
التاريخ: 7-9-2020
4427
التاريخ: 9-9-2020
3947
التاريخ: 6-9-2020
13025
|
قال تعالى:{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [طه: 36، 41]
{قال} الله سبحانه إجابة له { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } أي: قد أعطيت مناك وطلبتك {يا موسى} فيما سألته والسؤال المنى والمراد فيما يسأله الإنسان وقال الصادق حدثني أبي عن جدي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا فكلمه الله عز وجل فرجع نبيا وخرجت ملكة سبإ كافرة فأسلمت مع سليمان وخرج سحرة فرعون يطلبون العزة لفرعون فرجعوا مؤمنين .
لما أخبر سبحانه موسى بأنه آتاه طلبته وأعطاه سؤله عدد عقيبه ما تقدم ذلك من نعمه عليه ومننه لديه فقال { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي: أنعمنا عليك من صغرك إلى كبرك جارية نعمتنا عليك متوالية فإجابتنا الآن دعاك تلوها ثم فسر سبحانه تلك النعمة فقال { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} أي: حين أوحينا إلى أمك أي ألهمناها ما يلهم وهو ما كان فيه سبب نجاتك من القتل حتى عنيت بأمرك وقيل كانت رأت في المنام عن الجبائي ثم فسر ذلك الإيحاء فقال { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ} أي: اجعليه فيه بأن ترميه فيه { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} يريد النيل { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} وهو شط البحر لفظه أمر فكأنه أمر البحر كما أمر أم موسى والمراد به الخبر والمعنى حتى يلقيه البحر بالشط.
{ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ } يعني فرعون كان عدوا لله ولأنبيائه وعدوا لموسى خاصة لتصوره إن ملكه ينقرض على يده وكانت هذه المنة من الله سبحانه على موسى أن فرعون كان يقتل غلمان بني إسرائيل ثم خشي أن يفنى نسلهم فكان يقتل بعد ذلك في سنة ولا يقتل في سنة فولد موسى في السنة التي كان يقتل الغلمان فيها فنجاه الله تعالى منه { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: جعلتك بحيث يحبك من يراك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك وربتك في حجرها عن عكرمة وقيل: معناه حببتك إلى عبادي فلا يلقاك أحد مؤمن ولا كافر إلا أحبك عن ابن عباس وهذا كما يقال ألبسه الله جمالا وألقى عليه جمالا وقال قتادة ملاحة كانت في عين موسى فما رآه أحد إلا عشقه.
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: لتربى وتغذى بمرأى مني أي يجري أمرك على ما أريد بك من الرفاهة في غذائك عن قتادة وذلك أن من صنع لإنسان شيئا وهو ينظر إليه صنعه كما يحب ولا يتهيأ له خلافه وقيل لتربى ويطلب لك الرضاع على علم مني ومعرفة لتصل إلى أمك عن الجبائي وقيل لتربى وتغذى بحياطتي وكلاءتي وحفظي كما يقال في الدعاء بالحفظ والحياطة عين الله عليك عن أبي مسلم.
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ} الظرف يتعلق بتصنع والمعنى ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك وقولها { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } لأن هذا كان من أسباب تربية موسى على ما أراده الله وهو قوله {إذ تمشي أختك} يعني حين قالت لها أم موسى قصيه فاتبعت موسى على إثر الماء وذلك أن أم موسى اتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا ووضعته فيه وألقته في النيل وكان يشرع من النيل نهر كبير في باغ فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ التابوت يجيء على رأس الماء فأمر بإخراجه فلما فتحوا رأسه إذا صبي به من أحسن الناس وجها فأحبه فرعون بحيث لا يتمالك وجعل موسى يبكي ويطلب اللبن فأمر فرعون حتى أتته النساء اللاتي كن حول داره فلم يأخذ موسى من لبن واحدة منهن وكانت أخت موسى واقفة هناك إذا أمرتها أمها أن تتبع التابوت فقالت إني آتي بامرأة ترضعه وذلك قوله { فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: أدلكم على امرأة تربيه وترضعه وهي ناصحة له فقالوا نعم فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } برؤيتك وبقائك.
{ولا تحزن} من خوف قتله أوغرقه وذلك أنها حملته إلى بيتها آمنة مطمئنة قد جعل لها فرعون أجرة على الرضاع {وقتلت نفسا} كان قتل قبطيا كافرا عن ابن عباس وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال رحم الله أخي موسى قتل رجلا خطأ وكان ابن اثنتي عشرة سنة { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: من غم القتل وكربه لأنه خاف أن يقتصوا منه بالقبطي فالمعنى خلصناك من غم القصاص وآمناك من الخوف.
{ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي: اختبرناك اختبارا ومعناه أنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة وكان هذا من أكبر نعمه سبحانه عليه وقيل معناه وخلصناك من محنة بعد محنة منها أنه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال فيها ثم إلقاؤه في اليم ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الدرة فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره بما عزموا عليه من قتله عن ابن عباس فعلى هذا يكون المعنى وخلصناك من المحن تخليصا وقيل معناه وشددنا عليك التعمد في أمر المعاش حتى رعيت لشعيب عشر سنين ثم بين ذلك فقال { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي: لبثت فيهم حين كنت راعيا لشعيب { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: في الوقت الذي قدر لإرسالك نبيا قال الشاعر :
نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر(2)
وقيل: معناه جئت على الوقت الذي يوحى فيه إلى الأنبياء وهو على رأس أربعين سنة وقيل على المقدار الذي قدره الله لمجيئك وكتبه في اللوح المحفوظ والمعنى جئت في الوقت الذي قدره الله لكلامك ونبوتك والوحي إليك { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي: لوحيي ورسالتي عن ابن عباس والمعنى اخترتك واتخذتك صنيعتي وأخلصتك لتنصرف على إرادتي ومحبتي وإنما قال لنفسي لأن المحبة أخص شيء بالنفس وتبليغه الرسالة وقيامه بأدائها تصرف على إرادة الله ومحبته وقيل: معناه اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أنا أكون بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم عن الزجاج.
________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج7،ص19-23.
2- هذا البيت من قصيدة رائية من جرير بن عطية يمدح بها عمر بن عبد العزيز بن مروان.
{ قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى} من شرح الصدر ، وتيسير الأمر ، وطلاقة اللسان ، وشد الأزر بأخيك ، وإشراكه معك في النبوة . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو ، فان موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا فكلمه اللَّه ورجع نبيا { ولَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى} المن هنا بمعنى الإنعام ، لا بمعنى التعيير والتقريع ، وقد كانت نعم اللَّه سبحانه كثرة على موسى ومتتابعة ، منها ما يلي :
{ إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدُوٌّ لَهُ وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي } .
ضمير المخاطب في لتصنع لموسى ( عليه السلام ) ومعنى تصنع تربى ، والمراد بعين اللَّه حراسته تعالى ورعايته . . كان فرعون إذا ولدت إسرائيلية ذكرا ذبحه ، وإذا ولدت أنثى استبقاها للخدمة ، ولما وضعت امرأة عمران موسى خافت عليه من فرعون ، وحارت به ، فألهمها اللَّه أن تضعه في صندوق ، وتلقي به في النيل ففعلت ، وثبّت اللَّه فؤادها ، وهدأ روعها ، وقذفه النيل إلى الشاطئ . . وقيل : ان جواري آسية امرأة فرعون خرجن للاغتسال ، فوجدن الصندوق فصحبنه معهن ، وما ان فتحته امرأة فرعون ورأت الطفل حتى ألقى اللَّه محبته في قلبها « وقالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ - له - قُرَّتُ عَيْنٍ لِي ولَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً » - 9 القصص ، فأبقاه فرعون وتربى في قصره مشمولا بحراسة اللَّه ورعايته .
{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها ولا تَحْزَنَ } . أراد سبحانه ان يرجع موسى إلى أمه ، لتأنس به ، وتطمئن عليه ، وإذا أراد اللَّه شيئا هيأ أسبابه ، فحرم المراضع على موسى ، حتى حار به فرعون ، فذهبت أخت موسى إلى قصر فرعون متنكرة ، وقالت : أنا أدلكم على من يرضعه ، وجاءت بأمه فقبّل ثديها ، فدفعه فرعون إليها ، وأجرى عليها رزقا .
{ وقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ } . في ذات يوم مر موسى في شارع من شوارع مصر ، فرأى رجلين يقتتلان : أحدهما فرعوني والآخر عبري ، فاستغاث هذا بموسى ، فوكزه بيده ، وهو لا يريد قتله ، ولكنه قضى عليه ، وخاف موسى ان يقتصوا منه ، فخلصه اللَّه من غم القصاص ، وإلى هذا أشارت الآية 15 من القصص : « فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ » .
{ وفَتَنَّاكَ فُتُوناً } . ان اللَّه سبحانه يمتحن عباده بالسراء والضراء ، فمن شكر تلك ، وصبر على هذه قرّبه وأثابه ، ومن بطر عند النعمة ، وكفر عند الشدة طرده من رحمته . وقد امتحن سبحانه موسى بأنواع الشدائد والمحن فوجده صابرا ذاكرا ، فشرفه بالنبوة ، ورفعه إلى الدرجات العلى { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } وذلك حين رعى غنم شعيب عشر سنين ، كما أشارت الآية 27 من سورة القصص :
« فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ » وقد أتمها عشرا كما في بعض الروايات { ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى } أتيت إلى هذا المكان ، وهو الوادي المقدس طوى ، أتيته في نفس الوقت الذي قدره اللَّه لإرسالك نبيا { واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي اخترتك لوحيي ورسالتي ، وفي إضافة موسى إلى اللَّه سبحانه غاية التشريف والتكريم ، حيث تومئ إلى أن اللَّه سبحانه قد جعله من خواصه .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 216-218.
قوله تعالى:{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } إجابة لأدعيته جميعا وهو إنشاء نظير ما مر من قوله:{وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى}.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى - إلى قوله - كي تقر عينها ولا تحزن} يذكره تعالى بمن آخر له عليه قبل أن يختاره للنبوة والرسالة ويؤتي سؤله وهو منه عليه حينما تولد فقد كان بعض الكهنة أخبر فرعون أن سيولد في بني إسرائيل مولود يكون بيده زوال ملكه فأمر فرعون بقتل كل مولود يولد فيهم فكانوا يقتلون المواليد الذكور حتى إذا ولد موسى أوحى الله إلى أمه أن لا تخاف وترضعه فإذا خافت عليه من عمال فرعون وجلاوزته تقذفه في تابوت فتقذفه في النيل فيلقيه اليم إلى الساحل حيال قصر فرعون فيأخذه فيتخذه ابنا له وكان لا عقب له ولا يقتله ثم إن الله سيرده إليها.
ففعلت كما أوحي إليها فلما جرى التابوت بجريان النيل أرسلت بنتا لها وهي أخت موسى أن تجس أخباره فكانت تطوف حول قصر فرعون حتى وجدت نفرا يطلبون بأمر فرعون مرضعا ترضع موسى فدلتهم أخت موسى على أمها فاسترضعوها له فأخذت ولدها وقرت به عينها وصدق الله وعده وقد عظم منه على موسى.
فقوله:{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } امتنان بما صنعه به أول عمره وقد تغير السياق من التكلم وحده إلى التكلم بالغير لأن المقام مقام إظهار العظمة وهو ينبىء عن ظهور قدرته التامة بتخييب سعي فرعون الطاغية وإبطال كيده لإخماد نور الله ورد مكره إليه وتربية عدوه في حجره، وأما موقف نداء موسى وتكليمه إذ قال:{يا موسى إني أنا ربك} إلخ فسياق التكلم وحده أنسب له.
وقوله:{ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى } المراد به الإلهام وهو نوع من القذف في القلب في يقظة أو نوم، والوحي في كلامه تعالى لا ينحصر في وحي النبوة كما قال تعالى:{وأوحى ربك إلى النحل}: النحل: 68، وأما وحي النبوة فالنساء لا يتنبأن ولا يوحى إليهن بذلك قال تعالى:{وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى}: يوسف: 109 وقوله:{ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } إلى آخر الآية هو مضمون ما أوحي إلى أم موسى و{أن} للتفسير، وقيل: مصدرية متعلق بأوحي والتقدير أوحي بأن اقذفيه، وقيل: مصدرية والجملة بدل من:{ما يوحى}.
والتابوت الصندوق وما يشبهه والقذف الوضع والإلقاء وكأن القذف الأول في الآية بالمعنى الأول والقذف الثاني بالمعنى الثاني ويمكن أن يكونا معا بالمعنى الثاني بعناية أن وضع الطفل في التابوت وإلقاءه في اليم إلقاء وطرح له من غير أن يعبأ بحاله، واليم البحر: وقيل: البحر العذب، والساحل شاطىء البحر وجانبه من البر، والصنع والصنيعة الإحسان.
وقوله:{فليلقه اليم} أمر عبر به إشارة إلى تحقق وقوعه ومفاده أنا أمرنا اليم بذلك أمرا تكوينيا فهو واقع حتما مقضيا، وكذا قوله:{ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي} إلخ وهو جزاء مترتب على هذا الأمر.
ومعنى الآيتين إذ أوحينا وألهمنا أمك بما يوحى ويلهم وهو أن ضعيه - أو ألقيه - في التابوت وهو الصندوق فألقيه في اليم والبحر وهو النيل فمن المقضي من عندنا أن يلقيه البحر بالساحل والشاطىء يأخذه عدو لي وعدو له وهو فرعون لأنه كان يعادي الله بدعوى الألوهية ويعادي موسى بقتله الأطفال وكان طفلا هذا ما أوحيناه إلى أمك.
وقوله:{ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ظاهر السياق أن هذا الفصل إلى قوله:{ولا تحزن} فصل ثان تال للفصل السابق متمم له والمجموع بيان للمن المشار إليه بقوله:{ولقد مننا عليك مرة أخرى}.
فالفصل الأول يقص الوحي إلى أمه بقذفه في التابوت ثم في البحر لينتهي إلى فرعون فيأخذه عدوالله وعدوه والفصل الثاني يقص إلقاء المحبة عليه لينصرف فرعون عن قتله ويحسن إليه حتى ينتهي الأمر إلى رجوعه إلى أمه واستقراره في حجرها لتقر عينها ولا تحزن وقد وعدها الله ذلك كما قال في سورة القصص:{فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق}: القصص: 13، ولازم هذا المعنى كون الجملة أعني قوله:{وألقيت عليك} إلخ، معطوفا على قوله:{أوحينا إلى أمك}.
ومعنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الإلهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه وجذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية وفي تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها وغرابة أمرها.
واللام في قوله:{ولتصنع على عيني} للغرض، والجملة معطوفة على مقدر والتقدير ألقيت عليك محبة مني لأمور كذا وكذا وليحسن إليك على عيني أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك.
وربما قيل: إن المراد بقوله:{ولتصنع على عيني} الإحسان إليه بإرجاعه إلى أمه وجعل تربيته في حجرها.
وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير.
وقوله:{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ } الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله:{ولتصنع} والمعنى: وألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا وكذا وليحسن إليك بمرأى مني وتحت مراقبتي في وقت تمشي أختك لتجوس خبرك وترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - والاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة والإرضاع فرددناك إلى أمك كي تسر ولا تحزن.
وقوله:{فرجعناك} بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق وهو التكلم بالغير وليس بالتفات.
قوله تعالى:{ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ إلى آخر الآية، إشارة إلى من أومنن أخرى ملحقة بالمنين السابقين وهو قصة قتله (عليه السلام) القبطي وائتمار الملإ أن يقتلوه وفراره من مصر وتزوجه هناك ببنت شعيب النبي وبقاؤه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، والقصة مفصلة مذكورة في سورة القصص.
فقوله:{وقتلت نفسا} هو قتله القبطي بمصر، وقوله:{فنجيناك من الغم} وهو ما كان يخافه أن يقتله الملأ من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب وورد عليه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين.
وقوله:{وفتناك فتونا} أي ابتليناك واختبرناك ابتلاء واختبارا، قال الراغب من المفردات،: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار، قال:{يوم هم على النار يفتنون}{ذوقوا فتنكم} أي عذابكم، قال: وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله:{ألا في الفتنة سقطوا} وتارة في الاختبار، نحو:{وفتناك فتونا} وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا وقد قال فيهما:{ونبلوكم بالشر والخير فتنة} انتهى موضع الحاجة من كلامه.
وقوله:{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} متفرع على الفتنة.
وقوله:{ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر وهو ما حصله من العلم والعمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر ولبثه في أهل مدين.
وعلى هذا فمجموع قوله:{ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ} - إلى قوله - يا موسى} من واحد وهو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر وهو ما اكتسبه من فعلية الكمال.
وربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن هاهنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، وربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، والوجهان مبنيان على فصل قوله:{فلبثت} إلى آخر الآية عما قبله ولذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله:{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، وفيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب وليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما.
وقال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير والمراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها وفيه أن القدر والقدر بسكون الدال وفتحها - كما صرحوا به كالنعل والنعل بمعنى واحد.
على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين.
وذكر لمجيئه على مقدار بعض معان أخر وهي سخيفة لا جدوى فيها.
وختم ذكر المن بنداء موسى (عليه السلام) زيادة تشريف له.
قوله تعالى:{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الإحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه. انتهى.
وعلى هذا يئول معنى اصطناعه إياه إلى إخلاصه تعالى إياه لنفسه ويظهر موقع قوله:{لنفسي} أتم ظهور وأما على المعنى الأول فالأنسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الإخلاص، والمعنى على أي حال وجعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني وإحساني ولا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا وينطبق ذلك على قوله:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا }: مريم: 51.
ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، ومعنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه وبين خلقه كلامه كلامه ودعوته دعوته وكذا قول بعضهم إن المراد بقوله:{لنفسي} لوحيي ورسالتي، وقول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد.
ويظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم ومن الممكن أن يكون معطوفا على قوله:{جئت على قدر} عطف تفسير.
والاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه وبين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره، - فالأولى جعله تمهيدا لإرساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره.
وفيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد اللطف وتقريبه من موقف الأنس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله:{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }.
_____________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص121-125.
ولما كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلاّ الخدمة الأكثر والأكمل، فإِنّ الله سبحانه قد لبى طلباته في نفس الوقت {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}.
إِنّ موسى في الواقع طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإِلهية ويطأ بساطها، والله سبحانه كان يحب ضيفه أيضاً، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة، وبدون قيد وشرط ثمّ وبتكرار اسم موسى أكمل له الإِستجابة وحلاوتها وأنزال كل إِبهام عن قلبه، وأي تشويق وافتخار أن يكرر المولى اسم العبد؟
الربّ الرحيم:
يشير الله سبحانه في هذه الآيات إِلى فصل آخر من فصول حياة موسى(عليه السلام)، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإِن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنّبوة، إلاّ أنّه ذكر كشاهد على شمول عناية الله عزّوجل لموسى(عليه السلام) من بداية عمره، وهي في الدرجة الثّانية من الإهمية بالنسبة إِلى الرسالة، فيقول أوّلا: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى}(2).
وبعد ذكر هذا الإِجمال تتطرق الآيات إِلى الشرح والتفصيل، فتقول: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} وهو إِشارة إِلى أنّنا قد علّمنا أُمّه كل الطرق التي تنتهي إِلى نجاة موسى(عليه السلام) من قبضة الفراعنة، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أن فرعون شدّد ارهابه على بني إِسرائيل للتصدّي لقوتهم وعصيانهم المحتمل، أو أنّه ـ على رأي بعض المفسّرين والمؤرخين ـ كان قد أمر بقتل أبنائهم وإِبقاء البنات للخدمة، لكي يمنع ولادة ولد من بني إِسرائيل كان قد أخبره المنجمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.
من الطبيعي أن جواسيس وعيون فرعون كانوا يراقبون بشدة محلات بني إِسرائيل وبيوتهم، وكانوا لا يدعون ذكراً يولد إِلاّ وقتلوه.
وذهب بعض المفسّرين إِلى أن فرعون كان يريد تحطيم قوّة بني إِسرائيل من جهة، وكان من جهة أُخرى غير راغب في انقراض نسلهم تماماً، لأنّه كان يعتبرهم عبيداً يصلحون للخدمة، ولذلك كان قد أمر بأنّ يتركوا الأولاد سنة ويذبحونهم سنة أُخرى، فكان أن ولد موسى في العام الذي يقتل فيه الأولاد!
على كل حال، فإِنّ هذه الأُم أحسّت بأن حياة وليدها في خطر، وإِخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحل المشكلة .. في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ـ أن أودعيه عندنا، وانظري كيف سنحافظ عليه، وكيف سنرده إِليك؟ فألقى في قلب الأُمّ: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ }.
«اليم» هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه.
والتعبير بـ (اقذفيه في التابوت) ربما كان إشارة إِليها أن ارفعي ولدك بكل شجاعة وبدون أي خوف أو ارتياب، وضعيه في الصندوق، وألقيه في نهر النيل، ولا تدعي للخوف سبيلا إِلى نفسك.
كلمة «التابوت» تعني الصندوق الخشبي، ولا يعني دائماً الصندوق الذي توضع فيه الأموات كما يظن البعض، بل إِنّه له معنى واسعاً، حيث تطلق أحياناً على الصناديق الأُخرى أيضاً، كما قرأنا ذلك في قصة طالوت وجالوت في ذيل الآية (248) من سورة البقرة(3).
ثمّ تضيف: {فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} والملفت أن كلمة «عدو» قد تكررت هنا، وهذا في الحقيقة تأكيد على عداء فرعون لله، ولموسى وبني إِسرائيل، وأشارت إِلى أن الشخص الذي انغمس إِلى هذا الحد في العداء هو الذي سيتولى في النهاية تربية موسى ليعلم البشر الضعيف أنّه ليس عاجزاً عن التمرد على أمر الله وحسب، بل إِنّ الله سيربيه على يد عدوه وفي أحضانه! وعندما يريد أن يفني المتمردين الظالمين فسيفنيهم ويبيدهم بأيديهم، ويحرقهم بالنار التي يوقدونها بأنفسهم، فأي قدرة عجيبة قدرته تعالى؟!
ولما كان موسى(عليه السلام) يجب أن يُحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر، فقد ألقى الله قبساً من محبّة عليه، إِلى الحد الذي لم ينظر إِليه أحد إِلا ويعشقه، فلا يكف عن قتله وحسب، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} فأي درع عجيب هذا الحب! إِنّه لا يرى بالعين، ولكنه أقوى من الحديد والفولاذ!!
يقولون: إِنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة، وكانت مصممة على رفع خبر ولادته إِلى فرعون، إلاّ أنّه لما وقعت عينها على عين المولود الجديد، فكأن ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها، وطوّقت محبته رقبتها، وابتعدت عن رأسها كل الأفكار السيئة.
ونقرأ في حديث عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في هذا الباب: «فلمّا وضعت أم موسى موسى نظرت إِليه وحزنت عليه واغتمت وبكت وقالت: تذبح الساعة، فعطف الله الموكلة بها عليه، فقالت لأم موسى: ما لك قد اصفر لونك؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافي وكان موسى لا يراه أحد إِلا أحبه»(4)، وكان درع المحبة هذا هو الذي حفظه تماماً في بلاط فرعون.
وتقول الآية في النهاية: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} فلا شك في أنّه لا تخفى ذرة عن علم الله في السماء ولا في الأرض، وكل شيء حاضر بين يديه، إلاّ أنّ هذا التعبير إِشارة إِلى العناية الخاصّة التي أولاها الله سبحانه لموسى وتربيته.
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين اعتقد أنّ جملة {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}مقصورة على مرحلة رضاعة موسى وأمثالها، إلاّ أنّ من المعلوم أن لهذه الجملة معنى واسعاً، تدخل فيه كل أنواع التربية والعناية، وصنع موسى(عليه السلام) من أجل حمل راية الرسالة مع عناية الله الخاصّة.
ويستفاد بوضوح من القرائن الموجودة في هذه الآيات، والآيات المشابهة لها في القرآن، وممّا جاء في الرّوايات والتواريخ، أنّ أُمّ موسى(عليه السلام) قد ألقت الصندوق الذي كان فيه موسى وهي في حالة من الخوف والقلق، وحملته أمواج النيل، وأخذ قلب أم موسى يخفق من مشاهدة هذا المنظر، إلاّ أنّ الله قد ألهم قلبها أن لا يدع للهم والحزن إِليه طريقاً، فهو سبحانه سيعيده إِليها في النهاية سالماً.
وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل، ويحتمل أن فرعاً من هذا النهر العظيم كان يمر داخل قصره، فحملت أمواج المياه الصندوق إِلى ذلك الفرع الصغير، وبينما كان فرعون وزوجته على حافة الماء ينظرون إِلى الأمواج، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من الماء، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلا فيه، وهو شيء لم يكن بالحسبان.
وهنا تنبه فرعون إِلى أن هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إِسرائيل، وإِنما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته، فأمر بقتله، إلاّ أنّ زوجته ـ التي كانت عقيماً ـ تعلقت جدّاً بالطفل، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إِلى زوايا قلبها، وجذبها إِليه، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله، وعبرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين)، بل وتمادت في طلبها، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما، ويكبر في أحضانهما، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها، وحققت ما تصبو إِليه.
غير أن الطفل جاع، وأراد لبناً، فاخذ يبكي ويذرف الدموع، فرق قلب امرأة فرعون لهذه الدموع والبكاء واهتز، ولا محيص من أن يبحث الخدم عن مرضعة له، إلاّ أنّهم كلما جاؤوه بمرضعة لم يقبل ثديها، لأن الله سبحانه كان قد قدر أن يعيده إِلى أُمّه، فهب المأمورون للبحث من جديد، وكانوا يطرقون الأبواب بحثاً عن مرضع جديدة.
والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة:
نعم يا موسى، فإِنّا كنّا قدرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا (إِذا تمشي أختك) بأمر أمُك لتراقب مصيرك، فرأت جنود فرعون: {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ}وربّما أضافت بأن هذه المرأة لها لبن نظيف، وأنا مطمئنة بأن هذا الرضيع سيقبلها.
فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالتهم عن هذا الطريق، فذهبوا معها، فأطلعت أُخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ أُمّها على الأمر، فجاءت أُمّه إِلى بلاط فرعون، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها، بالرغم من أن أمواجاً من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها، واحتضنت الطفل، فلمّا شم الطفل رائحة أُمّه، وكانت رائحة مألوفة لديه، التقم ثديها كأنّه تضمن لذة الروح وحلاوتها، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.
يقول البعض: إِنّ فرعون تعجب من هذه الحادثة، وقال: من أنت إِذ قبل هذا الطفل لبنك في حين أنّه ردّ جميع الأُخريات؟ فقالت الأم: إِني امرأة طيبة الريح واللبن، ولا يرفض لبني أي طفل!
عل كل حال فقد أمرها فرعون بالإِهتمام بالطفل، وأكدت زوجته كثيراً على حفظه وحراسته، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة وأُخرى.
هنا تحقق ما قاله القرآن: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} ولتستطيع تربيته بدون خوف من جلاوزة فرعون. ويستفاد من هذه العبارة أن فرعون أودع الطفل أمه لتذهب به إِلى بيتها، إلاّ أنّ من الطبيعي أن ابن عائلة فرعون! الذي تعلقت به امرأته وأحبته حباً شديداً، يجب أن يعرض عليها بين فترة وأُخرى.
ومرّت السنون والاعوام، وتربى موسى(عليه السلام) وسط هالة من لطف الله ومحبته، وفي محيط آمن، وشيئاً فشيئاً أصبح شاباً. وكان ذات يوم يمر من طريق فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من بني إِسرائيل والآخر من الأقباط ـ (وهم المصريون قوم فرعون) ـ ولما كان بنو إِسرائيل يعيشون دائماً تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إِسرائيل، ومن أجل الدفاع عنه وجه ضربة قاتلة إِلى ذلك القبطي، فقضت عليه.
فتأثر موسى مما حدث وقلق، لأن حراس فرعون علموا في النهاية من الذي قام بعملية القتل هذه، فنشطوا للبحث عنه ومطاردته. إلاّ أنّ موسى، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه، خرج متخفياً من مصر، وتوجه إِلى مدين، فوجد محيطاً وجواً آمناً في ظل النّبي «شعيب»، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير سورة القصص إِن شاء الله تعالى
هنا حيث يقول القرآن الكريم: {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيراً والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل، والإِستعداد الروحي والجسمي، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى }. أي حيث لاستلام مهمّة الرسالة في زمان مقدّر إِلى هذا المكان.
إِن كلمة «قدر» ـ برأي كثير من المفسّرين ـ تعني الزمان الذي قدر فيه أن يُنتخب موسى للرسالة. إلاّ أنّ البعض اعتبرها بمعنى المقدار، كما جاء هذا المعنى في بعض الآيات القرآنية، كالآية (21) من سورة الحجر، وطبقاً لهذا التّفسير سيكون معنى الآية: يا موسى إِنك قد نشأت وأصبحت ـ بعد تحمل هذه المصاعب والإِمتحانات وعشت سنين في بيت نبي كبير كشعيب ـ ذا قدر ومقام وشخصية، وحصلت على استعداد لتلقي الوحي.
ثمّ يضيف: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} فمن أجل مهمّة تلقي الوحي الصعبة، ومن أجل قبول الرسالة، ومن أجل هداية العباد وإِرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها، ومنحتك القوة والقدرة، والآن حيث ألقيت هذه المهمّة الكبرى على عاتقك، فإِنك مؤهل من جميع الجوانب.
«اصطناع» من مادة «صنع» بمعنى الأصرار والاقدام الاكيد على اصلاح شيء (كما يراه الراغب في مفرداته). ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات وكأنني اريدك لي وهذا الكلام هو أكثر ما يمكن أن يقال في تصوير محبّة الله لهذا النّبي العظيم، وذهب البعض أنّه يشبه ما قاله الحكماء من: إِنّ الله إِذا أحبّ عبداً تفقده كما يتفقد الصديق صديقه.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص126-135.
2- كما قلنا سابقاً أيضاً فإِنّ «المنة» في الأصل من المن، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها، ولذلك فإِن كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها: إِنّها منة. والمراد في الآية هو هذا المعنى، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة، إلاّ أنّ الإِنسان إِذا عظّم عمله الصغير بكلامه، وذكرّ الطرف الآخر به، فإنّه مصداق حي للمنة السلبية المذمومة.
3- راجع المجلد الثّاني من التّفسير الأمثل ذيل الآية (248) من سورة البقرة.
4- نور الثقلين، ج 3، ص 378.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
البحرين تفوز بجائزة أفضل وجهة للمعارض والمؤتمرات
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|