أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-9-2020
7139
التاريخ: 1-9-2020
10581
التاريخ: 3-9-2020
3226
التاريخ: 1-9-2020
4212
|
قال تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } [مريم: 66 - 72]
لما تقدم ذكر الوعد والوعيد والبعث والنشور حكى سبحانه عقيبه قول منكري البعث ورد عليهم بأوضح بيان وأجلى برهان فقال { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} هذا استفهام المراد به الإنكار والاستهزاء أي: أإذا ما مت أعادني الله حيا فقال سبحانه مجيبا لهذا الكافر { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} أي: أولا يتذكر هذا الجاحد حال ابتداء خلقه فيستدل بالابتداء على الإعادة وقيل أن الإنسان هنا مفرد في اللفظ مجموع في المعنى يريد جميع منكري البعث { وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} معناه ولم يك شيئا كائنا أو مذكورا سؤال قيل كيف تدل النشأة الأولى على النشأة الثانية والواحد منا يقدر على أفعاله كالحركات والسكنات والأصوات وغيرها ولا يقدر على إعادتها والجواب من وجوه ( أحدها ) أنه سبحانه خلق الأجسام والحياة فيها والبقاء جائز عليها فيجب أن يقدر على إعادتها بخلاف أفعالنا فإنها لا تبقى ولا يصح الإعادة عليها ( والثاني ) أن الابتداء أصعب من الإعادة فإذا كان قادرا على الابتداء فلأن يكون قادرا على الإعادة أولى ( والثالث ) أنه سبحانه استدل بخلق الأجسام على أنه قادر لذاته إذ القادر بقدرة لا يصح منه فعل الأجسام وإذا كان قادرا لذاته ويقدر على إيجاد ما يصح وجوده وقتين قدر على إعادته.
ثم حقق سبحانه أمر الإعادة فقال { فوربك } يا محمد { لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أي: لنجمعنهم ونبعثنهم من قبورهم مقرنين بأوليائهم من الشياطين وقيل لنحشرنهم ولنحشرن الشياطين أيضا { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} أي: مستوفزين على الركب عن قتادة والمعنى يجثون حول جهنم متخاصمين ويتبرأ بعضهم من بعض لأن المحاسبة تكون بقرب جهنم وقيل جثيا أي: جماعات جماعات عن ابن عباس كأنه قيل زمرا وهو جمع جثوة وجثوة هي المجموع من التراب والحجارة وقيل معناه قياما على الركب وذلك لضيق المكان بهم لا يمكنهم أن يجلسوا عن السدي { ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} أي: لنستخرجن من كل جماعة { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} أي: الأعتى فالأعتى منهم قال قتادة : لننزعن من كل أهل دين قادتهم ورءوسهم في الشر والعتي هاهنا مصدر كالعتو وهو التمرد في العصيان وقيل يبدأ بالأكثر جرما فالأكثر عن مجاهد وأبي الأحوص { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أي: لنحن أعلم بالذين هم أولى بشدة العذاب وأحق بعظيم العقاب وأجدر بلزوم النار .
ثم بين سبحانه أحوالهم يوم الحشر فقال { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} أي: ما منكم أحد إلا واردها والهاء في واردها راجعة إلى جهنم واختلف العلماء في معنى الورود على قولين ( أحدهما ) أن ورودها هو الوصول إليها والإشراف عليها لا الدخول فيها وهو قول ابن مسعود والحسن وقتادة واختاره أبومسلم واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} وقوله تعالى فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه وبأنك تقول وردت بلد كذا وماء كذا أي أشرفت عليه دخلته أولم تدخله وفي أمثال العرب إن ترد الماء بماء أكيس(2) وقال زهير :
فلما وردن الماء زرقا جمامة وضعن عصي الحاضر المتخيم(3)
أراد فلما بلغن الماء أقمن عليه قال الزجاج : والحجة القاطعة في ذلك قوله سبحانه { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} فهذا يدل على أن أهل الحسنى لا يدخلونها قالوا فمعناه إنهم واردون حول جهنم للمحاسبة ويدل عليه قوله { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} ثم يدخل النار من هو أهلها وقال بعضهم معناه إنهم واردون عرصة القيامة التي تجمع كل بر وفاجر ( والآخر ) أن ورودها بمعنى دخولها بدلالة قوله تعالى { فأوردهم النار } وقوله { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} وهو قول ابن عباس وجابر وأكثر المفسرين ويدل عليه قوله { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ولم يقل وندخل الظالمين وإنما يقال نذر ونترك للشيء الذي قد حصل في مكانه ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم إنه للمشركين خاصة ويكون قوله { وإن منكم } المراد به منهم كما قال سبحانه وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء أي لهم وروي في الشواذ عن ابن عباس أنه قرأ وإن منهم وقال الأكثرون إنه خطاب لجميع المكلفين فلا يبقى بر ولا فاجر إلا ويدخلها فيكون بردا وسلاما على المؤمنين وعذابا لازما للكافرين قال السدي : سألت مرة الهمداني عن هذه الآية فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال يرد الناس النار ثم يصدرون بأعمالهم فأولهم كلمع البرق ثم كمر الريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب ثم كشد الرجل ثم كمشيه.
وروى أبوصالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد عن أبي سمينة قال : اختلفا في الورود فقال قوم لا يدخلها مؤمن وقال آخرون يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأومى بإصبعيه إلى أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا يدخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى أن للنار أوقال لجهنم ضجيجا من بردها { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} وروي مرفوعا عن يعلى بن منبه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سئل عن معنى الآية فقال إن الله تعالى يجعل النار كالسمن الجامد ويجمع عليها الخلق ثم ينادي المنادي أن خذي أصحابك وذري أصحابي قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) فو الذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها.
وروي عن الحسن أنه رأى رجلا يضحك فقال هل علمت أنك وارد النار قال نعم قال وهل علمت أنك خارج منها قال لا قال فبم هذا الضحك وكان الحسن لم ير ضاحكا قط حتى مات وقيل أن الفائدة في ذلك ما روي في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يدخل أحدا الجنة حتى يطلعه على النار وما فيها من العذاب ليعلم تمام فضل الله عليه وكمال لطفه وإحسانه إليه فيزداد لذلك فرحا وسرورا بالجنة ونعيمها ولا يدخل أحد النار حتى يطلعه على الجنة وما فيها من أنواع النعيم والثواب ليكون ذلك زيادة عقوبة له حسرة على ما فاته من الجنة ونعيمها وقال مجاهد : الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ { وإن منكم إلا واردها } فعلى هذا من حم من المؤمنين فقد وردها وقد ورد في الخبر أن الحمى من قيح جهنم وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عاد مريضا فقال أبشر إن الله عز وجل يقول الحمى هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار وقوله { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي: كائنا واقعا لا محالة قد قضى بأنه يكون وعلى كلمة وجوب فمعناه أوجب الله ذلك على نفسه وفيه دلالة على أنه يجب عليه سبحانه أشياء من طريق الحكمة خلافا لم يذهب إليه أهل الجبر.
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الشرك وصدقوا عن ابن عباس { وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} أي: ونقر المشركين والكفار على حالهم { فيها } أي: في جهنم { جثيا } أي: باركين على ركبهم وقيل جماعات على ما مر تفسيره وقيل المراد بالظالمين كل ظالم وعاص.
_____________
1- تفسير مجمع البيان ، الطبرسي،ج6،ص437-443.
2- يعني ان ترد الماء ومعك ماء أقرب الى الحزم والكياشة من التفريط في حمله أي:لا تقصر في حمل الماء ،ولوكنت وارداَ على الماء.
3- يضرب في الاخذ بالحزم ، والاحتياط في الامور . ووضع العصي : كتابة الاقامة، لان المسافرين إذا أقاموا وضعوا عصيهم . والتخيم :ابتناء الخيمة.
{ ويَقُولُ الإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَولا يَذْكُرُ الإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً } يتلخص المعنى بأنه لا شيء لدى منكر البعث يتذرع به إلا التعجب والاستبعاد : كيف تعود الحياة إلى الإنسان بعد ان تفارقه ؟ . والجواب يعيدها ثانية من جاء بها أولا « أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئاً » . وتكرر ذلك في العديد من الآيات . انظر ج 1 ص 77 و2 ص 396 وج 4 ص 378 وما بعدها .
{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشَّياطِينَ } . ضمير الغائب في لنحشرنهم يعود إلى منكري البعث ، والمراد بالحشر إخراجهم من قبورهم أذلاء خاسئين مع الذين أضلوهم عن الحق ( ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) . بعد أن يخرجوا من قبورهم على أسوأ حال تقعدهم الملائكة على الركب حول جهنم لينظروا إليها ، فيزدادوا حسرات وأنّات .
{ ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا } . وبعد ان يتحلقوا حول جهنم جاثين على الركب ، وهم فرق وطوائف يأخذ اللَّه أولا من كل فرقة الرؤساء والقادة العتاة ، ويلقي بهم في جهنم ، ثم الأعتى فالأعتى ، ويوضع كل واحد في المكان اللائق به من عذاب الحريق { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا } . ان اللَّه سبحانه يعلم السيئات التي يجترحها الإنسان في سره وعلنه ، ويجازيه بما يستحق ، فصاحب الكبيرة له العذاب الأكبر ، ثم الأدنى فالأدنى :
« ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » - 49 الكهف .
{ وإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا } . المراد بالورود هنا الرؤية والمشاهدة لأن المؤمنين عن النار مبعدون ، كما قال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » - 101 الأنبياء » .
ولأن عذاب المطيع يتنافى مع عدل اللَّه وفضله . ومعنى الآية ما من أحد إلا ويرى النار عيانا يوم القيامة صالحا كان أم طالحا ، فالطالح يراها ويدخلها جاثيا على ركبتيه ، والصالح يراها ويتجاوزها حامدا شاكرا نعمة النجاة والخلاص من كلبها ولجبها : « فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ » - 185 آل عمران .
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 192-193.
عود إلى ما قبل قوله:{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآيتين ومضى في الحديث السابق وهوكالتذنيب لقوله:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} بذكر بعض ما تفوهوا به عن غيهم وقد خص بالذكر قول لهم في المعاد وآخر في النبوة وآخر في المبدإ.
ففي هذه الآيات أعني قوله:{ويقول الإنسان - إلى قوله - ونذر الظالمين فيها جثيا} وهي سبع آيات ذكر استبعادهم للبعث والجواب عنه وذكر الإشارة إلى ما لقولهم هذا من التبعة والوبال.
قوله تعالى:{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} إنكار للبعث في صورة الاستبعاد، وهو قول الكفار من الوثنيين ومن يلحق بهم من منكري الصانع بل مما يميل إليه طبع الإنسان قبل الرجوع إلى الدليل، قيل: ولذلك نسب القول إلى الإنسان حينما كان مقتضى طبع الكلام أن يقال: ويقول الكافر، أو: ويقول الذين كفروا{إلخ}، وفيه أنه لا يلائم قوله الآتي:{فوربك لنحشرنهم والشياطين - إلى قوله - صليا}.
وليس ببعيد أن يكون المراد بالإنسان القائل ذلك هو الكافر المنكر للبعث وإنما عبر بالإنسان لكونه لا يترقب منه ذلك وقد جهزه الله تعالى بالإدراك العقلي وهو يذكر أن الله خلقه من قبل ولم يك شيئا، فليس من البعيد أن يعيده ثانيا فاستبعاده مستبعد منه، ولذا كرر لفظ الإنسان حيث أخذ في الجواب قائلا:{ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} أي أنه إنسان لا ينبغي له أن يستبعد وقوع ما شاهد وقوع مثله وهو غير ناسية.
ولعل التعبير بالمضارع في قوله:{ويقول الإنسان} للإشارة إلى استمرار هذا الاستبعاد بين المنكرين للمعاد والمرتابين فيه.
قوله تعالى:{ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} الاستفهام للتعجيب والاستبعاد ومعنى الآية ظاهر وقد أخذ فيها برفع الاستبعاد بذكر وقوع المثل ليثبت به الإمكان، فالآية نظيرة قوله تعالى في موضع آخر:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ - إلى أن قال - أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ }: يس: 81.
فإن قيل: الاحتجاج بوقوع المثل إنما ينتج إمكان المثل والمطلوب في إثبات المعاد هو رجوع الإنسان بشخصه وعينه لا بمثله فإن مثل الشيء غيره، قيل: إن هذه الآيات بصدد إثبات رجوع الأجساد والمخلوق منها ثانيا مثل المخلوق أولا وشخصية الشخص الإنساني بنفسه لا ببدنه فإذا خلق البدن ثانيا وتعلقت به النفس كان شخص الإنسان الدنيوي بعينه وإن كان البدن وهو جزء الإنسان بالقياس إلى البدن الدنيوي مثلا لا عينا وهذا كما أن شخصية الإنسان ووحدته محفوظة في الدنيا مدى عمره مع تغير البدن وتبدله بتغير أجزائه وتبدلها حالا بعد حال والبدن في الحال الثاني غيره في الحال الأول لكن الإنسان باق في الحالين على وحدته الشخصية لبقاء نفسه بشخصها.
وإلى هذا يشير قوله تعالى:{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ - إلى أن قال - قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ:} الم السجدة: 11} أي إنكم مأخوذون من أبدانكم محفوظون لا تضلون ولا تفتقدون.
قوله تعالى:{ فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} الجثي في أصله على فعول جمع جاثي وهو البارك على ركبتيه، ونسب إلى ابن عباس أنه جمع جثوة وهو المجتمع من التراب والحجارة، والمراد أنهم يحضرون زمرا وجماعات متراكما بعضهم على بعض، وهذا المعنى أنسب للسياق.
وضمير الجمع في{لنحشرنهم} و{لنحضرنهم} للكفار، والآية إلى تمام ثلاث آيات متعرضة لحالهم يوم القيامة وهو ظاهر وربما قيل: إن الضميرين للناس أعم من المؤمن والكافر كما أن ضمير الخطاب في قوله الآتي:{وإن منكم إلا واردها} كذلك وفيه أن لحن الآيات الثلاث وهو لحن السخط والعذاب يأبى ذلك.
والمراد بقوله:{لنحشرنهم والشياطين} جمعهم خارج القبور مع أوليائهم من الشياطين لأنهم لعدم إيمانهم غاوون كما قال:{فسوف يلقون غيا} والشياطين أولياؤهم قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ:} الحجر: 42، وقال:{إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون}: الأعراف: 27، أوالمراد حشرهم مع قرنائهم من الشياطين كما قال:{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}: الزخرف: 39.
والمعنى: فأقسم بربك لنجمعنهم - يوم القيامة - وأولياءهم أوقرناءهم من الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم لإذاقة العذاب وهم باركون على ركبهم من الذلة أو وهم جماعات وزمرة زمرة.
وفي قوله:{فوربك} التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ولعل النكتة فيه ما تقدم في قوله:{بأمر ربك} ونظيره قوله الآتي:{كان على ربك حتما}.
قوله تعالى:{ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} النزع هو الاستخراج، والشيعة الجماعة المتعاونون على أمر أوالتابعون لعقيدة والعتي على فعول مصدر بمعنى التمرد في العصيان والظاهر أن قوله:{أيهم أشد على الرحمن عتيا} جملة استفهامية وضع موضع مفعول لننزعن للدلالة على العناية بالتعيين والتمييز فهو نظير قوله:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }: الإسراء: 57.
والمعنى: ثم لنستخرجن من كل جماعة متشكلة أشدهم تمردا على الرحمن وهم الرؤساء وأئمة الضلال، وقيل المعنى لنستخرجن الأشد ثم الأشد حتى يحاط بهم.
وفي قوله:{على الرحمن} التفات والنكتة تلويح أن تمردهم عظيم لكونه تمردا على من شملت رحمته كل شيء وهم لم يلقوا منه إلا الرحمة والتمرد على من هذا شأنه عظيم.
قوله تعالى:{ ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} الصلي في الأصل على فعول مصدر يقال صلي النار يصلاها صليا وصليا إذا قاسى حرها فالمعنى ثم أقسم لنحن أعلم بمن أولى بالنار مقاساة لحرها أي إن الأمر في دركات عذابهم ومراتب استحقاقهم لا يشتبه علينا.
قوله تعالى:{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} الخطاب للناس عامة مؤمنيهم وكافريهم بدليل قوله في الآية التالية:{ثم ننجي الذين اتقوا} والضمير في{واردها} للنار، وربما قيل: إن الخطاب للكفار المذكورين في الآيات الثلاث الماضية وفي الكلام التفات من الغيبة إلى الحضور وفيه أن سياق الآية التالية يأبى ذلك.
والورود خلاف الصدور وهو قصد الماء على ما يظهر من كتب اللغة قال الراغب في المفردات،: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره يقال: وردت الماء أرده، ورودا فأنا وارد والماء مورود، وقد أوردت الإبل الماء قال تعالى:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} والورد الماء المرشح للورود، والورد خلاف الصدر، والورد يوم الحمى إذا وردت، واستعمل في النار على سبيل الفظاعة قال تعالى:{فأوردهم النار}{وبئس الورد المورود}{إلى جهنم وردا}{أنتم لها واردون}{ما وردوها} والوارد الذي يتقدم القوم فيسقي لهم قال تعالى:{فأرسلوا واردهم} أي ساقيهم من الماء المورود انتهى موضع الحاجة.
وإلى ذلك استند من قال من المفسرين إن الناس إنما يحضرون النار ويشرفون عليها من غير أن يدخلوها واستدلوا عليه بقوله تعالى:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}: القصص: 23، وقوله:{ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ }: يوسف: 19، وقوله:{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }: الأنبياء: 102.
وفيه أن استعماله في مثل قوله:{ولما ورد ماء مدين} وقوله:{فأرسلوا واردهم} في الحضور بعلاقة الإشراف لا ينافي استعماله في الدخول على نحو الحقيقة كما ادعي في آيات أخرى، وأما قوله:{ أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } فمن الجائز أن يكون الإبعاد بعد الدخول كما يستظهر من قوله:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا }، وأن يحجب الله بينهم وبين أن يسمعوا حسيسها إكراما لهم كما حجب بين إبراهيم وبين حرارة النار إذ قال للنار: كوني بردا وسلاما على إبراهيم.
وقال آخرون ولعلهم أكثر المفسرين بدلالة الآية على دخولهم النار استنادا إلى مثل قوله تعالى:{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا }: الأنبياء: 99، وقوله في فرعون:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}: هود: 98، ويدل عليه قوله في الآية التالية:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أي نتركهم باركين على ركبهم وإنما يقال نذر ونترك فيما إذا كان داخلا مستقرا في المحل قبل الترك ثم أبقي على ما هو عليه ولعدة من الروايات الواردة في تفسير الآية.
وهؤلاء بين من يقول بدخول عامة الناس فيها ومن يقول بدخول غير المتقين مدعيا أن قوله:{منكم} بمعنى منهم على حد قوله:{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً }: الانسان: 22، هذا ولكن لا يلائمه سياق قوله:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} الآية.
وفيه أن كون الورود في مثل قوله:{لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها} بمعنى الدخول ممنوع بل الأنسب كونه بمعنى الحضور والإشراف فإنه أبلغ كما هو ظاهر وكذا في قوله:{فأوردهم النار} فإن شأن فرعون وهو من أئمة الضلال هو أن يهدي قومه إلى النار وأما إدخالهم فيها فليس إليه.
وأما قوله:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا} فالآية دالة على كونهم داخلين فيها بدليل قوله:{نذر} لكن دلالتها على كونهم داخلين غير كون قوله{واردها} مستعملا في معنى الدخول وكذا تنجية المتقين لا تستلزم كونهم داخلين فيها فإن التنجية كما تصدق مع إنقاذ من دخل المهلكة تصدق مع إبعاد من أشرف على الهلاك وحضر المهلكة من ذلك.
وأما الروايات فإنما وردت في شرح الواقعة لا في تشخيص ما استعمل فيه لفظ{واردها} في الآية فالاستدلال بها على كون الورود بمعنى الدخول ساقط.
فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون المراد شأنية الدخول والمعنى: ما من أحد منكم إلا من شأنه أن يدخل النار وإنما ينجومن ينجوبإنجاء الله على حد قوله:{ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}: النور: 21.
قلت: معناه كون الورود مقتضى طبع الإنسان من جهة أن ما يناله من خير وسعادة فمن الله ولا يبقى له من نفسه إلا الشر والشقاء لكن ينافيه ما في ذيل الآية من قوله:{ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فإنه صريح في أن هذا الورود بإيراد من الله وبقضائه المحتوم لا باقتضاء من طبع الأشياء.
والحق أن الورود لا يدل على أزيد من الحضور والإشراف عن قصد - على ما يستفاد من كتب اللغة - فقوله:{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} إنما يدل على القصد والحضور والإشراف، ولا ينافي دلالة قوله في الآية التالية:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} على دخولهم جميعا أودخول الظالمين خاصة فيها بعد ما وردوها.
وقوله:{ كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} ضمير كان للورود أوللجملة السابقة باعتبار أنه حكم، والحتم والجزم والقطع بمعنى واحد أي هذا الورود أوالحكم كان واجبا عليه تعالى مقضيا في حقه وإنما قضى ذلك نفسه على نفسه إذ لا حاكم يحكم عليه.
قوله تعالى:{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} قد تقدمت الإشارة إلى أن قوله:{ونذر الظالمين فيها} يدل على كون الظالمين داخلين فيها ثم يتركون على ما كانوا عليه، وأما تنجية الذين اتقوا فلا تدل بلفظها على كونهم داخلين إذ التنجية ربما تحققت بدونه اللهم إلا أن يستظهر ذلك من ورود اللفظين مقترنين في سياق واحد.
وفي التعبير بلفظ الظالمين إشارة إلى علية الوصف للحكم.
ومعنى الآيتين: ما من أحد منكم - متق أوظالم - إلا وهو سيرد النار كان هذا الإيراد واجبا مقضيا على ربك ثم ننجي الذين اتقوا منها ونترك الظالمين فيها لظلمهم باركين على ركبهم.
______________
1- تفسير الميزان،الطباطبائي،ج14،ص70-75.
حال أهل النّار:
مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع، فتعيد الآية الأُولى أقوال منكري المعاد، فتقول: { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا }.
هذا الإِستفهام استفهام إِنكاري طبعاً، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإِنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس)، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إِنسان في البداية بزيادة ونقيصة، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الإِستفهام فوراً.
ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا }. ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضاً إِشارة إِلى أن الإِنسان مع ذلك الإِستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه، يجب أن لا يجلس ساكتاً أمام هذا السؤال، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل، وإِلاّ فإنّه لم يستعمل حقيقة إِنسانيته.
إِنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني، وإِلاّ فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط، ولا وجود لرجوع الجسم إِلى الحياة، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال، ولا لهذا الجواب.
على كل حال، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإِثبات المعاد هنا، وقد جاء في مواضع أُخرى من القرآن أيضاً، ومن جملتها في أواخر سورة يس، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإِنسان: { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (2).
بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا، وهو أن هذا الدليل إِذا كان صحيحاً، بأنّ كل شخص إِذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته، فلماذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحياناً؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّاً، أو نكتب بخط جميل جدّاً، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإِتيان بمثله ولكن دون جدوى.
الجواب هو: صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإِرادة واختيار، إِلاّ أن هناك سلسلة من الأُمور غير الإِرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحياناً، فإِنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحياناً في دقة شكل الحروف. إِضافة إِلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائماً، فقد تعرض أحياناً عوامل تعبىء كل قوانا الداخلية، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إِلاّ أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحياناً، فلا تستجمع كل الطاقات، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.
إِلاّ أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته، لا تثار حوله هذه المسائل، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا، فإنّه إِذا عمل عملا فإنّه يستطيع إِعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.
ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد، والمجرمين الكافرين: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا}.
إِنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إِشارة إِلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحياناً.
ولهذه الكلمة معاني أُخرى أيضاً، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثياً» بمعنى جماعة جماعة، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة، إِلاّ أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.
ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة، فإنّ الآية التالية تقول: { ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}(3) ونبدأ بحسابهم أوّلا، فإِنّهم عتوا عتواً نسوا معه كل مواهب الله الرحمان، وجنحوا إِلى التمرد والعصيان وإِظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل، إِن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.
ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أُخرى فتقول: { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} فسنختار هؤلاء بدقة، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإِختيار.
(صلي) مصدر يعطي معنى إِشعال النار وإِيقادها، كما يعني حرق الشيء بالنّار.
الجميع يردون جهنم!
تمستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب، وأشارت في البداية إِلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس، فتقول: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.
{ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.
وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة }وإن منكم إِلاّ واردها}.
فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الإِقتراب والإِشراف، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إِلى جانب جهنم للحساب، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي، ثمّ ينجي الله المتقين، ويدع الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ... } حيث أن للورود هنا نفس المعنى.
والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين، هو أن الورود هنا بمعنى الدخلو، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيؤهم ـ يدخلون جهنم، إِلاّ أنّها سيكون برداً وسلاماً على المحسنين، كحال نار نمرود على إِبراهيم {يار نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم}، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم، إِلاّ أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للحجيم كالمادة القابلة للإشتعال، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.
وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إِن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول، وغيره يحتاج إِلى قرينة. إِضافة إِلى أن جملة {ثمّ ننجي الذين اتقوا} وكذلك جملة {ونذر الظالمين فيها} كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إِلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى، ومن جملتها:
روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية، فأشار جابر بإِصبعيه إِلى أذنيه وقال: صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهّ(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «الورود الدّخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلاّ يدخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إِبراهيم، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجاً من بردها، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً»(4).
وفي حديث آخر عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم): «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة: جز يامؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي»(5)!
ويستفاد هذا المعنى أيضاً من بعض الرّوايات الأُخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(6).
أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء: {أُولئك عنها مبعدون} دليل على التّفسير الأوّل، فلا يبدو صحيحاً، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إِقامة ومقر المؤمنين الدائمي، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية: {لا يسمعون حسيسها} فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الإِقتراب، فهي غير مناسبة لكلمة (مبعدون) ولا لجملة {لا يسمعون حسيسها}.
جواب عن سؤال:
السؤال الوحيد الذي يبقى هنا، هو: ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذاباً من هذا العمل؟
إِنّ الإِجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.
إِنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة، لأن أحداً لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة، فإنّ النّار تصبح برداً وسلاماً على هؤلاء، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.
إِضافة إِلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يُرى عليهم أدنى أثر، كما روي النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في حديث: «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم،فأوّلهم كلمع البرق، ثمّ كمر الريح، ثمّ كحضر الفرس، ثمّ كالراكب، ثمّ كشد الرجل، ثمّ كمشيه»(7).
وإِذا تجاوزنا ذلك، فإنّ أهل النّار أيضاً سيلقون عذاباً أشد من رؤية هذا المشهد، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص75-80.
2- لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإِثبات المعاد).
3- «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إِشارة إِلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا، لأنّهم أكثر تمرداً وعصياناً من الجميع.
4- نور الثقلين، الجزء 3، ص 353.
5- المصدر السّابق.
6- تفسير نور الثقلين، ج5، ص 572 ذيل آية (إِن ربّك لبالمرصاد) الفجر، 14.
7- نور الثقلين، الجزء 3، ص 353.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|