أقرأ أيضاً
التاريخ: 1-9-2020
4258
التاريخ: 2-9-2020
22093
التاريخ: 5-9-2020
6181
التاريخ: 1-9-2020
10651
|
قال تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } [مريم: 22 - 26]
{فحملته} أي: فحملت مريم بعيسى فحبلت في الحال قيل إن جبرائيل أخذ ردن قميصها بإصبعه فنفخ فيه فحملت مريم من ساعتها ووجدت حس الحمل وقيل: نفخ في كمها فحملت عن ابن جريج وروي عن الباقر (عليه السلام) إنه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر فخرجت من المستحم وهي حامل محج مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ومضت مريم على وجهها مستحية من خالتها ومن زكريا { فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أي: تنحت بالحمل إلى مكان بعيد وقيل معناه انفردت به مكانا بعيدا من قومها حياء من أهلها وخوفا من أن يتهموها بسوء واختلفوا في مدة حملها فقيل ساعة واحدة قال ابن عباس : لم يكن بين الانتباذ والحمل إلا ساعة واحدة لأنه تعالى لم يذكر بينهما فصلا لأنه قال {فحملته فانتبذت به} {فأجاءها} والفاء للتعقيب وقيل: حملت به في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زاغت الشمس من يومها وهي بنت عشر سنين عن مقاتل وقيل كانت مدة حملها تسع ساعات وهذا مروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) وقيل ستة أشهر وقيل ثمانية أشهر وكان ذلك آية وذلك أنه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيره { فَأَجَاءَهَا } أي: ألجأها الطلق أي: وجع الولادة {إلى جذع النخلة} فالتجأت إليها لتستند إليها عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وقيل: أجاءها أي: جاء بها قال ابن عباس : نظرت مريم إلى أكمة فصعدت مسرعة إليها فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس لها سعف والجذع ساق النخلة والألف واللام دخلت للعهد لا للجنس أي: النخلة المعروفة فلما ولدت { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي: شيئا حقيرا متروكا عن ابن عباس وقيل: شيئا لا يذكر ولا يعرف عن قتادة وقيل: حيضة ملقاة عن عكرمة والضحاك ومجاهد قال ابن عباس : فسمع جبرائيل كلامها وعرف جزعها {فناداها من تحتها} وكان أسفل منها تحت أكمة {ألا تحزني} وهو قول السدي وقتادة والضحاك أن المنادي جبرائيل ناداها من سفح الجبل وقيل ناداها عيسى عن مجاهد والحسن ووهب وسعيد بن جبير وابن زيد وابن جرير والجبائي وإنما تمنت (عليهاالسلام) الموت كراهية لأن يعصي الله فيها وقيل استحياء من الناس أن يظنوا بها سوءا عن السدي وروي عن الصادق (عليه السلام) لأنها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزهها من السوء {قد جعل ربك تحتك سريا} أي: ناداها جبرائيل أوعيسى ليزول ما عندها من الغم والجزع لا تغتمي قد جعل ربك تحت قدميك نهرا تشربين منه وتتطهرين من النفاس عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير قالوا وكان نهرا قد انقطع الماء عنه فأرسل الله الماء فيه لمريم وأحيا ذلك الجذع حتى أثمر وأورق وقيل ضرب جبرائيل (عليه السلام) برجله فظهر ماء عذب وقيل بل ضرب عيسى برجله فظهرت عين ماء تجري وهو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) وقيل السري عيسى (عليه السلام) عن الحسن وابن زيد والجبائي والسري وهو الشريف الرفيع قال الحسن كان والله عبدا سريا { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} معناه اجذبي إليك بجذع النخلة والباء مزيدة وقال الفراء : العرب تقول هزه وهز به { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} مر معناه وقال الباقر (عليه السلام) لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا إن الجذع كان يابسا لا ثمر عليه إذ لوكان عليه ثمر لهزته من غير أن تؤمر به وكان في الشتاء فصار معجزة بخروج الرطب في غير أوانه وبخروجه دفعة واحدة فإن العادة أن يكون نورا أولا ثم يصير بلحا ثم بسرا وروي أنه لم يكن للجذع رأس فضربته برجلها فأورقت وأثمرت وانتثر عليها الرطب جنيا والشجرة التي لا رأس لها لا تثمر في العادة وقيل إن تلك النخلة كانت برنية وقيل كانت عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي} أي: كلي يا مريم من هذا الرطب واشربي من هذا الماء {وقري عينا} جاء في التفسير وطيبي نفسا وقيل معناه لتقر عينك سرورا بهذا الولد الذي ترين لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة وقيل معناه لتسكن عينك سكون سرور برؤيتك ما تحبين { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فسألك عن ولدك { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي: صمتا عن ابن عباس والمعنى أوجبت على نفسي لله أن لا أتكلم وقيل: صوما أي إمساكا عن الطعام والشراب والكلام عن قتادة وإنما أمرت بالصمت ليكفيها الكلام ولدها بما يبريء به ساحتها عن ابن مسعود وابن زيد ووهب وقيل: كان في بني إسرائيل من أراد أن يجتهد صام عن الكلام كما يصوم عن الطعام فلا يتكلم الصائم حتى يمسي يدل على هذا قوله { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} أي: إني صائم فلن أكلم اليوم أحدا وكان قد أذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت ولا تتكلم بشيء آخر عن السدي وقيل: كان الله تعالى أمرها بأن تنذر لله الصمت وإذا كلمها أحد تومىء بأنها نذرت لله صمتا لأنه لا يجوز أن يأمرها بأن تخبر بأنها نذرت ولم تنذر لأن ذلك كذب عن أبي علي الجبائي.
____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص416-419.
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا } قيل : ان جبريل نفخ في قميصها ، فكانت نفخته سببا للحمل ، ومصدر هذا القول ظاهر الآية 91 من سورة الأنبياء :
« والَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا » . والآية 12 من سورة التحريم :
« ومَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا » . وقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن آيات القرآن يفسر بعضها بعضا لأن مصدرها واحد ، وإذا لا حظنا جميع الآيات الواردة بعيسى ومريم ( عليه السلام ) ، إذا لاحظناها على هذا المبدأ فهمنا من مجموعها ان المراد من النفخ الخلق والإلقاء ، وان المراد من الروح عيسى بالذات .
والآية 171 من سورة النساء تشعر بذلك ، قال تعالى : « إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ ورُوحٌ مِنْهُ » . وكلمته هي « كن » التي يخلق بها الأشياء ، ومعنى القائها إلى مريم ان مريم أوبطنها هي مكان المخلوق .
أنظر ج 2 ص 500 . ومهما يكن فإن مريم لما أحست بالحمل ابتعدت عن أهلها حياء وتحرجا .
{ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ } . المخاض الطلق ومقدمات الولادة ، وأجاءها بمعنى جاء بها ، والأصل جاء ، ثم دخلت همزة التعدية فصارت أجاءها مثل أجلسه وأنامه . قال الرازي : « أجاء منقول من جاء إلا أن استعماله تغير إلى معنى الإلجاء » وعليه يكون المعنى ان المخاض ألجأها إلى جذع النخلة لتستند إليه طلبا لتيسير الولادة { قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا} . هذه الكلمة وأمثالها ينطق بها كل انسان عند الأزمات واشتداد الأمر عليه ، ينفس بها عن همه وكربه ، وما على قائلها من غضاضة ما لم يكن شاكا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه .
{ فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } . المراد بالسري جدول الماء . . وأول ما يتبادر إلى الأذهان من سياق الكلام ان المنادي هو عيسى ( عليه السلام ) وليس جبريل ، كما زعم كثير من المفسرين ، وهذا النداء من معجزات عيسى ، تماما كولادته وإحيائه الموتى ، قال عيسى في ندائه لأمه { وهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا } . قيل : لم يكن الفصل فصل الرطب ، وان حمل النخلة له كان من باب المعجزة ، وليس هذا ببعيد لأن اللفظ يشعر به ، وان الوضع الذي كانت فيه مريم معجزات في معجزات .
{ فَكُلِي } من الرطب { واشْرَبِي } من الجدول { وقَرِّي عَيْناً } طيبي نفسا بمولودك المبارك { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً } وسألك عن المولود { فَقُولِي} بالإيماء والإشارة : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً } بالسكوت ، وقد كان صوم الإسرائيليين آنذاك { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } . ولا شيء لدينا ما نقوله هنا إلا شرح الكلمات شرحا لغويا ، حيث لا مجال للعقل في هذا الموضوع ، ما دام ظاهر اللفظ لا يصطدم مع حكم العقل . انظر فقرة الممتنع عقلا والممتنع عادة ج 2 ص 61.
_____________
1- التفسير الكاشف، ج 5، محمد جواد مغنية، ص 176-178.
قوله تعالى:{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا } القصي البعيد أي حملت بالولد فانفرد واعتزلت به مكانا بعيدا من أهله.
قوله تعالى:{ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } إلى آخر الآية، الإجاءة إفعال من جاء يقال: أجاءه وجاء به بمعنى وهو في الآية كناية عن الدفع والإلجاء، والمخاض والطلق وجع الولادة، وجذع النخلة ساقها، والنسي بفتح النون وكسرها كالوتر والوتر هو الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى، والمعنى - أنها لما اعتزلت من قومها في مكان بعيد منهم - دفعها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة كان هناك لوضع حملها - والتعبير بجذع النخلة دون النخلة مشعر بكونها يابسة غير مخضرة - وقالت استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا وشيئا لا يعبأ به منسيا لا يذكر فلم يقع فيه الناس كما سيقع الناس في.
قوله تعالى:{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي } إلى آخر الآيتين ظاهر السياق أن ضمير الفاعل في{ناداها} لعيسى (عليه السلام) لا للروح السابق الذكر، ويؤيده تقييده بقوله:{من تحتها} فإن هذا القيد أنسب لحال المولود مع والدته حين الوضع منه لحال الملك المنادي مع من يناديه، ويؤيده أيضا احتفافه بالضمائر الراجعة إلى عيسى (عليه السلام).
وقيل: الضمير للروح وأصلح كون الروح تحتها بأنها كانت حين الوضع في أكمة وكان الروح واقفا تحت الأكمة فناداها من تحتها، ولا دليل على شيء من ذلك من جهة اللفظ.
ولا يبعد أن يستفاد من ترتب قوله:{فناداها} على قوله:{قالت يا ليتني} إلخ، أنها إنما قالت هذه الكلمة حين الوضع أوبعده فعقبها (عليه السلام) بقوله: لا تخزني، إلخ.
وقوله:{ألا تحزني} تسلية لها لما أصابها من الحزن والغم الشديد فإنه لا مصيبة هي أمر وأشق على المرأة الزاهدة المتنسكة وخاصة إذا كانت عذراء بتولا من أن تتهم في عرضها وخاصة إذا كانت من بيت معروف بالعفة والنزاهة في حاضر حاله وسابق عهده وخاصة إذا كانت تهمة لا سبيل لها إلى الدفاع عن نفسها وكانت الحجة للخصم عليها، ولذا أشار أن لا تتكلم مع أحد وتكفل هو الدفاع عنها وتلك حجة لا يدفعها دافع.
وقوله:{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } السري جدول الماء، والسري هو الشريف الرفيع، والمعنى الأول هو الأنسب للسياق، ومن القرينة عليه قوله: بعد:{فكلي واشربي} كما لا يخفى.
وقيل: المراد هو المعنى الثاني ومصداقه عيسى (عليه السلام)، وقد عرفت أن السياق لا يساعد عليه، وعلى أي تقدير الجملة إلى آخر كلامه تطييب لنفس مريم (عليها السلام).
وقوله:{ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } الهز هو التحريك الشديد، ونقل عن الفراء أن العرب تقول: هزه وهز به، والمساقطة هي الإسقاط، وضمير{تساقط} للنخلة، ونسبة الهز إلى الجذع والمساقطة إلى النخلة لا تخلومن إشعار بأن النخلة كانت يابسة وإنما اخضرت وأورقت وأثمرت رطبا جنيا لساعتها، والرطب هونضيج البسر، والجني هو المجني وذكر في القاموس - على ما نقل - أن الجني إنما يقال لما جني من ساعته.
قوله تعالى:{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } قرار العين كناية عن المسرة يقال: أقر الله عليك أي سرك، والمعنى: فكلي من الرطب الجني الذي تسقط واشربي من السري الذي تحتك وكوني على مسرة من غير أن تحزني، والتمتع بالأكل والشرب من أمارات السرور والابتهاج فإن المصاب في شغل من التمتع بلذيذ الطعام ومريء الشراب ومصيبته شاغلة، والمعنى: فكلي من الرطب الجني واشربي من السري وكوني على مسرة - مما حباك الله به - من غير أن تحزني، وأما ما تخافين من تهمة الناس ومساءلتهم فالزمي السكوت ولا تكلمي أحدا فأنا أكفيكهم.
قوله تعالى:{ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } المراد بالصوم صوم الصمت كما يدل عليه التفريع الذي في قوله:{ فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } وكذا يستفاد من السياق أنه كان أمرا مسنونا في ذلك الوقت ولذا أرسل عذرا إرسال المسلم، والإنسي منسوب إلى الإنس مقابل الجن والمراد به الفرد من الإنسان.
وقوله:{فإما ترين} إلخ، ما زائدة والأصل إن ترى بشرا فقولي إلخ، والمعنى: إن ترى بشرا وكلمك أوسألك عن شأن الولد فقولي إلخ، والمراد بالقول التفهيم بالإشارة فربما يسمى التفهيم بالإشارة قولا، وعن الفراء أن العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام.
وليس ببعيد أن يستفاد من قوله:{ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} بمعونة السياق أنه أمرها أن تنوي الصوم لوقتها وتنذره لله على نفسها فلا يكون إخبارا بما لا حقيقة له.
وقوله:{فإما ترين إلخ، على أي حال متفرع على قوله:{وقري عينا} والمراد لا تكلمي بشرا ولا تجيبي أحدا سألك عن شأني بل ردي الأمر إلي فأنا أكفيك جواب سؤالهم وأدافع خصامهم.
___________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج14،ص35-36.
مريم في عاصفة:
وأخيراً حملت مريم، واستقر ذلك الولد الموعود في رحمها: {فحملته} ولم يتحدث القرآن عن كيفية نشوء وتكوّن هذا المولود، فهل أنّ جبرئيل قد نفخ في ثوبها، أم في فمها؟ وذلك لعدم الحاجة إِلى هذا البحث، بالرغم من أنّ كلمات المفسّرين مختلفة في هذا الشأن.
وعلى كل حال، فإِنّ هذا الأمر قد تسبب في أن تبتعد عن بيت المقدس { فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا }.
لقد كانت تعيش في حالة بين الخوف والأمل، حالة من القلق والإِضطراب المشوب بالسرور، فهي تفكر أحياناً بأن هذا الحمل سيفشو أمره في النهاية، فالأفضل أن أبقى بعيدة عن أُولئك الذين يعرفونني عدّة أيّام أو أشهر، وأعيش في هذا المكان بصورة مجهولة، وماذا سيحدث في النهاية؟
فمن الذي سيقتنع بأنّ إمرأة لا زوج لها تحمل دون أن تكون قد تلوثت بالرذيلة؟ فماذا سأفعل تجاه هذا الإِتهام؟ والحق أنّ من المؤلم جدّاً بالنسبة لفتاة كانت لسنين طويلة نموذجاً وقدوة للطهارة والعفة والتقوى والورع، ومثالا في العبادة والعبودية لله، وكان زهاد بني إِسرائيل يفتخرون بكفالتها منذ الطفولة، وقد تربت وترعرعت في ظل نبي كبير، وقد شاع أمر سجاياها وقداستها في كل مكان، أن تحس في يوم ما أن كل هذا الرصيد المعنوي مهدد بالخطر، وستكون غرضاً ومرمى لاتهام يعتبر أسوء وأقبح اتهام، وكانت هذه هي المصيبة الثّالثة التي وقعت لها.
إِلاّ أنّها من جهة أُخرى كانت تحس أنّ هذا المولود، نبي الله الموعود، تحفة سماوية نفيسة، فإِنّ الله الذي بشرني بمثل هذا الغلام، وخلقه بهذه الصورة الإِعجازية كيف سيذرني وحيدة؟ فهل من المعقول أن لا يدافع عني في مقابل مثل هذا الإِتهام؟ أنا التي رأيت وجربت لطفه على الدوام، وأحسست بيد رحمته على رأسي.
وهناك بحث بين المفسّرين في مدّة حمل مريم، بالرغم من أنّه ذكر في القرآن بصورة مخفية ومبهمة، فبعضهم حسبه ساعة واحدة، وآخر تسع ساعات، وثالث ستة أشهر، ورابع سبعة، وآخر ثمانية، وآخر تسعة أشهر كسائر النساء، إِلاّ أن هذا الموضوع ليسَ له ذلك التأثير في هدف هذه القصّة. والرّوايات الواردة في هذا المجال مختلفة أيضاً.
وقد اعتقد الكثيرون أنّ المكان «القصي» هو مدينة «الناصرة» وربّما بقيت في تلك المدينة بصورة دائماً وقلّما خرجت منها.
ومهما كان فقد انتهت مدّة الحمل، وبدأت لحظات تلاطم أمواج حياة مريم، وقد دفعها ألم الولادة الشديد الذي هاج فيها إِلى ترك الأماكن المعمورة والتوجه إِلى الصحاري الخالية من البشر، والقاحلة التي لا عشب فيها ولا ماء ولا مأوى.
ومع أن النساء يلجأن عادة في مثل هذه الحالة إِلى المعارف والأصدقاء ليساعدوهّن على الولادة، إِلاّ أن وضع مريم لما كان استثنائياً، ولم تكن تريد أن يرى أحد وضع حملها مطلقاً، فإِنّها اتّخذت طريق الصحراء بمجرّد أن بدأ ألم الولادة ويقول القرآن في ذلك: { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ }.
إِنّ التعبير بجذع النخلة، وبملاحظة أن الجذع يعني بدن الشجرة، يوحي بأنّه لم يبق من تلك الشجرة إِلاّ جذعها وبدنها، أي إِنّ الشجرة كانت يابسة(2).
في هذا الحال غمر كل وجود مريم الطاهر سيل من الغم والحزن، وأحسست بأنّ اللحظة التي كانت تخشاها قد حانت، اللحظة التي مهما أخفيت فإِنّها ستتضح هناك، وسيتجه نحوها سيل سهام الإِتهام التي سيرشقها بها الناس.
لقد كان هذا الإضطراب والصراع صعباً جدّاً، وقد أثقل كاهلها إِلى الحد الذي تكلمت فيه بلا إِرادة و { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا }.
إِنّ من البديهي أنّ الخوف من التهم في المستقبل لم يكن الشيء الوحيد الذي كان يعصر قلب مريم ويقلقها، وإِن كان هذا الموضوع يشغل فكر مريم أكثر من أية مسألة أُخرى، إِلاّ أنّ مشاكل ومصائب أُخرى كوضع الحمل لوحدها بدون قابلة وصديق ومعين في الصحاري الخالية، وعدم وجود مكان للإِستراحة، وعدم وجود الماء للشرب، والطعام للأكل، وعدم وجود وسيلة لحفظ المولود الجديد، وغير هذه الأُمور كانت تهزّها من الأعماق بشدّة.
قد يتساءل البعض باعتراض: كيف أنّ مريم المؤمنة والعارفة بالتوحيد حيث رأت كل ذلك اللطف والإِحسان الإِلهي، أجرت مثل هذه الجملة على لسانها وقالت: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا }، إلاّ أنّ هؤلاء لم يدركوا أبداً حال مريم في تلك الساعة، ولو أنّهم أصابهم شيء قليل من هذه المشاكل فإِنّهم سينسون حتى أنفسهم.
إِلاَّ أنّ هذه الحالة لم تدم طويلا، فقد سطعت ومضة الأمل التي كانت موجودة دائماً في أعماق قلبها، وطرق سمعها صوت { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } وانظري إِلى الأعلى كيف أن هذا الجذع اليابس قد تحول إِلى نخلة مثمرة { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } بالمولود الجديد { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }. وهذا الصوم هو المعروف بصوم السكوت.
وخلاصة الأمر، إنّكِ لا تحتاجين إِلى الدفاع عن نفسك، فإِنّ الذي وهبك هذا الوليد قد تعهد بمهمّة الدفاع عنك أيضاً، وعلى هذا فليهدأ روعك من كل الجهات، ولا تدعي للهم طريقاً إِلى نفسك.
إِن هذه الحوادث المتلاحقة التي سطعت كالشرر المضيء الوهاج في الظلام الدامس، قد أضاءت كل أرجاء قلبها، وألقت عليها الهدوء والإِطمئنان.
______________
1- تفسير الامثل،ناصر مكارم الشيرازي،ج8،ص29-31.
2- «جذع» على وزن «ذِبْح» في الأصل من مادة «جَذَع» على وزن «منع» بمعنى القطع.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|