أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-5-2020
3998
التاريخ: 2-5-2020
3656
التاريخ: 11-6-2020
2405
التاريخ: 6-5-2020
6157
|
قال تعالى:{ ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ ويَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ( 18 ) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجاً وهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ( 19 ) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ ( 20 ) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ( 21 ) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ ( 22 ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ لْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ( 23 ) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى والأَصَمِّ والْبَصِيرِ والسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود: 18 - 24]
{ ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} أي:لا أحد أظلم منه إلا أنه خرج مخرج الاستفهام ليكون أبلغ { أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ} يوم القيامة أي : يوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا ويسألون عن أعمالهم ويجازون عليها { ويقول الأشهاد} يعني الملائكة يشهدون على العباد وهم الحفظة عن مجاهد. وقيل: هم الأنبياء عن الضحاك وقيل : هم شهداء كل عصر من أئمة المؤمنين { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } أي: كذبوا على رسل ربهم وأضافوا إلى الله ما لم ينزله .
{أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هذا ابتداء خطاب من الله تعالى وقيل هومن كلام الأشهاد ومعناه ألا لعنة الله على الذين ظلموا أنفسهم بإدخال الضرر عليها وغيرهم بإحلال الآلام عليهم ولعنة الله إبعاده من رحمته ثم وصف سبحانه الظالمين الذين لعنهم فقال { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: يغوون الخلق ويصرفونهم عن دين الله وقد يكون ذلك بإلقاء الشبهة إليهم وقد يكون أيضا بالترغيب والترهيب والإطماع ،والتهديد وغير ذلك وإنما جاز تمكين الصاد عن سبيل الله من هذا الفساد لأنه مكلف بالامتناع منه وليس في منعه لطف بأن ينصرف عن الفساد إلى الصلاح فهوكشهوة القبيح الذي به يصح التكليف { ويبغونها عوجا } أي : ويطلبون لسبيل الله زيغا عن الاستقامة وعدولا عن الصواب وقيل إن بغيهم العوج : هي زيادتهم ونقصانهم في الكتاب ليتغير الأدلة ولا يستقيم صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) كما كان يفعلها اليهود وقيل : هي إيرادهم الشبه وكتمانهم المراد وتحريفهم التأويل { وهم بالآخرة} أي: بالقيامة والبعث والنشور والثواب والعقاب {هم كافرون} أي: جاحدون غير مقرين .
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} : أخبر سبحانه عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله وأنهم الذين يصدون عن سبيل الله بأنهم لم يكونوا فائتين في الأرض هربا فيها من الله تعالى إذا أراد إهلاكهم كما يهرب الهارب من عدوقد جد في طلبه وإنما خص الأرض بالذكر وإن كانوا لا يفوتون الله ولا يخرجون عن قبضته على كل حال لأن معاقل الأرض هي التي يهرب إليها البشر ويعتصمون بها عند المخاوف فكأنه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفار عاصم منه ومانع من عذابه {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} معناه : أنه ليس لهم من ولي ولا ناصر ينصرونهم ويحمونهم من الله سبحانه مما يريد إيقاعه بهم في الدنيا من المكاره وفي الآخرة من أنواع العذاب.
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} قيل : في معناه وجوه أحدها :أنه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر بل يعاقبون عليه وعلى سائر المعاصي كما قال في موضع آخر : {زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون } وثانيها : أن معناه أنه كلما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر من العذاب مثله أوفوقه كذلك دائما مؤبدا وكل ذلك على قدر الاستحقاق وثالثها : أنه يضاعف العذاب على رؤسائهم لكفرهم وظلمهم أنفسهم ولدعائهم الاتباع إليه وهوعذاب الضلال وعذاب الصد عن الدين { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } فيه وجوه أحدها : يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الأبصار فلا يبصرون عنادا وذهابا عن الحق فأسقطت الباء عن الكلام كما في قول الشاعر :
نغالي اللحم للأضياف نيا ونبذله إذا نضج القدور(2)
أراد نغالي باللحم عن الفراء والبلخي وهذا وجه رابع من معنى قوله { يضاعف لهم العذاب } وثانيها :أنه لاستثقالهم استماع آيات الله وكراهتهم تذكرها وتفهمها جروا مجرى من لا يستطيع السمع وإن أبصارهم لم تنفعهم مع إعراضهم عن تدبر الآيات فكأنهم لم يبصروا ومما يجري هذا المجرى قول الأعشى :
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وقد علمنا أن الأعشى كان يقدر على الوداع وإنما نفى الطاعة عن نفسه من حيث الكراهية والاستثقال وثالثها : أنه إنما عنى بذلك آلهتهم وأوثانهم وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعف لهم العذاب وقال مخبرا عن الآلهة { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } وروي ذلك عن ابن عباس وفيه أدنى بعد ورابعها : أن ما هنا ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم لأواصلنك ما لاح نجم والمعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء { أولئك الذين خسروا أنفسهم } من حيث فعلوا ما استحقوا به العقاب فهلكوا فذلك خسران أنفسهم وخسران النفس أعظم الخسران لأنه ليس عنها عوض { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} مضى بيانه مرارا { لا جرم } قال الزجاج : لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم كان المعنى لا ينفعهم ذلك جرم { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران وقال غيرهم: معناه لا بد ولا محالة أنهم. وقيل: معناه حقا ويستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه أي لا شك أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة .
لما تقدم ذكر الكفار وما أعد الله لهم من العذاب عقبه سبحانه بذكر المؤمنين فقال {إن الذين آمنوا} أي : صدقوا الله ورسوله واعتقدوا وحدانيته { وعملوا الصالحات} التي أمرهم الله تعالى بها ورغبهم فيها { وأخبتوا إلى ربهم} أي: أنابوا وتضرعوا إليه عن ابن عباس وقيل : معناه اطمأنوا إلى ذكره عن مجاهد . وقيل : خضعوا له وخشعوا إليه عن قتادة والكل متقارب وقيل: إن معناه وأخبتوا لربهم فوضع إلى موضع اللام كما قال سبحانه أوحي لها بمعنى أوحي إليها وقال: ينادي للإيمان { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } ظاهر المعنى . ثم ضرب سبحانه مثلا للمؤمنين والكافرين فقال {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} أي : مثل فريق المسلمين كالبصير والسميع ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم لأن المؤمن ينتفع بحواسه لاستعماله إياها في الدين والكافر لا ينتفع بها فصارت حواسه بمنزلة المعدوم وإنما دخل الواوليبين أن حال الكافر كحال الأعمى على حدة وكحال الأصم على حدة وحال من يكون قد جمع بين الصفتين جميعا {هل يستويان مثلا} أي:هل يستوي حال الأعمى الأصم وحال البصير السميع عند عاقل؟ فكما لا تستوي هاتان الحالتان عند العقلاء كذلك لا تستوي حال الكافر والمؤمن { أفلا تذكرون } أي: أفلا تتفكرون في ذلك فتسلموا صحة ما ذكرناه .
__________________
1- تفسير مجمع البيان،الطبرسي،ج5،ص256-259.
2- مر البيت في هذا الجزءص11.
{ ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً }. وإذا كان شر القول الكذب على المخلوق فكيف إذا كان على الخالق ؟ ! وللافتراء على اللَّه مظاهر ، منها خلق الشركاء والشفعاء ، ومنها التحليل والتحريم بلا دليل من كتاب أوسنة ، ومنها السلب والنهب باسم الحرية والديمقراطية .
{ أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ} . أولئك إشارة إلى المفترين ، وانهم سيقفون غدا للحساب ، وتعرض أقوالهم وأفعالهم على اللَّه { ويَقُولُ الأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} . ان اللَّه سبحانه لا يحتاج إلى شهود لأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، يحكم بعلمه وعدله ، وينفذ بكلمة { كن} . أما شهادة الملائكة والأنبياء ، وشهادة ألسن المكذبين والضالين وأيديهم وأرجلهم ، أما هذه الشهادة فالمقصود منها أن يزداد المجرمون حسرة ، وان يكونوا على يقين بأنه لا حجة لهم ولا عذر يلجئون إليه ، ولا مفر لهم من لعنة اللَّه وعذابه .
{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويَبْغُونَها عِوَجاً وهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ} .
هذه الآية بيان وتفسير للظالمين الذين لعنهم اللَّه ، وانهم يمنعون الناس عن التوحيد والإيمان بالبعث ، ويغرونهم بالشرك ، والكفر باليوم الآخر { أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} كيف ولوشاء اللَّه ما ترك على ظهرها من دابة { وما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ } حتى الأصنام التي كانوا يؤلهونها ويعبدونها ، والأحبار والرهبان الذين اتخذوهم أربابا .
{ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ } . هذا جواب عن سؤال مقدر ، فكأنّ سائلا يسأل :
ما هوحكم الذين افتروا على اللَّه ، وصدوا عن سبيله ، وكفروا باليوم الآخر ؟ .
فأجاب سبحانه : { يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ } ومضاعفة العذاب هنا كناية عن هوله وشدته ، لأن الأسباب كثيرا ما تتداخل إذا كان أثرها واحدا ، وقيل : لا تداخل في الأسباب ، حتى ولوكان المسبب واحدا ، فيعذبون مرة على الافتراء ، ومرة على الصد ، ومرة على الجحود بالبعث { ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وما كانُوا يُبْصِرُونَ } . هذا تعليل لمضاعفة العذاب ، وان اللَّه انما يضاعفه لهم ، لأنهم كانوا في الحياة الدنيا لا يطيقون سماع الحق ، ولا النظر إليه لإغراقهم في الكفر والعناد .
{ أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } وأخسر الناس صفقة من خسر نفسه بعذاب لا يقضي عليها ، ولا يخفّف عنها { وضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ } من خلق الشركاء
للَّه ، والشفعاء لديه ، ونسبة التحليل والتحريم إليه كذبا وافتراء { لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } . بعد أن قال سبحانه : انهم خسروا أنفسهم أكد هذا الخسر بأنه واقع لا محالة ، ولا مفر لهم منه بحال .
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } . لما ذكر سبحانه الكافرين وعقوبتهم ثنى بذكر المؤمنين ومثوبتهم على عادة القرآن من المقارنة بين الأضداد . والإخبات الخشوع والطمأنينة ، قال الطبرسي : { أصل الإخبات الاستواء من الخبت ، وهوالأرض المستوية الواسعة ، فكأنّ الإخبات خشوع مستمر على استواء فيه } . . ويقال : خبت ذكره ، أي خفي .
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمى والأَصَمِّ والْبَصِيرِ والسَّمِيعِ } . الفريقان هما الكافر والمؤمن ، فالأول لا ينتفع بحواسه ، كما لا ينتفع الأعمى بعينيه ، والأصم بأذنيه ، والثاني ينتفع بهما ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : من اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم .
ونفس الشيء يقال عن السميع { هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا } أي صفة وحالا ومآلا { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } وتتفكرون فيما بينهما من التفاوت .
___________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، ج4،ص220-222.
قوله تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} إلى آخر الآية، من الممكن أن يكون ذيلا للسياق السابق من حيث كان تطييبا لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيئول المعنى إلى أنك إذ كنت على بينة من ربك لست بظالم فحاشاك أن تكون مفتريا على الله الكذب لأن المفتري على الله كذبا من أظلم الظالمين، ولهم من وبال كذبهم كذا وكذا.
وكيف كان فالمراد بافتراء الكذب على الله سبحانه توصيفه تعالى بما ليس فيه أونسبة شيء إليه بغير الحق أوبغير علم، والافتراء من أظهر أفراد الظلم والإثم، ويعظم الظلم بعظم متعلقه حتى إذا انتهى إلى ساحة العظمة والكبرياء كان من أعظم الظلم.
والكلام واقع موقع قلب الدعوى عليهم إذ كانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه افترى على الله كذبا بنسبة القرآن إليه فقلب القول عليهم أنهم هم الذين افتروا على الله كذبا إذا أثبتوا له شركاء بغير علم وهوالله لا إله إلا هو، وإذ صدوا عن سبيل الله ومعناه نفي كونه سبيلا لله وهوافتراء، وإذ طلبوا سبيلا أخرى فاستنوا بها في حياتهم وكان ذلك تغييرا لسبيل الله التي تهدي إليها الفطرة والنبوة، وإذ كفروا بالآخرة فنفوها وذلك إثبات مبدإ من غير معاد ونسبة اللغووفعل الباطل إليه تعالى وهوافتراء عليه.
وبالجملة انتحالهم بغير دين الله ونحلته، وأخذهم بالعقائد الباطلة في المبدإ والمعاد واستنانهم بغير سنة الله في حياتهم الدنيوية الاجتماعية - والذي من الله إنما هوالحق ولا سنة عند الله إلا دين الحق - افتراء على الله، وسيشهد عليهم الأشهاد بذلك يوم يعرضون على ربهم.
وقوله تعالى:{ أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} العرض إظهار الشيء ليرى ويوقف عليه، ولما كان ارتفاع الحجب بينهم وبين ربهم يوم القيامة بظهور آياته ووضوح الحق الصريح من غير شاغل يشغل عنه حضورا اضطراريا منهم لفصل القضاء سماه عرضا لهم على ربهم كما سمي بوجه آخر بروزا منهم لله فقال:{ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ:} غافر: - 16، وقال:{ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ:} إبراهيم: - 48 فقال:{أولئك يعرضون على ربهم}أي يأتي بهم الملائكة الموكلون بهم فيوقفونهم موقفا ليس بينهم وبين ربهم حاجب حائل لفصل القضاء.
وقوله:{ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} الأشهاد جمع شهيد كأشراف جمع شريف وقيل: جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، ويؤيد الأول قوله تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ:} النساء: - 41 وقوله:{ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ:}ق: - 21.
وقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم شهادة منهم عليهم بالافتراء على الله أي سجل عليهم بأنهم المفترون من جهة شهادة الأشهاد عليهم بذلك في موقف لا يذكر فيه إلا الحق ولا مناص فيه عن الاعتراف والقبول كما قال تعالى:{ لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا:} النبأ: - 38 وقال تعالى:{ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا:}آل عمران: - 30.
قوله تعالى:{ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلخ، تتمة قول الأشهاد، والدليل عليه قوله تعالى:{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ:} الأعراف: - 45.
وهذا القول منهم المحكي في كلامه تعالى تثبيت منهم للبعد واللعن على الظالمين وتسجيل للعذاب، وليس اللعن والرحمة يوم القيامة كاللعن والرحمة في الدنيا كما في قوله تعالى:{أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون:} البقرة: - 159 وذلك أن الدنيا دار عمل ويوم القيامة يوم جزاء فما فيه من لعنة أورحمة هوإيصال ما ادخر لهم إليهم فلعن اللاعن أحدا يوم القيامة طرده من رحمة الله الخاصة بالمؤمنين وتسجيل عذاب البعد عليه.
ثم فسر سبحانه الظالمين بقوله حكاية عنهم:{ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فهم الذين لا يذعنون بيوم الحساب حتى يعملوا له وإنما يعملون للدنيا ويسلكون من طريق الحياة ما يتمتعون به للدنيا المادية فحسب، وهو السنة الاجتماعية غير المعتنية بما يريده الله من عباده من دين الحق وملة الفطرة فهؤلاء سواء اعتقدوا بصانع وعملوا بسنة محرفة منحرفة عن دين الفطرة وهو الإسلام أم لم يعتقدوا به ممن يقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر، ظالمون مفترون على الله الكذب، وقد تقدم بعض الكلام المتعلق بهذه المعاني في سورة الأعراف آية 44 - 45.
وقد بان مما تقدم من البحث في الآيتين أولا: أن الدين في عرف القرآن هوالسنة الاجتماعية الدائرة في المجتمع.
وثانيا: أن السنن الاجتماعية إما دين حق فطري وهوالإسلام أودين محرف عن الدين الحق وسبيل الله عوجا.
قوله تعالى:{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء} إلى آخر الآية.
الإشارة إلى المفترين على الله الموصوفين بما مر في الآيتين السابقتين.
والمقام يدل على أن المراد من كونهم غير معجزين في الأرض أنهم لم يكونوا معجزين لله سبحانه في حياتهم الأرضية حيث خرجوا عن زي العبودية فأخذوا يفترون على الله الكذب ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجا فكل ذلك لا لأن قدرتهم المستعارة فاقت قدرة الله سبحانه ومشيتهم سبقت مشيته، ولا لأنهم خرجوا من ولاية الله فدخلوا في ولاية غيره وهم الذين اتخذوهم أولياء من أصنامهم وكذا سائر الأسباب التي ركنوا إليها، وذلك قوله:{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}.
وبالجملة لا قدرتهم غلبت قدرة الله سبحانه ولا شركاؤهم الذين يسمونهم أولياء لأنفسهم أولياء لهم بالحقيقة يدبرون أمرهم ويحملونهم على ما يأتون به من البغي والظلم بل الله سبحانه هووليهم وهو المدبر لأمرهم يجازيهم على سوء نياتهم وأعمالهم بما يجرهم إلى سوء العذاب ويستدرجهم من حيث لا يشعرون كما قال تعالى:{ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ:} الصف: - 5، وقال:{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ:} البقرة: - 26.
وقوله:{يضاعف لهم العذاب} ذلك لأنهم فسقوا ثم لجوا عليه أولأنهم عصوا الله بأنفسهم وحملوا غيرهم على معصية الله فيضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا المعصية قال تعالى:{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ :} النحل: - 25 وقال:{ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ:} يس: - 12.
وقوله:{ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} في مقام التعليل ولذا جيء بالفصل يقول تعالى إنهم لم يكفروا ولم يعصوا لظهور إرادتهم على إرادة الله ولا لأن لهم أولياء من دون الله يستظهرون بهم على الله بل لأنهم ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا ما يأتيهم من الإنذار والتبشير من ناحيته أويذكر لهم من البعث والزجر من قبله وما كانوا يبصرون آياته حتى يؤمنوا بها كما وصفهم في قوله:{ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ:} الأعراف: - 179، وفي قوله:{ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ:} الأنعام: - 110، وقوله:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ:} البقرة: - 7، وآيات أخرى كثيرة تدل على أنه تعالى سلبهم عقولهم وأعينهم وآذانهم غير أنه تعالى يحكي عنهم مثل قولهم:{وقالوا لوكنا نسمع أونعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم:}، الملك: - 11، واعترافهم بأن عدم سمعهم وعقلهم كان ذنبا منهم مع أن ذلك مستند إلى سلبه تعالى منهم ذلك يدل على أنهم أنفسهم توسلوا إلى سلب هذه النعم بالذنوب كما يدل عليه ما تقدم من قوله تعالى:{وما يضل به إلا الفاسقين:} البقرة: - 26 وغيره.
وذكروا في معنى قوله:{ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وجوها أخرى: منها: أن قوله: ما كانوا{إلخ}، في محل النصب بنزع الخافض وهومتعلق بقوله: يضاعف{إلخ}، والأصل: بما كانوا يستطيعون السمع وبما كانوا يبصرون، والمعنى يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع فلا يسمعون وبما كانوا يستطيعون الإبصار فلا يبصرون.
ومنها: أنه عنى بقوله:{ما كانوا يستطيعون} إلخ، نفي السمع والبصر عن آلهتهم وأوثانهم، وتقدير الكلام أولئك الكفار وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، وقال مخبرا عن الآلهة: ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون.
ومنها: أن لفظة ما في{ما كانوا} ليست للنفي بل تجري مجرى قولهم: لأواصلنك ما لاح نجم، والمعنى أنهم معذبون ما داموا أحياء.
ومنها: أن نفي السمع والبصر بمعنى نفي الفائدة فإنهم لاستثقالهم استماع آيات الله والنظر فيها وكراهيتهم لذلك أجروا مجرى من لا يستطيع السمع ولا يبصر فالكلام على الكناية.
وأعدل الوجوه آخرها وهي جميعا سخيفة ظاهرة السخافة والوجه ما قدمناه.
قوله تعالى:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أما خسرانهم فإن الإنسان لا يملك بالحقيقة - وذلك بتمليك من الله تعالى - إلا نفسه وإذا اشترى لنفسه ما فيه هلاكها وضيعتها بالكفر والمعصية فقد خسر في هذه المعاملة التي أقدم عليها نفسه فخسران النفس كناية عن الهلاك، وأما ضلال ما كانوا يفترون فإنه كان كذبا وافتراء ليس له وجود في الخارج من أوهامهم ومزاعمهم التي زينتها لهم الأهواء والهوسات الدنيوية وبانطواء بساط الحياة الدنيا يزول وينمحي تلك الأوهام ويضل ما لاح واستقر فيها من الكذب والافتراء ويومئذ يعلمون أن الله هوالحق المبين، ويبدولهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون.
قوله تعالى:{ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} عن الفراء: أن{لا جرم} في الأصل بمعنى لا بد ولا محالة ثم كثرت فحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى{حقا} ولهذا تجاب باللام نحولا جرم لأفعلن كذا.
انتهى، وقد ذكروا أن{جرم} بفتحتين بمعنى القطع فلعلها كانت في الأصل تستعمل في نتائج الكلام كلفظة{لا محالة} وتفيد أنه لا يقطع هذا القول قاطع أن كذا كذا كما يتصور نظير المعنى في{لا محالة} فمعنى الآية على هذا: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون.
ووجه كونهم في الآخرة هم الأخسرين أن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى غيرهم من أهل المعاصي هوأنهم خسروا أنفسهم بإهلاكها وإضاعتها بالكفر والعناد فلا مطمع في نجاتهم من النار في الآخرة كما لا مطمع في أن يفوزوا في الدنيا ويسعدوا بالإيمان ما داموا على العناد، قال تعالى:{الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون:} الأنعام: - 12.
وقال تعالى في هؤلاء المختوم على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم:{وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:} يس: - 10.
وقال أيضا في سبب عدم إمكان إيمانهم:{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ:} الجاثية: - 23.
وإن فرض أنهم أخسر بالنسبة إلى الدنيا فذلك لكونهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله حرموا سعادة الحياة التي يمهدها لهم الدين الحق فخسروا في الدنيا كما خسروا في الآخرة لكنهم في الآخرة أخسر لكونها دائمة مخلدة وأما الدنيا فليست إلا قليلا، قال تعالى:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ:} الأحقاف: - 35.
على أن الأعمال تشتد وتتضاعف في الآخرة بنتائجها كما قال تعالى:{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا:} إسراء: - 72، وأحسن الوجهين أولهما لأن ظاهر الآية حصر الأخسرين فيهم دون إثبات أخسريتهم في الآخرة قبال الدنيا.
قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: الخبت المطمئن من الأرض وأخبت الرجل قصد الخبت أونزله نحوأسهل وأنجد ثم استعمل الإخبات في استعمال اللين والتواضع قال الله تعالى: وأخبتوا إلى ربهم، وقال: وبشر المخبتين أي المتواضعين نحولا يستكبرون عن عبادته، وقوله: فتخبت له قلوبهم أي تلين وتخشع. انتهى.
فالمراد بإخباتهم إلى الله اطمئنانهم إليه بحيث لا يتزلزل ما في قلوبهم من الإيمان به فلا يزيغون ولا يرتابون كالأرض المطمئنة التي تحفظ ما استقر فيها فلا وجه لما قيل إن الأصل، أخبتوا لربهم فإن ما في معنى الاطمئنان يتعدى بإلى دون اللام.
وتقييده تعالى الإيمان والعمل الصالح بالإخبات إليه يدل على أن المراد بهم طائفة خاصة من المؤمنين وهم المطمئنون منهم إلى الله ممن هم على بصيرة من ربهم، وهوالذي أشرنا إليه في صدر الآيات عند قوله:{أ فمن كان على بينة من ربه} إلخ أن الآيات تقيس ما بين فريقين خاصين من الناس وهم أهل البصيرة الإلهية ومن عميت عين بصيرته.
ومن هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن هذه الآيات السبع يعني قوله:{أفمن كان على بينة من ربه - إلى قوله - أفلا تذكرون} بيان لحال الفريقين وهم الذين يكفرون بالقرآن والذين يؤمنون به.
قوله تعالى:{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} المثل هوالوصف، وغلب في المثل السائر وهو بيان معنى من المعاني الخفية على المستمع بأمر محسوس أوكالمحسوس يأنس به ذهنه ويتلقاه فهمه لينتقل به إلى المعنى المعقول المقصود بيانه، والمراد بالفريقين من بين حالهما في الآيات السابقة، والباقي واضح.
___________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي، ج10 ،ص146-151.
أخسر النّاس أعمالاً:
بعد الآية المتقدمة التي كانت تتحدث عن القرآن ورسالة النّبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)تأتي آيات أُخر تشرح عاقبة المنكرين وعلاماتهم ومآل أعمالهم.
ففي أوّل آية من هذه الآيات يقول سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ويعني أن تكذيب دعوة النّبي الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) في الواقع هوتكذيب لكلام الله وافتراء عليه بالكذب وتكذيب من لا يتحدث عن أحد سوى الله يعدّ تكذيباً لله(2).
وكما تقدم في عدّة مواضع، فالقرآن المجيد يعبر في عديد من الآيات عن جماعة من الناس بقوله: «أظلم» في حين أنّ أعمالهم ـ كما يبدوـ مختلفة، ولا يمكن أن نعدّ جماعات كثيرة مع وجود أعمال مختلفة بأنّهم أظلم الناس! بل ينبغي أن يُعدّ البعض ظالمين، والبعض الآخر أظلم منهم، وسواهما أشدّ ظلماً منهما جميعاً..
ولكن ـ كما أجبنا عن هذا السؤال عدّة مرات ـ جذر جميع هذه الأعمال يعود لشيء واحد، وهوالشرك وتكذيب الآيات الإِلهية، وهوأعظم البهتان «ولمزيد من الإِيضاح يراجع ذيل الآية (31) من سورة الأنعام».
ثمّ يبيّن ما ينتظرهم من مستقبل مشؤوم يوم القيامة حين يُعرضون على محكمة العدل الإِلهي {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} حينئذ يشهد «الأشهاد» على أعمالهم وأنّ هؤلاء هم الذين كذبوا على الله العظيم الرحيم وولي النعمة ..
{وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} ثمّ ينادون بصوت عال {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}.
ولكن من هم الأشهاد؟ أهم الملائكة، أم الحفظة على الأعمال، أم الأنبياء؟ للمفسّرين احتمالات وآراء، ولكن مع ملاحظة أن آيات أُخرى من القرآن تشير إِلى أنّ الأنبياء هم الأشهاد، فالظاهر أنّ المراد بالأشهاد هنا هم الأنبياء أيضاً .. أوالمفهوم الأوسع وهوأنّ الأنبياء وسائر الأشهاد يشهدون على «الأعمال» يوم القيامة!
وفي الآية (41) من سورة النساء نقرأ قوله تعالى: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}.
وفي شأن السّيد المسيح(عليه السلام) نقرأ في الآية (117) من سوره المائدة. { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}.
بعد هذا مَن القائل: { أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}؟ أهوالله سبحانه، أم الأشهاد على الأعمال؟! هناك أقوال بين المفسّرين، لكن الظاهر أنّ هذا الكلام تتمة لقول الأشهاد ..
والآية التي بعدها تبيّن صفات الظالمين في ثلاث جمل:
الأُولى تقول: إِنّهم يمنعون الناس بمختلف الأساليب عن سبيل الله { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} فمرّة عن طريق إِلقاء الشُبهة، ومرّة بالتهديد، وأحياناً عن طريق الإِغراء والطمع، وجميع هذه الأساليب ترجع إِلى أمر واحد، وهوالصدّ عن سبيل الله.
الثّانية تقول: إِنّهم يسعون في أن يُظهروا سبيل الله وطريقه المستقيم عِوَجاً { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}(3).
أي بأنواع التحريف من قبيل الزيادة أوالنقصان أوالتّفسير بالرأي وإِخفاء الحقائق حتى لا تتجلى الصورة الحقيقية للصراط المستقيم. ولا يستطيع الناس وطلاب الحق السير في هذا الطريق.
والثّالثة تقول: إِنّهم لا يؤمنون بيوم النشور والقيامة { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}.
وعدم إيمانهم بالمعاد هو أساس الإِنحرافات، لأنّ الإِيمان بتلك المحكمة الكبرى والعالم الوسيع بعد الموت يفعل الطاقات الايجابية الكامنة في النفس والروح.
ومن الطّريف أنّ جميع هذه المسائل تجتمع في مفهوم «الظلم» لأنّ المفهوم الواسع لهذه الكلمة يشمل كل انحراف وتغيير للموضع الواقعي للأشياء والأعمال والصفات والعقائد.
في الآية التالية يبيّن أنّ هؤلاء لا يستطيعون الهرب من عقاب الله في الأرض ولا أن يخرجوا من سلطانه { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} كما أنّهم لا يجدون وليّاً وحامياً لهم غير الله { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}.
وأخيراً يشير سبحانه إِلى عقوبتهم الشديدة حيث تكون مضاعفة { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}.
لماذا؟! لأنّهم كانوا ضالين ومخطئين ومنحرفين، وفي الوقت ذاته كانوا يجرّون الآخرين إِلى هذا السبيل، فلذلك سيحملون أوزارهم وأوزار الآخرين، دون التخفيف عن الآخرين من أوزارهم { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ}(العنكبوت،13).
وهناك أخبار كثيرة في أن «من سنّ سنةً سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها».
وفي ختام الآية يبيّن الله سبحانه أساس شقاء هؤلاء بقوله: { مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}.
فهم في الحقيقة بإِهمالهم هاتين الوسيلتين المؤثرتين
[وسيلتي السمع والبصر]لدرك الحقائق، ضلّوا السبيل وأضلّوا سواهم أيضاً .. لأنّ الحق والحقيقة لا يدركان إلاّ بالسمع والبصر النافذ.
ومن الطريف هنا أنّنا نقرأ في الآية أنّهم ما كانوا يستطيعون السمع، أي استماع الحق، فهذا التعبير يشير إِلى الحالة الواقعية التي هم فيها، وهي أنّ استماع الحق كان عليهم صعباً وثقيلا إِلى درجة يُتصور فيها أنّهم فقدوا حاسة السمع، فلا قدرة لهم على السمع، وهذا التعبير ينسجم تماماً مع قولنا مثلا: إِنّ الشخص العاشق لا يستطيع أن يسمع كلاماً عن عيوب معشوقه! ..
وبديهي أنّ عدم استطاعة دركهم الحقائق كانت نتيجة لجاجتهم الشديدة وعدائهم للحق والحقيقة، وهذا لا يسلب عنهم المسؤولية، لأنّهم هم السبب في ذلك، وهم الذى مهّدوا له، وكان بإِمكانهم أن يبعدوا عنهم هذه الحالة، لأنّ القدرة على السبب قدرة على المسبِّب.
والآية التي بعدها تبيّن في جملة واحدة حصيلة سعيهم وجدهم في طريق الباطل، فتقول: { أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } وهذه أعظم خسارة يمكن أن تصيب الانسان، إِذ يخسر وجوده الإِنساني .. ثمّ تضيف الآية: أنّهم اتخذوا آلهة ومعبودين مصطنعين «مزيفين» ولكن تلاشت هذه الآلهة المصنوعة والمزيفة أخيراً .. { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
وفي نهاية الآية بيان الحكم النهائي لمآلهم وعاقبتهم بهذا التعبير { لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}.
والسبب واضح; لأنّهم حُرموا من نعمة السمع الحاد والبصر النافذ، وخَسِروا كلّ إِنسانيتهم ووجودهم، ومع هذه الحال فقد حملوا أثقالَ مسؤوليتهم وأثقال الآخرين مع أثقالهم.
والمعنى الأصلي لكلمة «لا جرم» مأخوذ من «جَرَم» على وزن «حرَمَ» وهوقطف الثمار من الأشجار، كما نقل ذلك الراغب في مفرداته، ثمّ توسع هذا المعنى فشمل كلّ نوع من الكسب والتحصيل، ولكثرة استعمال الكلمة في الكسب غير المرغوب فيه شاعت في هذا المعنى، ولذلك يطلق على الذنب أنّه جُرم.
ولكن حين تبدأ هذه الكلمة جملةً وهي مسبوقة بـ «لا» فيكون معناها حينئذ: أنّه لا شيء يمكنه أن يمنع أويقطع هذا الموضوع، فهي قريبة من معنى «لابدّ» أو«من المسلّم به» والله العالم «فتدبر».
تعقيباً على الآيات المتقدمة التي أوضحت حال منكري الوحي، تأتي الآيتان هنا لتوضحا من في قبالهم، وهم المؤمنون حقّاً.
فالآية الأُولى تقول: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ}أي: استسلموا وأنقادوا خاضعين لأمر الله ووعده الحق، { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وفي الآية الأُخرى بيان لحالة هذين الفريقين في مثال حيّ وواضح .. حال الأعمى والأصم، وحال السميع والبصير، فتقول الآية: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا) ثمّ تعقب الآية (أفلا تذكرون)؟!
____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي، ج6،ص46-52.
2- ما يقوله المفسّرون من أنّ المراد من هذه الجملة هوالردّ على من كان يقول: إِنّ النّبي يكذب على الله، بعيد جدّاً، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة لا تناسب هذا التّفسير، بل المناسب أنّها تشير إِلى الكفار.
3- المقصود بـ«العِوَج» أي الملتوي، وقد بيّنا شرح ذلك في ذيل الآية (45) من سورة الأعراف وينبغي الإِلتفات إِلى أنّ الضمير في «يبغونها» يعود على سبيل الله فهي مؤنث مجازي، أوبمعنى الجادة والطريقة، فهي مؤنث لفظي، ونقرأ في سورة يوسف(عليه السلام) الآية (108) {قل هذه سبيلي أدعوا إِلى الله}.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|