المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
اية الميثاق والشهادة لعلي بالولاية
2024-11-06
اية الكرسي
2024-11-06
اية الدلالة على الربوبية
2024-11-06
ما هو تفسير : اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ؟
2024-11-06
انما ارسناك بشيرا ونذيرا
2024-11-06
العلاقات الاجتماعية الخاصة / علاقة الوالدين بأولادهم
2024-11-06

أجر الحسنة ، عشرة أضعاف
3-10-2014
البخل والشح
29-6-2022
Total Ring of Fractions
11-11-2019
صيد الأسماك
2023-07-04
غلة السمسم
13-11-2019
سرية أسامة
27-11-2019


توثيق الرواة وتضعيفهم  
  
8945   06:57 صباحاً   التاريخ:
المؤلف : ناصر الدين الأسد
الكتاب أو المصدر : مصادر الشعر الجاهلي
الجزء والصفحة : ص:429-478ج1
القسم : الأدب الــعربــي / الأدب / الشعر / العصر الجاهلي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-03-2015 2862
التاريخ: 23-03-2015 2604
التاريخ: 22-03-2015 2789
التاريخ: 22-03-2015 8520


الفصل الخامس: توثيق الرواة وتضعيفهم
-1-
إن كان شيء أولى بالشك، وأحرى بالتوقف، وأجدر بالبحث والتمحيص، فهو هذه الأخبار والروايات المتناثرة في صفحات الكتب العربية، التي تدور حول بعض رواة الشعر: تتهمهم بالوضع والنحل، وترميهم بالكذب والافتعال. وسنقصر حديثنا في هذه الصفحات على تلك الأخبار والروايات، وعلى ما فيها من أحكام على الرواة أنفسهم: فيها توثيق لهم حينًا، وتجريح وتضعيف في أكثر الأحيان؛ وذلك لأن بحثنا إنما هو مصادر الشعر الجاهلي، والرواية مصدر أصيل من مصادر هذا الشعر، أو هي المصدر الأصيل إذا أخذناها بمعناها الواسع الذي وضحناه في فصل سابق. أما ما بسطنا فيه القول من دواعي الشك في الشعر الجاهلي وأسباب نحله، فحسبنا ما قدمنا من آراء المؤيدين والمفندين.
ولا بد لنا، حتى يستقيم بين أيدينا وجه البحث وندخل فيه من بابه، من أن نشير إلى قيام مدرستين فكريتين مختلفتين، قامت إحداهما في الكوفة، وقامت الأخرى في البصرة. وقد أدى الخلاف بين هاتين المدرستين إلى أن يتعصب علماء كل مدرسة لمدرستهم، وأن يجرحوا هم وتلاميذهم علماء المدرسة الأخرى وتلاميذها ويضعفوهم ويرموهم بالوضع والكذب والتزيد. ولسنا نحب أن نوسع مجال البحث فنعرض للقبائل العربية التي استوطنت كل مصر من هذين المصرين، وما أدى إليه ذلك من عصبية قبلية قد يكون لها أثر فيما نحن بسبيله من بحث، ولا نريد كذلك أن نعرض للاتجاه السياسي في البصرة والكوفة منذ زمن عثمان وعلي ثم في
(1/429)
زمن بني أمية، فإن ذلك كله سيقودنا إلى إطالة نحن في غنى عنها في هذا المجال. ولكننا نحب أن نبين في وضوح وجلاء، الطابع الفكري المميز الذي تفردت به كل من البصر والكوفة في الفقه، واللغة والنحو، والشعر والأخبار.
أما الكوفة فيبدو أنها كانت أسبق من البصرة إلى العناية بالحديث والفقه، وذلك لأنه "هبط الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر"(1)؛ وكان فيها أيضًا ستون شيخًا من أصحاب عبد الله "بن مسعود"(2)". وكان في بني ثور الذين نزلوا الكوفة "ثلاثون رجلًا ما فيهم رجل دون الربيع بن خثيم"(3) وكان من أثر نشاط حركة الفقه والفتيا في الكوفة أن شهد لها بعض علماء المدينة -وهم من مدرسة في الحديث مخالفة- فمن ذلك ما روي عن "عبد الجبار بن عباس عن أبيه قال: جالست عطاء فجعلت أسائله، فقال لي: ممن أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة؛ فقال عطاء: ما يأتينا العلم إلا من عندكم"(4).
بل لقد شهد لهم بالتقدم بعض علماء البصرة، فقد: "قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أهل البصرة أو أهل الكوفة؟ قال: كان عمر يبدأ بأهل الكوفة، وبها بيوتات العرب كلها وليست بالبصرة"(5). وقال مسعر: قلت لحبيب بن أبي ثابت: هؤلاء أعلم أم أولئك؟ قال: أولئك "يعني أهل الكوفة"(6) ..
ومع ذلك فقد كان الحديث وروايته في الحجاز أسبق وأقدم من الكوفة "فأكثر الصحابة كانوا بالمدينة، وهم أعرف الناس بحديث رسول الله، وأخبر بقوله وعمله، وحتى من رحل منهم إلى العراق وسائر الأمصار فإنما كانوا عارية
(1/430)
من الحجاز"(7). وقد كان علماء المدينة يتمسكون بالحديث تمسكًا كبيرًا، ويلجئون إليه -بعد القرآن- فيما يحزبهم من أمر أو يحتاجون إليه من نص، ولا يكادون يتجاوزونه إلى الاجتهاد وإبداء الرأي والفتيا. وقد ساعدهم على ذلك كثرة ما بين أيديهم من أحاديث، وبقاء الحالة الاقتصادية والاجتماعية على ما كانت عليه في عهد رسول الله ومن بعده الصحابة، أو قريبة من ذلك، فلم يصبها من التعقيد والتطور ما أصاب حياة المسلمين في العراق أو الشام، ولذلك كانوا يجدون لكل أمر من أمورهم حديثًا من أحاديث رسول الله يقضون به في ذلك الأمر.
أما الحياة في الكوفة فقد كانت على غير حياة المدينة، فقد نزل المسلمون فيها بيئة جديدة، فيها أخلاط من أجناس شتى بعضها له ماض عريق في الحضارة والحياة الفكرية والاجتماعية، ولذلك كانت حياة الكوفة، إذا قيست بحياة المدينة، معقدة، جد فيها من المسائل الاقتصادية والاجتماعية ما لم يكن معروفًا في المدينة. ولذلك اضطر علماء الكوفة حينما يعرض لهم أمر من أمور حياتهم لا يجدون فيه نصًّا واضحًا في القرآن أو الحديث إلى أن يجتهدوا ويفتوا برأيهم، وهذا الاجتهاد والإفتاء بالرأي هو "القياس". و"أصل القياس أن يُعلم حكم في الشريعة لشيء فيقاس عليه أمر آخر لاتحاد العلة فيهما، ولكنهم توسعوا في معناه أحيانًا فأطلقوه على النظر والبحث عن الدليل في حكم مسألة عرضت لم يرد فيها نص، وأحيانًا يطلقونه على الاجتهاد فيما لا نص فيه، وبعبارة أخرى جعلوه مرادفًا للرأي، ويعنون بالرأي والقياس بهذا المعنى أن الفقيه من طول ممارسته للأحكام الشرعية تنطبع في نفسه وجهة الشريعة في النظر إلى الأشياء، وتمرن ملكاته على تعرف العلل والأسباب، فيستطيع إذا عرض عليه أمر لم يرد فيه نص، أن يرى فيه رأيًا قانونيًّا متأثرًا بجو الشريعة التي ينتمي إليها، وبأصولها وقواعدها التي انطبعت.
(1/431)
فيه من طول مزاولتها، ومن أجل هذا ذموا الرأي الذي يصدر ممن ليس أهلًا للاجتهاد ... (8)".
وخلاصة ذلك أنه كانت هناك مدرستان، الأولى: مدرسة الحديث، وهي في الحجاز وخاصة في المدينة، وعلى رأسها مالك بن أنس وتلاميذه. والثانية: مدرسة الرأي، وهي في العراق وخاصة في الكوفة وعلى رأسها أبو حنيفة. وتعصب علماء كل مدرسة لمدرستهم حتى لقد كاد أبو حنيفة أن يفضل أحد التابعين من علماء الكوفة على صحابي جليل هو عبد الله بن عمر، فقد قال مرة لمناظرة "إبراهيم "النخعي-كوفي" أفضل من سالم "بن عبد الله بن عمر"، ولولا فضل الصحبة لقلت علقمة أفضل من ابن عمر". وأخذ الحجازيون يطعنون على علماء الكوفة ويعيبونهم ويرموهم بالتزيد في الحديث الصحيح والإكثار من الموضوع، فقال مالك: "إذا جاوز الحديث الحرتين ضعفت شجاعته"، وكان مالك يسمي الكوفة "دار الضرب" يعني أنها تصنع الأحاديث وتضعها كما تخرج دار الضرب الدراهم والدنانير، وقال ابن شهاب: يخرج الحديث من عندنا شبرًا فيعود في العراق ذراعًا(9).
وقد سقنا ما تقدم لنخلص منه إلى أمرين؛ الأول: أن الطابع الذي يميز أهل الكوفة في الفقه أنهم "أهل الرأي"، وأنهم لا يلجئون إلى الرأي إلا إذا عرض لهم عرض لم يجدوا له نصًّا في الكتاب أو الحديث، ومعنى ذلك أنهم قد عنوا بالحديث وجمعه وروايته واستقصائه عناية كبيرة لأنه مصدر أساسي من مصادر الفقه التشريع، ولكنهم بعد ذلك كانوا أكثر حرية من غيرهم وأكثر جرأة على استخدام العقل، فكانوا يقولون برأيهم، حيث يتوقف غيرهم، إذا لم يجدوا نصًّا في القرآن أو الحديث. والأمر الثاني: أن المدرسة الأخرى وهي مدرسة أهل الحديث في المدينة قد اتهمت مدرسة الكوفة بوضع الأحاديث والتزيد فيها،
(1/432)
وقد يكون ما استجد في حياة الكوفة مما لم يجدوا له ذكرًا أو أصلًا في الحديث حافزًا لهم على الوضع أو التزيد رغبة في أن يدعموا رأيهم بحديث نبوي؛ ولكن أغلب ما أنكره أهل المدينة على أهل الكوفة مرده إلى أن بعض التابعين وتابعي التابعين في الكوفة قد أخذوا الأحاديث عن الصحابة الذين نزلوا الكوفة، فكان هؤلاء الصحابة يحدثون بأحاديث لم يسمع بعضها علماء المدينة ممن كان فيها من الصحابة فجهلوها. وليس كل ما كان يحدث به صحابي بل يحدث به غيره، بل إن بعض الصحابة كان يحدث بحديث نسخه حديث آخر لم يبلغه غيره من الصحابة(10). فلم يكن مرد اتهام الكوفيين بالوضع إلى أنهم وضعوا كل ما اتُّهموا به، ولم يكن مرده كله إلى عصبية أهل الحديث لمدرستهم على مدرسة الرأي، وإنما كان بعض هذا الاتهام مرده إلى أنهم وضعوا حقًّا، وكان مرد بعضه إلى العصبية، ثم كان مرد بعضه الآخر إلى اختلاف مصادر الرواية، أي اختلاف الصحابة الذين أخذ عنهم علماء كل مدرسة من التابعين وتابعيهم.
أما في اللغة والنحو فقد كانت البصرة أسبق إلى العناية بهما ثم تبعتها الكوفة، فقامت في المصرين مدرستان متمايزتان: مدرسة البصرة، ومدرسة الكوفة. "وربما كان أهم الفروق الأساسية بين المدرستين أن مدرسة البصرة رأت أن أهم غرض وضع قواعد عامة للغة ... تلتزمها وتريد أن تسير عليها في دقة وحزم؛ وإذ كانت اللغات لا تلتزم القواعد العامة دائمًا بل فيها مسائل لا يمكن أن تجري على القاعدة، وخصوصًا اللغة العربية التي هي لغات قبائل متعددة تختلف فيما بينها اختلافًا كبيرًا ... أراد البصريون تمشيًا مع غرضهم أن يهدروا الشواذ، فإذا ثبتت صحتها قالوا إنها تحفظ ولا يقاس عليها. بل جرءوا على أكثر من ذلك فخطئوا بعض العرب في أقوالهم إذا لم تجر على القواعد ... فهم في الواقع أرادوا أن ينظموا اللغة بإهدار بعضها، وأرادوا أن يكون ما سمع من العرب مخالفًا لهذا
(1/433)
التنظيم مسائل شخصية جزئية يتسامحون فيها نفسها ولا يتسامحون في مثلها والقياس عليها حتى لا تكثر فتفسد القواعد والتنظيم، هذا إذا لم يتمكنوا من أن يؤولوا الشاذ تأويلًا يتفق وقواعدهم ولو بنوع تكلف. أما الكوفيون فلم يروا هذا المسلك، ورأوا أن يحترموا كل ما جاء عن العرب، ويجيزوا للناس أن يستعملوا استعمالهم، ولو كان الاستعمال لا ينطبق على القواعد العامة، بل يجعلون هذا الشذوذ أساسًا لوضع قاعدة عامة ... فهم أكثر تجويزًا للوجوه المختلفة في المسائل ... (11).
وكان من أثر هذا الخلاف في المنهجين أن تعصب كل فريق لمدرسته، وأخذ يتهم ويضعف علماء المدرسة الأخرى، وخاصة البصريين الذين كانوا يرون أنهم أخذوا اللغة عن العرب الخلص وأن الكوفيين أخذوها عن الأعراب الذين فسدت لغتهم وسليقتهم. قال الرياشي-وهو بصري(12)-: "إنما أخذنا اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد أكلة الكواميخ والشواريز". وافتخر البصريون بأنهم لم يأخذوا عن الكوفيين في هذا الميدان شيئًا، وأن الكوفيين هم الذين كانوا يأخذون عن البصريين، فقال أبو سعيد(13):
"لا أعلم أحدًا من علماء البصريين في النحو واللغة أخذ عن أهل الكوفة شيئًا من علم العرب إلا أبا زيد فإنه روى عن المفضل الضبي.."، وقال أبو زيد(14):
"قدم الكسائي البصرة فأخذ عن أبي عمرو ويونس وعيسى بن عمر علمًا كثيرًا صحيحًا، ثم خرج إلى بغداد فقد أعراب الحطمة فأخذ عنهم شيئًا فاسدًا فخلط هذا بذاك فأفسده ... ". وقال أبو الطيب اللغوي(15): "وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين ولكن أهل البصرة يمتنعون عنهم لأنهم لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة". وربما كان من أوضح الأمثلة التي تدل
(1/434)
على مدى ما جرت إليه هذه المنافسة بين المدرستين من خصومات واتهامات ما قاله أبو حاتم السجستاني(16): "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، ولولا أن الكسائي دنا من الخلفاء فرفعوا من ذكره لم يكن شيئًا، وعلمه مختلط بلا حجج، ولا يملك إلا حكايات عن الأعراب مطروحة لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.." وقال أبو حاتم أيضًا(17): "فإذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها، أو حكيت عن العرب شيئًا فإنما أحكيه عن الثقات عنهم مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا ألتفت إلى رواية الكسائي والأحمري والأموي والفراء ونحوهم، وأعوذ بالله من شرهم!! ".
وقد بادلهم الكوفيون اتهامًا باتهام وخصومة بخصومة، فمن أمثلة ذلك أنه "لما مات المازني خلفه أبو العباس المبرد، وبقي ذلك ببغداد وسامرا لا يغض أحد منه إلى أن ذكره ابن الأنباري في بعض مصنفاته، وأراد أن يضع منه، ويرفع من صاحبه أبي العباس، أحمد بن يحيى ثعلب، جاريًا على عادته في العصبية للكوفيين على البصريين"(18). ومن ذلك أيضًا أن ابن الأعرابي الكوفي "كان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان قليلًا ولا كثيرًا"(19)، وأنه كان يقول في كلمة رواها الأصمعي "سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي"(20).
وقال ثعلب "انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي" ... والشواهد على ذلك كثيرة وكلها تكشف عن مدى ما قادت إليه هذه الخصومة المنهجية من تبادل الاتهام والتضعيف.
ويعنينا من كل ذلك الأمران اللذان أشرنا إليهما عند حديثنا عن الحديث والفقه، وأولهما: أن الكوفيين أكثر حرية في منهجهم وأكثر جرأة حيث يتقيد
(1/435)
غيرهم ويتوقف. ولسنا بسبيل المفاضلة بين المنهجين، ولكنا لا نملك إلا أن نشير إلى أن مذهب البصريين بما فيه من ميل شديد إلى "التقعيد" و"التقنين" أقرب إلى الطريقة التعليمية ومذهب المعلمين والتلاميذ، أما مذهب الكوفيين فهو أقرب إلى فهم طبيعة اللغة فهمًا صحيحًا، وهو بذلك مذهب العلماء لا المعلمين. ونحب أن نشير إلى أن هذا المنهج الذي اتبعه الكوفيون بعد ما كان موجودًا في البصرة أيضًا مع وجود المذهب الثاني "وكانت هاتان النزعتان في البصرة في أيامها الأولى، فهم يقولون: إن ابن أبي إسحاق الحضرمي وتلميذه عيسى بن عمر كانا أشد ميلًا للقياس، وكان لا يأبهان بالشواذ، وكانا لا يتحرجان من تخطئة العرب؛ وكان أبو عمرو بن العلاء وتلميذه يونس بن حبيب البصريان أيضًا على عكسهما: يعظمان قول العرب ويتحرجان من تخطئتهم، فغلبت النزعة الأولى على من أتى بعدُ من البصريين، وغلبت النزعة الثانية على من أتى بعدُ من الكوفيين ... "(21).
والأمر الثاني في اللغة والنحو كالأمر الثاني الذي ذكرناه في الحديث والفقه، وذلك أن اتهام البصريين للكوفيين بوضع الشواذ ونحلها وتضعيفهم إياهم، لم يكن كله لأن الكوفيين كانوا حقًّا يضعون وينحلون، وإنما كان بعضه لهذه العصبية التي قامت بين المدرستين، وكان بعضه لاختلاف المصادر التي كان يأخذ عنها كل فريق، واختلاف المنهجين في استقاء مادة اللغة، فقد كان البصريون يضيقون على حين كان الكوفيون يتوسعون.
فإذا ما انتقلنا إلى الحديث عن الشعر وروايته، وجدنا أن الأمرين اللذين أشرنا إليهما في الحديث والفقه من جانب، وفي اللغة والنحو من جانب آخر قائمان في الشعر أيضًا. فقد اتصف الكوفيون هنا بما اتصفوا به هناك من أنهم أكثر حرية وأكثر جرأة، وأنهم قد توسعوا في الأخذ عن مصادر أسقطها البصريون، ومن هنا كثرت رواية الكوفيين فاتهمهم البصريون بالتزيد والوضع.
(1/436)
قال ابن سلام في حديثه عن الأسود بن يعفر بعد أن أورد قصيدة له(22): "وله شعر كثير جيد، ولا كهذه. وذكر بعض أصحابنا أنه سمع المفضل يقول: له ثلاثون ومائة قصيدة؛ ونحن لا نعرف له ذلك ولا قريبًا منه. وقد علمت أن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي ويتجوزون في ذلك بأكثر من تجوزنا".
وقال أيضًا(23): "وأسمعني بعض أهل الكوفة شعرًا زعم أنه أخذه عن خالد بن كلثوم يرثي به حاجب بن زرارة. فقلت له: كيف يروي خالد مثل هذا وهو من أهل العلم، وهذا شعر متداع خبيث؟ فقال: أخذناه من الثقات. ونحن لا نعرف هذا ولا نقبله". وقال أبو الطيب اللغوي(24): "والشعر بالكوفة أكثر وأجمع منه بالبصرة، ولكن أكثره مصنوع ومنسوب إلى من لم يقله، وذلك بين في دواوينهم". وقال الثوري(25): "اتكل أهل الكوفة على حماد وجناد، ففسدت رواياتهم من رجلين، كانا يرويان ولا يدريان، كثرت رواياتهما وقل علمهما".
ومما ذكروه في تعليل كثرة رواية الشعر في الكوفة قصة اكتشاف الأشعار التي نسخت للنعمان في الطنوج فقال ابن جني بعد أن أورد هذه القصة(26): "فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة".
ونحب أن نعيد ما قررناه سابقًا من أن اتهام البصريين للكوفيين بوضع الشعر ونحله لم يكن مرده كله إلى أن الكوفيين كانوا يضعون وينحلون حقًّا، وإنما كان مرد بعضه إلى هذه العصبية وما سببته من منافسات وخصومات، ثم كان مرد بعضه إلى اختلاف مصادر الفريقين وإلى اختلاف منهجيهما، فقد توسع الكوفيون على حين ضيق البصريون.
(1/437)
وبعد؛
فقد سقنا هذا الحديث كله لنصل إلى ما بدأنا به حديثنا حينما قلنا إنه إن كان شيء أولى بالشك، وأحرى بالتوقف، وأجدر بالبحث والتمحيص، فهو هذه الأخبار والروايات المتناثرة في صفحات الكتب العربية، التي تدور حول بعض رواة الشعر: تتهمهم بالوضع والنحل، وترميهم بالكذب والافتعال. وأحسب أننا نستطيع الآن أن نتبين قيمة قولنا هذا بعد الذي بيناه من أمر هذه العصبية بين البصرة والكوفة، وهذا الخلاف في المصادر التي استقى كل فريق مادته منها، ثم هذا الخلاف في المنهج الذي اتبعته كل مدرسة، وما كان لكل ذلك من أثر في اتهامه كل فريق الآخر بالوضع والنحل، ورميه بالكذب والتزيد. على أن هذا الحديث العام -على ما فيه من خطر وقيمة- لا تتكشف لنا جوانبه إلا حين ندعمه بالحديث عن بعض الرواة، وعرض الأخبار والروايات التي تدور حولهم.
-2-
وسنبدأ بالحديث عن حماد ثم نتلوه بالحديث عن خلف، فقد نالهما من الاتهام بالوضع والكذب والنحل ما لم ينل غيرهما. ولعل خير ما نصنع أن نعرض الأخبار والروايات التي توثق حمادًا وتضعفه، ونجعلها أقسامًا يجتمع كل قسم منها في قرن:
 المفضل وحماد: 1
أ- روى أبو الفرج(27) عن جماعة من الرواة أنهم كانوا في دار الخليفة المهدي بعيساباذ، وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب اخاجب، فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث مليًّا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعًا، وقد
(1/438)
بان في وجه حماد الانكسار والغم، وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم معهما فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم، إن الخليفة يعلمكم أنه قد وصل حمادًا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدًا محدثًا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب، فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال:
دع ذا وعد القول في هرم
ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما الذي أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا خليفة في هذا شيئًا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله، أو يروي في أن يقول شعرًا فعدل عنه إلى مدح هرم، وقال: دع ذا، أو كان مفكرًا في شيء من شأنه فتركه وقال: دع ذا، أي: دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم. فأمسك عنه، ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل، فقال: ليس هكذا قال زهير يا خليفة. قال: فكيف قال؟
فأنشده:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر
قفر بمندفع النحائت من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعد القول في هرم ... خير الكهول وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة؛ ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ الخليفة عنك خبر لا بد من استخلافك عليه. ثم استحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه. فحلف له بما توثق منه. قال له: أصدقني عن هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير. فأقر له حينئذ أنه قائلها. فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه.
(1/439)
ب- وروى أبو الفرج أيضًا(28) "أن ابن الأعرابي قال: سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدًا. فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطئ في روايته أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب، لا ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره، ويُحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء، ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك .! "
 الأصمعي وحماد: 2
روى أبو الفرج(29) أن الرياشي قال، قال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح. وزاد ياقوت على ذلك يشرح قول الأصمعي(30): يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار، فإنه كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب.
وروى أبو الطيب اللغوي(31) أن أبا حاتم السجستاني قال، قال الأصمعي: جالست حمادًا فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف، ولم أرض روايته، وكان قديمًا.
وذكر أبو الطيب أن الأصمعي روى عن حماد شيئًا من الشعر(32)؛ وأن أبا حاتم قال، قال الأصمعي: كل شيء في أيدينا من شعر امرئ القيس فهو عن حماد الراوية إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء.
 أبو عمرو بن العلاء وحماد: 3
روى أبو الفرج(33) أن أبا عمرو الشيباني قال: ما سألت أبا عمرو بن العلاء
(1/440)
قط عن حماد الراوية إلا قدَّمه على نفسه، ولا سألت حمادًا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه.
ابن سلام وحماد: 4
قال ابن سلام(34) "وكان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها حماد الراوية، وكان غير موثوق به: كان ينحل شعر الرجل غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار، أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد البصرة على بلال بن أبي بردة، وهو عليها، فقال: ما أطرفتني شيئًا. فعاد إليه فأنشده القصيدة التي في شعر الحطيئة مديح أبي موسى. فقال. ويحك، يمدح الحطيئة أبا موسى لا أعلم به. وأنا أروي شعر الحطيئة! ولكن دعها تذهب في الناس".وقال ابن سلام أيضًا: وسمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر .
 خلف الأحمر وحماد: 5
ذكر أبو الطيب اللغوي حمادًا (35) فقال إنه كان من أوسع الكوفيين رواية، "وقد أخذ عنه أهل المصرين، وخلف الأحمر خاصة".
وذكر أيضًا(36) أن أهل الكوفة قرؤوا أشعارهم على خلف، "وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه".
ونقل ياقوت(37) أن خلفًا الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه.....
وذكر أبو الفرج(38) أن أبا عبيدة قال، قال خلف: كنت آخذ من
(1/441)
حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها؛ وكان فيه حمق
حماد ينتحل الشعر الجاهلي ويدعيه لنفسه: 6
ذكر أبو الفرج(39) عن رواته أن حمادًا الراوية قدم على بلال بن أبي بردة البصرة، وعند بلال ذو الرمة، فأنشده حماد شعرًا مدحه به. فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال: جيدًا وليس له. قال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله. فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه، قال له: إن لي إليك حاجة. قال: هي مقضية. قال: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية، وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام.
وبعد؛
فهذه خلاصة شاملة لما في المصادر العربية من أخبار حماد الراوية، وهي تميل في أكثرها إلى النيل منه وتضعيف روايته واتهامه بالوضع والنحل. ولكن كل خبر من هذه الأخبار يحمل في تضاعيفه ما يستوقف الباحث ويسترعي انتباهه ويحمله على التقصي في البحث والنقد. ومن أجل ذلك سنعود إلى هذه الأخبار خبرًا خبرًا نستنطقه لعله يكشف لنا عن خبئ فيه ينتهي بنا إلى يقين أو ما يشبه اليقين .
 المفضل وحماد: 1
أ- أما الخبر الأول ففيه أمران(40)، يدعم ثانيهما أولهما، وينتهيان بنا إلى أن نشك في هذا الخبر شكًّا يكاد يؤدي إلى رفضه. فالأمر الأول: أن الرواة
(1/442)
قالوا إنهم كانوا في دار الخليفة المهدي، وأن حسينًا الخادم قال: إن الخليفة يعلمكم ... فقد جرت هذه القصة إذن والمهدي خليفة؛ أي بعد سنة 158هـ، وذلك لأن المهدي بويع بالخلافة في آخر ذي الحجة من سنة 158 ولم يبق على انقضائها إلا إحدى عشرة ليلة(41). ولكن حمادًا توفي قبل أن يتولى المهدي الخلافة بنحو ثلاث سنوات. فقد ذكر ياقوت أن حمادًا توفي سنة 155-(42) وذكر ابن النديم أنه توفي سنة 156-(43). والأمر الثاني: أن الرواة ذكروا أنهم كانوا في دار المهدي في عيساباذ. ولكن المهدي لم يبن داره في عيساباذ إلا بعد وفاة حماد بنحو تسع سنوات، قال الطبري في حوادث سنة 164-(44) "وفيها بنى المهدي بعيساباذ الكبرى قصرًا من لبن إلى أن أسس قصره الذي بالآجر الذي سماه قصر السلامة، وكان تأسيسه إياه في يوم الأربعاء في آخر ذي القعدة".
ب- أما الخبر الثاني فهو عندنا ضعيف متهم كذلك؛ وذلك لأن فيه أن حمادًا "رجل عالم بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء معانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق". فقد كان حماد إذن شاعرًا، وأي شاعر! كان شاعرًا ذا قدرة على تصريف وجوه القول وفنون الشعر، بل لقد كان شاعرًا جمعت فيه الشعراء، إذا قال قصيدة بلغت من القوة والمتانة ومن الفحولة والجزالة، بل بلغت من الفن الشعري، منزلة تجعلها حقيقة بأن تكون من شعر امرئ القيس أو النابغة أو طرفة أو سائر شعراء الجاهلية، بحيث تُنسب إلى أي شاعر من هؤلاء الشعراء وتدخل في شعره ويُحمل ذلك في الآفاق! وهذا وحده، في الفن، باطل؛ ولكنه باطل من وجه آخر، وهو أن حمادًا لم يعرف بقول الشعر، ولم نجد بين أيدينا مصدرًا واحدًا من هذه
(1/443)
الكتب العربية ذكر لنا أن حمادًا قال شعرًا أو خلَّف ديوانًا رواه عنه غيره.
ولو كان له شعر لحرصوا على ذكره لأنهم عنوا بتسجيل الشعراء وشعرهم ودواوينهم أولًا، ولأن ذلك كان يقوي من رأي من اتهمه بالوضع والنحل ثانيًا. فكيف لم يذكروا شعر حماد وديوانه، وهم يذكرون "أن لخلف ديوان شعر حمله عنه أبو نواس"(45)؟ ثم، أيكون المرء شاعرًا، في مثل هذه المنزلة من الفحولة والشاعرية، فيصرف كل شعره إلى غيره وينحله إياه، ويضن على نفسه بأن ينسب إليها بعضه؟ ولسنا في حاجة إلى إطالة القول وبين أيدينا خبر آخر إن لم يكن ذا دلالة قاطعة على أن حمادًا لم يكن يحسن قول الشعر، فهو على أقل تقدير مما يستأنس به في هذه السبيل؛ وذلك أن حمادًا حين أراد أن يمدح بلال بن أبي بردة، لم يستطيع أن ينظم شعرًا في مدحه، وإنما انتحل لنفسه شعرًا جاهليًّا قديمًا ووجهه في مدح بلال، ولم يكتشف ذلك إلا ذو الرمة حينما سمع حمادًا ينشده، ثم اعترف به حماد(46).
ومما يدعم هذا الذي نذهب إليه ويكشف عن مقدار التخبط الذي وقعت فيه هذه الأخبار والروايات، ما ذكره ابن سلام، قال "سمعت يونس يقول: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر". فيكف يكون حماد بهذا القدر من الشاعرية الفذة التي حاولت الرواية أن تصوره بها ثم يكون بعد ذلك يكسر الشعر ولا يقيم وزنه؟ لا شك أن أحد هذين الخبرين موضوع، ولعلهما كليهما كذلك(47) 
فإذا كان الأمر على ما بينا، وكان هذان الخبران موضوعين، فإن لهما مع ذلك دلالة لا يصح أن نغفلها، وهي أن بين المفضل وحماد منافسة شديدة
(1/444)
ربما بلغت حد الخصومة والاتهام، ثم استغلها تلاميذ المفضل ورووا عنها الأخبار: يتهمون حمادًا ويقوون من مكانة أستاذهم المفضل فتقوى بذلك مكانتهم. أما المنافسة بينهما فلعلها كانت لأن المفضل -على ما يروون من أنه كان ثقة كثير الرواية للشعر- كان لا يحسن شيئًا من الغريب ولا من المعاني ولا تفسير الشعر، وإنما كان يروي شعرًا مجردًا(48). أما حماد فقد تقدم أنه كان عالمًا "بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم"(49)، وكان "من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها"( 50). فكان حماد إذن يروي ما لم يكن يرويه المفضل، ويعرف ما لم يكن يعرفه، فاتهمه بالتزيد بل اتهمه بالوضع والنحل.
ولا ينبغي أن ننسى أن حمادًا كان أموي الهوى وكانت "ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره، فيفد عليهم، ويسألونه عن أيام العرب وعلومها، ويجزلون صلته.."(51) وجاءه يومًا صديقه مطيع بن إياس يدعوه إلى مجلس جعفر بن أبي جعفر المنصور، فقال له حماد(52): "دعني، فإن دولتي كانت مع بني أمية وما لي عند هؤلاء خير ... " أما المفضل فقد كان عباسي الهوى، وقد قربه المنصور وألزمه ابنه المهدي يؤدبه؛ وللمهدي صنع المفضليات ونحسب أن ما بسطناه من وجوه هذه المنافسة والخصومة يزيدنا اطمئنانًا إلى ما قدمناه في أمر هذين الخبرين عن المفضل وحماد . 
 الأصمعي وحماد: 2
ولقد كان أمر المفضل وحماد بين رجلين من الكوفة نفسها جمعتهما عصبية بلدية واحدة، ثم فرقتهما منافسات وخصومات شخصية وسياسية. أما الأمر بين
(1/445)
الأصمعي وحماد فيعود بنا إلى المنافسة بين البصرة والكوفة، فالأصمعي بصري، وهذه الأخبار الثلاثة يروي أحدها الرياشي ويروي اثنين منها أبو حاتم، وهما بصريان كذلك. ولم يكن شأن الرياشي وأبي حاتم في عصبيتهما للبصرة على الكوفة شأن الأصمعي، وذلك لأنهما كانا من أكثر البصريين طعنًا على الكوفيين واتهامًا لهم، وقد مر بنا أن الرياشي قال: إنما أخذنا اللغة من حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وهؤلاء أخذوا اللغة من أهل السواد وأكلة الكواميخ والشواريز(53).
ومر بنا كذلك تضعيف أبي حاتم للكوفيين وقوله(54): "لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، وقوله(55): "فإذا فسرت حروف القرآن المختلف فيها أو حكيت عن العرب شيئًا فإنما أحكيه عن الثقات عنهم مثل أبي زيد والأصمعي وأبي عبيدة ويونس وثقات من فصحاء الأعراب وحملة العلم، ولا ألتفت إلى رواية الكسائي والأحمري والأموي والفراء ونحوهم، وأعوذ بالله من شرهم! ".
فإذا لم يكف هذا الجانب في تضعيف هذه الأخبار، فإن ما فيها من تناقض ليزيدنا اطمئنانًا إلى أنها من هذه الأخبار التي ساقت إليها هذه العصبية والمنافسات. وذلك أن أبا حاتم يروي أن الأصمعي قال "جالست حمادًا فلم أجد عنده ثلاثمائة حرف، ولم أرض راويته". أما أنه لم يجد عنده ثلاثمائة حرف فأمر لا شأن لنا به في هذا البحث، وأما أنه "لم يرض روايته" فلا نراه يستقيم مع رواية أبي حاتم نفسه عن الأصمعي أنه قال إنه أخذ شعر امرئ القيس كله عن حماد "إلا نتفًا سمعتها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء". ومما يؤيد هذا الذي نذهب إليه من تزيد التلاميذ على شيوخهم في أخبار منافستهم، بل وضعهم عليهم أخبارًا في ذلك، أن الأصمعي قال "كان حماد أعلم الناس إذا نصح" ولم يزد على ذلك، فجاء من يفسر قوله هذا ويشرحه فقال: "يعني إذا لم يزد
(1/446)
وينقص في الأشعار والأخبار، فإن كان متهمًا بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب". وكل هذا تفسير لقوله "إذا نصح". ونحن لا نكاد نطمئن إلى هذا التفسير بعد الذي علمناه من أن الأصمعي أخذ عن حماد "شيئًا من الشعر"، وأنه روى عنه ديوان امرئ القيس وأضاف إليه نتفًا سمعها من الأعراب وأبي عمرو بن العلاء. والأصمعي مشهور بتشدده وتحريه وأنه "لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء، ويقف عما يتفردون به عنه، ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات، ويلج في دفع ما سواه(56)"، "وأنه، كان لا يفسر شعرًا فيه هجاء ... وكان صدوقًا في كل شيء"(57)، فمن كان هذا منهجه فإنه لا يأخذ إلى عن ثقة أو عمن يعرف أنه ثقة. والذي نراه في تأويل قوله "إذا نصح" أنه يريد إذا نصح لمن يأخذ عنه وسمحت نفسه في إعطائه وتعليمه، وذلك لأن حمادًا كان مشهورًا بأنه ضنين برواية الشعر وإنشاده(58).
 أبو عمرو بن العلاء وحماد: 3
أما الخبر الذي سقناه عن تقديم أبي عمرو بن العلاء حمادًا على نفسه، وتقديم حماد أبا عمرو على نفسه ففيه توثيق لحماد، وهو -إن صح- يدعم ما ذهبنا إليه من أن رأي العلماء الذين عاصروا حمادًا وكانوا من طبقته -إذا ما جُرِّد من العصبية والتحامل- لم يكن كالرأي الذي شاع بعد أن شوهته الأخبار والروايات. ولرأي أبي عمرو في حماد قيمة خاصة إذ أن أبا عمرو بصري، بل رأس علماء البصرة، وكان ثقة مأمونًا حتى عند الكوفيين وقد يضعِّف من هذا الخبر أن راويه أبو عمرو الشيباني وهو كوفي، ولكن أبا عمرو الشيباني ثقة، لم يضعفه أحد فيما يروي، وإن
(1/447)
كانوا نالوا منه لاستهتاره في الشراب. ومع ذلك فثمة خبر يدعم هذا الخبر وقد رواه عن أبي عمرو رأس من رءوس علماء البصرة، هو تلميذه الأصمعي قال(59)، قال أبو عمرو: ما سمع حماد الراوية حرفًا قط إلا سمعته. ومن أجل ذلك كله نميل إلى أن أبا عمرو بن العلاء، ومن في منزلته من علماء الطبقة الأولى، كانوا يقدرون حمادًا حق قدره، وكانوا يوثقونه ويعدلونه.
 ابن سلام وحماد: 4
أما ما رواه ابن سلام عن يونس من أن حمادًا وضع القصيدة الميمية في مدح أبي موسى الأشعري ونحلها الحطيئة، فمردود من وجهين، الأول: أن المدائني، وهو بصري، وكان معاصرًا لابن سلام رد عليه وذكر "أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو.."(60) والوجه الثاني: أن العلماء الذين جمعوا ديوان الحطيئة وشرحوه بعد حماد أثبتوا هذه القصيدة في ديوانه، ولم يأخذوا بالرأي الذي أورده ابن سلام عن يونس. فهذا ابن حبيب قد روى هذه القصيدة عن ابن الأعرابي وعن أبي عمرو الشيباني معًا، وأثبتها السكري عن ابن حبيب في شرحه لديوان الحطيئة(61).
ويدعم هذين الوجهين أن ابن سلام روى خبر وضع حماد لهذه القصيدة ونحلها الحطيئة عن يونس، ويونس بصري، كابن سلام، وكلاهما يضعف الكوفيين ويتهمهم بالكذب والوضع والتزيد. فيونس ذكر حمادًا في الخبر الثاني الذي أوردناه وقال: العجب لمن يأخذ عن حماد، كان يكذب ويلحن ويكسر. وقد مر بنا أن ابن سلام قال في معرض حديثه عن
(1/448)
الأسود بن يعفر "إن أهل الكوفة يروون له أكثر مما نروي ويتجوزون في ذلك بأكثر من تجوزنا". وقال أيضًا في معرض شعر رواه بعض أهل الكوفة: ونحن لا نعرف هذا ولا نقبله.
ومن أجل هذا كله لا نملك أن نطمئن إلى ما رُوي من أن حمادًا وضع تلك القصيدة ونحلها الحطيئة، ولا نملك أن نطمئن إلى أحكام يونس وابن سلام على حماد.
 خلف الأحمر وحماد : 5
أما الأخبار الأربعة التي أوردناها عن خلف وحماد فثلاثة منها توثق حمادًا توثيقًا ما بعده من توثيق، فقد جاء في الخبر الأول أن حمادًا "أخذ عنه أهل المصرين "البصرة والكوفة"، وخلف الأحمر خاصة". وأكد الخبر الثاني ما جاء في هذا الخبر الأول، فذكر أن أهل الكوفة قرءوا أشعارهم على خلف بعد وفاة حماد لأن خلفًا "كان قد أكثر الأخذ عنه". وكذلك جاء في الخبر الثالث أن خلفًا الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه. فإذا كان حماد بهذه المنزلة التي تذكرها هذه الأخبار، وكان أستاذًا لأهل الكوفة، وبعض أهل البصرة وخاصة خلفًا فكيف يستقيم ذلك مع الخبر الرابع الذي يذكر فيه خلف أن حمادًا "كان فيه حمق"، وأن خلفًا قال: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها. وليس هذا التناقض وحده بين هذا الخبر والأخبار الثلاثة قبله هو الذي يكشف عن زيف هذا الجبر، بل إنه كذلك ليتناقض مع ما قدمنا من رأي العلماء في حماد وهو أنه كان عالمًا بلغات العرب وأشعارها، ومذاهب الشعراء معانيهم، فكيف يكون علمه هذا إذا جاز عليه ما تزعمه هذه الرواية من منحول الشعر الذي كان يعطيه إياه خلف؟ بل ثمة
(1/449)
تناقض ثالث: فقد مر بنا أن حمادًا اتهم بأنه -لكثرة علمه بلغات العرب وشعرهم ومذاهب الشعراء ومعانيهم- كان ينظم الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل عنه ذلك في الآفاق. ولكن هذا الخبر يصور لنا حمادًا ثقة فيما يروي لأن خلفًا يعترف بأنه كان يأخذ منه الصحيح من أشعار العرب؛ ثم إنه يصور لنا حمادًا في صورة الجاهل الأحمق الذي يستجهله حتى تلميذه فيعطيه المنحول من الشعر فيقبله ويجوز عليه!
فنحن إذن -بعد ما عرضنا هذه الأخبار وبينا ما فيها من زيف- نميل إلى أن نعد أكثر ما اتهم به حماد موضوعًا، دعت إلى وضعه عوامل عدة منها: هذه العصبية التي كانت متأججة بين البصرة والكوفة؛ ومنها: تلك المنافسات والخصومات الشخصية كالتي كانت بين المفضل وحماد؛ ومنها: العصبية السياسية، فقد كان حماد أموي الهوى والنزعة، وكانت دولة بني أمية قد ولت وأقبلت دولة جديدة تناصبها العداء وتريد أن تمحو محاسنها وآثارها وتحط من قيمة من اشتهر فيها أو نال لديها حظوة؛ ومنها أن حمادًا كان -باعتراف الرواة- كثير الرواية واسع الحفظ(62): فكان يروي ما لا يعرفه غيره، ويحفظ ما لا يحفظون، فاتهموه بالتزيد والوضع. وقد ساعد على كيل هذا الاتهام له وتضعيفه وتجريحه أنه كان ماجنًا مستهترًا بالشراب مفضوح الحال(63).
(1/450)
-3-
ولكن الروايات والأخبار التي بين أيدينا لا تقتصر على اتهام حماد الكوفي، وإنما تتهم كذلك شيخًا من شيوخ البصرة المقدمين، ورأسًا من رءوس الرواية فيها، هو خلف الأحمر. وسنعرض هذه الأخبار والروايات في سمطين: ينتظم أولهما الأخبار التي تتهمه بالوضع والنحل، وينتظم ثانيهما الأخبار التي توثقه وتعدله. ثم نعقب عليهما بمناقشة الأخبار الأولى ونقدها.
  الأخبار التي تتهمه بالوضع والنحل: 1
أ- قال محمد بن يزيد "المبرد"(64): "كان خلف أخذ النحو عن عيسى بن عمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو، ولم يُرَ أحد قط أعلم بالشعر والشعراء منه، وكان به يضرب المثل في عمل الشعر؛ وكان يعمل على ألسنة الناس فيشبه كل شعر يقوله بشعر الذي يضعه عليه؛ ثم نسك فكان يختم القرآن في كل يوم وليلة؛ وبذل له بعض الملوك مالًا عظيمًا خطيرًا على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه فأبى ذلك، وقال: قد مضى لي في هذا ما لا أحتاج إلى أن أزيد فيه. وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه، وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد، فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة. فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم .
(1/451)
ب- قال أبو حاتم عن الأصمعي(65): "كان خلف مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري ... وكان أعلم الناس بالشعر، وكان شاعرًا، ووضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا، وعلى غيرهم، عبثًا بهم، فأخذ ذلك عنه أهل البصرة وأهل الكوفة".
ج- قال أبو حاتم(66): "ولما قدم الأصمعي من بغداد دخلت إليه، فسألته عمن بها من رواة الكوفة. قال: رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر. وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون، وبها يفتخرون".
د- وقال أبو عبيدة(67): "قال خلف: كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول، فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها؛ وكان فيه حمق".
هـ- قال أبو علي القالي(68): "كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد: أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفري التي أولها :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول، فكان أقدر الناس على قافية".
وقال ابن عبد ربه(69): "كان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله الشعراء، ويقال إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت
(1/452)
تأبط شرًّا، وهو:
إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلا دمه ما يطل
لخلف الأحمر، وإنما ينحله إياه". وكان الجاحظ قد ذكر(70): "وقال تأبط شرًّا أو أبو محرز خلف بن حيان الأحمر:
مسبل بالحي أحوى رفل ... وإذا يعدو فسمع أزل(71)
وكذلك قال ابن قتيبة إن خلفًا الأحمر هو القائل:
إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل
"ونحله ابن أخت تأبط شرًّا. وكان يقول الشعر وينحله المتقدمين"(72).
2- الأخبار التي توثقه وتعدله:
أ- قال ابن سلام:(73) "خلف بن حيان، أبو محرز، وهو خلف الأحمر -اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا. كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا، ألا نسمعه من صاحبه". وقال أبو زيد الأنصاري أيضًا(74) "أتيت بغداد حين قام المهدي محمد، فوافاها العلماء من كل بلدة بأنواع العلوم، فلم أر رجلًا أفرس ببيت شعر من خلف "
(1/453)
ب- قال أبو حاتم(75): "قال الأصمعي: كأنما جعل علم لغة ابني نزار، ومن كان من بني قحطان على لغة ابني نزار، بين جوانح خلف الأحمر بمعانيها".
ج- وقال عيسى بن إسماعيل(76): "سمعت الأصمعي -وذكر خلفًا الأحمر أبا محرز- فقال: ذهبت بشاشة الشعر بعد خلف الأحمر. فقيل له: كيف وأنت حي؛ فقال: إن خلفًا كان يحسن جميعه وما أحسن منه إلا الحواشي".
د- قال أبو عبيدة(77): "خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة".
هـ- وقال أبو علي القالي(78): "وكنت أنا كثير التعطف للأصمعي، فكنت أسأل أبا بكر بن دريد كثيرًا عن خلف والأصمعي: أيهما أعلم؟ فيقول لي: خلف. فلما أكثرت عليه انتهرني، وقال: أين الثماد من البحور! ".
و وقال الرياشي(79): "سمعت الأخفش يقول: لم ندرك هاهنا أحدًا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي. قلت: أيهما كان أعلم؟ قال: الأصمعي. قلت: لم؟ قال: لأنه كان أعلم بالنحو.
 مناقشة ونقد: 3
أ- ونحب أن نقف قليلًا عند هذا التناقض الواضح بين أخبار الطائفة الأولى وأخبار الطائفة الثانية: فخلف معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة؛ والأصمعي يقول بعد موت خلف: ذهبت بشاشة الشعر،
(1/454)
ويقدمه على نفسه ثم يقول عنه كأنما جعل علم لغة العرب بين جوانح خلف الأحمر بمعانيها. وأبو بكر بن دريد يفضل خلفًا على الأصمعي ويجعله بحرًا والأصمعي ثمادًا. ومع ذلك فهذا الأصمعي نفسه يذكر أن خلفًا كان يضع الشعر وأنه وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا وعلى غيرهم عبثًا بهم، وأنه وضع أربعين قصيدة ونحلها أبا دؤاد الإيادي. وابن دريد -على تقديمه خلفًا- يذكر أن خلفًا هو قائل القصيدة المنسوبة إلى الشنفري. ولرب معترض يقول: إن وصف أخبار الطائفة الثانية خلفًا بالعلم لا تعني توثيقه في الرواية، وبذلك لا تتناقض مع أخبار الطائفة الأولى. وهذا القول مردود من وجهين؛ الأول: أن من الجائز ألا يعني الوصف بالعلم أن الموصوف به مُوثَّق في الرواية لو نُص على ذلك في الخبر نفسه، كما جاء في الخبر "ب" من الطائفة الأولى حيث قال الأصمعي عن خلف: "كان أعلم الناس بالشعر ... وضع على شعراء عبد القيس شعرًا موضوعًا كثيرًا". أما أن يوصف بالعلم ويوقف عند ذلك ولا يُنص على تضعيفه في الرواية، فإن في هذا الإغفال نفسه دليلًا على التوثيق والتعديل؛ لأن الكلام حينئذٍ ملتبس، ولا بد لإيضاحه من النص على التضعيف والاتهام لو قُصدا. على أن كلامنا هذا يزيد اتضاحه في الوجه الثاني من وجوه ردنا، وذلك هو نص ابن سلام الذي أوردناه. فابن سلام ينص على علم خلف بالشعر وينص كذلك على توثيقه في الرواية، ثم لا يكتفي بأن يجعل ذلك رأيًا خاصًّا به وإنما يذكر أن هذا الرأي هو إجماع علماء البصرة، قال ابن سلام: "اجتمع أصحابنا أنه كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدقه لسانًا، كنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرًا أو أنشدنا شعرًا ألا نسمعه من صاحبه". ولرأي ابن سلام قيمة خاصة إذ إن ابن سلام هو من نعرف شكًّا في بعض الشعر الجاهلي، ونصًّا على بعض المنحول منه، وذكرًا لبعض الرواة الوضاعين وأخبار
(1/455)
وضعهم. والحق أن ابن سلام لم يكتف بكل هذا الذي قاله في توثيق خلف، وإنما أضاف إليه أقوالًا أخرى ذهب فيها إلى أن خلفًا كان ناقدًا للشعر الجاهلي، يميز صحيحه من فاسده، وينص على المنحول منه، ويرد كثيرًا مما كان يُروَى في زمنه. ومن أجل هذا جاءه خلاد بن يزيد الباهلي -"وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله"- فقال له(80): "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروَى؟ " فقال له خلف: "هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت". وهو يصوره أيضًا أنه -في شكه في بعض الشعر الجاهلي- لا يقطع ولا يجزم، وإنما يقول إن هذه الأبيات أو تلك القصيدة "يقال" إنها لفلان؛ فمن ذلك أن ابن سلام سأله عن بيت من الشعر: من يقوله؟ فأجابه: "يقال للزبير بن عبد المطلب"(81).
ب- وفي أخبار الطائفة الأولى، وهي التي تتهم خلفًا بالوضع والنحل، أمر غريب حقًّا: فخلف بصري، والعلماء الذين يروون أخبار وضعه ونحله بصريون كذلك -مما يكاد يوهم أن هذه الأخبار صحيحة، فقد شهد بها بصريون على بصري، وبذلك فهي بعيدة عما ذكرناه آنفًا من أمر العصبية وما تدفع إليه من الاتهام. غير أننا حين ننعم في هذه الأخبار النظر نجد أنها لا تتهم حقًّا إلا الكوفيين، وأن خلفًا لا يعدو أن يكون معبرًا يجتازونه ليصلوا منه إلى اتهام علماء الكوفة ورواتها. واتخذوا خلفًا وسيلة لذلك لأنه -كما أسلفنا القول- قد أخذ عن حماد الكوفي، ثم أخذ الكوفيون بعد ذلك عن خلف. ففي الخبر "أ" "وعليه قرأ أهل الكوفة أشعارهم، وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية لأنه كان قد أكثر الأخذ عنه،
(1/456)
وبلغ مبلغًا لم يقاربه حماد، فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس؛ فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة. فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم".
وفي الخبر "جـ" جعل الرواة الأصمعي يتهم خلفًا بالوضع ليصلوا إلى أن رواة الكوفة "رواة غير منقحين، أنشدوني أربعين قصيدة لأبي دؤاد الإيادي قالها خلف الأحمر، وهم قوم تعجبهم كثرة الرواية، إليها يرجعون. وبها يفتخرون".
وجعل الرواة، في الخبر "د"، خلفًا يعترف بأنه كان ينحل الشعر، ليصلوا إلى أنه أعطى هذا الشعر لحماد الراوية الكوفي، فقلبه، ورواه، وأدخله في أشعار العرب.
ومن أجل هذا نجد أن كثيرًا من هذه الأخبار -بالرغم من أن رواتها بصريون يتهمون راوية بصريًّا- قد انتهت إلى غايتها وكشفت بذلك عن عوارها.
جـ- ومما يدلنا على مبلغ تجني بعض الرواة على خلف، ومدى ما انتهت إليه هذه الضروب المتعددة من العصبيات والخصومات أنهم وضعوا شعرًا ورجزًا على لسان خلف الأحمر وغيره من العلماء الرواة، ثم نسبوا إليه أنه وضع ذلك الشعر ونحله القدماء. قال الجاحظ(82): "ولقد ولَّدوا على لسان خلف الأحمر، والأصمعي، أرجازًا كثيرة؛ فما ظنك بتوليدهم على ألسنة القدماء؟ ". ولعل في هذا ما يكشف لنا عن مدى الثقة التي يجب أن نوليها مثل هذه الروايات والأخبار التي تتهم خلفًا، وعرضنا طرفًا منها.
(1/457)
د- ونحب أن نكشف عن أمر آخر، يتصل بهذا الذي قالوه من أن خلفًا قال القصيدة اللامية:
إن بالشعب إلى جنب سلع ... لقتيلًا دمه ما يطل
ونحلها تأبط شرًّا. فقد اختلف القدماء في نسبتها: فنسبها بعضهم، كأبي تمام في حماسته(83)، إلى تأبط شرًّا، ولم يشر إلى أنها قد تنسب إلى غيره. ونسبها بعضهم إلى الشنفري(84)، ولم يشر كذلك إلى أنها قد تنسب إلى غيره. وقد يتداخل بعض شعر الشَّنْفَري وتأبط شرًّا، ويُنسب ما قاله أحدهما إلى الآخر لأنهما كانا من اللصوص وصعاليك العرب وفُتَّاكهم، وأكثر ما يتحدثان عنه في شعرهما متشابه. ونسبها بعضهم إلى ابن أخت تأبط شرًّا قالها في خاله. ونحن، في هذا المقام، لا يعنينا التثبت من نسبتها إلى واحد من هؤلاء الثلاثة، فسواء أكانت لتأبط شرًّا أم لابن أخته أم للشنفري، فهي عندنا -هنا- جاهلية صحيحة وليست منحولة. ولكننا نحب أن نقف قليلًا عند أقوال من ذهبوا إلى أنها منحولة. ولنبدأ بما أورده التبريزي، قال(85): "قال النمري(86): ومما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها: "جلَّ حتى دقَّ فيه الأجل" فإن الأعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا. قال أبو محمد الأعرابي(87): هذا موضع المثل "ليس بعشك فادرجي"، ليس هذا كما ذكره، بل الأعرابي قد يتغلغل إلى أدق من هذا لفظًا ومعنى. وليس من هذه الجهة عُرِف أن الشعر
(1/458)
مصنوع، لكن من الوجه الذي ذكره لنا أبو الندى(88)، قال: مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه سلعًا، وهو بالمدينة، وأين تأبط شرًّا من سلع؟ وإنما قُتل في بلاد هذيل ورُمي به في غار يقال له رخمان".
أرأيت إلى إقامة الدليل كيف تكون؟ لقد أحس الأقدمون أنفسهم بضعف قول من قال إن هذه القصيدة لخلف نحلها تأبط شرًّا أو ابن أخته، فمضوا يعتسفون الطريق إلى دليل يدعمون به هذا القول، فكان دليلهم ظنًّا وتوهمًا لم يغنيا شيئًا. قال بعضهم إن في هذه القصيدة نصف بيت -نصف بيت في القصيدة كلها- فيه معنى فلسفي عميق لا يدركه الأعرابي، وما هو هذا المعنى الفلسفي العميق؟ قالوا إنه قوله: جل حتى دق فيه الأجل. فإذا كشفت عن عمق هذا المعنى لم تجده يعني شيئًا غير قوله: إن وفاة هذا الرجل لأمر عظيم يصغر بإزائه كل عظيم من الأمور. فأي عمق في هذا القول لا يدركه الأعرابي ومن هو دون الأعرابي(89)؛ فلما جاء من دفع هذا القول ورده لم يلبث أن هوى في مزلق دونه المزلق الأول، فقال: إن الدليل على أن هذه القصيدة مصنوعة أن الشاعر ذكر سلعًا، وأن سلعًا جبل في المدينة، ولكن الرجل المذكور في القصيدة قد قتل في بلاد هذيل!! أي عجب يربى على هذا العجب! وماذا يقول أبو الندى -الذي ذهب إلى هذا الرأي ونقله عنه أبو محمد الأعرابي-
(1/459)
لو قيل له: إن سلعًا اسم لعدة مواضع، ومنها -كما قال الأقدمون أنفسهم- "جبل لهذيل"(90)!!
فإذا شككت -كما نشك نحن الآن- في أمر هذا الخبر الذي يتهم خلفًا بوضع هذه القصيدة ونحلها الشنفري أو تأبط شرًّا أو ابن أخته، وإذا رجح لديك -كما رجح لدينا- أن أكثر هذه القصيدة لا يمكن أن يكون موضوعًا متكلفًا منحولًا لما يظهره فيها النقد الفني الداخلي من أصالة، وصدق فني، وشخصية صادقة - فقد بقي إذن أن نعرف كيف التبس أمرها على القوم. وقد عثرنا على خبر طريف يوضح لنا الأمر من جميع أطرافه: فقد أورد الخالديان اثني عشر بيتًا من هذه القصيدة ونسباها للشنفري، ثم قالا(91) "وقد زعم قوم من العلماء أن الشعر الذي كتبنا للشنفري هو لخلف الأحمر، وهذا غلط. ونحن نذكر الخبر في ذلك: أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: حضرت مجلس العتبي، ورجل يقرأ عليه الشعر للشنفري، حتى أتى على القصيدة التي أولها:
إن بالشعب الذي دون سلعٍ ... لقتيلًا دمه ما يطل
فقال بعض من كان في المجلس: هذه القصيدة لخلف الأحمر. فضحك العتبي من قوله، فسألناه عن سبب ضحكه فقال: والله ما لآل أبي محرز خلف من هذه القصيدة بيت واحد. وما هي إلا للشنفري. وكان لها خبر طريف لم يبق من يعرفه غيري. قلنا: وما خبرها؟ قال. جلسنا يومًا
(1/460)
بالمريد، ونحن جماعة من أهل الأدب، ومعنا خلف الأحمر، نتذاكر أشعار العرب، وكان خلف الأحمر أروانا لها وأبصرنا بها؛ فتذاكرنا منها صدرًا، ثم أفضينا إلى أشعارنا، فخضنا فيها ساعة، فبينا خلف ينشدنا قصيدة له في روي قصيدة الشنفري هذه وقافيتها يذكر فيها ولد الخليفة عليهم الرحمة، وما نالهم وجرى عليهم من الظلم، إذ هجم علينا الأصمعي، وكان منحرفًا عن أهل البيت، وقد أنشد خلف بعض الشعر، فلما نظر الأصمعي قطع ما كان ينشده من شعره ودخل في غيره إلا أنه على الوزن والقافية، ولم يكن فينا أحد عرف هذا الشعر ولا رواه للشنفري. فتحيرنا لذلك وظنناه شيئًا عمله على البديهة. فلما انصرف الأصمعي قلنا له: قد عرفنا غرضك فيما فعلت. وأقبلنا نطريه ونقرظه.
فقال: إن كان تقريظكم لي لأني عملت الشعر، فما عملته والله، ولكنه للشنفري يرثي تأبط شرًّا، ووالله لو سمع الأصمعي بيتًا من الشعر الذي كنت أنشدكموه ما أمسى أو يقوم به خطيبًا على منبر البصرة فيتلف نفسي. فادعاء شعر لو أردت قول مثله ما تعذر علي أهون عندي من أن يتصل بالسلطان، فألحق باللطيف الخبير. قال أبو العيناء: فسألنا العتبي شعر خلف الذي ذكره فيه أهل البيت فدافعنا مدة ثم أنشد:
قدك مني صارم ما يفل ... وابن حزم عقده لا يحل
ينثني باللوم من عاذليه ... ما يبالي أكثروا أم أقلوا
"وهي 47 بيتًا أوردها كلها، ثم قال": كتبنا هذه القصيدة بأسرها لأنها في سادتنا عليهم السلام، ولأنها أيضًا غريبة لا يكاد أكثر الناس يعرفها".
هـ- وأمر أخير نختم به حديثنا عن خلف الأحمر. وذلك هو الخبر الذي رووا فيه أنه وضع لأهل الكوفة شعرًا كثيرًا رووه عنه "فلما تقرأ ونسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس. فقالوا له:
(1/461)
أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في دواوينهم".
وقد أشرنا إلى أن راوي هذا الخبر بصري ممن كان يتعصب على الكوفيين، وأن الغرض من هذا الخبر توهين رواية الكوفيين للشعر. ونحب في هذا المكان أن نسأل: مَنْ مِنْ رواة الكوفة أبى أن يقبل من خلف اعترافه: أكلهم أم بعضهم؟ فإذا كانوا جميعًا لم يقبلوا ذلك ففي الأمر إجماع واتفاق يعز مثلهما في أمر أيًّا كان؛ وإن كان بعضهم لم يقبل، وبعضهم قبل، فما هي القصائد التي اعترف بها خلف وأين ذكرها علماء الكوفة الذين قبلوا اعتراف خلف؟ ولو تركنا أهل الكوفة وتساءلنا عن أهل البصرة: ألم يسمع بعضهم بما اعترف به خلف لأهل الكوفة؟ فإذا كان أهل الكوفة لم يقبلوا اعترافه، فهل قبل ذلك أهل البصرة؟ وأين نصوا على هذه القصائد التي وضعها؟ ثم، إذا كان أهل البصرة قد علموا بذلك وقبلوا اعتراف خلف فقد ثبت لديهم إذن أن خلفًا كان يكذب ويضع الشعر وينحله الأقدمين؛ فكيف إذن وثقوه وقبلوا روايته؟ بل كيف وثقه الأصمعي وابن سلام -وهما من هما- توثيقًا لم يوثقاه أحدًا؟ والجواب على ذلك واضح، فقد وثقوه لأنه كان ثقة، ولأن هذا الخبر الذي رواه المبرد أو نسب إليه خبر لم يقبله أحد لأنه مما دعت إليه العصبيات والخصومات ...
وبعد ؛فلسنا نقصد إلى الحديث عن سائر العلماء من رواة الشعر، فإن حديثنا حينئذٍ لا ينتهي بنا إلى غاية نقف عندها، ونحن نرى أن في حديثنا عن حماد وخلف -وهما أشهر من رُمي بالوضع وأكثر من اتهم بالنحل- ما يغني عنه الاستقصاء والإفاضة. غير أننا نحب أن نشير إلى عالم ثالث من رواة الشعر واللغة، ثقة أي ثقة عند الكثيرين، ومع ذلك لم يعدم من يضغن عليه فيرميه بالوضع والتزيد: ذلك هو الأصمعي. وسنقتصر على خبرين فيهما تأييد لما ذهبنا إليه من أمر هذه الخصومات والمنافسات والعصبيات وما تدعو إليه من اتهام بالوضع ورمي بالكذب. فقد كان ابن الأعرابي، وهو كوفي، ينتقص الأصمعي.
(1/462)
-وهو بصري- ويرميه بمثل ما قدمنا؛ وكان يصح أن نرى مرد هذا الاتهام إلى العصبية التي أشرنا إلى بيان أمرها. ولكننا نجد خبرًا ذا قيمة كبيرة لنا في هذا المجال يرجع اتهام ابن الأعرابي الأصمعي إلى خصومة شخصية. قالوا(92): "كان أول من أغرى ابن الأعرابي بالأصمعي أن الأصمعي أتى ولد سعيد بن سلم الباهلي، فسألهم عما يروونه من الشعر، فأنشده بعضهم القصيدة التي فيها :
سمين الضواحي لم تؤرقه ليلة ... وأنعم أبكار الهموم وعونها(93)
فقال الأصمعي: ما رواك هذا الشعر؟ قال: مؤدب لنا يعرف بابن الأعرابي.
فقال: أحضروه. فأحضروه، فقال له: هكذا رويتهم هذا البيت برفع "ليلة"؟
قال: نعم. فقال الأصمعي: هذا خطأ، إنما الرواية "ليلةً" بالنصب، يريد: لم تؤرقه أبكارًا الهموم وعونها ليلةً من الليالي. فقال الأصمعي لسعيد: من لم يحسن هذا القدر فليس موضعًا لتأديب ولدك! فنحَّاه سعيد. فكان ذلك سبب طعن ابن الأعرابي على الأصمعي".
وأما الخبر الثاني فهو حديث لأبي الطيب اللغوي فيه بيان جوانب كثيرة من حديثنا الذي قدمناه، قال في معرض حديثه عن الأصمعي(94): "فأما ما يحكيه العوام وسُقَّاط الناس من نوادر الأعراب، ويقولون: هذا مما افتعله الأصمعي، ويحكون أن رجلًا رأى عبد الرحمن ابن أخيه فقال: ما فعل عمك؟ فقال: قاعد في الشمس يكذب على الأعراب. فهذا باطل، ما خلق الله منه شيئًا، ونعوذ بالله من معرة جهل قائليه وسقوط الخائضين فيه. وكيف يقول ذلك عبد الرحمن ولولا عمه لم يكن شيئًا؟ وكيف يكذب عمه وهو لا يروي شيئًا إلا عنه؟ وأنَّى يكون الأصمعي كما زعموا وهو لا يفتي إلا فيما أجمع عليه العلماء ويقف عما يتفردون.
(1/463)
به عنه ولا يجوِّز إلا أفصح اللغات ويلج في دفع ما سواه..؟.. وكان أبو زيد وأبو عبيدة يخالفانه ويناوئانه كما يناوئهما، فكلهم كان يطعن على صاحبيه بأنه قليل الرواية ولا يذكره بالتزيد؛ وكان أبو زيد أقلهم طعنًا على غيره؛ وكان أبو عبيدة يطعن على الأصمعي بالبخل وضيق العطن؛ فكان الأصمعي إذا ذكر أبا عبيدة قال: ذاك ابن الحائك ... فانظر إلى هذا الإنصاف بينهم من شدة المنافسة، ثم لا يتهم أحدهم صاحبه بالكذب ولا يقرفه بالتزيد، لأنهم يبعدون عن ذاك ... ".
وقد ذهب ابن جني إلى مثل ذلك، فقد عقد فصلًا عنوانه "باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة" قال فيه: "هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف، وعرف مقامهم من التوقير والجلالة"، ثم ذكر من أخلاق بعض الرواة العلماء مثل أبي عمرو بن العلاء والأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة وأبي حاتم ما يوثقهم به ويدفع عنهم ما رُموا به. وقد قال عن الأصمعي: "وهذا الأصمعي، وهو صناجة الرواة والنقلة، وإليه محط الأعباء والثقلة ... كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره وهو حدث لأخذ قراءة نافع عنه؛ ومعلوم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته؛ لأنه لم يقوَ عنده إذ لم يسمعه.
وأما إسفاف من لا علم له، وقول من لا مسكة به: إن الأصمعي كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عليه، غير معبوء به ... " ثم ينتقل بعد ذلك إلى الحديث عما قدمناه من أمر العصبية بين البصرة والكوفة والخصومات التي نشأت بين العلماء الرواة، فيرى فيها رأيًا لا بأس من إيراده، إذ يرى في هذا الاتهام الذي كانوا يتبادلونه دليلًا على مدى تحريهم الدقة وتشددهم في الرواية، قال: "فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين، والمتحلين به من المصرين، كثيرًا ما يهجن بعضهم بعضًا، فلا يترك له في ذلك سماء ولا أرضًا. قيل: هذا أدل دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم؛ ألا ترى إذا سبق إلى أحدهم ظنة، أو توجهت نحوه شبهة، سُبَّ
(1/464)
بها، وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر ما يرمى بسقطة في رواية، أو غمزة في حكاية، محمي جانب الصدق فيها، بريء عند الله من تبعتها؛ لكن أخذت عنه إما لاعتنان شبهة عرضت له، أو لمن أخذ عنه، وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه، مغضوض الطرف دون مداه؛ وقد عرض الشبهة للفريقين، ويعترض على كلا الطريقين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله والمتفيئين بظله كريم الطرفين ... لما تسابوا بالهجنة فيه، ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه ... وإذا كانت هذه المناقضات والمنافسات موجودة بين السلف القديم ... ثم لم يكن ذلك قادحًا فيما تنازعوا فيه، ولا عائدًا بطرف من أطراف التبعة عليه جاز مثل ذلك أيضًا في علم العرب الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له، ولا يكاد يعدم أهله الأنس به والارتياح لمحاسنه".
-4-
ومع ذلك كله فنحن لا نذهب -ولا يصح لأحد أن يذهب- إلى أن جميع ما في تضاعيف الكتب العربية من شعر منسوب إلى الجاهلية صحيح مبرأ من الوضع والنحل، ولكننا أردنا في حديثنا الذي قدمناه أن نفحص مواطئ أقدامنا حتى نمضي في يقين وثقة، ونصدر عن بصيرة وهدى، وأن نضع في الطريق أعلامًا، حتى لا نضل فيها ولا تعمى علينا معالمها. وقد قادنا البحث إلى أن هذا الشعر المنسوب إلى الجاهلية على ثلاثة أضرب:
  1- فضرب موضوع منحول، إما على وجه اليقين القاطع وإما على وجه الترجيح الغالب. وأكثر شعر هذا الضرب ما وضعه القصاص ليحلوا به قصصهم، أو يكسبوه في نفوس السامعين والقارئين شيئًا من الثقة، وما وضعه هؤلاء القصاص على لسان آدم وغيره من الأنبياء أو على لسان بعض العرب البائدة، وما وضعه.
(1/465)
بعض الرواة ليثبتوا به نسبًا أو يدلوا به على أن لبعض العرب قدمة وسابقة. وقد أشرنا إلى بعض هذا الحديث في فصل مضى، وأشار إليه غيرنا في مواطن متفرقة، بحيث لا نحتاج إلى إعادة القول فيه؛ إذ إننا نراه أيسر هذه الضروب الثلاثة وأهونها لسهولة انكشافه ويسر افتضاحه، بحيث لا يكاد يعمى على أحد .
 2- وضرب صحيح لا سبيل إلى الشك فيه أو الطعن عليه. وذلك هو الذي أجمع العلماء الرواة على إثباته بعد أن تدارسوا هذا الشعر وفحصوه ومحصوه. وقد مر بنا أن القدماء كانوا يميزون الراوية من العالم بالرواية والشعر، فيأخذون قول الأول في حذر واحتياط، ولا يقبلون منه إلا ما يطمئنون إلى صحته، ثم يأخذون قول الثاني واثقين مطمئنين إلا أن يظهر لهم من وجوه النقد ما يضعف من ثقتهم واطمئنانهم. وقد فصلنا القول في أمر هؤلاء العلماء بالرواية والشعر، وكيف كانوا -على اختلاف مدارسهم- يجدون في الجمع والاستقصاء، ثم في البحث والتمحيص حتى يميزوا الموضوع من الصحيح، فلا يحفلوا بالموضوع ويسقطوه من مروياتهم وكتبهم، أو يثبتوه وينبهوا عليه. ويحسن بنا أن نذكر بثلاثة أخبار كنا قد قدمناها شاهدة على ما نقول. الأول: أن خلفًا الأحمر كان رأسًا من رءوس الرواية، أخذ عنه البصريون جميعًا، وكان من هؤلاء العلماء الذين لا يقبلون من الشعر إلا ما ميزوا صحته، ولا يروون منه إلا ما اطمأنوا إلى أنه غير موضوع؛ حتى لقد جاءه يومًا خلاد بن يزيد الباهلي، وكان خلاد حسن العلم بالشعر يرويه ويقوله، فقال له: "بأي شيء ترد هذه الأشعار التي تُروى؟ قال له: هل فيها ما تعلم أنت أنه مصنوع لا خير فيه؟ قال: نعم. قال: أفتعلم في الناس من هو أعلم بالشعر منك؟ قال: نعم. قال: فلا تنكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما تعلمه أنت"(95) وحتى لقد قال له قائل يومًا(96) "إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. قال له:
(1/466)
إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف إنه رديء، هل ينفعك استحسانك له؟ ".
ومن هؤلاء العلماء الرواة الذين جدوا في فحص الشعر الجاهلي ودراسته وروايته وتمييز موضوعه من صحيحه: أبو عبيدة معمر بن المثنى. فقد أتى -هو وابن نوح العطاردي- ابن داوود بن متمم بن نويرة لما قدم البصرة. فسألاه عن شعر أبيه متمم، وقاما له بحاجته، فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويضعها لهما، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها. فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله(97). وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب بعض تحقيقات أبي عبيدة في كتاب الخيل.
وقد بلغ رواة الشعر وعلماؤه من التحقيق والتمحيص، وتمييز منحوله، والنص على الموضوع منه، منزلة جعلت بعض العلماء يفضلونهم على رواة الحديث، فقد قال محمد بن سلام(98) "حدثني يحيى بن سعيد القطان قال: رواة الشعر أعقل من رواة الحديث؛ لأن رواة الحديث يروون مصنوعًا كثيرًا، ورواة الشعر ساعة ينشدون المصنوع ينتقدونه ويقولون: هذا مصنوع".
وإذا ما سألنا -كما سأل خلاد بن يزيد الباهلي خلفًا الأحمر- عن مقاييس هؤلاء العلماء الرواة في نقد الشعر وتمييز صحيحه من منحوله ظننا بادئ الرأي أنه لم يكن لهؤلاء القوم مقاييس ثابتة معروفة، وأنهم، إذا ما أجابونا عن هذا السؤال، سيفرون من الإجابة الشافية كما فر منها خلف حينما قال لخلاد إنه إذا كان يعلم أن في الشعر ما هو مصنوع، وإذا كان يعلم أن في الناس من هو أعلم بالشعر منه، فعليه ألا ينكر أن يعلموا من ذلك أكثر مما يعلم. وكذلك حين شبه الناقد للشعر بالصراف من غير أن يذكر لنا مقياسًا واضحًا. ولكننا.
(1/467)
-حين نتعمق بالبحث ونستقصيه- لا نلبث أن نكشف أنه كانت بين أيديهم ثلاثة مقاييس:
أ- ذوقهم الشعري الذي اكتسبوه عن علم ودراية بعد طول معاناة ودرس لهذا الشعر، شأنهم في ذلك شأن الصراف الذي أشار إليه خلف، والذي لا يكاد الدرهم يقع بين يديه حتى يميزه لكثرة ما مرن على هذا الضرب من المعاناة والمعرفة.
ولكنهم لم يكونوا يستخدمون هذا المقياس وحده، وإنما كانوا يدعمونه ويقوونه بأحد المقياسين التاليين.
ب- إجماع الرواة: ولكن هل وقع هذا الإجماع في شيء من الشعر الجاهلي؟ أجل، لقد وقع في كثير منه ولم يختلفوا إلا في بعضه، وقد بينا طرفًا من ذلك فيما مضى، وسنبين طرفًا آخر منه في هذا الفصل وما سيتلوه من فصول. ويتبين لنا مدى إجلالهم لإجماع الرواة في مثل قول ابن سلام(99) "وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر كما اختلفت في بعض الأشياء، أما ما اتفقوا عليه، فليس لأحد أن يخرج منه" وقوله في إجماعهم على الموضوع من الشعر(100) "وليس لأحد -إذا أجمع أهل العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يقبل من صحيفة ولا يروي عن صحفي". ومن هنا أوردوا ما أجمع عليه العلماء على أنه صحيح لا سبيل إلى الطعن فيه، فقال ابن سلام(101) "وأجمع الناس على أن الزبير بن عبد المطلب شاعر، والحاصل من شعره قليل، فمما صح عنه قوله: ... "وأورد الواقدي أبياتًا بعد أن قال(102) "وهي ثبت لم أر أحدًا يدفعها". وأورد رجزًا في موطن آخر وقال(103): "ما رأيت من أصحابنا أحدًا يدفعه". وإجماع الرواة الثقات هو الذي ذكره
(1/468)
الجاحظ في قوله(104): "فالعلماء الذين اتسعوا في علم العرب، حتى صاروا إذا أخبروا عنهم بخبر كانوا الثقات فيما بيننا وبينهم، هم الذين نقلوا إلينا.
وسواء علينا جعلوه كلامًا وحديثًا منثورًا، أو جعلوه رجزًا أو قصيدًا موزونًا".
جـ- والمقياس الثالث الذي كان يعتمد عليه العلماء في القرنين الثالث والرابع ويزنون به هو: وجود الشعر في ديوان الشاعر أو ديوان القبيلة، فقد دون هذه الدواوين الثقات من العلماء الرواة، ولذلك قبلوا ما جاء فيها حين يجيء في صورة اليقين والقطع، وأما ما ذكره هؤلاء العلماء أنفسهم في تلك الدواوين على أنه مما يُشك فيه أو يتوقف عنده، فقد كانوا ينقلونه كما ذكروه بألفاظهم، وقد يبيحون لأنفسهم بحثه والنظر فيه. ومما يدل على مدى ثقتهم بما دونه العلماء في الدواوين الشعرية أن أبا الفرج ذكر شعرًا لامرئ القيس وقال(105): "وهي قصيدة طويلة وأظنها منحولة" ثم قدم لظنه هذا بسببين الأول: "لأنها لا تشاكل كلام امرئ القيس"، وهو نقد داخلي، والثاني: لأنه "ما دونها في ديوانه أحد من الثقات"، وهو هذا النقد الخارجي الذي نحن بسبيله، وكذلك أورد أبو الفرج أشعارًا لدريد بن الصمة رواها ابن الكلبي، ثم قال أبو الفرج إنها "موضوعة كلها"، واستدل على ذلك بقوله(106): "ما رأيت شيئًا منها في ديوان دريد بن الصمة على سائر الروايات". وأورد الآمدي أبياتًا نسبها إلى امرئ القيس بن مالك الحميري، ثم قال(107): "وهي أبيات تُروَى لامرئ القيس بن حجر الكندي، وذلك باطل، إنما هي لامرئ القيس هذا الحميري"، ثم يقدم على ذلك دليله وهو أن هذه الأبيات مذكورة في ديوان القبيلة، قال: "وهي ثابتة في أشعار حمير".
(1/469)
فإذا ما استخدم العلماء هذه المقاييس الثلاثة، أو اكتفوا ببعضها -وكثيرًا ما يكون الثاني أو الثالث- اطمأنوا إلى ما يوردون، وثبتت عندهم صحته وقدمه.
فمن ذلك أنك ترى أبا عبيدة يورد شعرًا جاهليًّا ويصفه بقوله إنه(108) "الشعر الثابت الذي لا يُرَدُّ". ومن ذلك أيضًا أن الواقدي يورد شعرًا لحسان ويصفه بقوله(109): "ثبت قديمه". وأن الجاحظ يطمئن إلى أنه يستشهد على بعض الأخبار "بالشاهد الصادق"(110) و"بالأشعار الصحيحة"(111)، ويصف بعض ما يذكر من أشعار العرب وأخبارهم بأنها "أشعارهم المعروفة وأخبارهم الصحيحة"(112).
 3- وأما الضرب الثالث من ضروب الشعر الجاهلي، فهو المختلف عليه، الذي قال عنه ابن سلام "وقد اختلفت العلماء في بعض الشعر، كما اختلفت في بعض الأشياء". وفي هذا الضرب الثالث نقاط ينبغي أن ننبه عليها لنحيط بالموضوع من أطرافه.
أ- أولها أن هذا الضرب يبدو -للقارئ العابر للكتب العربية- عظيمًا كبير القدر، وذلك لكثرة ما يقرأ من النص على أن هذا البيت موضوع وأن تلك الأبيات منحولة، ولكثرة ما يمر به من اتهام للرواة بالوضع والكذب والتزيد.
ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها عند من ينعم النظر ويستقصي في البحث أن هذا الضرب ليس بالكثرة التي يبدو بها، وسيمر بنا في الباب التالي عند حديثنا عن الدواوين أن الراوية العالم من الطبقة الثانية أو الثالثة، يروي ديوان شاعر عن راويتين أو ثلاثة من الطبقة الأولى، فيورد كثيرًا من قصائد الديوان والإجماع منعقد على صحتها، ثم يشير في قصائد قليلة إلى أن هذه القصيدة قد رواها فلان.
(1/470)
ولم يروها فلان، أو أن تلك القصيدة قد تُنسب إلى فلان وهو غير صاحب الديوان. وقد يجمع هذا الراوية -الذي قلنا إنه من الطبقة الثانية أو الثالثة- أبياتًا متفرقة ومقطعات صغيرة يضمها عنوان هو "المنحول من شعر فلان".
وهو يقصد بالمنحول ما لم يروه هؤلاء الرواة العلماء الذي رووا هذا الديوان.
فإذا ما أحصيت هذه الأبيات التي نص في تضاعيف الديوان أنها مما رواه فلان دون فلان، وضممت إليها ما جُمع في آخر الديوان بعنوان "المنحول من شعره" وجدتها كلها لا تكاد تعد شيئًا مذكورًا إذا قيست بالقصائد التي أجمع الرواة على صحتها.
أما ما يمر به القارئ من كثرة الروايات التي ترمي الرواة بالوضع والكذب والتزيد، فقد تحدثنا عنها حديثًا مفصلًا. ولكننا نحب هنا أن نزيد أمرًا جديدًا، وهو أن هذا القدح وذلك التهجين لم يمنعا العلماء والرواة من الأخذ عن بعضهم، فكأنما كان المقصود بأكثر هذا القدح والتهجين النيل من الرواة أنفسهم -لأسباب قد بيناها- دون أن ينال ذلك مما يروون من شعر. وقد مر بنا طرف من اتهام البصريين للكوفيين وإسقاطهم روايتهم ورميهم بالكذب والوضع والنحل، ولكن ذلك لم يحل بين البصريين والأخذ عن الكوفيين بل إن رأسين من رءوس الرواية البصرية قد أخذوا عن أكثر الكوفيين حظًّا من الاتهام، ونقصد خلفًا الأحمر والأصمعي وأخذهما عن حماد الراوية -كما قدمنا- بل إن اتهام البصريين لخلف نفسه -وقد عرضنا هذا الاتهام وفندناه- لم يمنعهم من الأخذ عنه، ولم يحل دون أن يكون خلف "معلم أهل البصرة"! والأمثلة على ذلك كثيرة. ولكننا نحب أن نشير إلى مثل أخير يكشف لنا عن حقيقة هذا الاتهام، وكيف أن المقصود منه الزراية بالشخص نفسه والنيل منه في حياته للأسباب التي ذكرناها، حتى إذا مات، وانتفت تلك الأسباب، عاد الذي أزرى به ونال منه وهجنه، فإذا به يقر له بالعلم ويوثقه. فهذا أبو محمد يحيى بن مبارك اليزيدي يتعصب للبصريين على الكوفيين، وقد نظم قصيدة يمدح
(1/471)
نحويي البصرة ويهجو الكوفيين، وخاصة الكسائي، ويعيب مذهبهم، قال فيها بعد أن مدح نحاة البصرة:(113) 
وقل لمن يطلب علمًا ألا ... ناد بأعلى شرف ناد:
يا ضيعة النحنو به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد
أفسده قوم وأزروا به ... من بين أعتام وأوغاد
ذوي مراء وذوي لُكنة ... لئام آباء وأجداد
لهم قياس أحدثوه هم ... قيام سوء غير منقاد
فهم من النحو ولو عمروا ... أعمار عادٍ في أبي جاد
أما الكسائي فذاك امرؤ ... في النحو حارٍ غير مراد(114)
وهو لمن يأتيه جهلًا به ... مثل سراب البيد للصادي
وهجا الكسائي وأصحابه من الكوفيين بقصيدة أخرى منها(115):
كنا نقيس النحو فيما مضى ... على لسان العرب الأُول
فجاءنا قوم يقيسونه ... على لغى أشياخ قطربل
فكلهم يعمل في نقض ما ... به يصاب الحق لا يأتلي
إن الكسائي وأشياعه ... يرقون في النحو إلى أسفل
فإذا ما بحثت عن سبب هذا الهجاء، ولم تكتف بهذه العصبية البصرية، وجدت أن بين اليزيدي والكسائي خصومة شخصية ومنافسة، وذلك لأن اليزيدي "كان مؤدب المأمون، والكسائي مؤدب أخيه محمد الأمين، وبينه وبين الكسائي مقارضة بسبب تأديبهما الأخوين"(116). ومن أجل هذا كان كل همه في أن
(1/472)
يعيبه وينال منه، فلما مات الكسائي وانقضت تلك المنافسة والخصومة عاد اليزيدي واعترف للكسائي بالعلم، فقال، في أبيات، يرثيه ويرثي محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة(117):
وأقلقني موت الكسائي بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
فأذهلني عن كل عيشٍ ولذةٍ ... وأرق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديَا وتخرمَا ... وما لهما في العالمين نديد
ب- وأمر آخر جدير بالعناية، وهو أن كثيرًا من النص على "النحل" لا يعني أن هذا الشعر منحول موضوع حقًّا، وإنما غاية ما يعني أن هذا الراوية العالم يذهب إلى أن هذا الشعر منحول على حين يذهب غيره إلى أنه صحيح. فمرد الأمر إذن إلى خلاف في الحكم والرأي، مرجعه إلى اختلاف المصادر التي كان يأخذ عنها الرواة، وإلى اختلاف المناهج التي كان يحتكم إليها العلماء. وسنضرب لذلك بعض الأمثلة:
 1- فقد مر بنا أن ابن سلام روى عن أبي عبيدة عن يونس بن حبيب أن حمادًا الراوية قال قصيدة في مدح أبي موسى الأشعري، وأنشدها بين يدي بلال بن أبي بردة بعد أن نحلها الحطيئة(118). ولكن المدائني، وهو بصري مثل هؤلاء الثلاثة، يخالفهم في الرأي، وقد ذكر "أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة، قالها فيه وقد جمع جيشًا للغزو"(119).
 2- وقد ذكر أبو خليفة الفضل بن الحباب أنه رُوي لعباس بن مرداس بيت في عدنان، قال(120):
(1/473)
وعك بن عدنان الذين تلعبوا ... بمذحج، حتى طردوا كل مطرد
ثم قال "والبيت مريب عند أبي عبد الله" يعني ابن سلام. ولعل ابن سلام ارتاب في البيت لذكره عدنان "ولم يذكر عدنان جاهلي غير لبيد بن ربيعة".
على حين أورده ابن هشام على أنه صحيح غير مريب، وذكر أنه أخذه عن أبي محرز خلف الأحمر وعن أبي عبيدة(121). وكذلك أورده أبو عبد الله المصعب الزبيري على أنه صحيح ولم يشر إلى ارتيابه فيه كما أشار إلى ارتيابه في غيره من الأبيات التي تذكر الأنساب(122) . 
 3- وقد أورد المصعب الزبيري أبياتًا من الرجز تجعل نسب قضاعة في حمير لا في معد(123)، وذهب إلى أن هذه الأبيات موضوعة فقال "وزوروا ذلك شعرًا". وأورد الأبيات أيضًا أبو الفرج وروى عن مؤرج بن عمرو أنه قال(124): "هذا قول أحدثوه بعد وصنعوا شعرًا ألصقوه به ليصححوا هذا القول ... وهذا شيء قيل في آخر أيام بني أمية". ومع ذلك فابن هشام الذي ولد بعد أيام بني أمية. والذي تعقب ابن إسحاق فيما أورد من الشعر ونقده وأسقط بعضه لأنه لم ير "أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها" ابن هشام هذا يورد الأبيات السابقة على أنها صحيحة، وعلى أنه يستدرك بها ما فات ابن إسحاق ذكره(125).
 وأورد ابن هشام قصيدة لأبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، آخرها قوله(126):4
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
(1/474)
وقال ابن هشام إن هذه القصيدة تُروَى لأمية بن أبي الصلت، وبعد أن أورد الأبيات مع هذا البيت الأخير قال "هذا ما صح له مما روى ابن إسحاق منها، إلا آخرها بيتًا ... فإنه للنابغة الجعدي". ولكن ابن سلام يذهب على غير هذا المذهب فقد عرض لهذا البيت وقال(127) "ترويه عامر للنابغة، والرواة مجمعون أن أبا الصلت بن أبي ربيعة قاله". وقد أتى به مثلًا على أن الشاعر قد يستزيد في شعره بيتًا قاله من قبله كالمتمثل حين يجيء موضعه من غير أن يقصد اجتلابه أو سرقته.
 5- وقد قال الرياشي(128): "يقال إن كثيرًا من شعر امرئ القيس ليس له، وإنما هو لفتيان كانوا يكونون معه مثل عمرو بن قميئة وغيره". ولكن ابن سلام ينفي ذلك ويقول(129): "وبنو قيس تدعي بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة، وليس ذلك بشيء".
جـ- ومما قد يوهم بالنحل والوضع أيضًا اختلاف الرواة في نسبة الشعر، فتراهم ينسبون بعضه إلى شاعرين أو ثلاثة شعراء جاهليين؛ والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا لا يعنينا إلا ما سنذكره بعد أن نورد مثلين عليها: الأول- أن الأبيات التي في وصف المطر ومنها:
دانٍ مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح
نسبها يونس بن حبيب لعبيد بن الأبرص، وعلى ذلك كان إجماع أهل البصرة(130).
"فلما قدم المفضل صرفها إلى أوس بن حجر". والثاني- أن القصيدة التي منها:
من سبإ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سبيله العرما
نسبها يونس للنابغة الجعدي، ونسبها أبو عبيدة لأمية، ثم سئل خلف الأحمر.
(1/475)
عنها فقال: "للنابغة، وقد يقال لأمية"(131).
ونجب أن نلحظ أن الشعر في هذين المثلين - وفي كثير من الأمثلة غيرهما- نُسب إلى شعراء جاهليين، وأن الخلاف في نسبته لم يخرجه عن نطاق الشعر الجاهلي. فجاهلية هذا الشعر إذن ثابتة لا شك فيها عند هؤلاء الرواة العلماء، وإن كانوا اختلفوا في الشاعر الجاهلي نفسه -ربما لاختلاف المصادر التي استقى منها كل راوية منهم نسبة الشعر- وقد كان هؤلاء الرواة العلماء، لطول تمرسهم بالشعر الجاهلي ومدارستهم إياه، يعرفون الشعر الجاهلي ويميزونه من الإسلامي بمجرد سماعهم إياه -وإن كانوا يختلفون أحيانًا في نسبته، بل إنهم أحيانًا ليعرفون أنه شعر جاهلي ولكنهم يعجزون عن ذكر الشاعر نفسه، ومثال ذلك ما رُوي من أن حمادًا أنشد بلال بن أبي بردة شعرًا مدحه به، فقال بلال لذي الرمة: كيف ترى هذا الشعر؟ قال ذو الرمة: جيدًا وليس له. قال بلال: فمن يقوله؟ قال: لا أدري إلا أنه لم يقله ... فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه قال له: أنت قلت ذلك الشعر؟ قال: لا. قال: فمن يقوله؟ قال: بعض شعراء الجاهلية وهو شعر قديم وما يرويه غيري. قال: فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك؟ قال: عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام(132).
وكانوا أحيانًا -حينما يطمئنون إلى أن الشعر جاهلي- ينسبونه إلى شاعر بعينه، وربما كان ذلك لأنهم عرفوا أن هذا الشعر أقرب إلى روح ذلك الشاعر لكثرة ما درسوه وعرفوه، وعلى هذا الضوء نستطيع أن نفسر بعض الروايات التي قد يُفهم منها الاتهام بالوضع أو الرمي بالكذب، في حين لا وضع ولا كذب إذا فهمناها على ما قدمنا. فمن ذلك أن حمادًا جاءه أعرابي فأنشده قصيدة لم يدر لمن هي. فقال حماد: اكتبوها، فلما كتبوها وقام الأعرابي، قال حماد: لمن ترون أن نجعلها؟ فقالوا أقوالًا، فقال حماد: اجعلوها لطرفة(133). وقال
(1/476)
الأصمعي: ما أروي للأغلب إلا اثنتين ونصفًا.... قال أبو حاتم: طلب إسحاق بن العباس الهاشمي من الأصمعي رجز الأغلب، فطلبه مني، فأعرته إياه، فأخرج منه نحوًا من عشرين قصيدة. فقلت للأصمعي: ألم تزعم أنك لم تعرف إلا اثنتين ونصفًا؟ فقال: بلى، ولكن انتقيت ما أعرف، فإن لم يكن له فهو لغيره ممن هو ثبت أو ثقة(134).
د- وبعد؛
فمنذ مطلع القرن الثاني الهجري، وبعده بقليل، قامت طائفة من العلماء الرواة من أمثال أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية ثم المفضل وخلف الأحمر وهم الطبقة الأولى من العلماء الذين عرفتهم العربية في تاريخها الحافل؛ فتلقوا تراث الجاهلية: شعرها وأخبارها وأنسابها؛ وصلهم بعضه مدونًا في دواوين كاملة ضمت تراث القبيلة كله أو شعر شاعر فرد من شعرائها، ووصلهم بعضه مكتوبًا في صحف متفرقة، ثم وصلهم بعضه عن طريق الرواية الشفهية التي كان يتناقلها الخلف عن السلف. فحملوا الأمانة، ومضوا يجمعون ما تفرق من هذا التراث.
وينظمون منه ما تجمع، ويضيفون إليه ما لم يكن فيه مما ثبتت لهم صحته، وينفون عنه ما ثبت لهم زيفه وفساده. ولم يألوا جهدًا في التثبت والتحقيق والتمحيص والمدارسة، حتى استقام لكل منهم ما تيقن صحته، فمضى يذيعه على تلامذته في حلقات دروسه، ويشيعه في رواد مجالس علمه، فخلف من بعدهم خلف هم الطبقة الثانية من العلماء الرواة تأسَّوا بشيوخهم واقتفوا سبيلهم، يجمعون ويدرسون ويمحصون ويفحصون، ثم يستقيم لكل منهم ما يتيقن صحته، فيذيعه على تلاميذه من علماء الطبقة الثالثة.
ومع ذلك فقد كان لا بد لبعض هؤلاء العلماء من أن يختلفوا: فقد وقع لبعضهم من الصحف المكتوبة، أو الدواوين المدونة، أو الرواة من الشيوخ العلماء ومن الأعراب الفصحاء مالم يقع كله لغيره، ثم كان لكل طائفة من
(1/477)
هؤلاء العلماء منهج في الأخذ والتلقي -على ما بيناه في صفحات تقدمت. ولكن هذا الخلاف في المصادر أولًا وفي المنهج ثانيًا لم يمنع العلماء من أن يأخذ بعضهم عن بعض، ومن أن يرحل علماء المصر إلى المصر المجاور ليأخذوا منهم ويرووا عنهم، ثم ينقلوا ما تيقنوا صحته إلى تلاميذهم ويكتبوه فيما يجمعون من دواوين.
فهذه الدواوين المنسوبة المسندة التي يرتفع إسنادها إلى الطبقة الأولى أو إلى تلاميذهم من علماء الطبقة الثانية هي التي تحوي بين دفتيها الشعر الجاهلي الذي تيقنوا صحته بعد تحرٍّ واستقصاء وجمع وتمحيص ونقد. 
(1/478)

__________
 ابن سعد، الطبقات 6: 4-5.(1)
 المصدر السابق: 5.(2)
 المصدر السابق: 5.(3)
 المصدر السابق: 5.(4)
 المصدر السابق: 6.(5)
 المصدر السابق: 6.(6)
 أحمد أمين، ضحى الإسلام 2: 151.(7)
 ضحى الإسلام 153-154.(8)
 انظر المرجع السابق 2: 152.(9)
 انظر المرجع السابق: 158.(10)
 (11)ضحى الإسلام 2: 294-295. وانظر أيضًا كتاب "العربية" ليوهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار ص61-63 . 
 ابن النديم، الفهرست: 86.(12)
 المصدر السابق: 81.(13) 
 السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 56.(14)
 مراتب النحويين، ورقة: 146.(15)
 مراتب النحويين: 121.(16)
 المصدر السابق: 147.(17)
 ياقوت، إرشاد 5: 115.(18)
 المصدر السابق 18: 190.(19)
 المصدر السابق 18: 190.(20)
 أحمد أمين، ضحى الإسلام 2: 296، وانظر طبقات فحول الشعراء: 15.(21)
طبقات فحول الشعراء: 123.(22)
 المصدر السابق: 123.(23)
 مراتب النحويين: 119.(24)
 ياقوت، إرشاد: 7: 207.(25)
 الخصائص: 392-393.(26)
1 الأغاني 6: 89-91.(27)
 الأغاني 6: 89.(28)
 المصدر السابق 6: 70.(29)
 إرشاد 10: 265.(30)
 مراتب النحويين، ورقة: 118.(31)
 المصدر السابق: 116.(32)
 الأغاني 6: 73.(33)
 طبقات فحول الشعراء: 40-41.(34)
 مراتب النحويين: 116.(35)
 المصدر السابق: 76.(36)
 إرشاد 11: 68.(37)
 الأغاني 6: 92.(38)
 الأغاني 6: 88.(39)
 انظر ما قدمناه من رأي ليال في هذا الخبر في الفصل الثالث من هذا الباب.(40)
 (41)الطبري، تاريخ "سنة 158"، وقد أورد كذلك خبرًا آخر لا يكاد يفترق عن هذا، وهو أن المهدي بويع له بالخلافة لست ليال خلون من ذي الحجة سنة 158.
 إرشاد 10: 266.(42)
 الفهرست: 135.(43)
 تاريخ الطبري "سنة 164".(44)
 ياقوت، إرشاد 11: 68.(45)
 الأغاني: 6: 88.(46)
 (47)انظر أيضًا كتاب "العربية" تأليف يوهان فك، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار ص62-63.
 مراتب النحويين: 115.(48)
 الأغاني 6: 89.(49)
 ياقوت، إرشاد: 10: 258.( 50)
 إرشاد 10: 258.(51)
 الأغاني 6: 82.(52)
 ابن النديم - الفهرست: 86.(53)
 مراتب النحويين: 121.(54)
 المصدر السابق: 147.(55)
 مراتب النحويين: 80.(56)
 المصدر السابق: 79.(57)
 نزهة الألباء: 70.(58)
 طبقات النحويين واللغويين: 31.(59)
 الأغاني 2: 176.(60)
 ديوان الخطيئة: 34-35.(61)
 انظر لذلك الأغاني 6: 71، 92-94.(62)
 انظر المصدر السابق 6: 80، 84.(63)
 مراتب النحويين: 75-71.(64)
 مراتب النحويين: 75.(65)
 المرزباني، الموشح: 251-252.(66)
 الأغاني 6: 92.(67)
 الأمالي 1: 156.(68)
 العقد 6: 157.(69)
 الحيوان1: 182-183.(70)
 (71)السمع: ولد الذئب والضبع. والأزل: الأرسح وهو خفيف العجز. يقول: إنه يسبل إزاره خيلاء وكبرًا ويتبختر ذاهبًا في الترفه إلى أرفع الدرجة، أو إنه يسبل شعرًا أحوى أي أسود.
 الشعر والشعراء 2: 765.(72)
 طبقات الشعراء: 21.(73)
 ابن النديم، الفهرست: 81.(74)
 طبقات النحويين واللغويين: 179.(75)
 المصدر السابق: 180.(76)
 نزهة الألباء: 70.(77)
 طبقات النحويين واللغويين: 179.(78)
 المصدر السابق: 179.(79)
 طبقات الشعراء: 8.(80)
 المصدر السابق: 205.(81)
 الحيوان 4: 181-182.(82)
 ج1 ص348.(83)
 الأغاني 6: 86-87، وأمالي المرتضى 1: 280.(84)
 شرح الحماسة "تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد" 2: 313-314.(85)
 أحد شراح حماسة أبي تمام المتقدمين، قبل التبريزي.(86)
 (87)هو الحسن بن أحمد، المعروف بالأسود الغندجاني، علامة نسابة، عارف بأيام العرب وأشعارها، من رجال آخر القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس. "ترجمته في نزهة الألباء: 239، ومعجم الأدباء 7: 261-265".
 (88)هو محمد بن أحمد، أبو الندى؛ كان أبو محمد الأعرابي يكثر من الرواية عنه والاعتماد عليه. "ترجمته في معجم الأدباء 17: 159-164". قال عنه ياقوت "7: 262" إنه "رجل مجهول لا معرفة لنا به". وقال: "وكان أبو يعلى بن الهبارية الشاعر يعيره "أي: يعير أبا محمد الأعرابي" بذلك، ويقول: ليت شعري، من هذا الأسود الذي قد نصب نفسه للرد على العلماء، وتصدى للأخذ على الأئمة القدماء؟ بماذا نصحح قوله ونبطل قول الأوائل، ولا تعول له فيما يرويه إلا على أبي الندى، ومن أبو الندى في العالم؟ لا شيخ مشهور، ولا ذو علم مذكور....! ".
 (89)انظر كتاب المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، تأليف الدكتور عبد الله الطيب ص76-77 التعليق رقم: 1.
 (90)الفيروزآبادي، القاموس "سلع"؛ وكذلك ياقوت، معجم البلدان "وسلع جبل في ديار هذيل" وأنشد ثلاثة أبيات للبريق الهذلي آخرها:
يحط العصم من أكناف شعر
ولم يترك بذي سلع حمارًا
 (91)حماسة الخالديين "مخطوط في دار الكتب المصرية رقم 587 أدب" ورقة: 120-122.
 السيوطي، المزهر 2: 322 و 380.(92)
 الضواحي: ما بدا من الجسد. وأنعم: زاد في هذه الصفة.(93)
 مراتب النحويين ورقة: 80-83.(94)
 ابن سلام، طبقات فحول الشعراء: 8.(95)
 المصدر السابق: 8.(96)
 طبقات فحول الشعراء: 40.(97)
 ذيل الأمالي: 105.(98)
 طبقات الشعراء: 6.(99)
 المصدر السابق: 6.(100)
 المصدر السابق: 205.(101)
 المغازي: 150.(102)
 المصدر السابق: 277.(103)
 الحيوان 4: 184.(104)
 الأغاني 9: 97.(105)
 المصدر السابق 10: 40.(106)
 المؤتلف والمختلف: 12.(107)
 النقائض: 238.(108)
 المغازي: 282.(109)
 البيان والتبيين 2: 4.(110)
 الحيوان 2: 107.(111)
 المصدر السابق 2: 320.(112)
 السيرافي، أخبار النحويين البصريين: 41-44.(113)
 (114)مراد: هكذا في الأصل، ولعل صوابها؛ حار غير مزداد، أي ينقص ولا يزيد، والحري: النقصان بعد الزيادة.
 (115)  السيرافي: 40   
 مصدر السابق: 44-45.(116)
 السيرافي: 46.(117)
 طبقات الشعراء: 41.(118)
 الأغاني 2: 176.(119)
 طبقات الشعراء: 10-11.(120)
 السيرة 1: 9.(121)
 نسب قريش: 5.(122)
 المصدر السابق: 5.(123)
 الأغاني 8: 91.(124)
 السيرة 1: 11-12.(125)
 المصدر السابق: 67-69.(126)
 طبقات الشعراء: 48-49.(127)
 الموشح: 34.(128)
 طبقات الشعراء: 134.(129)
 المصدر السابق: 76-77.(130)
 طبقات الشعراء: 106.(131)
 الأغاني 6: 88.(132)
 مراتب النحويين ورقة: 117-118.(133)
 الموشح: 213.(134)






دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.