أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-8-2019
6690
التاريخ: 11-8-2019
6879
التاريخ: 8-8-2019
3556
التاريخ: 13-8-2019
7016
|
قال تعالى : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة : 41 - 43] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
ثم أمر سبحانه بالجهاد ، وبين تأكيد وجوبه على العباد فقال {انفروا} أي : اخرجوا إلى الغزو {خفافا وثقالا} أي : شبانا وشيوخا ، عن الحسن ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم . وقيل : نشاطا وغير نشاط ، عن ابن عباس ، وقتادة . وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل ، عن الحكم . وقيل : أغنياء وفقراء عن أبي صالح . وقيل : أراد بالخفاف : أهل العسرة من المال ، وقلة العيال ، وبالثقال : أهل الميسرة في المال ، وكثرة العيال ، عن الفراء . وقيل : معناه ركبانا ومشاة ، عن أبي عمرو ، وعطية العوفي . وقيل : ذا صنعة وغير ذي صنعة عن ابن زيد . وقيل : عزابا ومتأهلين ، عن يمان . والوجه أن يحمل على الجميع ، فيقال : معناه اخرجوا إلى الجهاد خف عليكم أو شق على أي حالة كنتم ، لأن أحوال الانسان لا تخلو من أحد هذه الأشياء {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} : وهذا يدل على أن الجهاد بالنفس والمال واجب على من استطاع بهما ، ومن لم يستطع على الوجهين ، فعليه أن يجاهد بما استطاع {ذلكم خير لكم} معناه أن الخروج والجهاد بالنفس والمال خير لكم من التثاقل وترك الجهاد إلى مباح {إن كنتم تعلمون} أن الله عز اسمه صادق في وعده ووعيده . وقيل : معناه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير ، قال السدي : لما نزلت هذه الآية اشتد شأنها على الناس فنسخها الله تعالى بقوله : {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} الآية .
{لو كان عرضا قريبا} معناه : لو كان ما دعوتهم إليه غنيمة حاضرة {وسفرا قاصدا} أي : قريبا هينا . وقيل : قاصدا أي ذا قصد نحو تأمر ولابن (2) ، عن المبرد . وقيل : سهلا متوسطا غير شاق {لاتبعوك} طمعا في المال {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي : المسافة ، يعني غزوة تبوك أمروا فيها بالخروج إلى الشام .
{وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} معناه : إن هؤلاء سيعتذرون إليك في قعودهم عن الجهاد ، ويحلفون لو استطعنا ، وقدرنا ، وتمكنا من الخروج ، لخرجنا معكم .
ثم أخبر سبحانه أنهم {يهلكون أنفسهم} بما أسروه من الشرك . وقيل : باليمين الكاذبة ، والعذر الباطل ، لما يستحقون عليها من العقاب {والله يعلم إنهم لكاذبون} في هذا الاعتذار والحلف .
وفي هذه دلالة على صحة نبوة نبينا ، صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أخبر أنهم سيحلفون قبل وقوعه ، فحلفوا ، وكان مخبره على ما أخبر به ، وفيه أيضا دلالة واضحة على أن القدرة قبل الفعل ، لأن هؤلاء لا يخلو إما أن يكونوا مستطيعين من الخروج ، قادرين عليه ، ولم يخرجوا ، أو لم يكونوا قادرين عليه ، وإنما حلفوا لو أنهم قدروا في المستقبل لخرجوا ، فإن كان الأول فقد ثبت أن القدرة قبل الفعل ، وإن كان الثاني فقد كذبهم الله تعالى في ذلك ، وبين أنه لو فعل لهم الاستطاعة لما خرجوا .
وفي ذلك أيضا وجوب تقدم القدرة على المقدور ، فإن حملوا الاستطاعة على وجود الآلة ، وعدة السفر ، فقد تركوا الظاهر من غير ضرورة ، فإن حقيقة الاستطاعة القدرة على أنه لو كان عدم الآلة والعدة عذرا في التأخر ، فعدم القدرة أصلا أحرى وأولى أن يكون عذرا فيه .
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بما فيه بعض العتاب في إذنه لمن استأذنه في التأخر عن الخروج معه إلى تبوك فقال {عفا الله عنك لم أذنت لهم} في التخلف عنك ، قال قتادة ، وعمرو بن ميمون : اثنان فعلهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يؤمر بهما : اذنه للمنافقين ، وأخذه الفداء من الأسارى ، فعاتبه الله كما تسمعون ، وهذا من لطيف المعاتبة ، بدأه بالعفو قبل العتاب ، وهل كان هذا الإذن قبيحا أم لا؟ قال الجبائي : كان قبيحا ، ووقع صغيرا ، لأنه لا يقال في المباح لم فعلته ، وهذا غير صحيح لأنه يجوز أن يقال فيما غيره أفضل منه لم فعلته ، كما يقول القائل لغيره ، إذا رآه يعاتب أخا له ، لم عاتبته وكلمته بما يشق عليه . وإن كان يجوز له معاتبته بما يشق عليه ، وكيف يكون إذنه لهم قبيحا ، وقد قال سبحانه في موضع آخر : {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} . وقيل : معناه أدام الله لك العفو ، لم أذنت لهؤلاء في الخروج ، لأنهم استأذنوا فيه تملقا ، ولو خرجوا لأرادوا الخبال والفساد ، ولم يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ذلك من سريرتهم ، عن أبي مسلم {حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} أي : حتى تعرف من له العذر منهم في التخلف ، ومن لا عذر له ، فيكون إذنك لمن أذنت له على علم . قال ابن عباس : وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يكن يعرف المنافقين يومئذ . وقيل : إنه عليه السلام إنما خيرهم بين الظعن والإقامة ، متوعدا لهم ، ولم يأذن ، فاغتنم القوم ذلك . وفي هذا إخبار من الله سبحانه أنه كان الأولى أن يلزمهم الخروج معه ، حتى إذا لم يخرجوا ، أظهر نفاقهم ، لأنه متى أذن لهم ثم تأخروا ، لم يعلم النقاق كان تأخرهم أم لغيره ، وكان الذين استأذنوه منافقين ، ومنهم جد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، وهما من الأنصار .
_____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج5 ، ص 59-246 .
2 . أي ذو تمر ، وذو لبن .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :
النفير العام :
{ انْفِرُوا خِفافاً وثِقالًا وجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . الخفاف جمع خفيف ، والمراد به هنا من يستطيع الجهاد بيسر ، والثقال جمع ثقيل ، وهو من يستطيع الجهاد بشيء من المشقة . والآية تدل على وجوب النفير العام ، واليك البيان .
إذا حاول العدو أن يعتدي على دين الإسلام بتحريف كتاب اللَّه وما ثبت من سنة نبيه ، أو بصد المسلمين ومنعهم عن إقامة الفرائض والشعائر الدينية ، أو حاول الاستيلاء على بلد من بلادهم - إذا كان الأمر كذلك وجب على المسلمين أن يجاهدوا هذا العدو ، ويردعوه عن غيه وضلاله ، فإن أمكن ردعه بجهاد بعض المسلمين وجب الجهاد به كفاية إذا قام البعض سقط عن الكل ، وإذا أهملوا جميعا فهم مسؤولون ومستحقون للعقاب بلا استثناء ، وإذا توقف الردع على النفير العام كان الجهاد عينا على الشبان والشيوخ والنساء والمرضى ، من كل حسب قدرته .
قال صاحب الجواهر : « إذا داهم المسلمين عدو من الكفار يخشى منه على بيضة الإسلام ، أو يريد الكافر الاستيلاء على بلاد المسلمين وأسرهم وسبيهم وأخذ أموالهم ، إذا كان كذلك وجب الدفاع على الحر والعبد والذكر والأنثى والسليم والمريض والأعمى والأعرج وغيرهم إن احتيج إليهم ، ولا يتوقف على حضور الإمام ولا إذنه ، ولا يختص بالمعتدى عليهم والمقصودين بالخصوص ، بل يجب النهوض على كل من علم بالحال ، وإن لم يكن الاعتداء موجها إليه . . هذا إذا لم يعلم بأن من يراد الاعتداء عليهم قادرون على صد العدو ومقاومته » .
هذا هو عهد اللَّه أخذه على كل مسلم باتفاق جميع المذاهب ، تماما كاتفاقهم على وجوب الصوم والصلاة ، والحج والزكاة . . وقد ابتلي المسلمون والعرب الآن بعصابة صهيونية استعمارية اعتدت على دينهم وبلادهم ، وقتلت وشردت وسجنت الألوف . . فعلى كل عربي ومسلم في مشارق الأرض ومغاربها أن يجاهد بكل طاقاته ضد هذه العصابة المسماة بدولة إسرائيل . أي النفير خير للمسلمين في دينهم ودنياهم . { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . أجل ، نحن نعلم بأن النفير لجهاد إسرائيل واجب على كل مسلم ، ولكن الذي يمنعنا عن جهاد إسرائيل هم القادة الخائنون ، فعلينا أن نجاهد هؤلاء قبل كل شيء لأنهم علة العلل ، ولولا خيانتهم لدينهم وأمتهم ، وطاعتهم العمياء للصهيونية والاستعمار ما كان لإسرائيل عين ولا أثر .
{ لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ } ضمير اتبعوك يعود إلى من تخلَّف عن الخروج مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) في غزوة تبوك ، والعرض القريب الغنيمة الباردة ، والسفر القاصد هو السهل القريب ، والمعنى لو دعوتهم يا محمد إلى المنفعة العاجلة لأسرعوا إلى تلبيتك { ولكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } . فالسفر إلى الشام ، ودونها الصحراء بعواصفها الرملية ، وهجيرها اللاهب ، والعدو ودولة الروم أقوى دول الأرض آنذاك . . فكيف يستجيبون لدعوتك ، والحال هذه ؟ ولا يختص هذا الوصف بمن تخلَّف عن غزوة تبوك ، فإن النفس تميل بطبعها إلى الراحة والمنفعة ، ولكن أهل الايمان يروضون أنفسهم بالتقوى ، فتستهين بكل شيء يرضي اللَّه ورسوله . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه . وتقدم ما يتصل بذلك في ج 2 ص 323 عند تفسير الآية 37 من سورة النساء .
{ وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ } . هذا إخبار من اللَّه لنبيه بأن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك قد أعدوا له عند رجوعه الأعذار والأيمان الكاذبة . . وبديهة ان صفة الكذب لا تنفك عن المنافق وإلا لم يكن منافقا { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } لأنهم أهلكوا دينهم بالكذب والنفاق { واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ } في أعذارهم وايمانهم . . وقيل : لا يكذب إلا جبان ، ونعطف على الجبان من أهلكته المطامع .
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ } .
حين دعا النبي ( صلى الله عليه وآله ) الناس إلى الجهاد استأذن بعضهم بالتخلف ، وتعللوا بالمعاذير ، فأذن النبي لهم قبل أن يعلم صدقهم من كذبهم فيما اعتذروا به ، فعاتبه اللَّه سبحانه على ذلك ، وقال له : كان الأولى أن تتريث في الاذن لهم حتى تنكشف حقيقتهم هذا ما يعطيه ظاهر الآية .
وتسأل : ان النبي ( صلى الله عليه وآله ) معصوم عن الخطأ ، وقوله تعالى : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ } يستدعي وجود الذنب ، وكذلك الإنكار في قوله : { لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } ؟ .
الجواب : ان العفو من اللَّه لا يستدعي وجوب الذنب ، فكثيرا ما يكون تعبيرا عن ثوابه ورحمته ، وقد كان جميع الأنبياء يطلبون العفو منه تعالى . . أما الاستفهام الانكاري فالأمر فيه سهل ، حيث يصح في العمل المباح وغيره ، فتقول لصاحبك : لم فعلت هذا ؟ وأنت لا تريه انه ارتكب منكرا ، وإنما تريد شيئا آخر ، والغرض هنا من عتاب اللَّه لنبيه هو بيان كذب المنافقين في اعتذارهم ، وانه كان لمجرد الفرار من الجهاد ، وهذا الأسلوب أبلغ في الدلالة على نفي العذر من كل أسلوب . . هذا ، إلى أن سبحانه قال في الآية 117 من هذه السورة :
{ لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ والْمُهاجِرِينَ والأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ } . وإذا كانت التوبة لا تدل وجود الذنب فبالأولى العفو والاستفهام .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 46-48 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
قوله تعالى : ﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ الخفاف والثقال جمعا خفيف وثقيل ، والثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية وحب الأهل والولد والأقرباء والأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم ، وفقد الزاد والراحلة والسلاح ونحو ذلك ، والخفة كناية عن خلاف ذلك .
فالأمر بالنفر خفافا وثقالا وهما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال ، وعدم اتخاذ شيء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين الأموال والأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت .
وقد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض والعمى والعرج ونحو ذلك فإن المراد بالخفة والثقل أمر وراء ذلك .
قوله تعالى : ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾ إلى آخر الآية .
العرض ما يسرع إليه الزوال ويطلق على المال الدنيوي وهو المراد في الآية بقرينة السياق ، والمراد بقربه كونه قريبا من التناول ، والقاصد من القصد وهو التوسط في الأمر ، والمراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر ، والشقة : المسافة لما في قطعها من المشقة .
والآية كما يلوح من سياقها تعيير وذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد في غزوة تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتخلف عنه المنافقون وهي على بعد من المسافة هي غزوة تبوك لا غيرها .
ومعنى الآية : لو كان ما أمرتهم به ودعوتهم إليه عرضا قريب التناول وغنيمة حاضرة وسفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد وخرجوا معك طمعا في الغنيمة ولكن بعدت عليهم الشقة والمسافة فاستصعبوا السير وتثاقلوا فيه .
وسيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم ولمتموهم على تخلفهم : لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة : من الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه ، والتخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم والحلف في ذلك بالله كاذبين ، أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف الكاذب ، والله يعلم إنهم لكاذبون .
قوله تعالى : ﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين﴾ الجملة الأولى دعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله : ﴿قتل الإنسان ما أكفره﴾ [عبس : 17] ، وقوله : ﴿فقتل كيف قدر﴾ [المدثر : 19] وقوله : ﴿قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ [التوبة : 30] .
والجملة متعلقة بقوله : ﴿لم أذنت لهم﴾ أي في التخلف والقعود ، ولما كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه : كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلف والقعود ، ويستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله : ﴿حتى يتبين لك الذين صدقوا﴾ الآية .
بقوله : ﴿لم أذنت لهم﴾ فالتعلق إنما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام وإلا أفاد خلاف المقصود ، والكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم وأن أدنى الامتحان كالكف عن إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم .
ومعنى الآية : عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف والقعود؟ ولو شئت لم تأذن لهم - وكانوا أحق به - حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين فيتميز عندك كذبهم ونفاقهم .
والآية - كما ترى وتقدمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم ونفاقهم وأنهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به ، ومن مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب وتوبيخه والإنكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم وسوء سريرتهم ، وهو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الأمر ووضوحه لا يراد أزيد من ذلك فهو من أقسام البيان على طريق : ﴿إياك أعني واسمعي يا جارة﴾ .
فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسوء تدبيره في إحياء أمر الله ، وارتكابه بذلك ذنبا - حاشاه - وأولوية عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم وأنهم أحق بذلك لما بهم من سوء السريرة وفساد النية لا لأنه كان أولى وأحرى في نفسه وأقرب وأمس بمصلحة الدين .
والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات : ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم﴾ إلى آخر الآيتين ، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال وفساد الرأي وتفرق الكلمة ، والمتعين أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم والتفتين فيهم وفيهم ضعفاء الإيمان ومرضى القلوب وهم سماعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم ولو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف كانت الفتنة أشد والتفرق في كلمة الجماعة أوضح وأبين .
ويؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين : ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين﴾ فقد كان تخلفهم ونفاقهم ظاهرا لائحاً من عدم إعدادهم العدة يتوسمه في وجوههم كل ذي لب ، ولا يخفى مثل ذلك على مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نبأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه السورة كرارا فكيف يصح أن يعاتب هاهنا عتابا جديا بأنه لم لم يكف عن الإذن ولم يستعلم حالهم حتى يتبين له نفاقهم ويميز المنافقين من المؤمنين ، فليس المراد بالعتاب إلا ما ذكرناه .
ومما تقدم يظهر فساد قول من قال : إن الآية تدل على صدور الذنب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن العفو لا يتحقق من غير ذنب ، وإن الإذن كان قبيحا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن صغائر الذنوب لأنه لا يقال في المباح لم فعلته ؟ .
وهذا من لعبهم بكلام الله سبحانه ، ولو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل المقام الذي سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك ، وقد أوضحنا أن الآية مسوقة لغرض غير غرض الجد في العتاب .
على أن قولهم : إن المباح لا يقال فيه : لم فعلت؟ فاسد فإن من الجائز إذا شوهد من رجح غير الأولى على الأولى أن يقال له : لم فعلت ذلك ورجحته على ما هو أولى منه؟ على أنك قد عرفت أن الآية غير مسوقة لعتاب جدي .
ونظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال : إن بعض المفسرين ولا سيما الزمخشري قد أساءوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية ، وكان يجب أن يتعلموا أعلى الأدب معه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أخبره ربه ومؤدبه بالعفو قبل الذنب ، وهو منتهى التكريم واللطف .
وبالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب ، وغايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى .
وهو جمود مع الاصطلاحات المحدثة والعرف الخاص في معنى الذنب وهو المعصية ، وما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم وعرفهم المخالف له والمدلول اللغة أيضا .
فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعة أو مصلحة ، مأخوذ من ذنب الدابة ، وليس مرادفا للمعصية بل أعم منها .
والإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين ، وقد قال تعالى : ﴿إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر﴾ [الفتح : 2] .
ثم ذكر في كلام له طويل أن ذلك كان اجتهادا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لا وحي فيه من الله وهو جائز وواقع من الأنبياء (عليهم السلام) وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه والعمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطئ فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل .
ومنه ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال : ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾ [الأنفال : 67] ثم بين أنه كان مقتضيا لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه بنوع من التلخيص .
وليث شعري ما الذي زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي وغيره حيث ذكروا أن ذلك من ترك الأولى ، ولا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين وهو الذي يستتبع عقابا ، وذكر هو أنه من ترك الأصلح وسماه ذنبا لغة .
على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لم يكن ذنبا لا عرفا ولا لغة بدلالة ناصة من الآيات على أن عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن غائلة وقوع الفتنة واختلاف الكلمة ، وكانت هذه العلة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر والخلاف وأن الذي ذكره الله بقوله : ﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة﴾ إن عدم إعدادهم العدة كان يدل على عدم إرادتهم الخروج ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه ذلك وهم بمرأى منه ومسمع .
مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى : ﴿ولتعرفنهم في لحن القول﴾ [محمد : 30] وكيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله : ﴿ائذن لي ولا تفتني﴾ أو يقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ﴿هو أذن﴾ أو يلمزه في الصدقات ولا ينصح له (صلى الله عليه وآله وسلم) إن ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم وما وراءه إلا كفر وخلاف .
فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوسم منهم النفاق والخلاف ويعلم بما في نفوسهم ، ومع ذلك فعتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم لم يكف عن الإذن ولم يستعلم حالهم ولم يميزهم من غيرهم ؟ ليس إلا عتابا غير جدي للغرض الذي ذكرناه .
وأما قوله : ﴿إن الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية وهي تبين الذين صدقوا والعلم بالكاذبين﴾ ففيه أن الذي تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلمه هو بالكاذبين لا مطلق تبينهم ولا مطلق العلم بالكاذبين ، وقد ظهر مما تقدم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يخفى عليه ذلك ، وأن حقيقة المصلحة إنما كانت في الإذن وهي سد باب الفتنة واختلاف الكلمة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم من حالهم أنهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الإذن حفظا على ظاهر الطاعة ووحدة الكلمة .
وليس لك أن تتصور أنه لو بان نفاقهم يومئذ وظهر خلافهم بعدم إذن النبي لهم بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم وإلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - وهو يوم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك - من الشوكة والقوة ، وله (صلى الله عليه وآله وسلم) من نفوذ الكلمة .
فإن الإسلام يومئذ إنما كان يملك القوة والمهابة في أعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته ويعظمون سواد أهله ويخافون حد سيوفهم ، وأما المسلمون في داخل مجتمعهم وبين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق ومرض القلوب ، ولم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة وجد الهمة والعزيمة ، والدليل على ذلك نفس هذه الآيات وما يتلوها إلى آخر السورة تقريبا .
وقد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم أحد وقد هجم عليهم العدو في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الإسلامي من المعركة ولم يؤثر فيهم عظة ولا إلحاح حتى قالوا : لو نعلم قتالا لاتبعناكم ، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين .
وأما قوله : ومن عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطئه في اجتهاده ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال : ﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض﴾ الآية .
ففيه أولا : أنه من سوء الفهم فمن البين الذي لا يرتاب فيه أن الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى وإنما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبي أن يكون له أسرى - ولم تنزل آية ولا وردت رواية في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أمرهم بالأسر بل روايات القصة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلموه وألحوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقووا بذلك على أعداء الدين وقد رد الله عليهم ذلك بقوله : ﴿تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة﴾ .
وهذا من أحسن الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى المؤمنين خاصة من غير أن يختص به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يشاركهم فيه وأن أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة .
وثانيا : أن العتاب في الآية لو اختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شمله وغيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوي وهو تفويت المصلحة بوجه فإن هذا العتاب مذيل بقوله تعالى في الآية التالية : ﴿لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم﴾ [الأنفال : 68] فلا يرتاب ذو لب في أن التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتى إلا مع كون المهدد عليه من المعصية المصطلحة بل ومن كبائر المعاصي ، وهذا أيضا من الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
__________________________
1 . تفسير الميزان ، ج9 ، ص 236-241 .
تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
قال تعالى : {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [41-42] .
الكسالى الطّامعون :
قلنا: إنّ معركة تبوك كانت لها حالة استثنائية ، وكانت مقترنة بمقدمات معقّدة وغامضة تماما ، ومن هنا فإن عددا من ضعاف الإيمان أو المنافقين أخذ «يتعلّل» في الاعتذار عن المساهمة في هذه المعركة . وقد وردت في الآيات المتقدمات ملامة للمؤمنين من قبل اللّه سبحانه لتباطؤهم في نصرة نبيّهم عند صدور الأمر بالجهاد ، وعدم الإسراع إلى ساحة الحرب وأكّدت بأنّ الأمر بالجهاد لصالحكم ، وإلّا فإنّ بإمكان اللّه أن يهيئ جنودا مؤمنين شجعانا مكان الكسالى الذين لاحظ لهم في الثبات والإرادة ، بل حتى مع عدمهم فهو قادر على أن يحفظ نبيّه ، كما حفظه «ليلة المبيت» ، وفي «غار ثور» .
والعجيب أنّ عددا من «خيوط العنكبوت» المنسوجة على مدخل الغار كانت سببا لانحراف فكر الأعداء الألداء ، وأن يعودوا قافلين آيسين بعد وصولهم إلى هذا الغار ، وأن يسلم النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم من كيدهم .
فحيث أنّ بإمكان اللّه أن يغيّر مسير التأريخ ، ببضعة خيوط من نسيج العنكبوت ، فأية حاجة بهذا أو ذاك ليبدي كلّ معاذيره!! وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه الأوامر هي لتكامل المسلمين أنفسهم ، لا لرفع الحاجة لدى اللّه سبحانه . . . وتعقيبا على هذا الكلام يدعو المؤمنين جميعا مرّة أخرى- دعوة عامّة- نحو الجهاد ويعنف المتسامحين فيقول سبحانه : {انْفِرُوا خِفافاً وثِقالًا} .
«الخفاف» جمع الخفيف ، «الثقال» جمع الثقيل ، ولهاتين الكلمتين مفهوم شامل يستوعب جميع حالات الإنسان . أي انفروا في أية حالة كنتم شبابا أم شيوخا ، متزوجين أم غير متزوجين ، تعولون أحدا أم لا تعولون ، أغنياء أم فقراء ، مبتلين بشيء أم غير مبتلين ، أصحاب تجارة أو زراعة أم لستم من أولئك! فكيف ما كنتم فعليكم أن تستجيبوا لدعوة الداعي إلى الجهاد ، وأن تنصرفوا عن أيّ عمل شغلتم به ، وتنهضوا مسرعين إلى ساحات القتال ، وفي أيديكم السلاح .
وما قاله بعض المفسّرين من أنّ هاتين الكلمتين تعنيان مثلا واحدا ممّا ذكرنا آنفا ، لا دليل عليه أبدا ، بل إنّ كل واحد ممّا ذكرناه مصداق جلي لمفهومها الوسيع .
ثمّ تضيف الآية قائلة : {وجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وأَنْفُسِكُمْ} أي جهادا مطلقا عاما من جميع الجهات ، لأنّهم كانوا يواجهون عدوّا قويّا مستكبرا ، ولا يتحقق النصر إلّا بأن يجاهدوا بكل ما وسعهم من المال والأنفس .
ولئلا يتوهّم أحد أنّ هذه التضحية يريدها اللّه لنفسه ولا تنفع أصحابها ، فإنّ الآية تضيف قائلة : {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
أي إن كنتم تعلمون بأنّ الجهاد مفتاح عزتكم ورفعتكم ومنعتكم .
ولو كنتم تعلمون بأنّ أية أمّة في العالم لن تصل بدون الجهاد إلى الحرية الواقعية والعدالة .
ولو كنتم تعلمون بأنّ سبيل الوصول إلى مرضاة اللّه والسعادة الأبدية وأنواع النعم والمواهب الإلهية ، كل ذلك إنّما هو في هذه النهضة المقدسة العامّة والتضحية المطلقة .
ثمّ يتناول القرآن ضعاف الإيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال ، فيخاطب النّبي مبيّنا واقعهم فيقول : {لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ} «2» {ولكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} «3» والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية ، بل {وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ} . فعدم ذهابنا إلى ساحات القتال إنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا !! {يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} .
فهم قادرون على الذهاب إلى ساحات القتال ، لكن حيث أن السفر ذو مشقة ، ويواجهون صعوبة وحرجا ، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل .
ولم يكن هذا الأمر منحصرا بغزوة تبوك وعصر النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فحسب ، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الإنتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأولى ، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل ، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في انتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد! غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين!! كما يزعمون ، حين يواجهون الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية .
كأن يقول أحدهم: إنّي مريض ، ويقول الآخر: إني مبتلى بطفلي ، ويقول الثّالث:
زوجي مقرب وعلى وشك الولادة ، ويقول الرّابع: يا ليتني كنت معكم لو لا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما ، ويقول الخامس : أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم ، وهكذا . . .
إلّا أنّ على القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر ، وإذا لم يكونوا أهلا للإصلاح فينبغي إخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين .
- { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [التوبة : 43] .
فاللّه سبحانه يعتّب على النّبي فيقول : {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} .
وهناك كلام طويل بين المفسّرين في المراد من عتاب اللّه نبيّه المشفوع بالعفو عنه ، أهو دليل على أن إذن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم كان مخالفة ، أم هو من باب ترك الأولى ، أم لا هذا ولا ذاك ؟! وقد جنح البعض إلى الإفراط إلى درجة أنّهم أساؤوا إلى مقام النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وساحته المقدّسة ، وزعموا أن الآيات المذكورة أنفا دليل على إمكان صدور العصيان والذنب من قبل النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم ، ولم يراعوا- على الأقل- الأدب الذي رعاه اللّه العظيم في تعبيره عن نبيّه الكريم ، إذ بدأ بالعفو ثمّ ثنى بالعتاب والمؤاخذة ، فوقعوا في ضلال عجيب .
والإنصاف أنّه لا دليل في الآية على صدور أي ذنب أو معصية من النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم وحتى ظاهر الآية لا يدلّ على ذلك ، لأنّ جميع القرائن تثبت أن النّبي سواء أذن لهم أم لم يأذن ، فإنّهم لم يكونوا ليساهموا في معركة تبوك ، وعلى فرض مساهمتهم فيها لم يحلّوا مشكلة من أمر المسلمين ، بل يزيدون الطين بلة ، كما سنقرأ في الآيات التالية قوله تعالى : {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا} .
فبناء على ذلك فإنّ المسلمين لم يفقدوا أيّة مصلحة بإذن النّبي لأولئك بالانصراف ، غاية الأمر أنّه لو لم يأذن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لهم فسرعان ما ينكشف أمرهم ويعرفهم المسلمون ، غير أنّ هذا الموضوع لم يكن من الأهمية بحيث أنّ ذهابهم وفقدانهم موجبا لارتكاب ذنب أو عصيان .
وربّما يمكن أن يسمى ذلك تركا للأولى فحسب ، بمعنى أنّ إذن النّبي لهم في تلك الظروف ، وبما أظهره أولئك المنافقون من الأعذار بأيمانهم ، وإن لم يكن أمرا سيئا ، إلّا أن ترك الإذن كان أفضل منه ، لتعرف هذه الجماعة بسرعة .
كما يحتمل في تفسير الآية هو أنّ العتاب أو الخطاب المذكور آنفا إنّما هو على سبيل الكناية ، ولم يكن في الأمر حتى «ترك الأولى» بل المراد بيان روح النفاق في المنافقين ببيان لطيف وكناية في المقام .
ويمكن أن يتّضح هذا الموضوع بذكر مثال فلنفرض أن ظالما يريد أن يلطم وجه ابنك ، إلّا أن أحد أصدقائك يحول بينه وبين مراده فيمسك يده فقد تكون راضيا عن سلوكه هذا ، بل وتشعر بالسرور الباطني ، إلّا أنّك ولإثبات القبح الباطني للطرف المقابل تقول لصديقك: لم لا تركته يضربه على وجهه ويلطمه ؟
وهدفك من هذا البيان إنّما هو إثبات قساوة قلب هذا الظالم ونفاقه ، الذي ورد في ثوب عتاب الصديق وملامته من قبلك ؟
وهناك شبهة أخرى في تفسير الآية ، وهي أنّه : ألم يكن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم يعرف المنافقين حتى يقول له اللّه سبحانه : {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ} ؟
والجواب على هذا السؤال ، هو:
أوّلا : أنّ النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم لم يكن يعرف المنافقين ويعلم حالهم عن طريق العلم الظاهري ، ولا يكفي علم الغيب للحكم في الموضوعات ، بل ينبغي أن ينكشف أمرهم عن طريق الأدلة المألوفة و(المعتادة) .
ثانيا : لم يكن الهدف الوحيد أن يعلم النّبي حالهم فحسب ، بل لعل الهدف كان أن يعلم المسلمون جميعا حالهم ، وإن كان الخطاب موجّها للنّبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلّم .
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج5 ، ص 242-246 .
2. العرض ما يعرض ويزول عاجلا ولا دوام له ، ويطلق عادة على مواهب الدنيا المادية ، والقاصد معناه السهل . لأنّه في الأصل من قصد ، والناس يسعون في قصدهم إلى المسائل السهلة .
3. الشقة تعني الأرض الصخرية أو الطريق الطويل البعيد الذي يجلب على عابره المشقة والنصب .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|