أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-8-2019
4498
التاريخ: 10-8-2019
2976
التاريخ: 10-8-2019
2747
التاريخ: 7-8-2019
15363
|
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة : 34 ، 35] .
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
ثم بين سبحانه حال الأحبار والرهبان فقال : {يا أيها الذين أمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل} أي يأخذون الرشى على الحكم ، عن الحسن ، والجبائي ، وأكل المال بالباطل : تملكه من الجهات التي يحرم منها أخذه إلا أنه لما كان معظم التصرف والتملك للأكل ، وضع الأكل موضع ذلك . وقيل : إن معناه يأكلون متاع أموال الناس من الطعام ، فكأنهم يأكلون الأموال لأنها ثمن المأكول ، كما قال الشاعر :
ذر الآكلين الماء لوما ، فما * أرى ينالون خيرا بعد أكلهم الماء
أي : ثمن الماء . {ويصدون عن سبيل الله} أي : يمنعون غيرهم عن اتباع الاسلام الذي هو سبيل الله التي دعاهم إلى سلوكها ، وعن اتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} أي : يجمعون المال ، ولا يؤدون زكاته ، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : كل مال لم تؤد زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا ، وكل مال أديت زكاته ، فليس بكنز ، وإن كان مدفونا في الأرض ، وبه قال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والسدي . قال الجبائي : وهو إجماع .
وروي عن علي عليه السلام : ما زاد على أربعة آلاف ، فهو كنز أدى زكاته أو لم يؤد ، وما دونها فهو نفقة . وتقدير الآية : والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه في سبيل الله : ويكنزون الفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فحذف المعطوف من الأول لدلالة الثاني عليه ، كما حذف المفعول في الثاني لدلالة الأول عليه ، في قوله : {والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} وتقديره : والذاكرات الله .
وأكثر المفسرين على أن قوله {والذين يكنزون} على الاستئناف ، وان المراد بذلك ما نعو الزكاة من هذه الأمة . وقيل : إنه معطوف على ما قبله والأولى أن يكون محمولا على العموم في الفريقين {فبشرهم بعذاب اليم} أي : أخبرهم بعذاب موجع .
وروى سالم بن أبي الجعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما نزلت هذه الآية قال : تبا للذهب ، تبا للفضة - يكررها ثلاثا - فشق ذلك على أصحابه فسأله عمر ، فقال : يا رسول الله! أي المال نتخذ؟ فقال : لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة مؤمنة ، تعين أحدكم على دينه .
{يوم يحمى عليها في نار جهنم} أي : يوقد على الكنوز ، أو على الذهب والفضة في نار جهنم ، حتى تصير نارا {فتكوى بها} أي : بتلك الكنوز المحماة ، والأموال التي منعوا حق الله فيها بأعيانها {جباههم وجنوبهم وظهورهم} وإنما خص هذه الأعضاء لأنها معظم البدن . وكان أبو ذر الغفاري يقول : بشر الكانزين بكي في الجباه ، وكي في الجنوب ، وكي في الظهور ، حتى يلتقي الحر في أجوافهم . وفي هذا المعنى الذي أشار إليه أبو ذر خصت هذه المواضع بالكي ، لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل . وقيل : إنما خصت هذه المواضع بالعذاب ، لأن الجبهة محل الوسم لظهورها ، والجنب محل الألم ، والظهر محل الحدود وقيل : لأن الجبهة محل السجود ، فلم تقم فيه بحقه ، والجنب يقابل القلب الذي لم يخلص في معتقده ، والظهر محمل الأوزار . قال : يحملون أوزارهم على ظهورهم عن الماوردي .
وقيل : لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته ، وزوى عينيه ، وطوى عنه كشحه ، وولاه ظهره عن أبي بكر الوراق .
{هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي : يقال لهم في حال الكي ، أو بعده : هذا جزاء ما كنزتم ، وجمعتم المال ، ولم تؤدوا حق الله عنها ، وجعلتموها ذخيرة لأنفسكم {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي : فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكنزون ، أي ، تجمعون وتمنعون حق الله منه ، فحذف لدلالة الكلام عليه . وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من عبد له مال ، ولا يؤدي زكاته ، إلا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى به جبهته ، وجنباه ، وظهره ، حتى يقضي الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار .
أورده مسلم بن الحجاج في الصحيح .
وروى ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من ترك كنزا ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع ، له زبيبتان (2) ، يتبعه ويقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركت بعدك ، فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده ، فيقصمها ، ثم يتبعه سائر جسده .
وروى الثعلبي : بإسناده عن الأعمش ، عن المعرور بن سويد ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ظل الكعبة ، فلما رآني قد أقبلت قال : هم الأخسرون ورب الكعبة ! هم الأخسرون ورب الكعبة! قال : فدخلني غم ، وجعلت أتنفس ، وقلت : هذا شيء حدث في! قال ، قلت : من هم فداك أبي وأمي ، قال : الأكثرون إلا من قال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا ، عن يمينه ، وشماله ، ومن خلفه ، وقليل ما هم . وروي عن أبي ذر أنه قال : من ترك بيضاء أو حمراء كوي به يوم القيامة .
_____________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج5 ، ص 46-229 .
2 . زبيبتان : نقطتان سوداوان فوق عيني الحية .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هاتين الآيتين (1) :
{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأَحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } . في الآية السابقة وصف سبحانه اليهود والنصارى بأنهم يتخذون رؤساءهم الدينيين أربابا من دون اللَّه ، وفي هذه الآية وصف أولئك الرؤساء بأكل المال بالباطل ، والصد عن سبيل اللَّه ، والمراد بأكل المال بالباطل أخذه بغير وجه شرعي ، كالرشوة على الحكم بغير الحق ، والربا الذي فشا بين اليهود ، وبيع صكوك الغفران عند الكاثوليك ، وما إلى ذلك . قال المؤرخون : مر على رجال الكنيسة عهد كانوا فيه من أغنى الفئات .
والمراد بصدهم عن سبيل اللَّه تحجيرهم على العقول ، ومنع الناس من اعتناق الإسلام ، بل وحملهم على الطعن فيه وفي نبيه . . لقد ثار فولتر على الكنيسة ، ونعى على رجالها تكالبهم على المال ، وطعن في التوراة لما فيها من التناقض والإحالة والقحة على حد تعبيره ، فحرمته الكنيسة ، وطالب بعض رجالها بسجنه مدى الحياة (2) فانهارت أعصاب الأديب الفرنسي من الخوف ، ولم يجد وسيلة للخلاص إلا أن يستشفع لدى البابا بنوا الرابع عشر بكتاب يؤلفه في سب محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، ففعل وعفت عنه الكنيسة ، وباركت الكتاب والكاتب .
أبو ذر والاشتراكية :
{ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ } . لقد كثر الكلام حول هذه الآية ، حتى أن بعضهم استدل بها على ثبوت الاشتراكية في الإسلام ، وشطح آخرون في زعمهم ان أبا ذر كان اشتراكيا ، لأنه كان يهدد بهذه الآية الذين استأثروا بمال اللَّه دون عياله . . وفيما يلي نعرض معنى الآية ، وكل ما يتصل به من قريب أو بعيد ، وفي ضوئه نحاكم قول من استدل بالآية على اشتراكية أبي ذر .
1 - قال معاوية بن أبي سفيان : هذه الآية نزلت في أهل الكتاب ، ولا تشمل المسلمين ، أي ان للمسلمين في نظره ان يكنزوا من المال ما يشاؤن ولا ينفقوا منه شيئا في سبيل اللَّه ، ونقل هذا القول عن عثمان بن عفان . . فعن « الدرّ المنثور » للسيوطي ان عثمان لما كتب المصاحف أرادوا ان يحذفوا الواو من قوله تعالى :
{ والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ } ليكون الكانزون صفة للأحبار والرهبان ، فعارض بعض الصحابة ، وقال : لتلحقن الواو ، أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها .
والصحيح ان الآية تشمل كل من يكنز المال ولا ينفقه في سبيل اللَّه مسلما كان أو غير مسلم عملا بعموم اللفظ ، فقد روي عن زيد بن وهب أنه مر بالربذة ، فرأى أبا ذر ، قال له : ما أنزلك هنا ؟ قال : كنت بالشام ، فقرأت والذين يكنزون الذهب والفضة ، فقال معاوية : ليست هذه الآية فينا ، انها في أهل الكتاب ، فقلت : انها فينا وفيهم ، فشكاني إلى عثمان ، فأبعدني إلى حيث ترى .
2 - الكنز في اللغة الجمع ، يقال : كنز المال إذا جمعه ، ولفظ الذهب والفضة خاص ، ولكن الحكم عام يشمل المال بشتى أصنافه ، حتى الأرض والمعادن والشجر والبناء والماشية والمعامل والمراكب ، لأن الذين هددهم اللَّه بعذاب أليم هم الأثرياء الأشحاء ، وليس خصوص مالكي الذهب والفضة المضروبين نقدا . . والا كان ملوك النفط ومن إليهم أسعد الناس وأكرمهم عند اللَّه دنيا وآخرة ، والذي يدلنا على إرادة العموم انه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين ، لأنهم فهموا منها جميع الأموال ، ولما سألوا النبي ( ص ) أقرهم على فهمهم ، وقال لهم : ان اللَّه لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم .
3 - الإنفاق في سبيل اللَّه يشمل الجهاد للدفاع عن الدين والوطن ، وبناء المدارس والمصحات ودور الأيتام ، والصدقات على الفقراء ، والإنفاق على الأهل والعيال ، وأفضل موارد الإنفاق ما فيه إعزاز الحق وأهله .
4 - أجمعت المذاهب الأربعة على أنه ليس في المال حق غير الزكاة .
( احكام القرآن لأبي بكر المعافري الأندلسي ) . وقال أكثر فقهاء الشيعة الإمامية :
ليس في المال حق غير الخمس والزكاة . وقال الشيخ الطوسي : ان فيه حقا آخر ، وهو ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق بقوله : ان اللَّه فرض في أموال الأغنياء حقوقا غير الزكاة ، لأنه قال : { وفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ والْمَحْرُومِ } [الذاريات - 19 ] . والحق المعلوم هو شيء يفرضه الرجل على نفسه بقدر طاقته وسعته ، فيؤدي الذي فرض ، ان شاء في كل يوم ، أو في كل جمعة ، أو في كل شهر ، قلّ أو كثر غير أنه يداوم عليه . . ولكن قول الإمام : ( يفرضه الرجل على نفسه ) يشعر بالاستحباب ، لا بالوجوب لأن الواجب فرض من اللَّه لا من سواه .
والذي نراه - بعد ان تتبعنا آي الذكر الحكيم - ان على الأغنياء وجوبا لا استحبابا ان يبذلوا من أموالهم - غير الخمس والزكاة - للدفاع عن الدين والوطن عند الاقتضاء ، وعلى ولي المسلمين ان يجبرهم على ذلك ، بل وعلى الجهاد بالنفس إذا اقتضت الحال . وآيات هذا الباب تعد بالعشرات .
5 - { يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } . هذا كناية عن شدة العذاب وهوله ، وهو نظير الآية 180 من سورة آل عمران : { سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ } .
6 - تبين مما قدمنا ان الآية تدل نصا وفحوى على أن الأغنياء يجب عليهم أن ينفقوا جزءا من أموالهم في سبيل اللَّه ، وان من أمسك يده عن الإنفاق عاقبه اللَّه بالعذاب الأليم ، أما مقدار هذا الجزء ، وهل هو الخمس أو العشر ، أر أقل أو أكثر ، أو هو من الزكاة أو من غيرها ، اما هذا فلا تدل عليه الآية بالعبارة ولا بالإشارة ، فأين - إذن - مكان الدلالة فيها على الاشتراكية ؟ . ان الاشتراكية نظام اقتصادي ينظر قبل كل شيء إلى وسائل الانتاج كالأرض وما إليها ، ويحدد مالكها ، ثم ينظر إلى الانتاج نفسه وطرق نموه وزيادته وكيفية توزيعه . . وهذا شيء . وحث الأغنياء على البذل شيء آخر .
وبهذا يتبين ان قول من قال : ان أبا ذر كان اشتراكيا لأنه هدد الأغنياء بهذه الآية ، يتبين ان هذا القول خطأ واشتباه . . ان أبا ذر لا يعرف الاشتراكية ، ولا شيء إلا الإسلام ، مثله في ذلك مثل أي مسلم ، ولكنه كان مخلصا لدينه ، أخلص للإسلام ، ونبذ الأطماع والأغراض . وهذا التجرد والإخلاص هو الذي جرأه على أن يتحدى قريشا ، ويسخر من آلهتهم يوم أسلم ، حيث وقف في الكعبة مناديا بأعلى صوته : لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه . . نادى بكلمة الإسلام على رؤوس قريش يوم لا حول ولا قوة للمسلمين ، ولا يجرأ أحد منهم على النطق باسم اللَّه الواحد ومحمد إلا في الخفاء . . وتكرر منه هذا الموقف ، وأعاد نفسه مع عثمان ومعاوية ، وكما لاقى من المشركين الضرب الدامي ، فقد لاقى من عثمان الطرد والنفي . . ولكنه لم يأبه ، لأنه ما غضب في حياته كلها إلا للَّه وحده .
والخلاصة ان كل ما فعله أبو ذر انه طالب الفئة الحاكمة بالعدل وإنصاف المحكومين ، وخوّفها من العذاب الأليم ، وحث المظلومين على مقاومة الظالمين ، واسترداد حقوقهم ممن ظلمهم . . فأين هذا من الاشتراكية ؟ . وتكلمنا عن نسبة الاشتراكية لأبي ذر في كتاب « مع الشيعة الإمامية » بعنوان « هل أبو ذر اشتراكي » ؟ وفي كتاب « مع علماء النجف الأشرف » بعنوان « أبو ذر » .
_________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 35-38 .
2. كتاب فولتر لجوستاف لانسون ترجمة محمد غنيمي هلال .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
قوله تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله﴾ الظاهر أن الآية إشارة إلى بعض التوضيح لقوله في أول الآيات : ﴿ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق﴾ كما أن الآية السابقة كالتوضيح لقوله فيها : ﴿الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر﴾ .
أما إيضاح قوله تعالى : ﴿ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله﴾ بقوله : ﴿إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل﴾ فهو إيضاح بأوضح المصاديق وأهمها تأثيرا في إفساد المجتمع الإنساني الصالح ، وإبطال غرض الدين .
فالقرآن الكريم يعد لأهل الكتاب وخاصة لليهود جرائم وآثاما كثيرة مفصلة في سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها لكن الجرائم والتعديات المالية شأنها غير شأن غيرها ، وخاصة في هذا المقام الذي تعلق الغرض بإفساد أهل الكتاب المجتمع الإنساني الصالح لو كانوا مبسوطي اليد واستقلالهم الحيوي قائما على ساق ، ولا مفسد للمجتمع مثل التعدي المالي .
فإن أهم ما يقوم به المجتمع الإنساني على أساسه هو الجهة المالية التي جعل الله لهم قياما فجل المآثم والمساوي والجنايات والتعديات والمظالم تنتهي بالتحليل إما إلى فقر مفرط يدعو إلى اختلاس أموال الناس بالسرقة وقطع الطرق وقتل النفوس والبخس في الكيل والوزن والغصب وسائر التعديات المالية ، وإما إلى غنى مفرط يدعو إلى الإتراف والإسراف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمسكن ، والاسترسال في الشهوات وهتك الحرمات ، وبسط التسلط على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم .
وتنتهي جميع المفاسد الناشئة من الطريقين كليهما بالتحليل إلى ما يعرض من الاختلال على النظام الحاكم في حيازة الأموال واقتناء الثروة ، والأحكام المشرعة لتعديل الجهات المملكة المميزة لأكل المال بالحق من أكله بالباطل ، فإذا اختل ذلك وأذعنت النفوس بإمكان القبض على ما تحتها من المال ، وتتوق إليه من الثروة بأي طريق أمكن لقن ذلك إياها أن يظفر بالمال ويقبض على الثروة بأي طريق ممكن حق أو باطل ، وأن يسعى إلى كل مشتهى من مشتهيات النفس مشروع أو غير مشروع أدى إلى ما أدى ، وعند ذلك يقوم البلوى بفشو الفساد وشيوع الانحطاط الأخلاقي في المجتمع ، وانقلاب المحيط الإنساني إلى محيط حيواني ردي لا هم فيه إلا البطن وما دونه ولا يملك فيه إرادة أحد بسياسة أو تربية ولا تفقه فيه لحكمة ولا إصغاء إلى موعظة .
ولعل هذا هو السبب الموجب لاختصاص أكل المال بالباطل بالذكر ، وخاصة من الأحبار والرهبان الذين إليهم تربية الأمة وإصلاح المجتمع .
وقد عد بعضهم من أكلهم أموال الناس بالباطل ما يقدمه الناس إليهم من المال حبا لهم لتظاهرهم بالزهد والتنسك ، وأكل الربا والسحت ، وضبطهم أموال مخالفيهم وأخذهم الرشا على الحكم ، وإعطاء أوراق المغفرة وبيعها ، ونحو ذلك .
والظاهر أن المراد بها أمثال أخذ الرشوة على الحكم كما تقدم من قصتهم في تفسير قوله تعالى : ﴿يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر﴾ [المائدة : 41] ، في الجزء الخامس من الكتاب .
ولو لم يكن من ذلك إلا ما كانت تأتي به الكنيسة من بيع أوراق المغفرة لكفى به مقتا ولوما .
وأما ما ذكره من تقديم الأموال إليهم لتزهدهم ، وكذا تخصيصهم بأوقاف ووصايا ومبرات عامة فليس بمعدود من أكل المال بالباطل ، وكذا ما ذكره من أكل الربا والسحت فقد نسبه تعالى في كلامه إلى عامة قومهم كقوله تعالى : ﴿وأخذهم الربا وقد نهوا عنه﴾ [النساء : 161] ، وقوله : ﴿سماعون للكذب أكالون للسحت﴾ المائدة : 42 ، وإنما كلامه تعالى في الآية التي نحن فيها فيما يخص أحبارهم ورهبانهم من أكل المال بالباطل لا ما يعمهم وعامتهم .
إلا أن الحق أن زعماء الأمة الدينية ومربيهم في سلوك طريق العبودية المعتنين بإصلاح قلوبهم وأعمالهم إذا انحرفوا عن طريق الحق إلى سبيل الباطل كان جميع ما أكلوه لهذا الشأن واستدروه من منافعه سحتا محرما لا يبيحه لهم شرع ولا عقل .
وأما إيضاح قوله تعالى : ﴿ولا يدينون دين الحق﴾ بقوله : ﴿ويصدون عن سبيل الله﴾ فهو أيضا مبني على ما قدمناه من النكتة في توصيفهم بالأوصاف الثلاثة التي ثالثها قوله : ﴿ولا يدينون دين الحق﴾ وهو بيان ما يفسد من صفاتهم وأعمالهم المجتمع الإنساني ويسد طريق الحكومة الدينية العادلة دون البلوغ إلى غرضها من إصلاح الناس وتكوين مجتمع حي فعال بما يليق بالإنسان الفطري المتوجه إلى سعادته الفطرية .
ولذا خص بالذكر من مفاسد عدم تدينهم بدين الحق ما هو العمدة في إفساد المجتمع الصالح ، وهو صدهم عن سبيل الله ومنعهم الناس عن أن يسلكوه بما قدروا عليه من طرقه الظاهرة والخفية ، ولا يزالون مصرين على هذه السليقة منذ عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى اليوم .
قوله تعالى : ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم﴾ قال الراغب : الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه ، وأصله من كنزت التمر في الوعاء ، وزمن الكناز وقت ما يكنز فيه التمر ، وناقة كناز مكتنزة اللحم ، وقوله : ﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ أي يدخرونها .
ففي مفهوم الكنز حفظ المال المكنوز وادخاره ومنعه من أن يجري بين الناس في وجوه المعاملات فينمو نماء حسنا ، ويعم الانتفاع به في المجتمع فينتفع به هذا بالأخذ وذاك بالرد ، وذلك بالعمل عليه وقد كان دأبهم قبل ظهور البنوك والمخازن العامة أن يدفنوا الكنوز في الأرض سترا عليها من أن تقصد بسوء .
والآية وإن اتصلت في النظم اللفظي بما قبلها من الآيات الذامة لأهل الكتاب والموبخة لأحبارهم ورهبانهم في أكلهم أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله إلا أنه لا دليل من جهة اللفظ على نزولها فيهم واختصاصها بهم البتة .
فلا سبيل إلى القول بأن الآية إنما نزلت في أهل الكتاب وحرمت الكنز عليهم ، وأما المسلمون فهم وما يقتنون من ذهب وفضة يصنعون بأموالهم ما يشاءون من غير بأس عليهم .
والآية توعد الكانزين إيعادا شديدا ، ويهددهم بعذاب شديد غير أنها تفسر الكنز المدلول عليه بقوله : ﴿الذين يكنزون الذهب والفضة﴾ بقوله : ﴿ولا ينفقونها في سبيل الله﴾ فتدل بذلك على أن الذي يبغضه الله من الكنز ما يلازم الكف عن إنفاقه في سبيل الله إذا كان هناك سبيل .
وسبيل الله على ما يستفاد من كلامه تعالى هو ما توقف عليه قيام دين الله على ساقه وأن يسلم من انهدام بنيانه كالجهاد وجميع مصالح الدين الواجب حفظها ، وشئون مجتمع المسلمين التي ينفسخ عقد المجتمع لو انفسخت ، والحقوق المالية الواجبة التي أقام الدين بها صلب المجتمع الديني ، فمن كنز ذهبا أو فضة والحاجة قائمة والضرورة عاكفة فقد كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل الله فليبشر بعذاب أليم فإنه آثر نفسه على ربه وقدم حاجة نفسه أو ولده الاحتمالية على حاجة المجتمع الديني القطعية .
ويستفاد هذا مما في الآية التالية من قوله : ﴿هذا ما كنزتم لأنفسكم﴾ فإنه يدل على أن توجه العتاب عليهم لكونهم خصوه بأنفسهم وآثروها فيما خافوا حاجتها إليه على سبيل الله الذي به حياة المجتمع الإنساني في الدنيا والآخرة ، وقد خانوا الله ورسوله في ذلك من جهة أخرى وهي الستر والتغييب إذ لو كان ظاهرا جاريا على الأيدي كان من الممكن أن يأمره ولي الأمر بإنفاقه في حاجة دينية قائمة لكن إذا كنز كنزا وأخفى عن الأنظار لم يلتفت إليه ، وبقيت الحاجة الضرورية قائمة في جانب والمال المكنوز الذي هو الوسيلة الوحيدة لرفع الحاجة في جانب مع عدم حاجة من كنزه إليه .
فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجة إليه على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه ، وناهيك أن الإسلام لا يحد أصل الملك من جهة الكمية بحد فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضة ولم يدخرها كنزا بل وضعها في معرض الجريان يستفيد به لنفسه الوفا والوفا ، ويفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك لم يتوجه إليه نهي ديني لأنه حيث نصبها على أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من أن يصرف في سبيل الله فهو وإن لم ينفقها في سبيل الله إلا أنه بحيث لو أراد ولي أمر المسلمين لأمره بالإنفاق فيما يرى لزوم الإنفاق فيه فليس هو إذا لم ينفق وهو بمرأى ومسمع من ولي الأمر بخائن ظلوم .
فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق المالية الواجبة لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط بل بمعنى يعمها وغيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك .
وأما الإنفاق المستحب كالتوسعة على العيال ، وإعطاء المال وبذله على الفقراء في الزائد على ضرورة حياتهم فهو وإن أمكن أن يطلق عليه فيما عندنا الإنفاق في سبيل الله إلا أن نفس أدلته المبينة لاستحبابه تكشف عن أنه ليس من هذا الإنفاق في سبيل الله المذكور في هذه الآية فكنز المال وعدم إنفاقه إنفاقا مندوبا مع عدم سبيل ضروري ينفق فيه ليس من الكنز المنهي عنه في هذه الآية فهذا ما تدل عليه الآية الكريمة ، وقد طال فيها - لما يتعلق بها من بعض الأبحاث الكلامية - المشاجرة بين المفسرين ، وسنورد فيه كلاما بعد الفراغ عن البحث الروائي المتعلق بالآيات إن شاء الله تعالى .
وقوله في ذيل الآية : ﴿فبشرهم بعذاب أليم﴾ إيعاد بالعذاب يدل على تحريمه الشديد .
قوله تعالى : ﴿يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم﴾ إلى آخر الآية .
إحماء الشيء جعله حارا في الإحساس ، والإحماء عليه الإيقاد ليتسخن والإحماء فوق التسخين ، والكي إلصاق الشيء الحار بالبدن .
والمعنى : أن ذلك العذاب المبشر به في يوم يوقد على تلك الكنوز في نار جهنم فتكون محماة بالنار فتلصق بجباههم وجنوبهم وظهورهم ويقال لهم عند ذلك : ﴿هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون﴾ فقد عاد عذابا عليكم تعذبون به .
ولعل تخصيص الجباه والجنوب والظهور لأنهم خضعوا لها وهو السجدة التي تكون بالجباه ولاذوا إليها واللواذ بالجنوب ، واتكئوا عليها والاتكاء بالظهور ، وقيل غير ذلك والله أعلم .
___________________________
1 . تفسير الميزان ، ج9 ، ص 206-210 .
تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة : 34} .
كنز الأموال :
كان الكلام في الآيات المتقدمة عن أعمال اليهود والنصارى المشوبة بالشرك ، إذ كانوا يعبدون الأحبار والرهبان من دون اللّه .
الآية الأولى محل البحث تقول: إنّ أولئك مضافا إلى كونهم غير جديرين بالألوهية فهم غير جديرين بقيادة الناس أيضا ، وخير دليل على ذلك أعمالهم المتناقضة المضطربة .
فالآية هنا تلتفت نحو المسلمين فتخاطبهم بالقول : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ والرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} .
الطريف هنا أنّنا نواجه الأسلوب نفسه في القرآن على ما عهدناه في أمكنة أخرى من آياته ، فالآية هنا لم تقل : إنّ الأحبار والرهبان جميعهم ليأكلون ، بل قالت : {إِنَّ كَثِيراً} فهي تستثني الأقلية الصالحة منهم ، وهذا النوع من الدقة ملحوظ في سائر آيات القرآن ، وقد أشرنا الى ذلك سابقا .
لكن كيف يأكلون أموال الناس دون مسوّغ أو مجوّز ، أو كما عبّر القرآن «بالباطل» فقد أشرنا سابقا الى ذلك في آيات أخرى كما ورد في التأريخ شيء منه أيضا ، وذلك:
أوّلا : إنّهم كتموا حقائق التعاليم التي جاء بها موسى عليه السّلام في توراته وعيسى عليه السّلام في إنجيله ، لئلا يميل الناس الى الدين الجديد ، «الدين الإسلامي» فتنقطع هداياهم وتغدو منافعهم في خطر ، كما أشارت الى ذلك الآيات (41) و(79) و (174) من سورة البقرة .
والثّاني : إنّهم بأخذهم «الرّشوة» كانوا يقلبون الحق باطلا والباطل حقّا ، وكانوا يحكمون لصالح الأقوياء ، كما أشارت الى ذلك الآية (41) من سورة المائدة .
ومن أساليبهم غير المشروعة في أخذ المال هو ما يسمّى ب «صكوك الغفران وبيع الجنّة» فكانوا يتسلمون أموالا باهظة من الناس ، ويبيعون الجنّة ب «صكوك الغفران» والغفران ودخول الجنّة منحصران بإرادة اللّه وأمره ، وهذا الموضوع- أي صكوك الغفران- يضجّ به تأريخ المسيحيّة! كما أثار نقاشات وجدالا عندهم .
وأمّا صدّهم عن سبيل اللّه فهو واضح ، لأنّهم كانوا يحرفون آيات اللّه ، أو أنّهم كانوا يكتمونها رعاية لمنافعهم الخاصّة ، بل كانوا يتهمون كل من يرونه مخالفا لمقامهم ومنافعهم ، ويحاكمونه- في محاكم تدعى بمحاكم التفتيش الديني بأسوأ وجه ، ويصدرون عليه أحكاما جائرة قاسية جدّا .
ولو لم يقوموا بمثل هذه الأعمال ولم يقدموا على صدّ أتباعهم عن سبيل اللّه ، لكان آلاف الآلاف من أتباعهم ملتفين اليوم حول راية الإسلام ودين الحق من صميم أرواحهم وقلوبهم ، فبناء على ذلك يمكن أن يقال- بكل جرأة ودون تحفظ- أن آثام الآلاف من الجماعات في رقاب أولئك «الرهبان والأحبار» لأنّهم كانوا سببا في بقائهم في الظلمات ، ظلمات الكفر والضلال . . .
وما زالت الكنيسة لحدّ الآن تبذل قصارى وسعها- ولا يقصر في ذلك اليهود أيضا- لتغيير أفكار عامّة الناس ، وإلفاتهم عن الإسلام ، كما وجه اليهود تهما كثيرة عجيبة إلى النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم .
وهذا الموضوع من الوضوح والشمول أنّ جماعة من علماء المسيحية المثقفين اعترفوا بأنّ أسلوب الكنيسة في مواجهة الإسلام ومحاربته أحد أسباب جهل الغربيين بالإسلام وعدم اطلاعهم على هذا الدين الطاهر .
وتعقيبا على موضوع حب اليهود والنصارى لدنياهم وأكل المال بالباطل ، فإنّ القرآن يتحدث عن قانون كلّي في شأن أصحاب المال وذوي الثراء ، الذين يكنزون أموالهم ، فيقول : {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} .
والفعل «يكنزون» مأخوذ من مادة «الكنز» وهو المال المدفون في الأرض ، وهو في الأصل جمع أجزاء الشيء ، ومن هنا فقد سمّي البعير ذو اللحم الكثير بأنّه «كناز اللحم» ثمّ استعمل الكنز في جمع المال وادخاره ودفنه ، أو في الأشياء القيمة غالية الثمن .
فبناء على ذلك فإنّ الكنز ملحوظ فيه الجمع والإخفاء والمحافظة .
«الذهب والفضة» معدنان مشهوران ، وكان النقد أو العملة سابقا بالدينار الذهبي والدرهم الفضيّ .
ولبعض العلماء تعريف طريف في شأن هذين المعدنين ولغتيهما «كما ذكر ذلك العلّامة الطبرسي في مجمع البيان» فقال: إنّما سمّي الذهب ذهبا لذهابه عن اليد عاجلا ، وإنّما سمّيت الفضة لانفضاضها أي لتفرّقها ، ولمعرفة مآل وحقيقة هذه الثروة فإنّ هذه التسمّية كافية (لكلّ من المالين- الذهب والفضة) .
ومنذ كانت المجتمعات البشرية كانت مسألة المبادلة- سلعة بسلعة- رائجة بين الناس ، فكان كلّ يبيع ما يجده زائدا على حاجته من المحاصيل الزراعية أو الدواجن بجنس آخر ، أو بضاعة أخرى ، لأنّ النقد «الدينار أو الدرهم» لم يكن آنئذ ، لكن لما كانت المبادلة- أعني مبادلة الأجناس أو البضائع- تحدث بعض المشاكل أو المصاعب ، لعدم وجود ما يحتاجه البائع ، دائما فقد يكون هناك شيء آخر- مثلا- يراد تبديله ، فقد دعت الحاجة الى اختراع النقد .
وقد كان وجود الفضة ، بل الأهم منه وجود الذهب ، مدعاة الى تحقق هذه الفكرة ، وهي أن تمثل الفضة القيمة الدانية ، وأن يمثل الذهب القيمة الغالية ، وبهما اتّخذت المعاملات رونقا جديدا بارزا .
فبناء على ذلك فإنّ الحكمة الأصيلة من النقد- الذهب والفضة- هي سرعة تحرك عجلة المبادلات الاقتصادية .
أمّا الذين يكنزون الذهب والفضة ، فهم لا يكونون سببا لركود الوضع الاقتصادي والضرر بالمجتمع فحسب ، بل إنّ عملهم هذا مخالف لفلسفة ابتداع النقد واختراعه .
فالآية محل البحث تحرم الكنز وجمع المال ، والثروة بصراحة ، وتأمر المسلمين أن ينفقوا أموالهم في سبيل اللّه وما فيه نفع عباد اللّه ، وأن يتجنبوا كنزها ودفنها وإبعادها عن تحرك السوق ، وإلّا فلينتظروا «العذاب الأليم» .
وهذا العذاب الأليم ليس جزاءهم في يوم القيامة فحسب ، بل يشملهم في الدنيا- لإرباكهم الحالة الاقتصادية ولإيجاد الطبقية بين الناس «الفقير والغني» أيضا .
وإذا لم يكن أهل الدنيا يعرفون أهمية هذا الدّستور الإسلامي بالأمس ، فنحن نستطيع أن ندركه جيدا ، لأنّ الأزمات الاقتصادية التي أبتلي بها البشر نتيجة احتكار الثروة من قبل جماعة «أنانية» ، وظهورها على صورة حروب وثورات وسفك دماء ، غير خاف على أحد أبدا .
حتى يعدّ جمع الثروة كنزا ؟
هناك كلام بين المفسّرين في شأن الآية- محل البحث- فهل كلّ جمع للمال أو ادخار له يعدّ كنزا ، لأنّه زائد على حاجة الإنسان ، فهو حرام وفق مفهوم الآية . . .
أو أنّ الحكم خاصّ ببداية الإسلام وقبل نزول حكم الزّكاة ثمّ ارتفع حكم الكنز بنزول حكم الزّكاة . . .
أو أنّه يجب على الإنسان دفع زكاته سنويا لا غير ، فإذا دفع الإنسان زكاة سنته فلا يكون مشمولا بحكم الكنز وإن جمع المال ؟
في كثير من الرّوايات الصادرة عن أهل البيت عليهم السّلام وروايات أهل السّنة ، يلوح لنا التّفسير الثّالث ،
ففي حديث عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم أنّه قال : «أي مال أدّيت زكاته فليس بكنز» . «2»
كما نقرأ في بعض الرّوايات أنّه لمّا نزلت آية الكنز ثقل على المسلمين الأمر ، فقالوا: ليس لنا أن ندخر شيئا لأبنائنا إذا ، ثمّ سألوا النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم فقال : «إن اللّه لم يفرض الزكاة إلّا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنّما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» . «3»
أي أن جمع المال لو كان- بشكل عام ممنوعا- لما وجدنا لقانون الإرث موضوعا .
وفي كتاب الأمالي للشيخ الطوسي قدس سرّه ورد هذا المضمون ذاته عن النّبي صلى اللّه عليه وآله وسلّم: «من أدى زكاة مال فما تبقّى منه ليس بكنز» . «4»
إلّا أنّنا نقرأ روايات أخرى في المصادر الإسلامية لا ينسجم ظاهرا- ولأوّل وهلة- والتّفسير الآنف الذكر ، ومنها ما ورد عن الإمام علي عليه السّلام في مجمع البيان أنّه قال : «ما زاد على أربعة آلاف «5» فهو كنز أدّى زكاته أو لم يؤدّها ، وما دونها فهي نفقة ، فبشرهم بعذاب أليم» . «6»
وقد ورد في الكافي عن معاذ بن كثير ، أنّه سمع عن الصادق عليه السّلام يقول : «لشيعتنا أن ينفقوا ممّا في أيديهم في الخيرات ، وما بقي فهو حلال لهم ، إلّا أنّه إذا ظهر القائم حرم جميع الكنوز والأموال المدخرة حتى يؤتى بها إليه ويستعين بها على عدوه ، وذلك معنى قوله تعالى: والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ . «7»
ونقرأ في سيرة أبي ذر رضوان اللّه عليه في كثير من الكتب أنّه لما كان في الشام ، كان يقرأ الآية- محل البحث- في شأن معاوية ، ويقول بصوت عال صباح مساء : «بشر أهل الكنوز بكيّ في الجباه وكيّ بالجنوب وكيّ بالظهور أبدا حتى يتردّد الحرّ في أجوافهم» . «8»
كما يظهر من استدلال أبي ذر رضى اللّه عنه بالآية في وجه عثمان ، أنّه كان يعتقد أنّ الآية لا تختص بمانعي الزّكاة ، بل تشمل غيرهم أيضا .
ويمكن الاستنتاج من مجموع الأحاديث- آنفة الذكر- منضمة إليها الآية محل البحث ، أنّه في الظروف الاعتيادية المألوفة ، حيث يرى الناس آمنين ، أو غير محدق بهم الخطر ، والمجتمع في حال مستقر ، فيكفي عندئذ دفع الزكاة وما تبقى لا يعد كنزا . وينبغي الالتفات بطبيعة الحال الى أنّه مع رعاية الموازين الإسلامية ، وما هو مقرر في شأن رؤوس الأموال والأرباح ، فإنّ الأموال لا تتراكم بشكل غير مألوف فوق العادة ، لأنّ الإسلام وضع قيودا وشروطا للمال لا يتسنى للإنسان معها جمع الأموال وادّخارها .
وأمّا في الحالات غير الطبيعية وغير الاعتيادية ، وعند ما يقتضي حفظ مصالح المجتمع الإسلامي ذلك ، فإنّ الحكومة الإسلامية ، تحدّد لجمع المال مقدارا ، كما مرّ في حديث الإمام علي عليه السّلام أو تطالب الناس بالكنوز وما جمعوه من المال كليّا ، كما هو الحال في قيام المهدي ، إذ مرّت رواية الإمام الصادق عليه السّلام مع ذكر العلّة . . .
«فيستعين به (أي المال) على عدوّه» .
إلّا أنّنا نكرر القول بأنّ هذا الموضوع يختص بالحكومة الإسلامية ، وهي التي لها حق البتّ والتصميم في مواطن الضرورة والاقتضاء «فلاحظوا بدقّة» .
وأمّا قصّة أبي ذر رضى اللّه عنه فلعلّها ناظرة الى هذا الموضوع ذاته ، إذا كان المجتمع الإسلامي في حاجة ماسة وشديدة للمال ، وكان جمع المال وكنزه مخالفا لمنافع المجتمع وحفظ وجوده .
ومع أن أبا ذر رضى اللّه عنه كان ناظرا الى أموال «بيت المال» التي كانت عند عثمان ومعاوية ، ونحن نعرف أنّه مع وجود المستحقين لا يجوز تأخير دفع المال عنهم لحظة واحدة ، بل يجب دفعه الى أصحابه فورا ، ولا علاقة لمسألة الزكاة بهذا الموضوع أبدا .
على أنّ التواريخ الإسلامية- سنّية وشيعية- مجمعة وشاهدة على أنّ عثمان وزّع أموال بيت المال الضخمة الطائلة على أقاربه ، وأن معاوية بنى من بيت مال المسلمين قصرا ضخماً أحيا به أساطير قصور الساسانيين ، وكان لأبي ذر رضوان اللّه عليه الحق في أن يحتج بالآية محل البحث أمامها .
- {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة : 35] .
جزاء من يكنز !
في الآية التّالية إشارة الى واحد ممّا يحيق بمثل هؤلاء ممّن يكنز المال في العالم الآخر ، إذ تقول الآية : {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ} .
ويخاطبهم ملائكة العذاب وهم في هذا الحال : {هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .
وهذه الآية توكّد مرّة أخرى هذه الحقيقة ، وهي أنّ أعمال الإنسان لا تمضي سدى ، بل تبقى وتتجسّد له يوم القيامة ، وتكون مدعاة سروره أو مدعاة شقائه .
وهناك كلام بين المفسّرين في سبب ذكر الجباه والظهور والجنوب وحدها من بين سائر أعضاء الجسم .
غير أنّه روي عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه أنّه كان يقول : «حتى يتردد الحرّ في أجوافهم» أي أن الحرارة المحرقة التي تمس هذه الأعضاء الثلاثة تنفذ الى سائر الجسم وتستوعبه كلّه .
كما قيل: إنّ الوجه في ذكر هذه الأعضاء الثلاثة دون غيرها ، هو أنّ أصحاب المال حين كان يأتيهم المحروم أو الفقير ، كان ردّ فعلهم يظهر على جباههم أحيانا ، فيظهرون عدم الاعتناء بهم ، وتارة ينحرفون عنهم ، وتارة يديرون ظهورهم لهم ، فهذه الأعضاء الثلاثة تكوى في نار جهنم ، بما حمي عليه من الذهب أو الفضة وما كنزوه دون أن ينفقوه في سبيل اللّه .
ومن نافلة القول أن نشير الى لطيفة بلاغية ، في الآية محل البحث وهي التعبير ب «يوم يحمى عليها» أي يحمى على الذهب والفضة ، والتعبير المطّرد أن يقال : يوم تحمى الفضة أو يحمى الذهب ، لا أنّه يحمى عليه ، كما يقال مثلا: يحمى الحديد في النّار .
ولعل هذا العبير يشير الى إحراق الذهب والفضة الى درجة قصوى بحيث توضع النّار عليها . إذ أن جعل الفضة والذهب على النّار لا يكفي لأن تكون محرقة «للغاية» .
فالقرآن لا يقول : يوم تحمى في نار جهنم ، بل يقول: يحمى عليها ، أي توضع النّار عليها لتكون في أسفل النّار كيما تشتد حرارتها وهذا التعبير الحيّ يجسّد شدة عذاب أولي الثروة الذين يكنزونها في يوم القيامة .
________________________
1. تفسير الأمثل ، ج5 ، ص 220-229 .
2. المنار ، ج 10 ، ص 404 .
3. المصدر السّابق .
4. نور الثقلين ، ج 2 ، ص 213 .
5. المقصود بها أربعة آلاف درهم لأنّها مخارج السنة .
6. مجمع البيان ، ذيل الآية محل البحث ، ونور الثقلين ، ج 2 ، ص 213 .
7. نور الثقلين ، ج 2 ، ص 213 .
8. نور الثقلين ، ج 2 ، ص 214 وتفسير البرهان ، ج 1 ، ص 122 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|