تفسير الميزان للعلامة والمفكر الكبير السيّد محمد حسين الطباطبائي (قده) |
8045
06:10 مساءاً
التاريخ: 23-02-2015
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-12-2014
2621
التاريخ: 23-02-2015
3679
التاريخ: 7-3-2016
4772
التاريخ: 2024-02-03
1192
|
صاحبه من الأعلام النادرة التي قلما يجود الدهر بمثله ... نبغ في
الحكمة والفكر الإسلامي وعمقه، وترك آثارا مهمة لإعطاء الصورة السامية للإسلام
المحمدي الأصيل.
مولده آخر سنة (1321 هـ) وتوفي سنة (1400 هـ).
منهجه في التفسير
ويحق أن اختياره لتسميته بالميزان، يدل على
كونه المتوازن والموزون للآراء المختلفة للكتاب من ناحية، والقديم والجديد المعقول
من ناحية أخرى، والعلم المادي والديني بل ومختلف الآراء التاريخية، والحقب
الإنسانية ! ويحكى إجمالا بما يلي :
أولا : الموضوعية والنظرة المتزنة لديه، فهوأمين في عرضه لآراء الفرق الأخرى
والمذاهب الإسلامية، رغم ما فيها من طغيان الإسرائيليات والشطحات الكلامية، وقلة
ما يسعفهم من الأحاديث في التفسير، والابتلاء بالوضاعين وهم إفرازات سياسات حكام
المصالح ووعاظهم وغيرهم؟!! فقد قام المفسر الطباطبائي يوزن كل ذلك بميزان موروثه المستقي من منع أهل البيت الصافي. فقد جاء
كما تربى في تلك المدرسة التي كانت حريصة على هداية الأمة وتخليصها من واقعها
الترهيبي والترغيبي من قبل السلاطين ووعاظهم ! وهكذا كان المفسر الطباطبائي فإنه لم يستهجن آراء الفرق الأخرى رغم فضائحها بل وتعسفها بالتشويش
والاتهام لأهل الحق بمختلف التهم كالرافضة، والباطنية والزندقة ... الخ.
فكان موقف العلامة المفسر كأجداده من أهل
البيت عليهم السّلام يحاورهم بكل موضوعية واعتدال ويعزز بحوثه بالدليل، ويشغل نفسه
بنقد الآراء وعرض ما يراه مناسبا للكتاب والسياق لواستدعاه الأمر أحيانا إلى رفض
أوتضعيف الأحاديث المنسوبة إلى أئمة أهل البيت عليهم السّلام؟! فنراه قد يصرح
المفسر بأسماء هؤلاء المفسرين، وقد لا يصرح بأسمائهم مشيرا إليهم بعبارات مختلفة
على ذكر جمع في المفسرين (1) وهكذا، وقد يذكر ما في بعض التفاسير بقوله : «ربما قيل» (2) وهوللتضعيف.
والكلام يقع هنا على قسمين :
1- أسس الترجيح في مناقشة هذه الأقوال.
2- أسلوبه التعبير عن الترجيح بين الأقوال.
أما عن أسس الترجيح فكان يتم رفضه وقبوله
على أساس ما يلي :
أ- القرآن الكريم والمعاني التي يخلص إليها
من خلال قاعدته الأساس في التفسير (تفسير القرآن بالقرآن).
ب- وحدة السياق في الآيات.
ج- الأسس الاعتقادية.
نتعرض هنا لبيان هذه الأسس فيما يأتي :
أ- اعتمد المفسر على المنهج الأهل بيتي في
استنطاق آي الكتاب العزيز بعضها للبعض الآخر. وهذا شائع في تفسيره. والحق يقال أنه
خير من توفق في تفسير القرآن بالقرآن، بعد ما عرفت أن محاولات غيره جاءت ضعيفة
وقاصرة ومقصرة ما تلبث أن تأتي على ضوء موروثهم. وتطبيقه على القرآن، لا بعملية
العرض واستنطاق الآي بعضها مع بعض.
مثال : الردّ على من قال : إن توبة فرعون
عند ما أدركه الغرق لم ترد، وليس في القرآن ما يدلّ على هلاكه النهائي (3).
لكن مفسرنا الكبير ردّ مستدلا بقوله تعالى
{وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء : 18] وأوضح المفسر : ان الندامة
حينئذ ندم كاذب يسوقه النادم لمشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء!
وأضاف قائلا : لوكان كل ندم توبة لكل توبة
مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى لحال المجرمين يوم القيامة : {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُا الْعَذَابَ} [يونس : 54] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على
ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، ويرد عليهم بأنهم لوردّوا
لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون (4).
ب- وحدة السياق بين الآيات :
اعتمد المفسر في مناقشته كثير من الأقوال
على سياق الآيات وقد عرفنا أثر السياق في مناقشته الأقوال في كثير من المواضع.
ونذكر هنا مثالا يوضح ذلك.
مثال : عن مصير الرجل المؤمن الذي جاء يسعى
من أقصى المدينة في قوله تعالى : { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا
لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وجَعَلَنِي
مِنَ الْمُكْرَمِينَ } [يس : 26].
أفاد المفسر ان القوم قتلوه، فنودي من ساحة
العزة ان ادخل الجنة كما يفيد السياق، ويؤيده قوله تعالى : {وما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ
مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وما كُنَّا مُنْزِلِينَ } [يس : 27]، فوقع قوله تعالى
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ موضع الأخبار عن قتلهم إياه إشارة إلى أنه لم يكن بين
قتله بأيديهم وبين أمره بدخول الجنة أي فصل وانفكاك كأن قتله بأيديهم هوأمره بدخول
الجنة، وعلى هذا فالمراد بالجنة جنة البرزخ دون هذه الآخرة. وأما ما قيل أن القائل
في (ادخل الجنة) هوالقوم إذ قالوا له ذلك حين قتلوه استهزاء به، فقد ردّ المفسر
هذا المعنى لأنه لا يناسب ما تقدم من معنى، فهولا يلائم ما أخر اللّه سبحانه عنه
بقوله بعد :
{ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } [يس : 26] فإن ظاهره أنه تمنى على قومه بما هوفيه بعد استماع نداء
(ادخل الجنة) (5).
ج- الأسس الاعتقادية :
إن القرآن الكريم قد نص على أسس اعتقادية،
ولكن المذاهب اختلفت في تفسيرها بين الإفراط والتفريط، دون وسطية للشيعة، ومن
هؤلاء مفسرنا الطباطبائي فقد ردّ على المجسّمة والمشبهة، كما ناقش أهل الجبر
والتفويض، وبيان مسألة العصمة، وعزى كل ذلك إلى تبني الإسرائيليات مما أصبحوا غير
منزهين للخالق تعالى وبما يمس مقام الملائكة والأنبياء عليهم السّلام (6).
الثاني : أسلوبه الموضوعي المتميز في الترجيح :
يلتزم مفسرنا الموضوعية المتزنة في النقاش
العلمي المؤدب في الترجيح، مثل قوله : وأعدل الوجوه آخرها (7)، وفي المخالفة يشير إلى ذلك بأحد التعابير
التي تدل عليه أيضا كقوله : وفي معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى منها (8).
وفي مواضع أخرى يحاول المفسر أن يوقف القارئ
على مواطن الضعف، بإثارته أشكل الوجوه عليه!
1- النزعة العلمية لدى الطباطبائي في التفسير :
ونتكلم في هذه النزعة على مجالين :
أ- موقف الطباطبائي- كمفسر- من النظريات العلمية
الحديثة.
ب- الجانب الفلسفي في الميزان.
ا- موقفه من النظريات العلمية الحديثة في
التفسير :
كما ذكرنا سابقا جرأة مفسري السنة- المدعاة-
في الخوض بتفسير الآيات رأيا واستحسانا وارتجالا، أوالتعجل والاستهانة بالأخذ
بالإسرائيليات بكلام اللّه سبحانه؟! ومنها تفسير النظريات الحديثة، كما في تفسير
المنار (9)، ومن بالغ في ذلك الشيخ طنطاوي جوهري في
تفسيره «الجواهر» (10).
وهكذا وكبقية كثير من المسائل يقع بينهم
الجدال والخلط وتضارب المواقف، فقد أنكر وعارض هذا اللون من التفسير أمين الخولي،
والأستاذ عباس العقاد، والشيخ شلتوت وغيرهم (11).
وأمام خضم هذا النزاع بين الرفض والقبول في
التفسير العلمي، كما في غيره من عقائد وعقليات، كان بحاجة ماسة إلى عالم فيصل
ينتمي إلى نهج أهل البيت المبارك كالعلامة الطباطبائي . فقد ذكر أن القرآن الكريم معجز من جميع الجهات، فهوآية البليغ
والفقيه والاجتماعي، والعالم الحكيم، ولجميع العالمين فيما لا ينالونه كالغيب
والاختلاف في الحكم والعلم والبيان (12).
ثم قوله : فالقرآن من الناحية العلمية فيه
حث على التدبر والتأمل والنظر في ملكوت السموات والأرض، والآفاق الإنسانية
والكونية وغيرها (13).
كذلك ردّه على الشيخ طنطاوي جوهري استفادته
(الزوجية) من قوله تعالى : { ومِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ
فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ }[الرعد : 3]. إذ ظاهر هذه
الآية- كما يقول الطباطبائي لا يساعد عليه، والذي يفيده أن نفس الثمرات زوجان اثنان وليست مخلوقة
من زوجين اثنين (14).
ب- الجانب الفلسفي في الميزان :
حفل الميزان بأبحاث : فلسفية عديدة في
مواضيع مختلفة، ويرجع ذلك إلى مقدرة المفسر العلمية، وعمق نظرته الفلسفية باعتباره
(من أعاظم الفلاسفة وأكابر المحققين في الفلسفة الإسلامية وشتى علومها، فقد صرف
برهة من عمره في تحصيل الفلسفة وتدريسها حتى استبطن دقائقها وأحصى مسائلها) (15).
علما أنّ العصر الحديث هووريث الفلسفات
القديمة وأثرها في القانون والسياسة وغيرها بل حتى في الأديان.
وفلسفة الطباطبائي فريدة من نوعها في (الميزان) أن تبدوممتزجة بآي القرآن الكريم والحق
يقال أن الفلسفة لم تستهومفسرنا كمنهج للتغير، ولم تسيطر النظريات الفلسفية على
تفسيره، كما عاب هونفسه على المسلك الفلسفي في التفسير إذ قال : (وأما الفلاسفة
فقد عرض لهم فأعرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات
المخالفة بظاهرها للمسلّمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم ...) (16).
بل أنه عقد أبحاثه الفلسفية في الميزان على
أنها تعبر عن تأييدها للمعاني التي استفادها من الآيات، وفي أحيان أخرى عبرت هذه
الأبحاث عن وزنها لمقالات فلسفية تعارض ظواهر القرآن والسنة ؟! مثاله : ففي معنى
(الحمد للّه) قال المفسر : إنه الثناء الجميل الاختياري، واستفاد ذلك من القرآن
نفسه، قال تعالى : {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر : 62] حيث أن كل شيء
هومخلوق للّه سبحانه وعلى هذا الشيء يجب أن يكون حسنا. قال تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ } [السجدة : 7] كما أنه تعالى لم يخلق ما
خلق بقهر قاهر بل خلقه عن علم واختيار، فما من شيء إلا وهوفعل جميل اختياري قال
تعالى {هُو
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الزمر : 4] وقال : {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه : 111] (17) وقد أعقبت معنى الْحَمْدُ لِلَّهِ ببحث
فلسفي قال فيه :
(البراهين العقلية ناهضة ان استقلال المعلول
وكل شأن من شئونه إنما هوبالعلة، وان كل ما له من كمال فهومن فيض وجود علته،
فلوكان للحسن والجمال حقيقة في الوجود فكما له واستقلاله للواجب تعاطى لأنه العلة
التي تنتهي إليه جميع العلل، والثناء والحمد هوإظهار موجود ما بوجوده كمال موجود
آخر وهولا محالة علته وإذا كان كل كمال ينتهي إليه تعالى فحقيقة كل ثناء وحمد تعود
وتنتهي إليه تعالى فالحمد للّه رب العالمين) (18).
وفي المقابل نجد أن المفسر رفض في بعض
أبحاثه الفلسفية بعض النظرات الفلسفية التي تخالف بمؤداها الكتاب العزيز. مثال في
تفسير قوله تعالى : {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة : 4] رد المفسر على قول الفلاسفة
بعدم جواز التعويل على غير المحسوسات في العلم مجتمعين بأن العقليات المحضة يكثر
وقع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطأ وهوالحس والتجربة (19).
وعلق على ذلك الطباطبائي قائلا : ان الحجة مدحوضة باطلة بأمور :
الأول : ان جميع المقدمات المأخوذة فيها الحجة كلها عقلية غير حسية فهي حجة
على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة
فسادها.
ثانيا : ان الغلط في الحواس لا يقل عددا عن الخطأ والغلط في العقليات.
ثالثا : ان التجربة - وهي تكرار الحس- ليست لوحدها آلة للتمييز بين الخطأ
والصواب. بل هي إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب إلى جانب مقدمات عقلية
غير حسية ولا تجريبية.
رابعا : على افتراض أن جمع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن
نفس التجربة لم يثبت بتجربة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية، بل العلم بصحته عن طريق
غير طريق الحس، فالاعتماد والتجربة اعتماد على العلم العقلي وجوبا.
خامسا : ان الحس لا يباشر ولا يتعامل إلا مع أعداد محدودة من الجزئيات وتكرار
المشاهدة لصيانة القانون العام الذي تندرج تحته عموم هذه الجزئيات غير كاف إلا
بنظر عقلي، فلوجربنا عددا معينا من المعادن وتبين لنا أنها تتمدد بالتسخين ، فمن
تكرار هذه المشاهدات المتعددة الجزئية يمكن الحكم عقليا بأن جميع المعادن تتمدد
بالتسخين ، وهذا الحكم الذي استخلصناه من المشاهدات الجزئية هوحكم عقلي، وعليه
فلواقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون
إلى العقليات لم يتم لنا إدراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي (20) ؟! بينما تجد في المقابل أن الفخر الرازي في تفسيره الكبير، قد بالغ
وأفرط بل وانتصر للفلسفة في مواضع كثيرة، مستعرضا بغروره مسائل ومباحث تافهة قد
تخرج عن مجال بل وشرف التفسير، الأمر الذي أغرى الكثير من أن يظنون إن تفسيره يمثل
القمة في العقليات وقد مرّ عليك كيف أن تابعيه من العلماء قالوا فيه : كل شيء فيه
إلا التفسير؟!
فمثلا يدخل في بحث أن السماء أفضل أم الأرض
؟!! ويأتي تفصيل ذلك بوجوه.
2- موقفه الشديد من الإسرائيليات، وتصديه
لما يثيره أعداء الإسلام من شبهات فضلا عن كثير من المباحث الاجتماعية القرآنية،
هذا فضلا عن منزلته في مجال التشريعات باعتباره مجتهدا جامعا للشرائط ومن كبار
علماء الحوزة في قم المقدسة.
1- رفضه للإسرائيليات.
وقد مرّ عليك كيف أن تفاسير القوم ملأت
بالإسرائيليات سلف عن خلف، منذ عصر الصحابة ذاته (حتى أن بعض الصحابة نقل عن
الإسرائيليين، فقد روي عن عبد اللّه بن عمروبن العاص أصاب في واقعة اليرموك حمل
زاملتين من كتب أهل الكتاب) (21) وقد نعى المفسر على الركون التام إلى الآثار وقبول جميع المرويات من
غير نظر وتمحيص، حتى دخل من الإسرائيليات ما يمس العقيدة وعصمة الأنبياء والخالق
لصريح العقل والنقل الصحيح (22).
وكان مفسرنا الكبير صلبا في موقفه من
المرويات وهوموقف الحصيف والناقد، الدقيق ، فلا يأخذ بها إلا بعد عرضها على
الكتاب- حسب منهج أهل البيت- فإن وافقته ولم يوجد المعارض لها الموافق للكتاب
العزيز أخذ بها وإلا ردها (23).
2- توجيهه لمفسري السنّة بحسن استعمال العقل :
قد علمت سابقا كيف أن أهل السنة بل وغير
الشيعة من أساء استخدام العقل حيث وقعوا في متاهات الاعتقاد والقياس والاجتهاد بما
سموه بالرأي ؟!
وهم وإن قسموا الرأي إلى رأي صحيح ورأي
مذموم إلا أنهم لم يحلوا مشكلة الانحراف الذي ارتكبوا فيه، ومر بهم إلى نار جهنم!
لأنه قول بغير علم، وأنه ضرب من الهوى والاستحسان المنهي عنه في حديث الرسول صلّى
اللّه عليه وآله وسلّم (من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ) (24) وكذلك (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) (25) إلا أن القوم اعتمدوا على التصويب، الذي يعطي للمجتهد- بحسب نظرتهم-
تمام الحرية في الخوض في الأحكام والآيات على هواه، الأمر الذي أصبح عندهم كل
إنسان يملك بعض المعارف البسيطة في الإسلام أن يجتهد ويفسر ويفتي؟!! لكن الطباطبائي نعى عليهم هذا الانحراف والتخبط
بقوله : إن هذا النهي يرد على من يفسر القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام
العربي فيقيس كلامه تعالى على كلام الناس؟! ثم يتابع قوله : وقد نهى اللّه تعالى
عن القول بغير علم {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء : 36] و{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } [النساء : 46] ، ولا يشمل حديث النهي، التفسير العقلي إذا روعي
فيه ما يحتاجه المفسر من الأدوات اللازمة في التفسير (26).
يريد بذلك الإحاطة باللغة والتاريخ وعلوم
القرآن، والفقه وأصوله والعقائد وعلوم طبيعية وأكاديمية وغيرها؟! مسلكه الرائع
لحلّ مشكلة الغيبيات والمبهمات في القرآن الكريم :
ذكر القرآن الكريم كثير من الحقائق الغيبية،
كالعرش، والكرسي، والقلم، واللوح، والملائكة والجن والشيطان، والجنة والنار،
وغيرها، إلى جانب مبهمات سكت عنها القرآن الكريم.
وقد اختلفت مسالك المفسرين خصوصا لأهل السنة
في معالجة الغيبيات :
1- فقد حرّم أكثر أهل السلف الكلام في هذه
الحقائق وأوجبوا الالتزام بظواهر، الآيات بشأنها ليس غير، لأنه ليس في مقدور أحد
أن يتناولها بل عدها قسم من السلف من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه
سبحانه (27).
وقد روي عن مالك في معنى قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ } [الأعراف : 54] أن الاستواء
معلوم والكيف مجهول والإيمان واجب والسؤال عنه بدعة (28). هذا حال أهل السنة أصحاب المذهب الأشعري
الجزافي، والمشبه والمجسم أيضا؟! أما المعتزلة المفوضة والمبالغة بالعقل، وإن كانت
قد تفوقت على الأشاعرة- أهل السنة- ورمتهم بالكفر، عند ما ضلوا بعدم تفسير بعض تلك
الأمور لغويا وبلاغيا إلا أنهم أي المعتزلة وعلى لسان الزمخشري لم يتمكنوا من
تفسير تلك الغيبيات بالشكل الصحيح أيضا؟! فقد جاء على لسان عالمهم الزمخشري، أن
البيانات القرآنية الناظرة إلى تلك الحقائق الغيبية مبنية على التمثيل والتخييل لا
أكثر، فمثلا نجده في تفسير قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ}
[البقرة : 255] يقول : «تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا
قاعدة، كقوله : {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر : 67] من غير تصور قبضه
وطي ويمين، وإنما هوتخييل لعظمة شأنه وتمثيل حي» (29).
وهكذا نعلم مدى الجناية باتهام أهل الحق
(الشيعة) بالبدع والرفض والاستهجان بعدم الاعتماد على كتبهم، بينما يفتح المجال
لأمثال هذه المتناقضات المتضاربة والتي تصل في النتيجة إلى عدم تنزيه الخالق
تعالى، والطعن بكرامة الملائكة والأنبياء عليهم السّلام فضلا عن هجوم بعضهم على
بعض وتكفيرهم الأمر الذي يجعلهم غير مؤهلين لولوج عالم التفسير المختص بأهله؟!
والمنهج الصحيح الذي سلكه الطباطبائي يمثل الحل الفيصل والأمثل لإرشاد مفسري أهل السنة أشاعرة وكذلك
المعتزلة إلى المسلك الصحيح قائلا : إن البحث الصحيح يوجب أن نفسر هذه البيانات
اللفظية- يعني الغيبيات في القرآن- على ما يعطيه اللفظ في العرف واللغة ثم يعتمد
في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثم ينظر هل الأبحاث العلمية
تنافيها أوتبطلها؟
فإن أثبتت فيها، وإن نفت، فلا حاجة للركون
إلى هذه العلوم الطبيعية (30).
إذ ليست لها القدرة على النفي في أمر غيبي
لأنها تتناول الحس ثم بيّن أن معاني هذه البيانات القرآنية هي التي نفهمها من هذه
الألفاظ نفسها، لكن مصاديقها غير المصاديق المألوفة لدينا، فلها هناك مصاديق-
حقيقة خارجية- على ما يليق بساحته قدسه تعالى (31).
كما وردّ الطباطبائي على جمهور المفسرين حين حملوا الآيات التي
تعني بالحياة والآخرة على ضروب المجاز
والاستعارة ، باعتبار أن ظواهر كثير من الآيات يدفع هذا الحمل (32).
فمثلا عن «العرش» يقول : إن في الوجود عرشا
وهوحقيقة عينية وأمر من الأمور الخارجية، وهوالمقام الذي يرجع إليه أزمة التدابير
الإلهية والأحكام الربوبية فالعرش مقام العلم كما أنه التدبير العام الذي يسع كل
شيء، وكل شيء في جوفه وهذا من غير تحديد لمصداقه الحقيقي.
3- الطباطبائي ومشكلة التفسير بالباطن :
مرّ عليك سابقا كيف أن الزمخشري، شن على أهل
السنة حملة تكفيره لهم من أنهم لم يحسنوا تفسير الظواهر، حيث وقعوا في التشبيه
والتجسيم وعدم التنزيه نراهم أي أهل السنة، يتهمون من لا يسير على منهجهم، بأنهم
باطنية ومبتدعة وغيرها من عبارات الطعن والشتائم، حتى على بعضهم البعض فكيف ممن
خالفوهم؟
فمثلا أن مسألة الباطن قد ذكرت في تراثهم،
أما إذا أرادوا الهجوم على الغير تذكروا لما عندهم وأغمضوا عيونهم عنه؟! مثال :
فقد رووا عن الرسول صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنه قال : (أنزل القرآن على سبعة
أحرف لكل آية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع) (33).
ولكنهم سواء أن عجزوا عن فهم الباطن أوغفلوا
عنه تراهم يرمون الشيعة بأنهم باطنية ومؤولة وغيرها من التهم. وهكذا تعددت واضطربت
أفهامهم وتباينت مسالكهم، فمنهم من اعتبر باطن القرآن هوالمقصود دون ظاهره، ومنهم
الباطنية والقرامطة، وإن كنت لا أعذر هؤلاء ولكن انحرافهم برقبة معاوية ووعّاظه
وهكذا كل حاكم يحكم بهواه، ففي الوقت الذي يشن فيه أهل السنة حملتهم عليهم، وعلى
غيرهم، وكأنهم هم أصحاب الحق وأهله، فأقول لهم إذا كان السلطان ووعاظه قد لوحوا
لعلماء بفتات الموائد البلاطية، ترغيبا وطمعا فهل بلغوا الحق؟! أوأنهم دفعوا ضريبة
وشرط قبول الحاكم لهم؟! فهل هم أحسن حالا ممن يتهمونهم ممّن لا حول لهم ولا قوّة؟
لذلك نجد أن من علماء السنة قد حصل من
الطعون من أهله كالفخر الرازي وأبي حامد الغزالي إلى قوله بالتأويل الباطني تمسكه
بالظاهر(34).
4- الطباطبائي يحسم نزاع القوم ويردهم للصواب :
فهويقدم الظاهر ويعتقد أنه المقصود فيقول :
ولا نجد دليلا على أنه يقصد من كلماته- أي القرآن الكريم- غير المعاني التي ندركها
من ألفاظه وجمله (35)! واعتبر الطباطبائي في الكشف عن باطن القرآن أمرين :
أحدهما : ظواهر الآيات نفسها والأمر الآخر :
ظواهر الشريعة المباركة، وبالتالي لا يكون الباطن مناقضا لمعطيات ظواهر الكتاب
وحقائق الشريعة.
ثم يقول : وحاشا أن يكون هناك حق من ظاهر
أوباطن، والبرهان الحق يدفعه ويناقضه وحاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل
عليه شارع الدين غفل عنه أوتساهل في أمره أوأقرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة
وهوالقائل تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل : 89] (36).
ومن التي فسرها على الباطن :
قوله تعالى : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [النساء : 36] فإنّ المفسر من
خلال النظرة البدائية في هذه الآية تدل على النهي عن عبادة الأصنام، ولكن بعد
التدبر فيها وفي غيرها من الآيات فإنها تفيد كذلك النهي عن عبادة غير اللّه من دون
إذنه : وأكثر من ذلك فهي تنهى عن عبادة الإنسان نفسه باتباع شهواتها، وأكثر من هذا
أيضا أنها تفيد النهي عن الغفلة عن اللّه تعالى والتوجه إلى غيره.
فإرادة هذه المعاني لا تنفيها إرادة الظاهر
من الآية الكريمة، وإرادة الباطن لا تزاحم إرادة الظاهر! وكما هومنهجه فيه تفسير
القرآن بالقرآن، فقد ذكر آيات أخرى يستفاد منها تجلية تلك المعاني، منها قوله
تعالى :
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج : 30] .
{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا
بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس : 60] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية : 23] .
وهكذا نعلم أن المفسر إنما يستعين بالقرآن
الكريم نفسه على أ لا تكون هذه المعاني خارجة عن حقائق الشريعة؟!!
_____________________
(1)
انظر الميزان 2/ 45، 5/ 38.
(2) انظر الميزان 4/ 136، 8/ 12.
(3) من أمثال هذه التوبة ما روي عن ابن عباس
قال : إن قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ}
[النساء : 116].
يفيد أنه تعالى حرم المغفرة على ما مات
وهوكافر، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته فلم ييئسهم من المغفرة (الطبري : 8/ 101،
الدر المنثور : 2/ 131).
ومن استنباطات الرازي العقلية في بيان أنواع
التوبة قال : الذين لم يجزم اللّه تعالى بقبول توبتهم أوردّها، هم الذين يعملون
السيئات على سبيل العمد ثم يتوبون ، وقد تركهم اللّه تعالى إلى مشيئته حيث قال : {ويَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ}
انظر (مفاتيح الغيب 810، 17/ 154).
(4) انظر الميزان : 4/ 247.
(5) الميزان : 17/ 76.
(6) انظر الميزان : 6/ 32- 34، 19/ 187، 1/
229.
(7) الميزان : 10/ 190 5/ 136، 4/ 6.
(8) انظر : تفسير المنار : 8/ 929، 9/ 60.
(9) انظر اتجاهات التفسير في مصر في العصر
الحديث للشرقاوي ص 372.
(10) اتجاه التفسير في العصر الحيث لمصطفى
الطير ص 261.
(11) الميزان : 1/ 60.
(12) القرآن في الإسلام- للطباطبائي- ص 112.
(13) الميزان : 11/ 292.
(14) للطباطبائي ومنهجه في تفسيره- علي الأوسي- ص 183.
(15) الميزان 1/ 6 (مقدمة التفسير).
(16) الميزان : 1/ 19، الفاتحة : 2، غافر :
62، السجدة : 7، الزمر : 4، طه : 111.
(17) الميزان : 1/ 22.
(18) من هؤلاء الفلاسفة الحسيين، فرنسيس
بيكون (ت 1626 م) القائل بالتجربة. وكذلك دافيد هيوم (ت 1776 م) انظر : د. عبد
الرحمن بدوي- مدخل جديد إلى الفلسفة ص 77. وغيره.
(19) الميزان : 1/ 47- 48.
(20) التفسير الكبير 2/ 105- 106 الآية (20)
من سورة البقرة.
(21) مقدمة في أصول التفسير- ابن تيمية- ص
98، ويقول د. محمد حسين الذهبي (نستطيع أن نقول الإسرائيليات في التفسير أمر يرجع
إلى عهد الصحابة) التفسير المفسرون 1/ 169.
(22) الميزان : 11/ 133- 134.
(23) للطباطبائي منهجه وتفسيره ص 167.
(24) سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب
ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه.
(25) المصدر السابق نفسه.
(26) الميزان : 3/ 75، الاسراء : 36، النساء
: 46.
(27) مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية-
رسالة الإكليل- 2/ 23، والميزان 8/ 153.
(28) ابن تيمية : الرسالة التدمرية ص 35.
(29) الزمخشري : تفسر الكشاف، بيروت- دار
المعرفة- 1/ 385.
(30) الميزان : 1/ 89.
(31) الميزان : 8/ 155.
(32) الميزان : 1/ 92.
(33) مصابيح السنة للبغوي 1/ 15 (كتاب
العلم).
(34) الاتجاهات الفكرية من التفسير- د.
الشحات السيد زغلول- ص 22.
(35) القرآن في الإسلام- للطباطبائي- ص 24.
(36) الميزان : 5/ 28، سورة النحل : 89.
(36) للطباطبائي : القرآن في الإسلام ص 27، والميزان : 4/ 353، النساء : 36، الحج : 30، يس : 6، الجاثية : 23.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
أنشطة قرآنية متواصلة يقيمها المجمع العلمي في محافظة النجف الأشرف
|
|
|