هل خطر في بالك يومًا أننا نعيش داخل مجرة هائلة دون أن نراها بالكامل نحن، الأرض والشمس وكل الكواكب التي نعرفها، لسنا سوى جزء صغير من منظومة ضخمة تُسمى درب التبانة، تمتد لأكثر من 100 ألف سنة ضوئية وتضم مئات المليارات من النجوم والكواكب والسحب الغازية. كل نجم في السماء هو شمس بعيدة في هذه المجرة، وبعضها أكبر من شمسنا بمئات المرات، لكنها تبدو لنا كنقاط ضوء خافتة بسبب بُعدها الهائل.
في أعماق المجرة يوجد مركز غامض تلتف حوله النجوم بسرعات خيالية، وهناك يسكن الثقب الأسود الفائق الكتلة Sagittarius A. هذا الجرم الغامض تبلغ كتلته نحو أربعة ملايين ضعف كتلة الشمس، لكنه لا يشع ضوءًا ولا يمكن رؤيته مباشرة. ومع ذلك، التقط العلماء صورًا لظله عام 2022 بفضل تلسكوب أفق الحدث، مؤكدين أن أفكار أينشتاين عن الجاذبية لم تكن مجرد نظرية، بل وصف دقيق لما يحدث فعلاً في قلب مجرتنا.
ورغم أننا نرى درب التبانة مليئة بالنجوم، إلا أن معظم كتلتها في الحقيقة غير مرئي. ما يربطها ويحافظ على تماسكها هو مادة لا تصدر ضوءًا ولا تمتصه، تُعرف باسم المادة المظلمة. هذه المادة اكتُشف وجودها أول مرة في ثلاثينيات القرن العشرين على يد الفيزيائي فريتز زويكي عندما لاحظ أن المجرات في عنقود العذراء تتحرك بطريقة لا يمكن تفسيرها بالمادة المرئية فقط. ومنذ ذلك الحين أصبحت المادة المظلمة لغزًا أساسياً في علم الفلك، إذ يبدو أنها تشكل أكثر من 80 من كتلة الكون، ومع ذلك لم تُرصد مباشرة حتى الآن.
أما نحن، فندور مع الشمس حول مركز المجرة بسرعة تقارب 828 ألف كيلومتر في الساعة، لتكمل الأرض دورة كاملة حول المجرة كل 230 مليون سنة تقريبًا. هذه رحلة لا نشعر بها، لأن كل ما حولنا يتحرك بالسرعة نفسها. وإذا فكرت قليلاً، ستدرك أن موقعنا في الكون أبعد ما يكون عن الثبات. مجرتنا نفسها تتحرك في الفضاء، وتتجه نحو جارتها مجرة أندروميدا، ومن المتوقع أن تندمج المجرّتان بعد نحو أربعة مليارات سنة في مجرة جديدة أطلق عليها العلماء اسم ميلكوميدا.
كل هذه التفاصيل المذهلة تجعلنا ندرك أن دراسة الفلك ليست بحثًا عن أماكن بعيدة، بل عن أصولنا الحقيقية. فالعناصر التي تكوّن أجسامنا وُلدت داخل نجوم قديمة انفجرت قبل مليارات السنين، ناشرة الكربون والحديد والأكسجين في أرجاء المجرة، ثم عادت هذه العناصر لتكوّن الشمس والأرض والحياة. عندما ننظر إلى السماء ليلاً، نحن لا نرى مجرد نجوم، بل نرى تاريخنا الفيزيائي مطويًا في الضوء الذي يسافر نحونا منذ آلاف السنين، يخبرنا أننا أبناء هذا الكون، وأن كل ذرة فينا تنتمي إلى نجم بعيد ذات يوم أضاء المجرة التي نسميها وطنًا.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN