مجالات الإنفاق
ان مفهوم الانفاق في سبيل الله أوسع من أن يحصر في البعد الديني الضيق المتمثل في اعطاء الفقراء الصدقات أو بناء دور العبادة، بل الانفاق يشمل جميع ما يبذله الانسان في سبيل خدمة المجتمع علميا أو ثقافيا أو أخلاقيا، وليس من شك انه لمن صميم الإنفاق في سبيل الله كما في الحديث: (مر عيسى بن مريم بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل فإذا هو ليس يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب ثم مررت به العام فإذا هو ليس يعذب فأوحى الله عز وجل إليه: يا روح الله إنه أدرك له ولد صالح فأصلح طريقا وآوى يتيما فغفرت له بما عمل ابنه)1.
وأن أفضلية الإنفاق تتحدد تبعا الحاجات حسب طبيعة كل مجتمع، فتكمن أهمية التركيز في الانفاق على البعدين الإنساني والتنموي الحضاري، في مقابل الاقبال الحاصل على الانفاق في بعده الديني ، وان كان في بعض المجالات من تقوية الشعائر واظهارها ضروري، الا ان ضعف الإقبال على البعدين الآخرين وحصره في المجال الديني فقط ، اثر على المجتمع وخصوصا في البعد الانساني ، حيث نرى في العراق ان هناك عوائل تفتقد ابسط سبل العيش الكريم ، بل وانعدام السكن الملائم للكثير من العائلات الفقيرة، نعم نشهد نشاطا ملموسا لمؤسسة العين2 لرعاية الايتام في هذا المجال، وشكر الله سعيهم في ذلك ، لكن يحتاج الى تظافر جهود المؤمنين كافة من اجل ايلاء الانفاق في بعده الانساني الاهتمام المناسب ،وهو المعني برعاية الفقراء والأيتام والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة، لأن الانفاق على هذه الفئات ومساعدتهم يعد "من أجلى مصاديق الإنفاق في سبيل الله، والإقراض الذي تعبر عنه الآية الكريمة من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا 3.
ثم ان للإنفاق مجالات كثيرة ومتعددة، نتطرق إليها بشيء من الاختصار:
الإنفاق بالكلمة.
الكلام هو طريقةُ التواصل بين النّاس، والكلمةُ الطيبة هي مفتاحُ النفوس وهي ما يؤلف الله بها بينَ القلوب، ولها أثرٌ ووقعٌ كبيرٌ على النفسِ البشريةِ، وقد وصفها رسول الإنسانية (صلى الله عليه واله وسلم) بالصدقة، بل تصفها الآية الكريمة بأنها أفضل من الصدقة التي يتبعها المنّ والأذى، حيث يقول تعالى: (قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذىً)4 .
فهذه الآية تبين منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعية وكرامتهم، وترى أن أولئك الذين يعاملون المحتاجين باللطف ويقدمون لهم المساعدة والعون اللازم، ولا يفشون أسرارهم، أفضل وأرفع من إنفاق أولئك الأنانيين ذوي النظرة الضيقة الذين إذا قدموا عونا صغيرا يتبعونه بتجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصياتهم.
قال صاحب المواهب قدس الله روحه:
"المعروف: اسم لكل ما يعترف العقل او الشرع بحسنه، فعلا كان او قولا بخلاف المنكر، والمراد به في المقام الرد الجميل المستحسن"5.
أي: هو القول المصحوب بالأخلاق الفاضلة الحميدة، فالإسلام دين أخلاق كما هو دين عقيدة وفكر.
وقد جمعت الآية اهم الاحكام الاجتماعية التي جمعت المصلحة الفردية والمصلحة العامة، فان قول المعروف والمغفرة من الآداب العامة التي تبتهج بها النفوس وتميل اليها القلوب، وتحث على العمل وتبعث العزيمة على البذل وتوجب نمو الانفاق والزيادة.
وقد ورد عن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها، ثم ردوا عليه بوقار ولين إما ببذل يسير أو رد جميل، فإنه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خولكم الله تعالى"6 .

الإنفاق بالعلم والمعرفة.
العلم والمعرفة من أكبر الإمكانيات وأهم المكاسب، وإذا ما توفّر إنسان على مستوى وقدر من العلم، فقد يأخذه الغرور والتعالي على من حولـه، وتسيطر عليه الأنانية فيحتكر العلم والمعرفة لنفسه، ويبخل بها على الآخرين، إلا في حدود خدمة ذاته ومصالحه. لذا جاءت التعاليم الدينية تؤكد على مسؤولية العالم تجاه الناس، وتوجب عليه بذل علمه للمحتاجـين إليه والمنتفعين به.
فقد روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئاً ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته7.
ومن أبرز مجالات بذل العلم: التدريس والتأليف والخطابة. ونسلط الأضواء بشكل سريع على هذه المجالات الثلاث، التي سلكها العلماء، لنشر علمهم وبثه وبذله في المجتمعات البشرية.
التدريس والتعليم:
تتوارث الأجيال العلم عن طريق التعلم، وانتقال الخبرات والمعارف، حيث يلتزم المعلم مجموعة من الراغبين في العلم، ويواظب على تدريسهم وتعليمهم، ضمن منهج وبرنامج محدد، يختلف من عصر إلى آخر.
والتدريس التزام يأخذ من جهد المعلم ووقته، وهو من أبرز مصاديق بذل العلم، وأظهر تجليات القيام بمسئوليته. لذلك يحذر الإمام جعفر الصادق عليه السلام من التهاون في أداء هذا الواجب حيث يقول فيما روي عنه: "إن من العلماء من يحب أن يخزن علمه ولا يؤخذ عنه فذاك في الدرك الأول من النار"8.

الكتابة والتأليف:
ان الإسلام مشروع حضارة، ودين علم ومعرفة، فقد أولى وسائل العلم وأدوات الثقافة، كل اهتمام ورعاية، لذا أشاد القرآن الكريم بالقلم والكتابة، وجعله عنواناً لسورة من سوره، وهي سورة (القلم)، والتي أقسم الله تعالى في مطلعها بالقلم والكتابة ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ9 .
كما أن أول آيات القرآن نزولاً على رسول الله صلى الله عليه واله، كانت دعوة إلى القراءة، وتذكيراً بنعمة القلم ودوره في تعليم الإنسان، كأعظم نعمة على الإنسان بعد نعمة خلقه وإيجاده. يقول تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم10.
والكتابة والتأليف قوة تحتاج إلى استثمار وتوظيف الكثيرين ممن يمتلكون هذه القابلية ، لكي يشهرون القلم سلاحاً في الدفاع عن الأمة الإسلامية التي تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على هويتها، والتمسك بأصالتها، ومواكبة تطورات الحياة، ومعرفة الرؤية الدينية تجاه المشاكل الاجتماعية المعقدة التي تعصف بمجتمعاتنا نتيجة انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وما تسببه من غزو ثقافي غريب وبعيد كل البعد عن قيمنا وموروثنا العربي الإسلامي الاصيل، فللوقوف بوجه يستلزم القيام بحركة علمية وثقافية جادة وواسعة.
ولا يفوتني ان اذكر مثالا للإنفاق على نشر الكتب وطباعتها ما ذكره العلامة الشيخ باقر شريف القرشي (ره) في مقدمة كتابه حياة الامام موسى بن جعفر عليهما السلام، من تقديمه الشكر لاحد المحسنين ممن تكفل بنفقات الطبع، قال رحمه الله: "وقبل انهاء هذا التقديم أرى من الحق ان ارفع آيات الشكر الى حضرة المحسن الكبير الحاج محمد رشاد عجينة لإنفاقه على طبع هذا المجهود وغيره مما الفته في أئمة اهل البيت عليهم السلام ..."11.

الخطابة:
فنّ مخاطبة الجماهير للتأثير عليهم واستمالتهم، وعرّفها ارسطو بأنّها قوة تنطوي على إقناع الناس ما أمكن في كلّ أنواع الأمور.
وهي نوعٌ من أنواع المحادثات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجمهور الذي يسمعها، والذي يتأثر بها.
وكان الأنبياء والرسل يبلغون دعوة الله تعالى للناس بشكل شفهيّ لإقناعهم واستمالتهم لما يُقال، ولقد فرض الإسلام خطاب الجمهور كجزء من الصلاة في صلاة الجمعة والعيدين.
وخطاب الجمهور يقتضي البساطة والوضوح، فهو ليس كالدرس أو الكتابة، ضمن مستوى معين، وبمصطلحات علمية خاصة. لقد كان رسول الله صلى الله عليه واله يخاطب العرب على اختلاف قبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم، كلاً منهم بما يفهمون، ويحادثهم بما يعلمـون.
وفي تاريخنا العديد ممن مارسوا الوعظ والإرشاد الجماهيري فكان لذلك أعظم الأثر في مجتمعاتهم.

الإنفاق بالوقت
للوقت في الإسلام حرمة ومنزلة عظيمة، فقد روي عن الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا أبا ذرّ اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك"12.
ولقد أكّد الإسلام على استغلال الوقت واغتنامه بما ينفع الناس ويحقق مرضاة الله تعالى، ولا يسمح بتضييعه وسوء الاستفادة منه، وما أروع قول الإمام علي (عليه السلام) بهذا الشأن: "العاقل لا يضيع له نفساً فيما لا ينفعه ولا يقتني ما لا يصحيه"13.
لذا ينبغي الاستفادة من الوقت على أفضل حال في عمل الخيرات، وهداية الناس، وزيارة المؤمنين والأرحام، والتعاون معهم بما يرضاه الله تعالى، وعدم صرف الوقت في جلسات اللهو والغيبة، وغيرها من الموارد التي يبغضها الله تعالى.

الإنفاق بالنفس.
هو ما يمثل أعلى مراحل الإنفاق، حيث بذل الإنسان بنفسه رخيصة في سبيل الله. والآيات الكريمة التي تتحدث عن الإنفاق بالنفس وعن عظمته ومنزلته عند الله كثيرة، ولا يمكن إحصاؤها في هذا المختصر.

الإنفاق بالمال.
ويقسم إلى قسمين:
الأوّل: الزكاة والخمس والكفارات وغيرها.
الثاني: الصدقات، وكلامنا يتركز حولها وبيان مدى أهميتها فقد ورد عن ابي عبد الله الصادق (عليه السلام)، انه قال: "لئن أعول أهل بيت من المسلمين أسد جوعتهم وأكسو عورتهم وأكف وجوههم عن الناس أحب إليّ من أن أحجّ حجة وحجة (حتى عدّ عشراً ومثلها حتى بلغ السبعين)"14.
وعنه (عليه السلام): قالَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله): " الأَيْديُ ثَلاثة: سائلةٌ وَ مُنفِقَةٌ وَ مُمْسِكَةٌ، وَ خَيْرُ الأَيْدِي المُنْفِقَة " 15.
والانفاق يشمل جميع ما يبذله الانسان في سبيل الخير سواء كان ذلك من أموال الزكاة أو غيرها، ولكن هل يجب في الأموال شيء غير الزكاة والخمس
روى الترمذي في سننه عن فاطمة ابنة قيس، قالت:
سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: " إن في المال لحقا سوى الزكاة " ثم تلا هذه الآية التي في البقرة:" (ليس البر أن تولوا وجوهكم بل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون)16.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه واله من غير وجه أنه ذكر الزكاة فقال رجل يا رسول الله هل عليّ غيرها ، فقال لا إلا أن تتطوع"17.
وفسر الامام علي بن الحسين عليه السلام هذا الحق ، كما في الحديث :" إنّ رجلاً جاء إلى أبي علي بن الحسين عليه السلام ـ فقال له أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ ) ما هذا الحقّ المعلوم فقال له علي بن الحسين عليه السلام : الحقّ المعلوم الشيء يخرجه من ماله ليس من الزكاة ، ولا من الصدقة المفروضتين ، قال [اي الرجل] : فإذا لم يكن من الزكاة ولا من الصدقة فما هو فقال [عليه السلام]: هو الشيء يخرجه الرجل من ماله إن شاء أكثر ، وإن شاء أقلّ على قدر ما يملك ، فقال له الرجل : فما يصنع به فقال : يصل به رحماً ، ويقوّي به ضعيفاً ، ويحمل به كلاًّ ، أو يصل به أخاً له في الله ، أو لنائبة تنوبه ، فقال الرجل : الله أعلم حيث يجعل رسالاته"18.
هذه خلاصة لأهمّ مجالات الإنفاق، ونحن بحاجة إلى كل الطاقات والجهود مهما كانت ضئيلة، الجهود التي من شأنها أن تسير بالمجتمع الإسلامي قدماً إلى الأمام، وتجعله في مصاف الشعوب المتطورة والمتحضرة.
والكل مطالب بأداء مسؤوليته تجاه دينه ومجتمعه، وبذل الجهود والطاقات في طريق التقوى والإيمان، كل حسب موقعه والشأن الذي هو فيه، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

حرره الاحقر السيد عبدالله مرتضى محمد تقي الحسيني في 25 من جمادى الاخرة 1444
المصادر:
1- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج ٧٢ ص٢.
2- مؤسسة العين للرعاية الاجتماعية مؤسسة إنسانية مستقلة ذات نفع عام تُعنى بشؤون يتامى شهداء الحشد الشعبي ويتامى الشهداء من ضحايا العمليات الإرهابية في العراق وكذلك يتامى المتوفين وفاة طبيعية ممن هم بحاجة إلى رعاية، تم تأسيس المؤسسة سنة 2006.
3- سورة البقرة، الآية 245.
4- سورة البقرة، الآية 263.
5- مواهب الرحمن في تفسير القران، السبزواري، السيد عبد الاعلى (رض):ج4ص364.
6- تفسير القرطبي، ج3ص282.
7- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج 2ص2٧٥ ح 52، عن علي بن سويد السائي قال: كتب إلى أبو الحسن موسى عليه السلام وهو في الحبس: لا تفش ما استكتمتك، أخبرك أن من أوجب حق أخيك أن لا تكتمه شيئا ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته.
8- نفس المصدر السابق، ج2ص108.
9- سورة القلم، الآية 1.
10- سورة العلق، الآية 1-5.
11- حياة الامام موسى بن جعفر عليهما السلام، باقر شريف القرشي: ج1ص18.
12- وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي : ج ١ اص١١٤ .
13- العقل والجهل في الكتاب والسنة ، محمد الريشهري : ص ١٠٩
14- بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج ٧١ص329.
15- الكافي، الكليني(رض):طبعة دار المرتضى :ج ٣ ص 409باب الانفاق ح6.
16- سنن الترمذي، ج3ص39ح659.
17- نفس المصدر السابق ج3ح618.
18- وسائل الشيعة، الحر العاملي: ج9ص49ح11491ط آل البيت (ع).