الى روحِ الشهيدِ (حيدر أودينا زكريا المسيحي)
حيدر عاشور
ما زالت الحياةُ تضيق به، حتى كاد اليأس يرحل الى مجهول الوطنية، فاقد الهوية فيغلق عليه كل منافذ الأمل. الحيرة تنهش قلبه المسيحي، والامل الباقي فيه اشبه بالمضادّ الحيوي، يوقف خراب روحه، فيوقد شموع الاماني في محراب كنيسته، ويهيم في شجن الذاكرة، ويداهم المكان بذكريات لا تنطفئ.. فبغداد الجديدة كانت اول وكر للطفولة ولا تزال لهاثها يذهل لوعته واشتياقه، وسهام الاضداد من التكفيريين تمادت في حرب طائفية كان هو الخاسر الوحيد فيها، ومن بين اشتعالاتها يحصي حرائق محنته.. ولولا انتماؤه الروحي للحسين وبيقينه القلبي باركته السماء، كانت الحياة تعانقه بأمانها كلما داهمه الموت.
هذا هو سر إيثاره، فزهد بحب "علي والحسين" فتحصّن من كل السماسرة، والطبالين والدجالين، ورافق وجهاء النور الحسيني في سرائهم واحزانهم رغم ان ظل المسيحية تترصّد ظله وما بين الظلين كان في حرية البقاء مع الحق مع الارض مع الوطن، متوغلا بين افتراضات الدين والانتماء للأرض؛ يفديهما بدمه اذا عاث بها همجي او عدو مبرمج كان أخا وأنقلب حسب رغبات اسياده في الزمن الذي يعدّ من أجلهِ. هذا ما كان من النواصب حين سنحت فرصة العودة الى صنمهم المنهار خرجوا مع مرتزقة العالم يذبحون ويحرقون كـ(يزيد) في عاشوراء. اما من نسل (حيدر أودينا زكريا ) المسيحي فقد شم تراب الحسين بن علي فدخل في طقوس احزانه وخلع جلباب الطائفية عن قلبه وتمسّك بالزاهدين وتوضأ ضوءه وشرب ماء الفرات في كل محرم فأطلق عليه (الحسيني المسيحي) فارتوي من صوت المذهب واصبح راية من رايات عاشوراء، يشار اليها بالانتماء الروحي، وهي ارهاصات ونداءات ملكوتية بقيت في قلبه مخزونة واسئلة تتدفق في عقله في المسير بطريق الحق وان اختلف في الطائفة. كان يفكّر ببوح عفوي يكسر به كل حواجز التفرقة ما بين المسلم والمسيحي فأصدقاؤه كلهم مسلمون. فكان ندّا لكل من يروم تفكيك وحدة الاخوة المسلمة والعراقية في انتمائها، فحمل السلاح وسهر ليالي بغداد لصد كل وحوش النواصب الذين ظهروا في زمن الانظمة الوحشية التي خلقت فتنة حرب الطوائف. فسجّل " حيدر " بسجل شجعان بغداد بمحاربة اعدائها من الخونة والامريكان، وتنظم ضمن حزب الله فكان يداً حسينية كتائبية صارمة لا تأخذه في الحق ملامة. فتشرّبت روحه بحلم الشهادة، اراد ان يلقي ربه بسلام آمن وبجسد مخضّب بدماء ما يحب من عقيدة تزهد الانسان عن الخطأ وتعمل بإنسانية العظماء من آل محمد. امال واحلام ساطعة لا تقبل التأويل، كان يحلم ويدرك ان الساعة آتية لا ريب، وحلم الشهادة يغريه ان يتوغّل في كل معارك الحق مع الباطل. فجهّز نفسه للموت حين هبّت ريح السموم الداعشية تقتل كل - شيعي ومسيحي وايزيدي- بلا رحمة ولا خوف من خالق الكون والنفس المحرّمة للقتل. وزاد في اصراره حين اعلن الامام السيستاني فتوى الجهاد المقدسة لقتال غربان الشر السود(داعش)، حمل سلاحه وكأنه بدأ سفر الشهادة فكان في كل معركة ينشد: سأحمل روحي على راحتي .. وألقي بها في مهاوي الردى.. فإما حياة تسرّ صديق .. وإما ممات يغيظ العدى.
بهذه الابيات كان يعانق الموت استعدادا لسفر ملكوتي مهيب يزيد من براءته ويقينه بالشهادة التي اختارها (وهب النصراني) في نصرة الامام الحسين "عليه السلام" في كربلاء. وها هو يهبّ ليكون شهيدا لنصرة عراق (علي والحسين) كما هبّ من قبله "وهب"، مستلهما من فحوى نداء الجهاد المقدس للمرجعية الدينية العليا دروس الجهاد الحسيني ضد الارهاب الداعشي، موقناً ان طريق المسيح والانبياء هو طريق واحد لا يسلكه الا احرار العالم؛ بمحاربة اعداء السلام والانسانية.. فرسم بعقيدته ويقينه صولات البطولة التي رفعت من شأنه في كل محفل انتصار الحشد الشعبي على كيان(داعش) التكفيري. كان اسمه دائما في مقدمة الاسماء النبيلة من الطائفة المسيحية التي تعشق ارض العراق والانسان العراقي وتؤمن ان الاسلام هو طريق يساوي في ملكوت الله المسيحية بل هو اخر الاديان الالهية التي يجب ان تتبع. ففي الحالات العصية على الادراك وان كانت المعرفة الحقة هي الدين لله وحده لا يفقهه الا الراسخون في العلم من آل محمد. يجتمع كل الالباب على الارض الواحدة من اجل الحفاظ على العرض والمقدسات من الانتهاك الخارجي، فتوقظ الوطنية كل اشجان القلب فيلتحق الجسد بالقرابين من اجل البقاء. فما كان من " حيدر" الا يكون بطلا مسيحيا بملابس الحشد الشعبي فتحررت بشجاعته أغلب مناطق العراق المغتصبة من (داعش). لم يتوقف عن المشاركة في أي معركة، ولم ينزل الى بغداد يوما لان جميع عائلته قد هاجرت العراق خوفا من (داعش) الداخل و(داعش) القادم بأمر اسياد النواصب. فمنذ ان اصبح يداً حسينية كتائبية لم يعرف الاستراحة والضحك والتزاور، كل همّه ان يكون في معارك الشرف والعقيدة لنيل رضا الله والحسين. فأسرار الرجال الصابرين تدرك بالمنازلة على مناسك الشجاعة. فكان صباح يوم الاثنين 6 / 7 / 2015 الموافق 19 رمضان 1436هجرية يوما لا يشبه أي يوم في حياته كلها. كأن الله اراد ان يمتحن صبره بأصعب الايام ذكرى جرح الامام علي (عليه السلام) والمجاهدون صيام والجزع يأخذ ألمه في قلوبهم بمصاب أميرهم الغالب على كل غالب.. كان "حيدر المسيحي" ينوب عنهم في رصد العدو لان محافظة صلاح الدين كانت بؤرة ومركز الارهاب الداعشي، والكتيبة القتالية تشرف على حماية مداخل قضاء بيجي كان الامر في غاية الخطورة فالمفخخات كانت غربان شر تظهر فجأة وتختفي في الهواء بعد معالجتها، في تلك اللحظة من فجر الاثنين رصد "حيدر" حومة غربان سريعة باتجاه الكتيبة والمجاهدون كانوا في الم المصاب، ما كان منه الا ان يختار ان يكون قربانا فحمل قاذفته مسرعا باتجاه الانذال وهو يردد: يا الله يا حيدر بين حب العراق والحسين مشروع شهادة.
ووقف على بعد مسافة يؤخّر قدر المستطاع قدوم القاتل، كل من المجاهدين طلبوا منه الرجوع فالاستمكان قائم بكل قوة وصبر ولكنه اختار ان ينال الشهادة، وما زال كذلك حتى اختاره الله تعالى لينال على طريق الانبياء احدى الحسنيين وهي "الشهادة". فعرجت روحه بقلب ممتلئ بحب العراق والحسين، فاصبح الشهيد (حيدر أودينا زكريا المسيحي) رمزا خالدا بين شهداء الحشد الشعبي ولا يزال يذكر في القلوب والمجالس.
كان يردّد قبل استشهاده: يا الله.. يا حيدر بين حب العراق والحسين مشروع شهادة.







وائل الوائلي
منذ 23 ساعة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN