اعتبر ممثل المرجعية العليا، والمتولي الشرعي لحرم الإمام الحسين، عليه السلام، سماحة الشيخ عبد المهدي الكربلائي، أن مفهوم الخير اوسع مما يعتقده الناس من حصره في دائرة المال والأولاد.
وأشار خلال خطبته الأولى من صلاة يوم الجمعة، من الصحن الحسيني الشريف، إلى أن الأئمة عليهم السلام نفوا هذا المعنى وخطأوا اعتقاد الناس لمفهوم الخير الذي يراه الكثيرون على أنه الاجتهاد في إكثار المال والاولاد.
وقال سماحته، "كثيراً ما يشتهر في العرف وعند العامة امور لا واقعية لها اصلاً".
ولفت إلى أن نفي المعصومين لاعتقاد الناس بالخير في هذا الاتجاه "قد يكون نفيا حقيقيا والمقصود منه تخطئة الناس في هذا الاعتقاد" على حد قوله.
وفي ما يلي النص الكامل للخطبة الاولى من صلاة الجمعة بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي في 10/شوال/1437هـ الموافق 15 /7 /2016م :
في ما ورد عن امير المؤمنين (عليه السلام) من الحكمة قوله (عليه السلام) حينما سُئل عن الخير ما هو ؟
فقال (عليه السلام) : ليس الخيرُ ان يكثرُ مالُكَ وولدكَ، ولكن الخير ان يكثر علمك، وان يعظُمَ حلمك، وان تباهي الناس بعبادة ربك، فإن احسنت حمدتَ الله وإن اسأتَ استغفرت الله، ولا خير في الدنيا الا لرجلين : رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتوبة ورَجُلٍ يسارِعُ في الخيرات..
وقال (عليه السلام) : لا يَقِلُّ عمل مع التقوى، وكيف يَقِلُّ ما يُتقبّل ؟
قد يقول قائل كيف ينفي الامام (عليه السلام) الخير عن كثرة المال والولد مع ان المال قد يستعمل في الانفاق في سبيل الله تعالى (كالإنفاق لحقوق والجهاد في سبيل الله تعالى والمبرات والخيرات والصدقات وتعمير الارض ومساعدة الفقراء وغير ذلك... وقد قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)-سورة البقرة-.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : (نعم المال الصالح للرجل الصالح).
والعلم قد يكون شراً اذا استخدم في قتل الناس والاضرار بهم..
ونقول في الجواب :
قال الشيخ مغنية في كتابه "في ظلال نهج البلاغة" :
لا يريد الامام (عليه السلام) بقوله هنا ان يوازن بين المال والولد من جهة والعلم من جهة ثانية بل هدفه الرد على من يرى الخير كل الخير في الاموال والاولاد ولا يرى خيراً في غيرها اطلاقاً علماً كان أم حلماً ومن قبل قال المترفون: (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) – سورة سبأ- .
وقال ميرزا حبيب الله الخوئي في منهاج البراعة :
وقد نفى (عليه السلام) في حكمته هذه ان يكون كثرة المال والولد خيرا، على خلاف ما يعتقده عامة الناس من ان الخير في كثرة المال والولد، ويجهدون في تحصيلها وتكثيرها بكل وجه ممكن..
وهذا النفي قد يكون نفيا حقيقيا والمقصود منه تخطئة الناس في هذا الاعتقاد .. وكثيراً ما يشتهر في العرف وعند العامة امور لا واقعية لها اصلا ً ..
واما ان يكون المراد من النفي نفي آثار الخير من كثرة الاموال والاولاد وانها غير مؤثرة في تحصيل السعادة المعنوية ، وربما يكون المراد من هذه الجملة نفي الكمال كما في قوله (عليه السلام) : (يا أشباه الرجال ولا رجال).
وقال الشيخ ابن ميثم البحراني: شرح نهج البلاغة ج5: ص288
الخير في العرف العامي هو كثرة المال والامور الدنيوية، وفي عرف السالكين الى الله تعالى هو السعادة الاخروية وما يكون وسيلة اليها من الكمالات النفسانية..
وقد نفى (عليه السلام) ان يكون الاول خيراً وذلك لفنائه ومفارقته ولما عساه ان يلحق بسببه من الشر في الاخرة وفسّره بالثاني وعدّ فيه كمال القوى الانسانية فكثرة العلم كمال القوة النظرية للنفس العاقلة وعظم الحلم من كمال القوة العملية وهو فضيلة القوة الغضبية ومباهاة الناس بعبادة ربه، أي المفاخرة بها بالكثرة والاخلاص وحمد الله على توفيقه للحسنة واستغفاره للسيئة وذلك من فضائل القوة الشهوية وكمال القوة العملية، ثم حصر في الدنيا امرين : وذلك ان الانسان اما ان يشتغل بمحو السيئات واعدامها، ويتدارك فارط ذنوبه فيعد نفسه بذلك لاكتساب الحسنات او يشتغل بايجاد الحسنات فيها ولا واسطة من الخير المكتسب بين هذين الامرين، ثم حكم بعدم قلة العمل المقرون بتقوى الله تعالى، منبها بذلك على ان تدارك بمحوها، والمسارعة في الخيرات مستلزم للتقوى، وانما كان غير قليل وانه مقبول عند الله، والمقبول عنده مستلزم للثواب العظيم وذلك ترغيب في الامرين المذكورين..
وقال الشيخ منغية (رحمه الله تعالى) في قوله (عليه السلام) : " وان تباهي الناس بعبادة ربك" ليس المراد بالتباهي هنا التفاخر بل المراد ان لا ترى نفسك شيئاً مذكوراً بالمال والولد، بل بالعلم والحلم وطاعة الله وحسن السلوك، فان احسنت حمدت الله الذي هداك الى عمل الخيرات، وان اسأت استغفرت الله من سيئاتك وتداركتها بالتوبة والمسارعة الى العالمات ولا خير في الدنيا.. الشيء الاعظم في كل عمل من الدنيا هو ما ينفعك في الاخرة كالتوبة من الذنب والعمل لخدمة الانسان..
وقال السيد عباس الموسوي" رحمه الله تعالى" في شرحه للنهج ج5 ص272 :
بعض الناس ينظر الى الخير كل الخير في جمع الاموال وكثرة الاولاد وهذا ميزانهم والامام هنا يرد على هذا الميزان بان الخير كل الخير في امور :
ان يكثر علمك لانه الموصل الى مغفرة الله ورضوانه وان يعظم حلمك فلا تغضب لاتفه الاسباب واحقرها بل تكون واسع الصدر تستقبل الامور الصعبة فتحللها وتصبر عليها وان تباهي الناس تفتخر عليهم بعبادة الله لانها الرصيد العظيم الذي يجب ان يتفاضل به الناس وبه ترتفع درجاتهم في الاخرة..
ثم علمنا أمراً وهو ان نحمد الله ان احسنا شكراً له على التوفيق للطاعة وان نستغفره سبحانه وتعالى ان اسأنا واخطأنا..
ثم انه (عليه السلام) اعطى للحياة قيمتها وانه لا يتسحقها الاّ رجلان: رجل اذنب وعصى الله فزلت قدمه وعثر في خشيته فسقط في المعصية فهذا يتدارك ذنبه بالتوبة والانابة الى الله والرجوع اليه والاستغفار فتمحى السيئات ومثل هذا تكون له الحياة بالنسبة له عظيمة وذات قيمة ويستحق البقاء والاستمرار ورجل لم يعصي ولم يخطئ ولكنه صاحب اعمال طيبة وخيرات يبحث عن الحسنات ويدور وراء الاجر والثواب واعمال البر فمثل هذا يستحق الحياة لترتفع درجاته وتعلو منزلته..
واما من يقضي العمر وليس باحد الرجلين فلا فائدة من حياته ولا ثمرة لعمره طال ام قصر فان الدنيا ليس للاكل واللذة والتمتع بالطيبات دون ان تكون ذات هدف عظيم او مرمى بعيد..
فضل العلم :
عن الامام علي (عليه السلام) قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : طلب العلم فريضة على كل مسلم به يطاع الرب وبه توصل الارحام وبه يعرف الحلال والحرام، العلم امام العمل والعمل تابعه يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء..
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : قلب ليس فيه شيء من الحكمة كبيت خرب، فتعلموا وعلموا وتفقهوا ولا تموتوا جهالا ً فان الله لا يعذُر على الجهل.
وعن امير المؤمنين (عليه السلام) : الجهل اصل كل شر.
الحلم : وهو ضبط النفس عند هيجان الغضب فبكسر شوكة الغضب من غير ذل وهو صفة تحمل صاحبها على ترك الانتقام ممن اغضبه مع قدرته على ذلك..
وهو دلالة على كمال العقل وقوة الارادة للسيطرة على النفس الامارة بالسوء.. وهو من صفات الانبياء والائمة الاطهار والحلم يزيّن صاحبه حتى يصبح محبوباً من الجميع..
والحلم هو ان يصبر الانسان مع قدرته على الرد لانه قد يكون في رده زيادة في المشاكل وغير ذلك..
والغضب استجابة لانفعال لدى الانسان يميل به الى الاعتداء باللسان او باليد او بغيره.. ومن آثاره على اللسان انطلاقه بالشتم والفحش وقبح الكلام والكذب والبهتان ومن آثاره ضرب الاخرين والهجوم عليهم وقد يصل الى حد قتل الاخرين ..
عن الامام الصادق (عليه السلام) : ما من جرعة يجرعها العبد احب الى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ما كظمها عبد الا ملأ جوفه أمنا وايمانا..
وعن امير المؤمنين (عليه السلام) : اياك والغضب فأوله جنون وآخره ندم.