اللون الأسود ودلالته:
السواد : اللون المضاد للبياض سَوِدَ فهو أسود , وجمعه سود
[1], ولقد ورد ذكر هذا اللون في القرآن الكريم في ستة مواضع , يخرج الى معاني عدة , بحسب ما يساق له وهي:
الأول : قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشـربُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ}
[2]. ويقصد بهذا السواد , سواد الليل , ومصداق كلامنا , حديث الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) إذ قال الخيط الأبيض: (بياض النهار والخيط الأسود سواد الليل)
[3].
والخيط الأسود هنا فيه قولان :
أحدهما : أنه استعارة وهو ضعيف , لأن في كل استعارة دلالة على حذف المشبه
[4].
الأخر : إنه تشبيه وهذا مختار السكاكي والزمخشـري
[5], فكان لذكر اللون الأسود دلالة مقصودة , تعود بالنفع على المكلف , فهو من باب اللطف الإلهي , فهو علامة للصائم لجواز الأكل والشـرب والجماع من بعد صلاة العشاء الأول إلى صلاة الفجر , فهو ذو دلالة شـرعية تعرف بالحس .
الثاني : قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}
[6]. هذا السواد في هذه الآية فيه قولان :
أحدهما : أن السواد مجاز عن الغم والحزن
[7], فيكون المعنى إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة اسود وجهه حزناً واغتماماً .
الآخر : أن هذا السواد حقيقة , يحصل في وجه الكافر
[8], ولهذا السواد دلالات كثيرة منها :
الترهيب من مصير الكافرين , وما ينالهم من عذاب اليم , والحث على ترك المحرمات وهذا في الدنيا .
سواد الوجه سبباً لمزيد من الغم والحزن والندم على ما فاته من الدنيا .
اتفق قديماً وحديثاً على أنَّ اللون الأسود يدل على الحزن وضيق الصدر .
نكته في تقديم اللون الأبيض على اللون الأسود في القرآن:
قدم اللون الأبيض على اللون الأسود؛ لأن اللون الأبيض يمثل الرحمة , وهي المقصود من الخلق لا إيصال العذاب , قال رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) عن الله : (خلقتهم ليربحوا عليَّ لا لأربح عليهم)
[9], فكان الابتداء به؛ لأنه يمثل أهل طاعته وهم الاشـرف , فكان من باب تقديم الأشـراف على الاخس , وهذا منهج العرب في أدبياتهم , فكانوا يذكرون في مطلع كلامهم ما يسـر ويشـرح الصدر
[10].
الثالث : قال تعالى:{ وَإِذَا بُشـر أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشـر بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
[11].
ومثله قوله تعالى:{وَإِذَا بُشـر أَحَدُهُمْ بِمَا ضـربَ لِلرَّحْمَانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}
[12]. قال الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (ظل وجهه مسوداً) : أي صار متغيراً لما يظهر فيه من اثر الحزن والكراهة , فقد جعلوا لله ما يكرهونه لأنفسهم وهذا غاية الجهل
[13].
إن اسوداد الوجه في هاتين الآيتين كناية عن الغم ؛ وذلك لأن الإنسان إذا فرح وانشـرح صدره وانبسط روح قلبه , ووصل إلى الأطرف , ولاسيما الوجه لما بينهما من التعلق الشديد , وإذا وصل الروح إلى ظاهر الوجه , تلألأ واستنار.
أما إذا قوى غم الإنسان أحتقن الروح في باطن القلب
[14], فيكمد الوجه ويغبره ويعلوه السواد , وعدَّ كناية ؛ لأن السواد من لوازم الغم والحزن والكراهية .
وكذا يفيد التكتم , يقال ساودته : إذا ساررته؛ لأنك تدني سوادك من سواده
[15], فعلى هذا المعنى يكون الذي بشـر بالأنثى يكتم في نفسه حيرة وتردداً وغماً شديداً واضطراباً , وانه يحاول أن يكتم ما رزق به , ومصداق كلامنا قوله تعالى:{يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشـر بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ}
[16].
[1] عبد الباقي : محمد فؤاد: معجم ألفاظ القرآن الكريم 1 :630- 631 .
[2] سورة البقرة: 187.
[3] ظ: الطبري: أبو جعفر محمد بن جرير: جامع البيان 2 : 176 .
[4] ظ: الزمخشري: الكشاف 2 :52 .
[5] المصدر نفسه .
[6] سورة آل عمران :106.
[7] ظ : الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 8 : 183.
[8] ظ: الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 8 :184 . والزمخشري: الكشاف 2 : 52 .
[9] ظ: الفخر الرازي: مفاتيح الغيب 8 :182 .
[10] ظ: الفخر الرازي: مفاتيح الغيب8: 182.
[11] سورة النحل:58 –59.
[12] سورة الزخرف: 17.
[13] ظ: الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن4 : 18.
[14] المصدر نفسه 4 : 18 .
[15] ظ: الزمخشري : أساس البلاغة : 312 .
[16] سورة النحل : 59.