اختُتِمت عصر هذا اليوم الجمعة (7 رجب الأصبّ 1440هـ) الموافق لـ(15 آذار 2019م) فعّالياتُ المؤتمر الدوليّ لعلوم اللّغة العربية وآدابها بين الأصالة والتجديد، الذي تُقيمه العتبةُ العبّاسية المقدّسة بالتعاون مع مؤسّسة بحر العلوم الخيريّة تحت شعار: (الحَوْزَةُ العِلْمِيَّةُ رَائِدَةُ التَّجْدِيدِ)، وذلك على قاعة الإمام الحسن(عليه السلام) للمؤتمرات والندوات في العتبة العبّاسية المقدّسة وسط حضور علمي واكاديمي كبير.
فعالياتُ الختام والتي شهدت حضور المتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة سماحة السيد احمد الصافي ( دام عزه ) ابتُدئت بجلسةٍ بحثيّة دارها الدكتور علي الأعرجي وشهدت قراءةً لملخّصات بحثين، وفيما يلي اسم كلّ باحث وعنوان بحثه:
1- م.م محمد علي عبّود المرعبي: (التدبّر وأثره في انسيابيّة تعلّم علوم اللّغة العربيّة – دراسة في الواقع الحوزويّ وآفاق التطوير).
2- أ.م.د محمد نوري الموسوي و أ.م.د نجلاء حميد مجيد: (كلام الإمام الحسن - عليه السلام - في كتب غريب الحديث.. كتاب -مجمع البحرين- للطريحي أنموذجاً).
أعقبها بعد ذلك الإعلان عن البيان الختاميّ للمؤتمر مع التوصيات التي ألقاها رئيسُ اللّجنة العلميّة والتحضيريّة للمؤتمر الأستاذ الدكتور عقيل الخاقاني، وفيما يلي نصّ البيان والتوصيات:
الحمدُ للّه ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على أفصح مَن نطق بالضاد، رسولِه المصطفى محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وبعد
فلا شكَّ في أنّ الثقافة الاسلامية تختلف عن ثقافات الأديان الاخرى، فهي ثقافة تدور في فلك الدراسات اللغوية والادبية؛ على أنَّ مَن أراد أن يفهمَ الاسلامَ وتشريعاتِه وتعاليمَه لابدَّ من أن يفهم علومَ العربية وآدابَها أولا، وعلى هذا كانت الدراسات الاسلامية في المدينة المنورة قبل أن تنتقل إلى البصرة وغيرِها من الأمصار الاسلامية، لتبلغ ذروتها في الكوفة بعد أن اتخذها الامامُ عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) عاصمةً للدولة الاسلامية، وأسَّس في مسجدها المعظمّ أولَّ مدرسة تُعنى بعلوم الشريعة والفكر واللغة والأدب.
وفي أثناء ذلك ((بقيت الكوفةُ تصبُّ في بحر النجف))، على حدِّ قول الشيخ علي الشرقي رحمه الله، وقد بدأت العمارةُ تتسع في النجف وبدأ السكن ينمو فيها على نحو تدريجي، مع ظهور قبر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في القرن الثاني الهجري، ثمَّ ينتقل الشيخ الطوسي عام (448هـ) إليها، ليُنيخَ برحله فيها ويؤسِّسَ مدرستها العلمية؛ فيتوافد عليها طلابُ العلم، حتى بلغ عدد المجتهدين الذين يحضرون حلقة درسه (300) ثلاثمائة مجتهد، ثمَّ تتزايد الهجرة إلى النجف منذ ذلك الوقت؛ أي منذ أواسط القرن الخامس الهجري، إن لم تكن قبل ذلك، من بلدان شتّى، من لبنان، ولاسيّما جبل عامل والبقاع، ومن حلب وشمال سوريا، ومن البحرين والقطيف، ومن قفقاسيا وإيران وتركستان وأفغانستان والهند واندنوسيا والصين ...، إلى غير ذلك من البلدان، وكلُّ هؤلاء جاءوا لينهلوا من معين النجف، من علومها وآدابها، وليتفقهوا في الدين، ومن ثمَّ ليعودوا إلى بلدانهم أعلاما في الفقه والأصول والفكر والأدب.
ومن اللافت للنظر أنَّ هؤلاء جميعا قد تأثروا بالنجف، بل انصهرت ثقافاتهم المختلفة في ثقافة هذه المدينة المقدسة، وبقيت النجف، في أثناء ذلك وما زالت، مدينة رصينةً عصيةً، محتفظة بطابعها العربي الاسلامي الأصيل، لم تنفصل عن جذورها، برغم ما أصابها من حيف وما أحاط بها من أخطار جمّة، وما مرّت بها من تجاربَ عسيرةٍ، وما انتابها من هزّات عنيفةٍ عبر قرون خلت...
من هنا، عُدّت النجف إحدى الحواضر العربية الاسلامية التي أسهمت، ولمّا تزل تُسهم، في إحياء التراث العربي الاسلامي، ورفد حركة الفكر والثقافة، بما تمتلكه من مقوّمات علمية وثقافية واجتماعية واقتصادية...؛ لذا ليس بدعا على النجف أن يكون لها هذا الدور الكبير والأثر العظيم في الحفاظ على العربية وآدابها، بحوزتها ومجالسها العلمية والأدبية واتحاداتها وجمعياتها ومنتدياتها الفكرية والثقافية والأدبية.
إذن، ليس من أحدٍ يُنكر على علماء النجف وأدبائها حرصهم ودفاعهم عن لغتهم، والعناية بها والحفاظ على سلامتها، غيرْةً على الدين والعربية معا، جزءا من رسالتهم الشرعية والوطنية والعلمية والأخلاقية. ولعلَّ أبرز ما تميّزت به جهود هؤلاء العلماء والأدباء في الحفاظ على العربية، تلك النزعة العقلية النقدية للمدرسة النجفية، بحكم طبيعة هذه المدرسة العلمية التي تقوم على الاجتهاد؛ فلم يقتصر هذا الطابع الاجتهادي العقلي النقدي على مباحث الفقه والأصول، إنّما امتد إلى الدراسات اللغوية والأدبية؛ فبرز علماء حوزيون جمعوا بين العمق المعرفي، والعقل المنهجي، والحسِّ اللغوي، والوعي النقدي.
ومع أنَّ العربية قد أُصيبت، عبر تاريخها الطويل، بعدّة مِحنٍ وأزمات، لعلَّ أشدَّها تلك الموجة التي ركبها عددٌ من أبنائها لطمس معالمها وأصولها، كدعوة بعضهم إلى الكتابة بالعاميّة؛ بدوافعَ وحججٍ شتّى، منها صعوبةُ تعلُّم العربية وعجزُها عن أداء المعاني العلمية. وكان علماء العربية وأدباؤها، ولاسيّما علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف وأساتذتها قد أثبتوا، بما كتبوا من دراساتٍ وبحوث ومقالاتٍ قيّمة في هذا الشأن، أنَّ العربية لغةٌ حيّةٌ قادرةٌ على مواكبة التطورات العلمية والفكرية والاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم اليوم؛ فالله عزّ وجل لا يختم كتبه وصحفه بلغة عاجزة عن أن تكون لكلِّ زمانٍ ومكان.
وهذا ما حمل الجمعية العامة للأمم المتحدة على اعتماد اللغة العربية ـ التي تُعدُّ من أقدم اللغات الحيّة التي حافظت على أصولها وقواعدها ـ؛ لتكون إحدى اللغات الرسمية في المنظمة الدولية، بقرارها ذي الرقم 3190 في الثامن عشر من كانون الأول من عام 1973م، في أثناء انعقاد الدورة (28) الثامنة والعشرين لمنظمة الأمم المتحدة للعلوم والتربية والثقافة (اليونسكو)؛ فأضحت العربية اللغة السادسة، إلى جانب (الانجليزية، الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والصينية)، ومن ثمَّ اعتمد الثامن عشر من كانون الأول من كلِّ عام يوما عالميا للّغة العربية، وذلك في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2012م، في أثناء انعقاد الدورة (190) مائة وتسعين للمجلس التنفيذي لليونسكو.
من هنا شعرت العتبة العباسية المقدّسة ومؤسسة بحر العلوم الخيرية بضرورة أن تُعقدَ إحدى حلقات سلسلة مؤتمراتهم الدولية الموسومة بـ(الحوزة رائدة التجديد) على (اللغة العربية وآدابها)؛ للكشف عن دور علماء الحوزة العلمية وأساتذتها في الحفاظ عليها، تأصيلا وتجديدا، واقعا ومستقبلا، تأليفا ونشرا وتحقيقا وتيسيرا وتعليما لغير الناطقين بالعربية، بما يؤدي إلى قراءة النصِّ الديني، ولا سيّما النصِّ القرآني، قراءة واعية دقيقة، فضلا عن دورهم في إحياء فنون الأدب العربي والتجديد فيها. وهذا ما كشفت عنه بحوث مؤتمرنا هذا.
إذن، نحتاج اليومَ أكثر من أيِّ وقت مضى، إلى قدْرٍ كبير من الوعي والعمل المنهجي؛ لكي نحفظ للغتنا الجميلة ألقها وهيبتها ومكانتها، بما يتناسب مع طبيعة التحديات التي تواجهها.
وفي ضوء ما تقدّم فقد انتهى مؤتمرنا هذا إلى عدّة توصيات، نجملها على النحو الآتي:
التوصيات:
1- إنشاء مجمعٍ للّغة العربية في النجف الأشرف، يُعنى بدور النجف في الحفاظ على لغة القرآن الكريم، تأصيلا وتجديدا وتيسيرا وتأليفا ونشرا وتحقيقا.
2- نشر ثقافة القرآن الكريم، وتأكيد العلاقة الصميمة والمصيرية بين القرآن الكريم من جهة واللغة العربية من جهة أخرى؛ على أنَّ القرآن هو الذي حفظ اللغة العربية من الضياع والعربية هي التي تمكننا من الوقوف على أسرار التعبير القرآني.
3- مخاطبة أقسام اللغة العربية في الجامعات كافّة، بدراسة الجهد اللغوي والأدبي الحوزوي، وأن لا يقتصر البحث فيه على طلبة الدراسات العليا، بتخصيص عدد من عنوانات بحوث التخرّج لطلبة الدراسة الأولية لدراسته؛ فمع أنَّ رسائل جامعية كثيرةً قد كُتبت في هذا الشأن، بيدَ أنَّ جزءا ليس بالقليل منه لم يُكشف عنه بعدُ.
4- عقد المؤتمرات والندوات التي تصبُّ في مجرى الحفاظ على لغتنا الجميلة، على أن يجري الإعداد لها مبكرا؛ لتكون مؤتمراتٍ علمية لا إعلامية، وأن يُدعى إليها أساتذة متخصّصون من شتى البلدان ممّن يُشهد لهم بكفايتهم وحرصهم ورصانتهم العلمية، وأن تنبثق من رحم هذه المؤتمرات والندوات لجانٌ لمتابعة تنفيذ توصياتها.
5- أن تكون العربية الفصحى لغة المحاضرات والمناقشات والمؤتمرات والندوات العلمية والثقافية، والاحتفالات، سواءٌ أكان على الصعيد الحوزوي أم الأكاديمي أو الرسمي
6- تأليف لجان مشتركة من أساتذة الحوزة العلمية والجامعة للنظر فيما يُنشر في الاحتفالات والمناسبات الدينية، بما في ذلك الأشعار والأقوال التي تُنسب إلى الرسول (ص) وأئمة أهل البيت (ع)؛ للتحقّق من صحة صدورها عنهم وسلامة لغتها.
7- تيسير قواعد العربية وتطوير مناهجها وطرائق تدريسها، بما يتناسب مع طبيعة العصر.
8- أن يخضع الطلبة الذين يُقبلون في أقسام اللغة العربية إلى اختبار في (الكفاية اللغوية)، ونحن إذ نثمّن لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي توجيهها بضرورة أن يجتاز الطلبة المتقدمون للدراسات العليا في التخصّصات العلمية والإنسانية كافّة اختبارا في اللغة العربية، شرطا من شروط قبولهم، فإنّا لنرجو أن لا يكون ذلك على سبيل إسقاط الفرض، إنّما يكون اختبارا حقيقيا، وأن يُلزم الذين لا يجتازون هذا الاختبار بالاشتراك في دورةٍ في سلامة اللغة العربية، من شأنها أن ترصِّنَ لغتهم وتؤهلهم لاجتياز هذا الاختبار
9- مخاطبة أقسام اللغة العربية في الجامعات كافّة، بأن لا تكون الخبرة اللغوية للرسائل الجامعية عملية شكلية، بغض النظر عن المبلغ الزهيد المخصّص للمقومين اللغويين؛ ذلك بأنَّ الواجب الشرعي والوطني والعلمي يقتضي أن يقرأ التدريسيون المتخصّصون في اللغة العربية وآدابها رسائل (الماجستير) و (الدكتوراه) التي تصدر عن الأقسام العلمية غير المتخصّصة قراءة دقيقة؛ لتشخيص ما يرد فيها من أغلاط لغوية وتصويبها، ومن ثمَّ إلزام كتّابها بالأخذ بها قبل إجازتها.
10- دعم المجامع العلمية والاتحادات الأدبية معنويا وماديّا؛ بما يصبُّ في مجرى الحفاظ على سلامة اللغة العربية.
11- تخصيص المبالغ الكافية في باب من أبواب الموازنة المالية العامة؛ لتنفيذ الخطط والبرامج التي من شأنها العناية بلغة الضاد.
12- مخاطبة الجهات الرسمية العليا بأهمية وضع ضوابط للحفاظ على سلامة اللغة العربية في مؤسسات الدولة كافّة، والأجهزة الإعلامية (المرئية والمسموعة والمقروءة)، وتفعيل عمل (الخبير اللغوي)، والقوانين والأنظمة التي سُنّت في هذا الشأن؛ على أنَّ اللغة ليست وسيلة للتخاطب فحسب، إنّما هي هويّةُ المتكلم وأسُّ ثقافته وعلومه، ومكنونُ عقله ومدركاته النفسية الشعورية واللاشعورية، ومرآةُ المجتمع في أدبه وثقافته وحضارته، وأداة الترجمة ومحور التواصل والاتصال والحوار الحضاري بين الأمم والشعوب في كلِّ ميادين الحياة الإنسانية وشؤونها، والنافذة الفريدة لفهم العقل البشــري وطبيعتـه؛ لذا إنَّ التخصّص في أيّة لغة، ولاسيّما اللغات الحيّة الفاعلة كالعربية، يتطلب الجمع بين المهارة والمعرفة؛ أي القدرة على التحدّث والمعرفة بعلوم تلك اللغة وآدابها وأساليبها وطرائق تعبيرها، وبخاصّةٍ بعد أن دبَّ اللحنُ فينا حتى وصل إلى خاصّتنا.
وفي الختام تم تكريم الباحثين المشاركين في هذا المؤتمر الَّذين جَاءُوا من مختلف البلدان الاسلامية.