أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-11-2017
9669
التاريخ: 12-11-2017
7689
التاريخ: 12-11-2017
4538
|
قال تعالى : {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا } [نوح : 21 - 28].
{وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} أي نازل دار يعني لا تدع منهم أحدا إلا أهلكته قال قتادة ما دعا بهذا عليهم إلا بعد أن أنزل عليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلذلك قال {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك} أي إن تتركهم ولم تهلكهم يضلوا عبادك عن الدين بالإغواء والدعاء إلى خلافه {ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} وإلا فلم يعلم نوح الغيب وإنما قال ذلك بعد أن أعلمه الله إياه والمعنى ولا يلدوا إلا من يكون عند بلوغه كافرا لأنه لا يذم على الكفر من لم يقع منه فعل الكفر وقال مقاتل والربيع وعطاء إنما قال ذلك نوح (عليه السلام) لأن الله تعالى أخرج من أصلابهم كل من يكون مؤمنا وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة وأخبر الله تعالى نوحا بأنهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمنا فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه فأهلكهم كلهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
ثم دعا لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات فقال {رب اغفر لي ولوالدي} واسم أبيه لمك بن متوشلخ واسم أمه سمحاء بنت أنوش وكانا مؤمنين وقيل يريد آدم وحواء {ولمن دخل بيتي مؤمنا} أي دخل داري وقيل مسجدي عن الضحاك وقيل سفينتي وقيل يريد بيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) {وللمؤمنين والمؤمنات} عامة وقيل من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الكلبي {ولا تزد الظالمين إلا تبارا} أي هلاكا ودمارا قال أهل التحقيق دعا نوح (عليه السلام) دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين فاستجاب الله دعوته على الكافرين فأهلك من كان منهم على وجه الأرض ونرجو أن يستجيب أيضا دعوته للمؤمنين فيغفر لهم .
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص139.
{قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي واتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إِلَّا خَساراً}.
هذا تقرير من نوح أو شكوى يرفعها إلى سيده ، ويقول فيها : إلهي وسيدي أرسلتني لهداية عبادك المشركين ، وقد أديت الرسالة على وجهها ، ولكنهم أعرضوا عني وعنها ، واستجابوا للرؤساء الذين أطغاهم ما هم فيه من الأموال والأولاد ، وكلما ازدادوا مالا وأولادا ازدادوا كفرا وعنادا ونشطوا في محاربة الحق وأهله حرصا على جاههم ومكاسبهم {ومَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} . واو الجماعة في مكروا يعود إلى {مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ووَلَدُهُ إِلَّا خَساراً} لأن معنى {من} الجماعة وهم
الرؤساء الطغاة ، والمراد بمكرهم الأساليب التي كانوا يتبعونها لصد المستضعفين عن الايمان ، ومنها قول أولئك الطغاة للناس : {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} لا تتركوا عبادة الأوثان إلى عبادة إله واحد ، وكان لهم أصنام كثيرة ، وأهمها مكانة وشأنا خمسة ، ولذا خصوها بالذكر ، وقالوا : {ولا تَذَرُنَّ وَدًّا ولا سُواعاً ولا يَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْراً} . وكان نوح يشدد النكير على عبادة هذه الخمسة لأنها أكبر الآلهة .
وقال جماعة من المفسرين : ان هذه الخمسة ظلت تعبد في الجاهلية إلى عهد الرسول الأعظم {ص} ، وان ودا كان لقبيلة كلب ، وسواعا لهذيل ، ويغوث لغطيف ، ويعوق لهمدان ، ونسرا لحمير . . وهناك أصنام أخر لأقوام آخرين كاللات والعزى وهبل ومناة {وقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا} .
واو الجماعة في ضلوا يعود إلى القادة الطغاة ، والمراد ب {ضلالا} الهلاك مثل قوله تعالى : {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ} - 47 القمر . أما زيادة الهلاك فالمراد به القسوة والشدة ، والمعنى أنزل اللهم عذابك الأليم الشديد بقادة الفساد لأنهم ضلوا وأضلوا الكثير من عبادك .
{مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً} . هذه الآية معترضة في كلام نوح ودعائه ، ولكنها تمت إليه بسبب ، ومعناها ان قوم نوح أصروا على الكفر والضلال فأخذهم سبحانه بالطوفان ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى ، ولا ينجيهم منه أحد {وقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} . أي لا تبق منهم أحدا ، وما دعا نوح عليهم بالاستئصال إلا بعد ان نزلت عليه هذه الآية : {وأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} - 36 هود . ونقل الرازي عن المبرد : ان ديارا لا تستعمل إلا في النفي ، يقال : ما في الدار ديار ، ولا يقال : فيها ديار .
{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ ولا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً} . يدل هذا على ان الكفر والفجور قد طغى على مجتمع قوم نوح بحيث لا ينشأ فيه إلا الكافر الفاجر . . ومعلوم ان نفس الطفل كالمرآة ينعكس عليها كل ما يحيط بها . . حتى الكبير يختلف سلوكه بين مجتمع وبين آخر فكيف الصغار ! وروي ان الرجل من قوم نوح كان ينطلق بابنه إليه ، ويقول له : احذر هذا - مشيرا إلى نوح - فإنه كذاب ، وان أبي أوصاني بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير ، وينشأ على ذلك الصغير .
{رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ} . بعد ان دعا على الكافرين سأل اللَّه المغفرة له ولوالديه ، ولمن آمن أهله وأولاده ، وهم الذين عناهم بقوله : {لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} . وأيضا دعا لكل مؤمن ومؤمنة من لدن آدم إلى يوم يبعثون {ولا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً} . لمن آمن الرحمة والغفران ، ولمن كفر الهلاك والنيران .
وجاء في قاموس الكتاب المقدس : {أظهرت الحفريات الأثرية ان الفيضانات واقع ملموس . . وان أقدم قصة للطوفان كتبت غالبا فيما بين 1894 و1595 قبل الميلاد} . أنظر ج 4 من {التفسير الكاشف} ص 237 فقرة {الطوفان ثابت عند الأمم} .
وهنا سؤال يفرض نفسه : هل الطوفان الذي دلت عليه الحفريات وجاء في الأسفار القديمة هو طوفان نوح أو غيره ؟ .
الجواب : أيا كان فليكن ، فإن غير طوفان نوح لا يمنع من وجوده كما ان طوفان نوح لا يستدعي ان لا يوجد سواه ، وفي كل عصر يحدث طوفان أو أكثر في طرف من أطراف الأرض . . وطوفان نوح قد بكون عاما ، وقد يكون خاصا بجزء من أجزاء الأرض ، ولا نص صريح في كتاب اللَّه على أحدهما .
_____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص430-432.
قوله تعالى : {قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا} رجوع منه (عليه السلام) إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم وما ألقاه من القول إليهم من قوله: {ثم إني دعوتهم جهارا} إلى آخر الآيات.
وشكواه السابق له قوله: {فلم يزدهم دعائي إلا فرارا} بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: {رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا}.
وفي الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه (عليه السلام) كانوا يصدون الناس عنه ويحرضونهم على مخالفته وإيذائه.
ومعنى قوله: {لم يزده ماله وولده إلا خسارا} - وقد عد المال والولد في سابق كلامه من النعم - أن المال والولد اللذين هما من نعمك وكان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا وأورثهم ذلك خسرانا من رحمتك.
قوله تعالى: {ومكروا مكرا كبارا} الكبار اسم مبالغة من الكبر.
قوله تعالى: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} توصية منهم بالتمسك بآلهتهم وعدم ترك عبادتها.
وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن ولذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، ولعل تصدير ود وذكر سواع ويغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق ونسر والله أعلم.
قوله تعالى: {وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} ضمير {أضلوا} للرؤساء المتبوعين ويتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: {ومكروا} {وقالوا لا تذرن آلهتكم} وقيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، ولا يخلو من بعد.
وقوله: {ولا تزد الظالمين إلا ضلالا} دعاء من نوح على الظالمين بالضلال والمراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم وفسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.
وقوله تعالى : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا } [نوح : 25 - 28]
تتضمن الآيات هلاك القوم وتتمة دعاء نوح (عليه السلام) عليهم.
قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} إلخ {من} لابتداء الغاية تفيد بحسب المورد التعليل و{ما} زائدة لتأكيد أمر الخطايا وتفخيمه، والخطيئات المعاصي والذنوب، وتنكير النار للتفخيم.
والمعنى: من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقوا بالطوفان فأدخلوا - أدخلهم الله - نارا لا يقدر عذابها بقدر، ومن لطيف نظم الآية الجمع بين الإغراق بالماء وإدخال النار.
والمراد بالنار نار البرزخ التي يعذب بها المجرمون بين الموت والبعث دون نار الآخرة، والآية من أدلة البرزخ إذ ليس المراد أنهم أغرقوا وسيدخلون النار يوم القيامة، ولا يعبأ بما قيل: إن من الجائز أن يراد بها نار الآخرة.
وقوله: {فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا} أي ينصرونهم في صرف الهلاك والعذاب عنهم.
تعريض لأصنامهم وآلهتهم.
قوله تعالى: {وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا} الديار نازل الدار، والآية تتمة دعائه (عليه السلام) عليهم، وكان قوله: {مما خطيئاتهم أغرقوا} إلخ معترضا واقعا بين فقرتي الدعاء للإشارة إلى أنهم أهلكوا لما عد نوح من خطيئاتهم ولتكون كالتمهيد لسؤاله الهلاك فيتبين أن إغراقهم كان استجابة لدعائه، وأن العذاب استوعبهم عن آخرهم.
قوله تعالى: {إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا} تعليل لسؤال إهلاكهم عن آخرهم مفاده أن لا فائدة في بقائهم لا لمن دونهم من المؤمنين فإنهم يضلونهم، ولا فيمن يلدونه من الأولاد فإنهم لا يلدون إلا فاجرا كفارا - والفجور الفسق الشنيع والكفار المبالغ في الكفر.
وقد استفاد (عليه السلام) ما ذكره من صفتهم من الوحي الإلهي على ما تقدم في تفسير قصة نوح من سورة هود.
قوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات} {إلخ} المراد بمن دخل بيته مؤمنا المؤمنون به من قومه، وبالمؤمنين والمؤمنات عامتهم إلى يوم القيامة.
وقوله: {ولا تزد الظالمين إلا تبارا} التبار الهلاك، والظاهر أن المراد بالتبار ما يوجب عذاب الآخرة وهو الضلال وهلاك الدنيا بالغرق، وقد تقدما جميعا في دعائه، وهذا الدعاء آخر ما نقل من كلامه (عليه السلام) في القرآن الكريم.
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص30-33.
لطف اللّه معك :
عندما رأى نوح (عليه السلام) عناد قومه وقد بذل في سبيل هدايتهم منتهى مساعيه التي طالت مئات السنين، وما كانوا يزدادون فيها إلاّ فساداً وضلالاً، يئس منهم وتوجّه إلى ربّه ليناجيه ويطلب منه أن يعاقب قومه، كما نقرأ في هذه الآيات محل البحث، {قال نوح ربّ إنّهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلاّ خساراً}.
تشير هذه الآية إلى أنّ رؤساء هؤلاء القوم يمتازون بكثرة الأموال والأولاد، ولكنّها لا تستخدم لخدمة الناس بل للفساد والعدوان، ولا يخضعون للّه تعالى، وهذه الإمتيازات الكثيرة سببت في طغيانهم وغيهم.
وإذا ما نظرنا إلى تاريخ الإنسان لوجدنا أنّ الكثير من رؤساء القبائل هم من هذا القبيل، من الذين يجمعون المال الحرام، ولهم ذرّية فاسدة، ويفرضون في النهاية أفكارهم على المجتمعات المستضعفة، ويكبّلونهم بقيود الظلم.
ثمّ يضيف في قوله تعالى: {ومكروا مكراً كبّاراً}.
«كبّار» صيغة مبالغة من الكبر، وذكر بصيغة النكرة، ويشير إلى أنّهم كانوا يضعون خططاً شيطانية واسعة لتضليل الناس، ورفض دعوة نوح(عليه السلام)، ومن المحتمل أن يكون عبادة الأصنام واحدة من هذه الخطط والأساليب، وذلك طبقاً للرّوايات التي تشير إلى عدم وجود عبادة الأصنام قبل عصر نوح(عليه السلام) وأن قوم نوح هم الذين أوجدوها، وذكر أنّ في المدّة الزمنية بين آدم ونوح(عليهما السلام) كان هناك اُناس صالحون أحبّهم الناس، ولكن الشيطان «أو الأشخاص الشيطانيين» عمد إلى استغلال هذه العلاقة، وترغّبهم في صنع تماثيل أُولئك الصالحين بحجّة تقديسهم وإجلالهم، وبعد مضي الزمن نسيت الأجيال هذه العلاقة التاريخية، وتصورت أنّ هذه التماثل هي موجودات محترمة ونافعة يجب عبادتها، وهكذا شُغلوا بعبادة الأصنام، وعمد الظالمون والمستكبرون إلى إغفال الناس وتكبيلهم بحبائل الغفلة، وهكذا تحقق المكر الكبير.
وتدل الآية الأُخرى على هذا الأمر، إذ أنّها تضيف بعد الإشارة إلى خفاء هذا المكر في قوله تعالى: {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم}.
ولا تقبلوا دعوة نوح إلى اللّه الواحد، وغير المحسوس، وأكدوا بالخصوص على خمسة أصنام، وقالوا: {ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً}.
ويستفاد من القرائن أنّ لهذه الأصنام الخمسة مميزات وخصائص، وأنّها لقيت عناية بالغة من القوم الظالمين، ولهذا كان رؤسائهم المستغلون لهم يعتمدون على عبادتهم لها.
وهناك روايات متعددة تشير إلى وجود وابتداع هذه الأصنام، وهى:
1 ـ قال البعض: إنّها أسماء خمسة من الصالحين كانوا قبل نوح(عليه السلام) وعندما رحلوا من الدينا اتّخذوا لهم تماثيل لتبقى ذكرى، وذلك بتحريك وإيحاء من إبليس، فوقّروها حتى عبدت تدريجياً بمرّ العصور.
2 ـ قيل أنّها أسماء خمسة أولاد لآدم(عليه السلام) كان كلّما يموت أحدهم يضعون له تمثالاً وذلك لتخليد ذكراه، وبمرور الزمن نُسي ذلك الغرض وأخذوا يروجون عبادتها بكثرة في زمن نوح(عليه السلام).
3 ـ البعض الآخر يعتقد أنّها أسماء لأصنام في زمن نوح(عليه السلام)، وذلك لأنّ نوحاً(عليه السلام) كان يمنع الناس من الطواف حول قبر آدم(عليه السلام) فاتخذوا مكانه تماثيل بإيعاز من إبليس وشغلوا بعبادتها(2).
وهكذا انتقلت هذه الأصنام الخمسة إلى الجاهلية العربية، وانتخبت كل قبيلة واحدة من هذه الأصنام لها، ومن المستبعد أن تكون الأصنام قد انتقلت إليهم، بل إنّ الظاهر هو انتقال الأسماء إليهم ثمّ صنعهم التماثيل لها، ولكن بعض المفسّرين نقلوا عن اين عباس أنّ هذه الأصنام الخمسة قد دفنت في طوفان نوح (عليه السلام)، ثمّ أخرجها الشيطان في عهد الجاهلية ودعا الناس إلى عبادتها(3).
وفي كيفية تقسيم هذه الأصنام على القبائل العربية في الجاهلية، قال البعض: إنّ الصنم (ود) قد اتّخذته قبيلة بني كلب في أراضي دومة الجندل، وهي مدينة قريبة من تبوك تدعي اليوم بالجوف، واتّخذت قبيلة هديل (سواعاً) وكانت في بقاع رهاط، واتّخذت قبيلة بني قطيف أو قبيلة بني مذحج (يغوث)، وأمّا همدان فاتّخذت (يعوق)، واتّخذت قبيلة ذي الكلاع (نسراً)، وهي قبائل حمير(4).
وعلى كل حال، فإنّ ثلاثة منها أي (يغوث ويعوق ونسر) وكانت في اليمن ولكنّها اندثرت عندما سيطر ذو نؤاس على اليمن، واعتنق أهلها اليهودية(5).
يقول المؤرخ الشهير الواقدي: كان الصنم (ود) على صورة رجل، و(سواع) على صورة امرأة و(يغوث) على صورة أسد و(يعوق) على صورة فرس و(نسر) على صورة نسر (الطائر المعروف).(6)
وبالطبع أنّ هناك أصنام أُخرى كانت لعرب الجاهلية، منها «هبل» الذي كان من أكبر أصنامها التي وضعوها داخل الكعبة، وكان طوله 18 ذراعاً، والصنم (أساف) المقابل للحجر الأسود، والصنم (نائلة) الذي كان مقابل الركن اليماني (الزاوية الجنوبية للكعبة) وكذلك كانت (اللات) و(العزى).(7)
ثمّ يضيف عن لسان نوح(عليه السلام): (وقد أضلوا(8) ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً}المراد من زيادة الضلال للظالمين هو الدعاء بسلب التوفيق الإلهي منهم: ليكون سبباً في تعاستهم، أو أنّه دعاء منه أن يجازيهم اللّه بكفرهم وظلمهم ويسلبهم نور الإيمان، ولتحلّ محله ظلمة الكفر.
أو أنّ هذ هي خصوصية أعمالهم التي تنسب إلى اللّه تعالى، وذلك لأنّ كل موجود يؤثر أي تأثير فهو بأمر من اللّه تعالى، وليس هناك ما ينافي الحكمة الإلهية في مسألة الإيمان والكفر والهداية والضلالة ولا يسبب سلب الإختيار.
وبالتالي فإنّ الآية الأخيرة في البحث، يقول اللّه تعالى فيها:
{ممّا خطيئاتهم اُغرقوا فأُدخلوا ناراً فلم يجدوا من دون اللّه أنصاراً}.(9)
تشير الآية إلى ورودهم النّار بعد الطوفان، وممّا يثير العجب هو دخولهم النّار بعد الدخول في الماء! وهذه النّار هي نار البرزخ، لأنّ بعض الناس يعاقبون بعد الموت، وذلك في عالم البرزخ كما هو ظاهر في سياق بعض الآيات القرآنية، وكذا ذكرت الرّوايات أنّ القبر إمّا روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران.
وقيل من المحتمل أن يكون المراد بالنّار هو يوم القيامة، ولكن بما أنّ وقوع يوم القيامة أمر حتمي وهو غير بعيد، فإنّها ذكرت بصورة الفعل الماضي.(10)
واحتمل البعض أنّ المراد هي النّار في الدنيا، حيث يقولون أنّ ناراً قد ظهرت بين تلك الأمواج بأمر من اللّه تعالى وابتلعتهم.(11)
وقوله تعالى : {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا } [نوح: 26 - 28]
على الفاسدين والمفسدين أن يرحلوا:
هذه الآيات تشير إلى استمرار نوح(عليه السلام) في حديثه ودعائه عليهم فيقول تبارك وتعالى: {وقال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً}.
دعا نوح(عليه السلام) بهذا الدعاء عندما يئس من هدايتهم بعد المشقّة والنعاء في دعوته إيّاهمه، فلم يؤمن إلاّ قليل منهم.
والتّعبير بـ «على الأرض» يشير إلى أنّ دعوة نوح(عليه السلام) كانت تشمل العالم، وكذا مجيء الطوفان والعذاب بعده.
«ديار»: على وزن سيار، من أصل دار، وتعني من سكن الدّار، وهذه اللفظة تأتي عادة في موارد النفي المطلق كقول: ما في الدار ديّار، أي ليس في الدار أحد.(12)
ثمّ يستدل نوح(عليه السلام) للعنه القوم فيقول: {إنّك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجر كفّاراً}، وهذا يشير إلى أنّ دعاء الأنبياء ومن بينهم نوح (عليه السلام) لم يكن ناتجاً عن الغضب والإنتقام والحقد، بل إنّه على أساس منطقي، وأنّ نوحاً(عليه السلام) ليس ممن يتضجر ويضيق صدره لأوهن الاُمور فيفتح فمه بالدعاء عليهم. بل إنّ دعا عليهم بعد تسعمائة وخمسين عاماً من الصبر والتألم والدعوة والعمل المضني.
ولكن كيف عرف نوح(عليه السلام) أنّهم لن يؤمنوا أبداً وأنّهم كانوا يضللون من كان على البسيطة ويلدون أولاداً فجرة وكفّاراً.
قال البعض: إنّ ذلك ممّا أعطاه اللّه تعالى من الغيب، واحتُمل أنّه أخذ ذلك عن طريق الوحي الإلهي حيث يقول اللّه تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] (13)
ويمكن أن يكون نوح قد توصل إلى هذه الحقيقة بالطريق الطبيعي والحسابات المتعارفة، لأنّ القوم الذين بلّغ فيهم نوح(عليه السلام)تسعمائة وخمسين عاماً بأفصح الخطب والمواعظ لا أمل في هدايتهم، ثمّ إنّ الغالبية منهم كانوا من الكفار والأثرياء وهذا ممّا كان يساعدهم على إغواء وتضليل الناس، مثل أُولئك لا يلدون إلاّ فاجراً كفّاراً ويمكن الجمع بين هذه الإحتمالات الثّلاثة.
«الفاجر»: يراد به من يرتكب ذنباً قبيحاً وشنيعاً.
«كفّار»: المبالغ في الكفر.
والاختلاف بين هذين اللفظين هو أن أحدهما يتعلق بالجوانب العملية، والآخر بالجوانب العقائدية.
ويستفاد من هذه الآيات أنّ العذاب الإلهي إنّما ينزل بمقتضى الحكمة، فمن يكن فاسداً ومضللاً ولأولاده ونسله لا يستحق الحياة بمقتضى الحكمة الإلهية، فينزل عليهم البلاء كالطوفان أو الصّاعقة والزلازل ليمحو ذكرهم كما غسل طوفان نوح(عليه السلام) تلك الأرض التي تلوثت بأفعال ومعتقدات تلك الأُمة الشريرة، وبما أنّ هذا القانون الإلهي لا يختصّ بزمان ومكان معينين، فإنّ العذاب الإلهي لابدّ أن ينزل إذا ما كان في هذا العصر مفسدون ولهم أولاد فجرة كفّار، لأنّها سنّة إلهية وليس فيها من تبعيض.
ويمكن أن يكون المراد بـ (يضلّوا عبادك) الجماعة القليلة المؤمنة التي كانت مع نوح(عليه السلام)، ولعل المراد منها عموم الناس المستضعفين الذين يتأثرون بالطواغيت.
ثمّ يدعو نوح(عليه السلام)، لنفسه ولمن آمن به فيقول: {ربّ اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً}.(14)
طلب المغفرة هذا من نوح(عليه السلام) كأنّه يريد أن يقول إنني وإن دعوة قومي مئات السنين ولقيت ما لقيت من العذاب والإهانة، ولكن يمكن أن يكون قد صدر منّي الترك الأولى، فلذا أطلب العفو والمغفرة لا اُبريء نفسي أمام اللّه تعالى.
هذا هو حال أولياء اللّه، فإنّهم يجدون أنفسهم مقصرين مع كلّ ما يلاقونه من محن ومصاعب، ولهذا تجدهم غير مبتلين بآفات الغرور والتكبر، وليس كالذين يتداخلهم الغرور عند إتمامهم لعمل صغير ما يمنون به على اللّه تعالى، ويطلب نوح(عليه السلام) المغفرة لعدّة أشخاص وهم:
الأوّل: لنفسه، لئلا يكون قد مرّ على بعض الأُمور المهمّة مروراً سريعاً، ولم يعتن بها.
الثّاني: لوالديه، وذلك تقديراً لما تحمّلاه من متاعب ومشقّة.
الثّالث: لمن آمن به، وإن كانوا قلائل، الذين اصطحبوه في سفينته التي كانت بمثابة الدار له(عليه السلام).
الرّابع: للمؤمنين والمؤمنات على مرّ العصور، ومن هنا يوثق نوح(عليه السلام)العلاقة بينه وبين عموم المؤمنين في العالم، ويؤكّد في النهاية على هلاك الظالمين، وأنّهم يستحقون هذا العذاب لما ارتكبوه من ظلم.
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج14 ، ص468-474.
2 ـ مجمع البيان، تفسير علي بن ابراهيم، تفسير أبو الفتوح الرازي، وتفاسير اُخرى ذيل الآيات التي هي مورد البحث.
3 ـ تفسير القرطبي، ج10، ص6787.
4 ـ مجمع البيان، ج10، ص364، وأعلام القرآن، ص131.
5 ـ المصدر السابق.
6 ـ مجمع البيان، ج10، ص364.
7 ـ المصدر السابق.
8 ـ الضمير في «أضلوا» يعود إلى أكابر قوم نوح(عليه السلام) بقرينة الآية السابقة: {وقالوا لا تذرنّ آلهتكم} واحتمل بعض المفسّرين أنّ الضمير يعود إلى (الآلهة) لأنّها سببت في ضلالهم وجاء ما يشابه ذلك في الآية (36) من سورة ابراهيم(عليه السلام) وبصورة ضمير جمع المؤنث لا ضمير جمع المذكر، وهذا الإحتمال بعيد.
9 ـ «من» في (خطيئاتهم) بمعني باء السببية أو(لام التعليل) و(ما) زائدة للتأكيد.
10 ـ الفخر الرازي ينقل ذلك في تفسيره بعنوان قول من الأقوال في ج30، ص145.
11 ـ تفسير أبو الفتوح الرازي، ج11، ص380.
12 ـ قال البعض أنّ الأصل كان (ديوار) على وزن حيوان ثمّ بدلت الواو بـ (ياء) واُدغمت في الباء الاُولى وصارت ديار (البيان في غرائب القران، ج2، ص465، تفسير الفخر الرازي، ذيل هذه الآيات).
13 ـ ورد هذا المعنى أيضاً في الرّوايات كما في تفسير الثقلين، ج5، ص428.
14 ـ «تبار»: تعني الهلاك، وقيل الضرر والخسارة.
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مكتبة أمّ البنين النسويّة تصدر العدد 212 من مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام)
|
|
|