أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-10-2017
12558
التاريخ: 9-10-2017
9387
التاريخ: 8-10-2017
2628
التاريخ: 8-10-2017
10849
|
قال تعالى : {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَو قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } [الفتح: 18 - 24]
{فعلم ما في قلوبهم } من صدق النية في القتال والكراهة له لأنه بايعهم على القتال عن مقاتل وقيل ما في قلوبهم من اليقين والصبر والوفاء {فأنزل السكينة عليهم } وهي اللطف القوي لقلوبهم والطمأنينة {وأثابهم فتحا قريبا } يعني فتح خيبر عن قتادة وأكثر المفسرين وقيل فتح مكة عن الجبائي {ومغانم كثيرة يأخذونها } يعني غنائم خيبر فإنها كانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار وقيل يعني غنائم هوازن بعد فتح مكة عن الجبائي {وكان الله عزيزا } أي غالبا على أمره {حكيما } في أفعاله ولذلك أمر بالصلح وحكم للمسلمين بالغنيمة ولأهل خيبر بالهزيمة.
ثم ذكر سبحانه سائر الغنائم التي يأخذونها فيما يأتي من الزمان فقال {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها } مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده إلى يوم القيامة {فعجل لكم هذه } يعني غنيمة خيبر {وكف أيدي الناس عنكم } وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما قصد خيبر وحاصر أهلها همت قبائل من أسد وغطفان أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة فكف الله أيديهم عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم وقيل إن مالك بن عوف وعيينة بن حصين مع بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة اليهود من خيبر فقذف الله الرعب في قلوبهم وانصرفوا {ولتكون } الغنيمة التي عجلها لهم {آية للمؤمنين } على صدقك حيث وعدهم أن يصيبوها فوقع المخبر على وفق الخبر {ويهديكم صراطا مستقيما } أي ويزيدكم هدى بالتصديق بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) وما جاء به مما ترون من عدة الله في القرآن بالفتح والغنيمة .
ثم عطف سبحانه على ما تقدم يعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين فتوحا أخر فقال {وأخرى لم تقدروا عليها } معناه ووعدكم الله مغانم أخرى لم تقدروا عليها بعد فتكون أخرى في محل النصب وقيل معناه وقرية أخرى لم تقدروا عليها قد أعدها الله لكم وهي مكة عن قتادة وقيل هي ما فتح الله على المسلمين بعد ذلك إلى اليوم عن مجاهد وقيل إن المراد بها فارس والروم عن ابن عباس والحسن والجبائي قال كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بشرهم كنوز كسرى وقيصر وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم وفتح مدائنهم بل كانوا خولا لهم حتى قدروا عليها بالإسلام.
{قد أحاط الله بها } أي قدر الله عليها وأحاط علما بها فجعلهم بمنزلة قوم قد أدير حولهم فما يقدر أحد منهم أن يفلت قال الفراء أحاط الله بها لكم حتى يفتحها عليكم فكأنه قال حفظها عليكم ومنعها من غيركم حتى تفتحوها وتأخذوها {وكان الله على كل شيء } من فتح القرى وغير ذلك {قديرا ولو قاتلكم الذين كفروا } من قريش يوم الحديبية يا معشر المؤمنين {لولوا الأدبار } منهزمين بنصرة الله إياكم وخذلان الله إياهم عن قتادة والجبائي وقيل الذين كفروا من أسد وغطفان الذين أرادوا نهب ذراري المسلمين {ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا } يواليهم وينصرهم ويدافع عنهم وهذا من علم الغيب وفي الآية دلالة على أنه يعلم ما لم يكن أن لوكان كيف يكون وفي ذلك إشارة إلى أن المعدوم معلوم {سنة الله التي قد خلت من قبل } أي هذه سنتي في أهل طاعتي وأهل معصيتي انصر أوليائي وأخذل أعدائي عن ابن عباس وقيل معناه : هذه طريقة الله وعادته السالفة أن كل قوم إذا قاتلوا أنبياءهم انهزموا وقتلوا {ولن تجد لسنة الله } في نصرة رسله {تبديلا } أي تغييرا {وهو الذي كف أيديهم عنكم } بالرعب {وأيديكم عنهم } بالنهي {ببطن مكة } يعني الحديبية {من بعد أن أظفركم عليهم } ذكر الله منته على المؤمنين بحجزة بين الفريقين حتى لم يقتتلا وحتى اتفق بينهم الصلح الذي كان أعظم من الفتح {وكان الله بما تعملون بصيرا } مر تفسيره .
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9، ص194-207.
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} . يشير سبحانه بهذا إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وانه راض عنها وعن أهلها . وسبق الكلام عن هذه البيعة عند تفسير الآية 10 من هذه السورة بعنوان (خلاصة القصة ) .
فراجع . {فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ومَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها} . الضمير في قلوبهم يعود إلى أهل بيعة الرضوان ، وقد امتلأت قلوبهم
بالصدق والإخلاص للَّه ورسوله ، والمراد بالسكينة الراحة والاطمئنان ، وبالفتح القريب صلح الحديبية حيث كان من آثاره دخول المسلمين مكة معتمرين على كره من قريش ، وفي رواية ان عمر بن الخطاب سأل النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) : أفتح هويا رسول اللَّه ؟ قال : نعم . أما المغانم الكثيرة فقال المفسرون أو أكثرهم : ان المراد بها مغانم خيبر لأنها اشتهرت بكثرة الأموال والعقار . . . والأرجح انها كل غنيمة حصل عليها أهل بيعة الرضوان لأن اللَّه سبحانه أطلق كلمة الغنائم ولم يقرنها بشيء خاص ، وخلاصة المعنى ان اللَّه سبحانه منّ على أهل بيعة الرضوان بالطمأنينة وصلح الحديبية وبنعم كثيرة لأنه قد علم منهم الإخلاص في دينهم والصدق في عزمهم على الجهاد في سبيله تعالى { وكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } . وكل نجاح ناله المسلمون ودفع بهم إلى الأمام فهو أثر من آثار عزة اللَّه وقدرته ، وتدبيره وحكمته .
{وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها } . المغانم الكثيرة هنا كل ما غنمه المسلمون في عهد الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) وبعده ، وعليه يكون الفرق بين المغانم المذكورة في الآية السابقة والمغانم المذكورة في هذه الآية - ان الأولى تختص بأهل بيعة الرضوان تحت الشجرة ، والثانية لجميع المسلمين في كل زمان ومكان { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ } الإشارة بهذه إلى حادثة صلح الحديبية لأن هذا الصلح هو الذي عجله اللَّه للمسلمين ، أما مغانم خيبر فقد كانت بعد هذا الصلح ، ولولا كلمة {هذه } لقلنا : المعجل الصلح ومغانم خيبر معا .
{وكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ } . قال الطبري : اختلف أهل التأويل في المراد بهؤلاء الناس . فقيل : انهم اليهود . وقال آخرون : انهم قريش . . . وفي رأينا ان المراد بهم أعداء الإسلام والمسلمين الذين حاولوا القضاء عليه وعليهم ، وما منعهم إلا الضعف والعجز{ ولِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . في تكون ضمير يعود إلى حادثة صلح الحديبية ، وقد جعلها اللَّه علامة للمؤمنين على انه معهم وناصرهم على أعدائهم . . . ولم تمض الأيام حتى تبين للمؤمنين ان صلح الحديبية كان خيرا لهم وشرا على المشركين {ويَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً } إلى كل ما يعود عليكم بالنفع دنيا وآخرة .
{وأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها} . أخرى صفة لمغانم محذوفة ، والمعنى ان اللَّه وعدكم مغانم تقدرون الآن على أخذها ، وأيضا وعدكم مغانم أخرى تعجزون الآن عن أخذها ، ولكن اللَّه تعالى قد حفظها لكم ، ولا بد أن تأخذوها في المستقبل القريب أو البعيد {وكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } فلا يعجز أن يهبكم من الغنائم فوق ما تتصورون وأكثر مما تأملون {ولَو قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا ولا نَصِيراً }. كأنّ سائلا يسأل : من أين وكيف يغنم المسلمون أموال الكافرين ، هم أقوياء في عدتهم وعددهم ، ويستميتون في الدفاع عن أنفسهم ؟ فأجاب سبحانه بأن اللَّه مع المؤمنين ينصرهم ويدافع عنهم ، واللَّه غالب على أمره . أما الكافرون فلا ملجأ لهم إلا السيف أو الفرار .
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } . من سنن اللَّه تعالى فيمن مضى من أنبيائه إلى خاتمهم محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) أن تكون لهم الغلبة على أعدائهم .
وإذا سأل سائل ان هذا لا يتفق مع الآيات التي نصت بوضوح على أن اليهود كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق - أحلناه إلى الجواب المفصل في ج 5 ص 331 وما بعدها .
{وهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . ضمير هو يعود إليه تعالى ، وضمير أيديهم إلى مشركي قريش . وقيل : ان المراد ببطن مكة الحديبية لأنها قريبة من مكة ، وقال آخرون : ان المراد داخل مكة . . وهذا هو المعنى المتبادر إلى الافهام من كلمة (بطن) وعليه يكون المعنى انكم أيها المسلمون دخلتم مكة من كل أقطارها ظافرين منتصرين ، وخضعت لكم من غير حرب ، وهي عاصمة الشرك ومعقل المشركين . . . وهذا من فضل اللَّه ونعمه الكبرى عليكم ، لأنه هو الذي منعهم من قتالكم بإلقاء الرعب في قلوبهم ، ومنعكم من قتالهم بالنهي عنه . وتجدر الإشارة إلى أن صلح الحديبية كان في سنة ست ، وعمرة القضاء في سنة سبع ، وفتح مكة في سنة ثمان .
____________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7،ص 94-96.
فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممن كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خروجه إلى الحديبية فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة ثم يمتن عليهم بإنزال السكينة وإثابة فتح قريب ومغانم كثيرة يأخذونها.
ويخبرهم – وهو بشرى - أن المشركين لو قاتلوهم لانهزموا وولوا الأدبار وأن الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم لا يخافون فإنه تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولوكره المشركون.
قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقي ما يلائمها وتقبله من غير دفع، ويقابله السخط، وإذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة والجزاء الحسن دون الهيأة الطارئة والصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.
والرضا - كما قيل - يستعمل متعديا إلى المفعول بنفسه ومتعديا بعن ومتعديا بالباء فإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، وعلى المعنى نحو: رضيت إمارة زيد، قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وإذا عدي بعن دخل على الذات كقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } [البينة: 8] ، وإذا عدي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى: {أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة}.
ولما كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة والجزاء، والجزاء إنما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات وعدي بعن كما في الآية {لقد رضي الله عن المؤمنين} نوع عناية استدعى عد الرضا وهو متعلق بالعمل متعلقا بالذات وهو أخذ بيعتهم التي هي متعلقة الرضا ظرفا للرضى فلم يسع إلا أن يكون الرضا متعلقا بهم أنفسهم.
فقوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة.
وقد كانت البيعة يوم الحديبية تحت شجرة سمرة بها بايعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من معه من المؤمنين وقد ظهر به أن الظرف في قوله: {إذ يبايعونك} متعلق بقوله: {لقد رضي} واللام للقسم.
قوله تعالى: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} تفريع على قوله: {لقد رضي الله} إلخ، والمراد بما في قلوبهم حسن النية وصدقها في مبايعتهم فإن العمل إنما يكون مرضيا عند الله لا بصورته وهيئته بل بصدق النية وإخلاصها.
فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النية وإخلاصها في مبايعتهم لك.
وقيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم.
والسياق لا يساعد على شيء من هذين الوجهين كما لا يخفى.
فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيتهم الصادقة المخلصة في المبايعة كما ذكر، وعلمه تعالى بنيتهم الموصوفة بالصدق والإخلاص سبب يتفرع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبب متفرع على الرضا، ولازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.
قلت: كما أن للمسبب تفرعا على السبب من حيث التحقق والوجود كذلك للسبب - سواء كان تاما أو ناقصا - تفرع على المسبب من حيث الانكشاف والظهور، والرضا كما تقدم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح وما يثيب به ويجزي صاحب العمل، والذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم وإنزاله السكينة عليهم وإثابتهم فتحا قريبا ومغانم كثيرة يأخذونها.
فقوله: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة} إلخ، تفريع على قوله: {لقد رضي الله عن المؤمنين} للدلالة على حقيقة هذا الرضا والكشف عن مجموع الأمور التي بتحققها يتحقق معنى الرضا.
ثم قوله: {فأنزل السكينة عليهم} متفرع على قوله: {فعلم ما في قلوبهم} وكذا ما عطف عليه من قوله: {وأثابهم فتحا قريبا{ إلخ.
والمراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق وكذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، وقيل: المراد بالفتح القريب فتح مكة، والسياق لا يساعد عليه.
وقوله: {وكان الله عزيزا حكيما} أي غالبا فيما أراد متقنا لفعله غير مجازف فيه.
قوله تعالى: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه} إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم التي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبية أعم من مغانم خيبر وغيرها فتكون الإشارة بقوله: {فعجل لكم هذه} إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة وهي مغانم خيبر نزلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.
هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، وأما على ما قيل: إن الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله: {فعجل لكم هذه} ظاهر لكن المعروف نزول السورة بتمامها في مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية بينها وبين المدينة.
وقيل: الإشارة بهذه إلى البيعة التي بايعوها تحت الشجرة وهوكما ترى.
وقوله: {وكف أيدي الناس عنكم{ قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد وغطفان هموا بعد مسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين وعيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب وكف أيديهم.
وقيل: المراد مالك بن عوف وعيينة بن حصين مع بني أسد وغطفان جاءوا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، وقيل: المراد بالناس أهل مكة ومن والاها حيث لم يقاتلوه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورضوا بالصلح.
وقوله: {ولتكون آية للمؤمنين} عطف على مقدر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح والغنائم الكثيرة المعجلة والمؤجلة لمصالح كذا وكذا ولتكون آية للمؤمنين أي علامة وأمارة تدلهم على أنهم على الحق وأن ربهم صادق في وعده ونبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق في إنبائه.
وقد اشتملت السورة على عدة من أنباء الغيب فيها هدى للمتقين كقوله: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا} إلخ، وقوله: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم} إلخ، وقوله: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون} إلخ، وما في هذه الآيات من وعد الفتح والمغانم، وقوله بعد: {وأخرى لم تقدروا عليها} إلخ، وقوله بعد: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا} إلخ.
وقوله: {ويهديكم صراطا مستقيما} عطف على {تكون} أي وليهديكم صراطا مستقيما وهو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحق وبسط الدين، وقيل: هو الثقة بالله والتوكل عليه في كل ما تأتون وتذرون، وما ذكرناه أوفق للسياق.
قوله تعالى: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا} أي وغنائم أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة وكان الله على كل شيء قديرا.
فقوله: {أخرى} مبتدأ و{لم تقدروا عليها} صفته وقوله: {قد أحاط الله بها} خبره الثاني وخبره الأول محذوف، وتقدير الكلام: وثمة غنائم أخرى قد أحاط الله بها.
وقيل: قوله: {أخرى} في موضع نصب بالعطف على قوله: {هذه} والتقدير: وعجل لكم غنائم أخرى، وقيل: في موضع نصب بفعل محذوف، والتقدير: وقضى غنائم أخرى، وقيل: في موضع جر بتقدير رب والتقدير: ورب غنائم أخرى وهذه وجوه لا يخلو شيء منها من وهن.
والمراد بالأخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، وقيل: المراد غنائم فارس والروم، وقيل: المراد فتح مكة والموصوف محذوف، والتقدير: وقرية أخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، وأول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: {ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا} خبر آخر ينبئهم الله سبحانه ضعف الكفار عن قتال المؤمنين بأنفسهم وأن ليس لهم ولي يتولى أمرهم ولا نصير ينصرهم، ويتخلص في أنهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم ولا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، وهذا في نفسه بشرى للمؤمنين.
قوله تعالى: {سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا} {سنة الله} مفعول مطلق لفعل مقدر أي سن سنة الله أي هذه سنة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه والمؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم وأخلصوا نياتهم على أعدائهم من الذين كفروا ولن تجد لسنة الله تبديلا كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [المجادلة: 21].
ولم يصب المسلمون في شيء من غزواتهم إلا بما خالفوا الله ورسوله بعض المخالفة.
قوله تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم} إلخ، الظاهر أن المراد بكف أيدي كل من الطائفتين عن الأخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبية وهي بطن مكة لقربها منها واتصالها بها حتى قيل إن بعض أراضيها من الحرم وذلك أن كلا من الفئتين كانت أعدى عدو للأخرى وقد اهتمت قريش بجمع المجموع من أنفسهم ومن الأحابيش، وبايع المؤمنون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يقاتلوا، وعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يناجز القوم، وقد أظفر الله النبي والذين آمنوا على الكفار حيث دخلوا أرضهم وركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كف أيدي الكفار عن المؤمنين وأيدي المؤمنين عن الكفار بعد إظفار المؤمنين عليهم وكان الله بما يعملون بصيرا.
______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18 ، ص231-235.
رضي الله عن المشتركين في بيعة الرضوان:
ذكرنا آنفاً أنّه في الحديبيّة جرى حوار بين ممثلي قريش والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من ضمن السفراء (عثمان بن عفان) الذي تشدّه أواصر القُربى بأبي سفيان، ولعلّ هذه العلاقة كان لها أثر في انتخابه ممثلاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعثه إلى أشراف مكّة ومشركي قريش ليطلعهم على أنّ النّبي لم يكن يقصد الحرب والقتال بل هدفه زيارة بيت الله واحترام الكعبة المشرّفة بمعية أصحابه.. إلاّ أنّ قريشاً أوقفت عثمان مؤقتاً وشاع على أثر ذلك بين المسلمين أنّ عثمان قد قُتل! فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا أبرح مكاني هذا حتى أقاتل عدوّي!
ثمّ جاء إلى شجرة هناك فطلب من المسلمين تجديد البيعة تحتها، وطلب منهم أن لا يقصّروا في قتالهم المشركين وأن لا يُولّوا أدبارهم من ساحات القتال(2).
فبلغ صدى هذه البيعة مكّة واضطربت قريش من ذلك بشدّة واطلقوا عثمان.
وكما نعرف فإنّ هذه البيعة عرفت ببيعة الرضوان وقد أفزعت المشركين وكانت منعطفاً في تاريخ الإسلام.
فالآيتان محل البحث تتحدّثان عن هذه القصة فتقول الأولى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
والهدف من هذه البيعة الإنسجام أكثر فأكثر بين القوى وتقوية المعنويات وتجديد التعبئة العسكرية ومعرفة الأفكار واختبار ميزان التضحية من قبل المخلصين الأوفياء!
وهذه البيعة أعطت روحاً جديداً في المسلمين لأنّهم أعطوا أيديهم إلى النبيّ وأظهروا وفاءهم من أعماق قلوبهم.
فأعطى الله هؤلاء المؤمنين المضحّين والمؤثرين على أنفسهم نفس رسول الله في هذه اللحظة الحسّاسة والذين بايعوه تحت الشجرة أعطاهم أربعة أجور، ومن أهمّ تلك الأجور والاثابات الأجر العظيم وهو{رضوانه} كما عبّرت عنه الآية (72) من سورة التوبة {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72].. أيضاً.
ثمّ تضيف الآية قائلة: {فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم}.
سكينة واطمئناناً لا حدّ لهما، وهم بين سيل الأعداء في نقطة بعيدة عن الأهل والديار والعدو مدجّج بالسلاح، في حين أن المسلمين عُزّل من السلاح «لأنّهم جاؤوا بقصد العمرة لا من أجل المعركة} فوقفوا كالجبل الأشم لم يجد الخوف طريقاً إلى قلوبهم!.
وهذا هو الأجر الثّاني والموهبة الإلهية الأُخرى، وأساساً فإنّ الألطاف الخاصة والإمدادات الإلهية تشمل حال المخلصين والصادقين.
لذلك فإنّنا نقرأ حديثاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه!: (إنّ العبد المؤمن الفقير ليقول يا ربّ ارزقني حتى افعل كذا وكذا من البرّ ووجوه الخير فإذا علم الله عزَّ وجلَّ ذلك منه بصدق نيّته كتب الله له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله إنّ الله واسع كريم)(3).
وفي ذيل هذه الآية إشارة إلى الأجر الثّالث إذ تقول الآية: {وأثابهم فتحاً قريباً}.
أجل، هذا الفتح وهو فتح خيبر كما يقول أغلب المفسّرين
الأمثل / الجزء السادس عشر / صفحة -وإن كان يرى بعضهم أنّه فتح مكّة- هو ثالث أجر وثواب للمؤمنين المؤثرين، المضحّين.
والتعبير بـ{قريباً} تأييد على أنّ المراد منه (فتح خيبر)، لأنّ هذا الفتح حدث وتحقّق بعد بضعة أشهر من قضيّة الحديبيّة وفي بداية السنة السابعة للهجرة!
والأجر الرابع أو النعمة الرابعة التي كانت على أثر بيعة الرضوان من نصيب المسلمين كما تقول الآية التالية هي: {ومغانم كثيرة يأخذونها}.
وواحدة من هذه الغنائم الكثيرة هي (غنائم خيبر) التي وقعت في أيدي المسلمين بعد فترة قصيرة من قضية الحديبيّة، ومع الإلتفات إلى ثروة اليهود الكثيرة جدّاً تعرف أهمية هذه الغنائم.
إلاّ أنّ تحديد هذه الغنائم بغنائم خيبر لا دليل قطعي عليه، ويمكن عدّ الغنائم الأُخرى التي وقعت في أيدي المسلمين خلال الحروب الإسلامية بعد فتح (الحديبيّة) في هذه الغنائم الكثيرة!
وحيث أنّ على المسلمين أن يطمئنوا بهذا الوعد الإلهي اطمئناناً كاملاً فإنّ الآية تضيف في الختام: {وكان الله عزيزاً حكيماً}.
فإذا ما أمركم في الحديبيّة أن تصالحوا فإنّما هو على أساس من حكمته، حكمة كشف عن إسرارها الأستار مضي الزمن، وإذا ما وعدكم بالفتح القريب والغنائم الكثيرة فهو قادر على أن يُلبس وعده ثياب الإنجاز والتحقّق!
وهكذا فإنّ المسلمين المضحّين الأوفياء أولي الإيمان والإيثار اكتسبوا في ظل بيعة الرضوان في تلك اللحظات الحسّاسة انتصاراً في الدنيا والآخرة، في حين أنّ المنافقين الجهلة وضعاف الإيمان احترقوا بنار الحسرات!
ونختم حديثنا بكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يتحدّث عن بسالة المسلمين الأوائل وثباتهم وجهادهم الذي لا نظير له ويخاطب ضعاف الإيمان موبّخاً إيّاهم على خذلانهم فيقول: (فلمّا رأى الله صدقنا أنزل بعدوّنا الكبت وأنزل علينا النصر حتى استقر الإسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه ولعمري لوكنّا نأتي ما أتيتم. ما قام للدين عمود. ولا اخضرّ للإيمان عود وأيم الله لتحتلبنّها دماً ولتتبعنّها ندماً!)(4).
وقوله تعالى : {وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِىَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ ءآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً( 20 ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيراً}
من بركات صلح الحديبيّة مرّةً أخرى!
تتحدّث هاتان الآيتان كالآيات السابقة المتعلّقة بصلح الحديبيّة والوقائع التالية لها ـ عن البركات وما حصل عليه المسلمون من غنائم في هذا الطريق.
فتقول الآية الأولى منهما: {وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه}.
ويدلّ لحن الآية أنّ المراد من المغانم الكثيرة هنا جميع المغانم التي جعلها الله للمسلمين سواءً في أمد قصير أم بعيد حتى أنّ جمعاً من المفسّرين يعتقدون أنّ المغانم التي تقع في أيدي المسلمين إلى يوم القيامة داخلة في هذه العبارة أيضاً.
أمّا قوله: {فعجّل لكم هذه} فيرى الكثير من المفسّرين أنّ المراد منه مغانم خيبر التي توفّرت خلال أمد قصير جداً بعد حادثة الحديبيّة!
غير أنّ البعض يرى أنّ كلمة (هذه) إشارة إلى فتح الحديبيّة الذي يُعدّ أكبر غنيمة معنوية!.
ثمّ يشير القرآن إلى لطف آخر من ألطاف الله على المسلمين ـ في هذه الحادثة ـ فيقول: {وكفّ أيدي الناس عنكم}.
وهذا لطف كبير أن يكون المسلمون على قلة العَدد والعُدد وفي نقطة نائية عن الوطن وفي مقربة من العدوـ في مأمن منه وأن يلقي الله رعباً ووحشة منهم في قلوب الأعداء بحيث يخشون التحرش بهم!.
ويرى جماعة من المفسّرين أنّ هذه الجملة إشارة إلى ما جرى في خيبر إذ كانت بعض القبائل من (بني أسد) و(بني غطفان) قد صمّموا أن يهجموا على المدينة في غياب المسلمين وأن ينهبوا أموالهم ويأسروا نساءهم!
أو أنّها إشارة إلى تصميم جماعة من هاتين القبيلتين على أن ينهضوا لنصرة يهود خيبر فألقى الله الرعب في قلوبهم فصرفهم عن ذلك.
غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب ظاهراً! لأنّنا نشاهد شرطاً لهذا التعبير بعد بضعة آيات ورد في شأن أهل مكّة كما جاء في الآية محل البحث، وهو منسجم مع أسلوب القرآن الذي هو أسلوب إجمال وتفصيل!
المهم أنّه طبقاً للرّوايات المشهورة فإنّ سورة الفتح جميعها نزلت بعد حادثة الحديبية وخلال عودة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكّة إلى المدينة!
ثمّ يضيف القرآن في تكملة الآية مشيراً إلى نعمتين كُبريين أُخريين من مواهب الله ونعمه إذ يقول: {ولتكون آية للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً}.
وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين يرى أنّ الضمير في لتكون عائد على الغنائم الكثيرة الموعودة، وبعضهم يراه عائداً على حماية المسلمين وكف أيدي الناس عنهم، غير أنّ المناسب أن يعود الضمير إلى جميع حوادث الحديبية ومجرياتها بعد ذلك.. لأنّ كلاًّ منها آية من آيات الله ودليل على صدق النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ووسيلة لهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وكان في قسم منها (جنبة) أخبار بالمغيّبات، وكان بعضها لا ينسجم مع الظروف العادية، وهي في المجموع تعدّ معجزة واضحة من معاجز النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفي الآية التالية أعطى الله بشارةً أُخرى للمسلمين إذ قال: {وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كلّ شيء قديراً}.
وهناك كلام بين المفسّرين في أنّ هذا الوعد يشير إلى أية غنيمة؟ والى أي نصر؟!
يرى بعضهم أنّه إشارة إلى فتح مكّة وغنائم حنين.
ويرى آخرون أنّه إشارة إلى الفتوحات والغنائم التي كانت نصيب المسلمين بعد النّبي (كفتح فارس والروم ومصر) كما يحتمل أيضاً أنّه إشارة لجميع ما تقدّم ذكره(5).
عبارة (لم تقدروا عليها) إشارة إلى أنّ المسلمين لم يحتملوا قبل ذلك أن يظفروا بمثل هذه الفتوحات والغنائم، إلاّ أنّه وببركة الإسلام والإمدادات الإلهية نالوا هذه القدرة والقوّة!
واستنبط بعض المفسّرين من هذه الجملة أنّ المسلمين كانوا يتحدّثون عن مثل هذه الفتوحات، إلاّ أنّهم كانوا يرون أنفسهم غير قادرين وخاصّة أنّنا نقرأ في قصة الأحزاب يوم بشّر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسلمين بفتح بلاد فارس والروم واليمن اتخذ المنافقون كلامه هزواً!
وجملة (قد أحاط الله بها) إشارة إلى إحاطة قدرة الله على هذه الغنائم أو الفتوحات، ويرى بعض المفسّرين أنّها إشارة إلى إحاطة علمه، غير أنّ المعنى الأوّل أكثر انسجاماً مع تعابير الآية الأُخرى، وبالطبع لا مانع في الجمع بينهما وأخيراً فإنّ آخر جملة في الآية {وكان الله على كلّ شيء قديراً} هي في الحقيقة بمنزلة بيان العلة للجملة السابقة، وهي إشارة إلى أنّه مع قدرة الله على كلّ شيء فلا عجب أن ينال المسلمون مثل هذه الفتوحات!.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية من إخبار القرآن بالمغيّبات والحوادث الآتية، وقد حدثت هذه الفتوحات في مدة قصيرة وكشفت عن عظمة هذه الآيات بجلاء!
وقوله تعالى : {وَلَو قَتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوَلَّوُا الاَْدْبَرَ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( 21 ) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً( 22 ) وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً( 23 ) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْىَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْم لِيُدْخِلَ اللهُ فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَو تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوْا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً}:
لو حَدَثتِ الحرب في الحديبيّة!؟
هذه الآيات تتحدّث أيضاً عن أبعاد أُخر لما جرى في الحديبيّة وتشير إلى (لطيفتين) مهمّتين في هذا الشأن!
الأولى: هي أنّه لا تتصوّروا أنّه لو وقعت الحرب بينكم وبين مشركي مكّة في الحديبيّة لانتصر المشركون والكفرة! {ولو قاتلكم الذين كفروا لولّوا الأدبار ثمّ لا يجدون وليّاً ولا نصيراً}.
وليس هذا منحصراً بكم بل: {سنّة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلاً}.
فهذا هو قانون إلهي دائم، فمتى واجه المؤمنون العدو بنيّات خالصة وقلوب طاهرة ولم يضعفوا في أمر الجهاد نصرهم الله على عدوّهم، وربّما حدث في هذا الشأن إبطاء أو تعجيل لامتحان المؤمنين أو لأهداف أخرى، ولكنّ النصر النهائي على كل حال هو حليف المؤمنين..
لكن في موارد كمعركة أحد مثلاً حيث أنّ جماعة لم يتّبعوا أمر الرّسول ومالت طائفة منهم إلى الدنيا وزخرفها فلوّثت نياتها وعكفت على جمع الغنائم فإنّها ذاقت هزيمة مرّة، وهكذا بعد!
اللطيفة المهمّة التي تبيّنها الآيات هي أن لا تجلس قريش فتقول: مع الأسف إنّنا لم نقاتل هذه الطائفة القليلة العدد، أسفاً إذ بلغ (الصيد) مكّة فغفلنا عنه.. أبداً ليس الأمر كذلك.. فبالرغم من أنّ المسلمين كانوا قلّة وبعيدين عن الوطن والمأمن وفاقدين للأعتدة والمؤن. ولكن مع هذه الحال لو وقع قتال بين المشركين والمؤمنين لانتصر المؤمنون ببركة قوى الإيمان ونصر الله أيضاً.. ألم يكونوا في بدر أو الأحزاب قلة وأعداؤهم كثرة، فكيف انهزم الجمع وولّوا الدبر في المعركتين؟!
وعلى كلّ حال فإنّ بيان هذه الحقيقة كان سبباً لتقوية روحية المؤمنين وتضعيف روحية الأعداء وإنهاء القيل والقال من قبل المنافقين، ودلّ على أنّه حتى لو حدثت حرب في هذه الظروف غير الملائمة بحسب الظاهر فإنّ النصر سيكون حليف المؤمنين الخُلّص!.
واللطيفة الأُخرى التي بيّنتها هذه الآيات أنّها قالت: {وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكّة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيراً}.
حقاً.. كان ما حدث مصداقاً جليّاً (للفتح المبين) ونعمَ ما اختاره القرآن له من وصف، فالعدو الذي زحف بجيشه مراراً نحو المدينة وسعى سعياً عجيباً لإيقاع الهزيمة بالمسلمين، إلاّ أنّه الآن حيث حطّوا أقدامهم في حريمه ودياره يمتلكه الرعب منهم حتى أنّه يقترح الصلح معهم، فأيّ فتح مبين أكبر من هذا الفتح إذ ينال المسلمون هذا التفوّق على العدو دون أن تسفك قطرة دم واحدة من المسلمين!؟
ولا شكّ أنّ ما جرى في الحديبيّة كان يعدّ في جزيرة العرب عامة نصراً للمسلمين وهزيمة لقريش.
هذا وقد ذكر جماعة من المفسّرين في نزول هذه الآية أنّ مشركي مكّة عبّؤوا أربعين رجلاً للهجوم على المسلمين (بصورة خفية) في الحديبيّة، غير أنّ المسلمين أفشلوا مؤامرتهم وأجهضوا مكيدتهم ـ بفطنتهم ـ فأسر المسلمون هؤلاء الأربعين جميعاً وجاءوا بهم إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخلّى عنهم سبيلهم.
وقال بعضهم: أنّهم كانوا ثمانين أرادوا أن يهجموا على المسلمين من جبل التنعيم عند صلاة الغداة وبالاستفادة من العتمة، وقال بعضهم: كان النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)يستظلّ تحت الشجرة ليكتب معاهدة الصلح مع ممثل قريش وعلي مشغول بالإملاء، فحمل عليه ثلاثون شابّاً من أهل مكّة بأسلحتهم ولكن بمعجزة مذهلة فشلت خطتهم وأُسر جميعهم وخلّى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم سبيلهم(6).
وطبقاً لشأن النّزول هذا فإنّ جملة (من بعد أن أظفركم عليهم) إشارة إلى الإنتصار على هذه الطائفة، في حين أنّه طبقاً للتفسير السابق يكون المقصود هو النصر الكلّي للمسلمين على المشركين وهذا التّفسير أكثر انسجاماً مع مفاد الآية..
ممّا يستلفت النظر أنّ القرآن يؤكّد على عدم القتال في بطن مكّة، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى لطيفتين:
الأولى: إنّ مكّة كانت مركزاً لقوّة العدو، وعلى القاعدة كان على أهل مكّة
[المشركين] أن يغتنموا الفرصة المناسبة فيحملوا على المسلمين فقد كانوا يبحثون عنهم وعن فرصة للقضاء عليهم فإذا هم في دارهم وفي قبضتهم فما كان ينبغي أن يتركوا هذه الفرصة بهذه البساطة، لكنّ الله سلب عنهم قدرتهم وصرفهم عنهم!
الثانية: إنّ مكّة كانت حرم الله الآمن. فلو وقع القتال فيها لسالت الدماء فتهتك حرمة الحرم من جانب، وتكون عاراً على المسلمين وعيباً أيضاً. إذ سلبوا أمن هذه الأرض المقدّسة، ولذلك فإنّ من نِعَم الله على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلى المسلمين أنّه وبعد هذه القضية بسنتين فتح عليهم مكّة وكان ذلك من دون سفك دم أيضاً..
__________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13، ص47-62.
2 ـ مجمع البيان ذيل الآيات محل البحث.
3 ـ بحار الأنوار، ج70، ص199.
4 ـ نهج البلاغة: الخطبة رقم 56.
5 ـ أخرى: هنا صفة لمحذوف تقدير (ومغانم أُخرى لم تقدروا عليها) وهي منصوبة لعطفها
على (وعدكم الله مغانم كثيرة)..
6 ـ (مجمع البيان) ج9، ص123، مع شيء من التصرف كما ذكر هذا الشأن (القرطبي)
بتفاوت يسير و(أبو الفتوح الرازي) و(الآلوسي في روح المعاني) و(الشيخ الطوسي في التبيان)
و(المراغي) وأضرابهم.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|