أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-8-2017
192
التاريخ: 19-8-2017
292
التاريخ: 31-8-2017
186
التاريخ: 14-8-2017
211
|
الأنساق الدلالية (أنواع العلاقات وأقسامها):
لقد بحث الدرس الدلالي الحديث، أنواع الدلالات واعتمد في سبيل تصنيفها على معايير تخضع لمقياس الطبيعة أو لمقياس العقل أو لمقياس العرف، فأحصوا بناء على ذلك أنواعاً من الدلالات كالدلالة الطبيعية، والدلالة المنطقية العقلية، والدلالة العرفية الوضعية. كما تناول علماء الدلالة الدلالات الهامشية التي يكتسبها اللفظ داخل السياق اللغوي وسموا ذلك قيماً أسلوبية أو تعبيرية، أما دلالة المطابقة ودلالة التضمن والإلتزام، فقد اعتمد في تصنيفها على معيار الانتماء والاحتواء والاستلزام. وإن كان العلماء يجمعون ذلك كله تحت الدلالة الوضعية.
إن الآمدي قد أفاض في تقسيم الدلالات متخذاً معايير لفظية لغوية ومعايير
ص180
عقلية منطقية، مستنداً في ذلك على قصد المتكلم من خطابه، وطبيعة السياق اللغوي، يقول محدداً الإنزياح الدلالي الذي تنشأ عنه دلالة إيحائية ومعرفاً مصطلح دلالة غير المنظوم "وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه"(1). فاللفظ قد ينزاح عن دلالته الأصلية ويخرج من نطاق الوضع والتعارف، يكيفه قصد المتكلم الذي يتمظهر في بنية الكلام، فالدلالة التي ينتجها السياق النفسي المقامي للمتكلم- كما يوضح الآمدي- هي دلالة إيمائية إيحائية غير وضعية(2).
إن اللفظ الذي يضمر مدلوله ويوصل إلى فهمه، إما لصدق المتكلم أو لتطابق مفهومه مع الملفوظ به سمى الآمدي دلالته دلالة اقتضاء، وهي دلالة منطقية لكون السياق الخطابي يقتضيها اقتضاء، فإذا ما دل الخطاب اللغوي على سياق مضموني فإنه يمكن أن نقف على ما ينضوي تحت هذا السياق من مدلولات لا تخرج عن صدق الخطاب ولا عن بنية اللغوية، أي بناء على شكله المعجمي التعبيري، ومحتواه التصوري المفهومي. يقول الآمدي موضحاً ذلك ومشيراً إلى اللفظ غير المنظوم (الدلالة القصدية): "إما أن يكون مدلوله مقصوداً للمتكلم، أو غير مقصود فإن كان مقصوداً، فلا يخلو إما أن يتوقف صدق المتكلم أو صحة الملفوظ به عليه، أو لا يتوقف، فإن توقف، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإقتضاء، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". فالمدلول المضمر الذي يقتضيه سياق الحديث هو العقاب فكانت دلالة الخطاب النبوي على مدلول العقاب دلالة اقتضاء(3).
أما الدلالات التي يحملها سياق الخطاب وتضطلع بإبرازها عناصر لغوية، فقد أحصى فيها الآمدي ثلاث دلالات، دلالة التنبيه والإيماء، ودلالة المفهوم ودلالة الإشارة، وهي دلالات تتوقف على شيئين اثنين: صدق المتكلم وهو أمر نفسي خارج عن النظام اللغوي، وصحة الملفوظ به في نصه على المدلول، وأمر لغوي يتمظهر في الخطاب والسياق. يقول الآمدي موضحاً دلالة التنبيه والإيماء: "وذلك بأن يكون التعليل لازماً من مدلول النفط وضعاً لا أن يكون اللفظ دالاً بوضعه على التعليل"(4). فالخطاب اللغوي الذي يحمل دلالة الإيماء والتنبيه لا يشير صراحة إلى علة الحكم التي تومئ إليها عناصره، وإنما هي محتواه في
ص181
سياقها المضموني (فإذا قلنا "عظم العالم" فدلالة الإيماء (الدلالة الخفية) هي كون التعظيم كان للعالم لعلمه، وهي قريبة إلى المعنى الإيحائي الذي يتصل بكلمات ذات قدرة على الإيماء، والإيحاء نظراً لشفافيتها(5).
وأما الدلالة الثانية فهي دلالة المفهوم وهي تقابل دلالة المنطوق، من حيث أن المنطوق هو محمول اللفظ الظاهر في محل النطق، فدلالته دلالة ظاهرة، لا يختلف في إدراكها اثنان ولذلك لم يبحث فيها علماء الأصول. يقول الآمدي في تعريف دلالة المفهوم: "هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق"(6).
ويميز في دلالة المفهوم نوعين: دلالة الموافقة ودلالة المخالفة، وهي في الواقع اللغوي امتداد لدلالة الاقتضاء لكونها تتأسس ليس على بنية اللفظ وإنما على ما يحمله مدلوله من دلالة تشاكل دلالة مدلول آخر أو تخالفه، فهو إذن بحث في معنى المعنى أو في مدلول المدلول إما موافقة أو مخالفة فقوله تعالى في حق الوالدين: "ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما" فلفظ "أف" في هذا السياق قد تحول مدلوله إلى دال على معنى الضرب والإهانة وغير ذلك مما هو أشنع من إبداء التذمر والتضجر بلفظ أف. وقد كان انطلاق البحث الدلالي في العصر الحديث وانفصاله عن اللسانيات عندما بدأ يبحث في المدلول، الذي كان يمثل الجانب الهزيل في دراسات الألسنيين القدامى(7). إن هذا الاتصال العلائقي بين دلالتين إحداهما ظاهرة وأخرى خفية، يشير إلى قدرة النظام اللغوي على اختزال المعاني غير المتناهية في عناصره اللغوية المتناهية، وهي إشارة كذلك إلى قدرة الذهن البشري على إجراء تقابلات دلالية تقوم على السلب أو الإيجاب، والإلحاق أو العزل وهي عملية تتم عبر كل إصدار لغوي أو تلق لسلسلة من الرسائل الخطابية.
إن دلالة المفهوم، لا تخلو إما أن تكون أدنى من دلالة المنطوق أو أعلى منها، كما تكون دلالتها أسبق في الحكم من دلالة المنطوق، فإذا قال الله تعالى في حق الوالدين "ولا تقل لهما أف" كانت دلالة المسكوت عنه (دلالة المفهوم) أقوى وأسبق في الحكم من دلالة المنطوق. يقول الآمدي شارحاً ذلك: "والدلالة في جميع هذه الأقسام لا تخرج عن قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى وبالأعلى على الأدنى،
ص182
ويكون الحكم في محل السكوت أولى منه في محل النطق"(8).
أما القسم الثاني، من دلالة المفهوم فهو ما سماه الآمدي دلالة المخالفة وهو نقيض لدلالة الموافقة، إذ المسكوت عنه (دلالة المفهوم) لا يكون امتداداً في الدلالة للمنطوق، وإنما المسكوت عنه يخالف دلالة المنطوق. يشرح ذلك الآمدي فيقول: "وأما مفهوم المخالفة فهو ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت مخالفاً لمدلولـ ه في محل النطق ويسمى دليل الخطاب أيضاً"(9). إن الربط بين دلالة حاضرة ودلالة غائبة يجد العقل بينهما علاقة طبيعية ينتقل من إحداها إلى الأخرى، قد أشار إليه علماء الدلالة المحدثون في حديثهم عن الدلالة الطبيعية، وإن كانوا قد حصروا ذلك بالظواهر الطبيعية، والأعراض المرضية وما إلى ذلك(10) وإن لتحديد دلالة المخالفة-وهي دلالة غائبة- نص الآمدي على جملة من الطرق اتخذت معايير لإخراج الدلالة الغائبة من حكم الدلالة الحاضرة فإذا قلت: "اليوم قمت باكراً" دل السياق أنك بالأمس لم تقم باكراً وهو مفهوم مخالفة. ومن ضمن ما ذكر الآمدي من معايير تخصيص الدلالة الغائبة (دلالة المخالفة) التخصيص بالصفة كقولنا: "الرجل العالم أكرمه" يقتضي أن غير العالم لا يستحق الإكرام.
والتخصيص بالشرط والجزاء كقولنا: "إن دخلت داري أكرمتك"، والتخصيص بالغاية وبالاستثناء والعدد، وحصر المبتدأ في الخبر.(11)
ويبرز الاهتمام السيمولوجي عند الآمدي في تعريفه لدلالة الإشارة وهي دلالة إضافية تدرك من خلال السياق الخطاب اللغوي، لا يقصد إليها المتكلم قصداً، وإنما مدلول اللفظ في السياق استدعى مدلولاً آخر أو عدة مدلولات وقد قال في تعريفه الغزالي، هو "ما يؤخذ من إشارة اللفظ، لا من اللفظ ونعني به ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه مالا يدل عليه نفس اللفظ فسمي إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ، ما لم يقصد به ويبني عليه"(12).
فدلالة الإشارة تتصل أساساً بقدرة اللفظ على استحضار جملة المعاني الإضافية التي هي امتداد لمدلول منطوقه، ويترتب على ذلك أن بنية الخطاب
ص183
اللغوي تكون ذات واقع نفسي، بحيث تكون الأفكار المحمولة في الخطاب منسجمة ومتكاملة مع مدلوله السطحي الظاهر من ملفوظه، ويورد الآمدي أمثلة إجرائية لدلالة الإشارة من ذلك "دلالة مجموع قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) وقوله تعالى: (وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وإن لم يكن ذلك مقصوداً من اللفظ"(13).
ويبقى انجلاء هذه الدلالات أو خفاؤها، قائماً على معرفة المقصود من الحكم في مستوى النطق من سياق الكلام، أما إذا انتفت هذه المعرفة فليس لنا إلى إدراك حقيقة الدلالة من سبيل إلا التأويل الذي قد يخطئ وقد يصيب، إن الأخذ بهذه الأنساق الدلالية التي كانت مادتها المنظومة اللغوية العربية في تجلياتها المختلفة على مستوى النص المقدس أو على مستوى كلام العرب، يفضي إلى النظر إلى ظاهرة الدلالة على أنها ظاهرة مركبة من فعل الإدلاء وآلياته وأنحائه، وفاعل ذلك الفعل وأجوائه النفسية ومقصوده وغايته، كما تشمل متلقي ذلك الفعل واستعداداته المعرفية ووعيه بين الخطاب ومضامينه ومسالك العبور من المنطوق إلى المفهوم، عبور تحكمه مقاييس دقيقة تقضي إلى متصورات دلالية منطقية.
في مقام نصه على ماهية الاجتهاد، وحقيقة المجتهد فيه، أثبت الآمدي شروط العالم المجتهد من ضمنها المعرفة اللغوية بطرق إثبات الدلالة واختلاف مراتبها وأقسامها من دلالة المطابقة والتضمن والإلتزام، وهي دلالات بحثها علماء اللغة المحدثون والقدماء على السواء وأفاضوا في الحديث حولها، وقد عدها الآمدي أرضية أساسية لأي استنطاق لبنية الخطاب الشرعي واستنباط الحكم منه، وهي إشارة إلى البعد اللغوي بمستوياته التركيبية والمعجمية والدلالية الذي ينطوي عليه التراث العربي المعرفي ومنه على الخصوص التراث الديني، والأصولي بصفة أخص.
يحدد الآمدي معيار بيان العلاقات الدلالية على أساس خصائص الاحتواء والانتماء أو الاستلزام-كما أوضحنا سابقاً-، وفي دلالات تندرج ضمن الدلالة الوضعية التي هي قسم من أقسام الدلالة اللفظية(14). يقول الآمدي في اللفظ المفرد: "إما أن تكون دلالته لفظية أو غير لفظية واللفظية إما أن تعتبر بالنسبة لكمال المعنى الموضوع له اللفظ وإلى بعضه. فالأول دلالة المطابقة، كدلالة لفظ الإنسان على معناه. والثاني دلالة التضمن كدلالة لفظ الإنسان على ما في معناه
ص184
من الحيوان أو الناطق، والمطابقة أعم من التضمن لجواز أن يكون المدلول بسيطاً لا جزء له(15) ويمكن توضيح ذلك بالرسم الآتي:
الدلالة
منطقية (غير لفظية) لفظية
إلتزام مطابقة تضمن
إن دلالة الإلتزام يعتبرها الآمدي غير لفظية كون اللازم هو خارج عن مدلول اللفظ، إذ لا يعتبر اللازم جزءاً من مدلول اللفظ بخلاف دلالة التضمن التي يعتبر فيها الجزء داخلاً في مدلول اللفظ ولذلك عدت دلالة التضمن دلالة لفظية. وبين علاقة المطابقة والتضمن هناك مساواة بشرط انتفاء وجود لازم لمدلول اللفظ المطابق. يوضح ذلك الآمدي في قوله "ودلالة الإلتزام وإن شاركت دلالة التضمن في افتقارهما إلى نظر عقلي يعرف اللازم في الإلتزام، والجزء في دلالة التضمن، غير أنه في التضمن لتعريف كون الجزء داخلاً في مدلول اللفظ لتعريف كونه خارجاً عن مدلول اللفظ، فلذلك كانت دلالة التضمن لفظية بخلاف دلالة الإلتزام، ودلالة الإلتزام مساوية لدلالة المطابقة ضرورة امتناع خلو مدلول اللفظ المطابق عن لازم، وأعم من دلالة التضمن، بجواز أن يكون اللازم لما لا جزء له"(16) ويمكن تمثيل ذلك بالرسم التالي:
وقد كانت النسب بين الدلالات محل خلاف كبير بين جمهور العلماء،
ص185
والآمدي يخالف بتصنيفه لأقسام الدلالة تقسيم العلماء المحدثين الذين أدرجوا دلالة الإلتزام ضمن الدلالة اللفظية. إن دلالة الإلتزام تحدَّد على مستوى ذهني، فبين معنى اللفظ ومدلوله الخارجي اللازم له تلازم ذهني ولذلك كانت الدلالة، دلالة عقلية بحيث يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتية ينتقل لأجلها منه إليه كما قال التهاوني(17).
ولأن معنى اللفظ لا يرتبط بأي معنى خارجي، احتيج لتحديد علاقة اللزوم إلى آلية ضبط هو الإنتقال الذهني بحيث يكون الأمر الخارجي لازماً لمسمى اللفظ بحيث يلزم من تصور المسمى تصوره، بحيث إذا انتفى وجود الانتقال الذهني لاستحال تحديد اللازم لدلالة اللفظ، ولما كانت الدلالة الإلتزامية يعتمد في إدراكها المسلك العقلي، كانت إذن دلالة عقلية وبما أن دلالة الإلتزام بتعبير المناطقة هي شاهد على غائب عدّها بعض اللغويين دلالة منطقية لأن الفكر ينتقل انتقالاً منطقياً من الحقائق الحاضرة إلى حقائق غائبة..
إن ما حققه الآمدي في رحاب التفريع لعالم الدلالة، كان له أثر التحول المنهجي لمسار المقاربة العلمية للظاهرة اللغوية، مما يعين على التفكير في إيجاد نسق تفريعي دلالي للخطاب اللغوي في كامل مستوياته، والمعتمد في التواصل والإبلاغ، وقد يعوّل عليه كثيراً في حصر السمات الدلالية الدقيقة وضبطها ضبطاً محكماً لتغدو مداخل مهمة في التعامل مع الظواهر اللغوية المتجددة، لأن اللغة العربية علمية في سننها التعبيرية، ذهنية في انتظام قواعدها، وتخضع لنظام علامي متكامل الأجزاء، دقيق العناصر، وإن تجلياتها على مستوى النص القرآني خاصة وسعي العلماء نحو اكتشاف القوالب المقولية والنظم الخطابية وتأسيسها تأسيساً علمياً، سيفتح المجال الواسع لإدخال المنظومة اللغوية في تفاعل خصب قصد تفجير طاقاتها الكامنة، موازاة مع المستجدات الحاصلة على المستوى المفهومي لعالم الدلالة أو عالم الأعيان والأشياء…
ص186
______________________
( ) المصدر نفسه ج3 ص64.
(2) أحمد مختار عمر- انظر علم الدلالات ص36-37.
(3) الإحكام، ج3 ص254.
(4) المصدر السابق ج3 ص25. 253
(5) أحمد مختار عمر. علم الدلالة، ص.31.
(6) الإحكام ج3 ص66.
(7) أصدر أوجدن وريشاردز لكاتبها "معنى المعنى" سنة 1932 وأحدثوا به ضجة في عالم اللغة.
(8) المصدر السابق ج3 ص67
(9) المصدر نفسه ج3 ص69
(0 ) انظر ذلك في "مبحث أقسام الدلالة" الدلالة الطبيعية ص47
(1 ) انظر الإحكام ج3 ص70.
(2 ) المستصفى ج2 ص128.
(3 ) الإحكام ج3 ص65.
(4 ) انظر ذلك في الترسيمية في "مبحث أقسام الدلالة" ص47.
(5 ) المصدر السابق ج1 ص51
(6 ) المصدر نفسه ج1 ص52
(7 ) عادل الفاخوري، انظر ذلك في كتاب علم الدلالة عند العرب: ص16.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|