أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-8-2017
220
التاريخ: 14-8-2017
466
التاريخ: 19-8-2017
169
التاريخ: 31-8-2017
190
|
معايير الحقيقة والمجاز
يتخذ الآمدي، من مؤاخذات العلماء له، في حدّه المجاز لإرساء معايير تمييزية بين الدلالة الحقيقية للفظ والدلالة المجازية، فما لا يمكن نفيه من الاسم فهو حقيقة فيه أما ما يمكن نفيه فهو مجاز يقول الآمدي: "والحقيقة العرفية وإن كانت حقيقة بالنظر إلى تواضع أهل العرف عليها فلا تخرج عن كونها مجازاً بالنسبة إلى استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، ولا تناقض، وإذا عرف معنى الحقيقة والمجاز، فمهما ورد لفظ المعنى، وتردد بين القسمين، فقد يعرف كونه مجازاً بصحة نفيه في نفس الأمر ويعرف حقيقة بعدم ذلك"(1). وتلك إشارة إلى الصعوبة اللغوية التي تكتنف عملية التخاطب على مستوى الصوت أو مستوى الكتابة، بحيث قد يتواضع أهل اللغة على الدلالة الحقيقية للفظ ثم يستعمل هذا اللفظ للدلالة على غير ما وضع له أولاً، إما توسيعاً في الدلالة الأصلية، أو تضييقاً فيها، أو نقلاً لدلالة مجازية لها صلة بالدلالة الأصلية. ويمثل الآمدي لذلك بقوله: "ولهذا فإنه يصح أن يقال لمن يسمى من الناس حماراً لبلاذته أنه ليس بحمار. ولا يصح أن يقال ليس بإنسان في نفس الأمر لما كان حقيقة فيه"(2). إن التعلق بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية للفظ، تحفظ دوماً طبيعة الوضع (الاستثنائي) الذي اتخذته اللغة، لأن قيمة الدلالة المجازية في كل الأحوال ليست في نفس مرتبة قيمة الدلالة الحقيقية خاصة ما تعلق منها بنصوص مقدسة
ص231
كنصوص القرآن الكريم. وإذا ما حدث أن أنبتت الصلة بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية، كان وضع الدلالة المجازية ابتداءً أي وضعاً مستحدثاً يلحق بالمشترك اللفظي.
يقول الآمدي شارحاً ذلك: "وبقولنا: "لما بينهما من التعلق" لأنه لو لم يكن كذلك. كان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر، وكان اللفظ مشتركاً لا مجازاً"(3). إن سيرورة الحركة الجدلية في استعمال اللغة تجعل المجاز يعرف تحولات على مستوى الحقل المفهومي وعلى مستوى البنية العامة فيتم تحويل اللفظ المجاز مع تعاقب الاستعمال إلى لفظ ذي دلالة حقيقية، قابل لأن يدخل هو الآخر في مفاعلات اللغة بقصد إفراز وتوليد دلالات مجازية، وقد اشتهر ابن جني بقوله في شأن المجاز أن أكثر اللغة مجاز لا حقيقة، يقول عبد السلام المسدي: "فالمجاز يتفاعل مع الاستعمال على مر الزمن فيؤول إلى تواتر بحيث إذا اقترن المجاز مع عامل الزمن اضمحلت الصيغة المجازية منه وحلت محلها الصيغة المصطلحية"(4).
فضلاً على معيار الإثبات والنفي الذي اعتمد عليه الآمدي في تفسير الإشكال الناشئ من صعوبة التمييز بين الدلالة الحقيقية والدلالة المجازية، يضيف الآمدي معايير أخرى منها، معيار الانتشار لدلالة اللفظ الحقيقية، بحيث إذا ما أطلق اللفظ تبادرت إلى الفهم دلالته وأبعدت الدلالة المجازية، يوضح الآمدي ذلك بقوله: "ومنها أن يكون المدلول مما يتبادر إلى الفهم من إطلاق اللفظ من غير قرينة مع عدم العلم بكونه مجازاً، بخلاف غيره من المولدات، فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة، وغيره هو المجاز(5)". ويفهم من قول الآمدي أن اللفظ المجاز قد يأخذ حكم الحقيقة إذا شاع استعماله، وجرى في الألسنة، لأن النظام اللغوي نظام متجدد متغير لا تثبت فيه إلا النواميس والمعايير الخفية أما المادة اللغوية ودلالاتها فهي آيلة مع مرور الزمن للتغيير والتطور وهذه سمة في كل اللغات.
ويورد الآمدي معياراً آخر للتمييز بين دلالة اللفظ الحقيقية ودلالته المجازية، ويحصره في "عدم الإطراد في مدلول اللفظ" وانحصاره في دائرة ضيقة من الاستعمال يقول في ذلك: "ومنها أن يكون اللفظ مطرداً في مدلوله، مع عدم ورود
ص232
المنع من أهل اللغة والشارع من الإطراد، وذلك كتسمية الطويل نخلة إذ هو غير مطرد في كل طويل"(6).
والآمدي لا يرى أن الإطراد في دلالة اللفظ هو بالضرورة مدلول حقيقي بل إن عدم الإطراد هو الملمح على أن مدلول اللفظ مجازي، ولقد انبرى الآمدي يفند بعض الإشكالات التي أثارها بعض اللغويين مدعين أن حد الآمدي لمعيار الإطراد ليس شاملاً لكل الصيغ التعبيرية في اللغة العربية، فقد وجد أن اسم (السخي) حقيقة في القرآن الكريم وهذا المدلول موجود في حق الله تعالى ولا يقال له سخي، كما أن القارورة سميت كذلك لاستقرار المائعات فيها ومع أن الجرة والكوز تستعمل لذلك ولكن لا تسمى قارورة. ولكن الآمدي كان قد وضع ضوابط في كلامه عن "الإطراد" الذي هو ملمح الدلالة الحقيقية للفظ وأشار إليها بقوله: "مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الإطراد(7)".
أما المعيار الرابع الذي اعتمده الآمدي لتمييز الحقيقة من المجاز في دلالة اللفظ هو معيار صوري يستند على البنية الصرفية للفظ، فاللفظ المجاز جمعه مخالف لجمع اللفظ الحقيقية مع حصول تعارف بين أهل اللغة يفضي إلى كون اللفظ حقيقة في غير المدلول المذكور. يقول الآمدي: "ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور. يقول الآمدي: "ومنها أن يكون الاسم قد اتفق على كونه حقيقة في غير المسمى المذكور وجمعه مخالف لجمع المسمى المذكور فنعلم أنه مجاز فيه". من ذلك لفظ (أمر فإن جمعه على جهة الحقيقة (أوامر) ومن جهة الفعل (المجاز) (أمور)، لكن هذا القيد قد يكون سبباً لإشكالات تعبيرية خاصة وأن اللغة مفتوحة دوماً على أنظمة إبلاغية جديدة، قد تأسست على ظاهر لغوية مختلفة كالنقل والحذف والتعويض والاختصار وما إلى ذلك، فكان اعتماد معيار (الجمع) عند الآمدي للتفريق بين الدلالة الحقيقية للفظ ودلالته المجازية، لا يرتقي إلى الأداة العلمية الدقيقة التي لا تتعطل معها حركية اللغة بتفاعلها مع المقام والحال. أما المعيار الخامس فيؤسسه الآمدي على اعتبار وجود القرينة المانعة من إيراد الدلالة الحقيقية، فالأصل في اللفظ الإطلاق وهو ملمح على دلالته الحقيقية. يشرح الآمدي هذا الأمر بقوله: "ومنها أن يكون قد ألِف من أهل اللغة أنهم إذا استعملوا لفظاً بإزاء معنى أطلقوه إطلاقاً، وإذا استعمله بإزاء غيره قرنوا به قرينة فيدل ذلك على كونه حقيقة فيما أطلقوه مجازاً في
ص233
الغير(8).
ومن مظاهر الحيوية والحركية في النظام اللغوي، القدرة على الاختزال في الطاقة التعبيرية دون إخلال بالوظيفة الإبلاغية، وينشأ ذلك من إقصاء بعض عناصر التعبير مع الإبقاء على أدائهم الإسنادي وهذا ما يدخل في (الاقتصاد اللغوي) الذي يرمي إليه كل نظام لغوي، والمجاز يؤدي وظيفة أساسية في تكريس مبدأ الاختزال اللغوي، إذ تُعرف الدلالة المجازية للفظ إذا أسندت إليه الصفة أو الحكم إسناداً، يفهم من خلاله أنه لمتعلق آخر علاقته بالصفة أو الحكم علاقة حقيقية من ذلك قولنا (الرحمة تغمر أهل الجنة) فللرحمة متعلق آخر هو الله تعالى، الرحمن، فكانت دلالة الرحمة ها هنا دلالة مجازية يقول الآمدي موضحاً هذه الفكرة، ومشيراً إلى معيار آخر لتمييز الدلالة الحقيقية من الدلالة المجازية: "ومنها أنه كان اللفظ حقيقة في معنى ولذلك المعنى متعلق، فإطلاقه بإزاء ما ليس له ذلك المتعلق يدل على كونه مجازاً فيه، كإطلاق اسم القدرة على الصفة المؤثرة في الإيجاد. فإن لها مقدور"(9).
وإذا عدنا إلى أصل الوضع الأول لنقف على مبدأ تطور اللفظ مع دلالته، أيمكن أن نسمي ذلك اللفظ حقيقة أو مجازاً؟ يرسي الآمدي في تفسير هذا الإشكال اللغوي قاعدة عامة في مبحث الحقيقة والمجاز، وذلك بالوقوف على ماهية اللفظ قبل الوضع حيث تنتفي عنه صفة الحقيقة وبالتالي صفة المجاز، ويعني ذلك أن اللفظ لا يزال (خاماً) ولم يدخل في تفاعل حركي مع النظام اللغوي المفتوح على حاجات أهل اللغة المتجددة، فأسماء الأعلام، وآلات أرباب الحرف المخترعة، وأدوات أهل الصناعة والزراعة المستحدثة وغيرها، لا يمكن أن تكون ذات دلالات حقيقية لأنها لم تَلِج بعد مجال الاستعمال اللغوي.
يوضح الآمدي هذه المسألة بقوله: "فالألفاظ الموضوعة أولاً في ابتداء الوضع في اللغة لا توصف بكونها حقيقة ولا مجازاً، وإلا كانت موضوعة قبل الوضع وهو خلاف العرض وكذلك كل وضع ابتدائي حتى الأسماء المخترعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم وإنما تصير حقيقة ومجازاً باستعمالها بعد ذلك"(10). ويلحق بذلك أسماء الأعلام، لأن الحقيقة هي استعمال اللفظ في ما وضع له أولاً، والمجاز في غير ما وضع له أولاً، ويقتضي ذلك أن الألفاظ قبل
ص234
التواضع ليست حقيقة ولا مجازاً، يقول الآمدي في ذلك: "وتشترك الحقيقة والمجاز في امتناع اتصاف أسماء الأعلام بها: كزيد وعمرو"(11). إذن فأساس التصنيف الذي يقوم عليه بناء الحقل المفهومي للحقيقة من جهة وللمجاز من جهة ثانية، هو الاستعمال الذي هو نقطة تقاطع القدرة الإبلاغية مع القدرة الإنشائية الإبداعية في اللغة لتحصل معهما الوظيفة التوليدية، ومع تواتر الدلالة (الوليدة) مع عرف الاستعمال اللغوي تكتسب صفة الحقيقي التي تكون مؤهلة هي الأخرى للتوليد مع مراعاة شروط التواضع والاصطلاح، فلا تكفي العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي في إطلاق الاسم على جهة المجاز، وإنما يؤكد الآمدي على ضرورة حصول تعارف أهل اللغة على صحة نقل الدلالة من مجال الحقيقة إلى مجال المجاز، وتكون حينئذ دلالة المجاز عرفية، يقول الآمدي في وجوب حدوث تواضع لنقل الدلالة: "وهو أن تنص العرب نصاً كلياً على جواز إطلاق الاسم الحقيقي على كل ما كان بينه وبينه علاقة منصوص عليها من قبلهم، كما بيناه، ولا معنى للمجاز إلا هذا، وهو غير خارج عن لغتهم"(12). ويعطي الآمدي لمبدأ التواضع اللغوي، صفة المعيار الذي يسمح عن طريقه انتقال اللفظ إلى المعجم العربي، ذلك أن اللفظ قبل أن يتواضع عليه أهل اللغة العربية لم يكن عربياً وإنما أضحى كذلك بحصول التواضع فألصقت به دلالات عربية. يوضح ذلك الآمدي فيقول: "وذلك لأن كون اللفظ عربياً ليس لذاته وصورته بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بإزائه. وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية وهو ممتنع"(13). فاللفظ إذن لا يكتسب عربيته بالنظر إلى بنيته المعجمية فحسب وإنما كذلك بالنظر إلى دلالته، وتلك إشارة من الآمدي إلى أن النظام اللغوي نظام قوامه الدلالة التي تصرف بحسب تواضع أهل اللغة، وهي إشارة لها قيمتها المعرفية خاصة إذا عرفنا أن الاهتمام بشأن الدلالة في اللغة لم ينشأ إلا حديثاً، ذلك أن المشتغلين في الحقل اللساني أعطوا جل اهتمامهم للجانب الفونولوجي والمورفولوجي للغة وكانت الدلالة في أبحاثهم تمثل الجانب الهزيل، وقد يستبد ببعض اللغويين رأيهم وهم عاجزون على تصريف أنماط الكلام العربي تصريفاً لا يلغي بعضه البعض، فقد يذهبون إلى الدعوة إلى الاستغناء عن المجاز ويستصغرون قيمته لأنه لا يفيد معنى إلا مع وجود قرينة صارفة.
ص235
وهم لا يريدون أنهم بدعوتهم تلك يسعون إلى أن تكون اللغة العربية عقيماً عاجزة عن الإبداع والتوليد الدلالي، يغضون الطرف عن الفوائد الكثيرة التي يحققها المجاز يوضح الآمدي تلك الفوائد فيقول:
"إن الفائدة في استعمال اللفظ المجازي دون الحقيقي، قد تكون لاختصاصه بالخفة على اللّسان، أو لمساعدته في وزن الكلام نظماً ونثراً، والمطابقة، والمجانسة والسجع، وقصد التعظيم والعدول عن الحقيقي للتحقير إلى غير ذلك من المقاصد المطلوبة في الكلام"(14). ويمكن إيجاز تلك الفوائد التي نص عليها الآمدي في: الفوائد الصوتية، والفوائد الجمالية، والفوائد الدلالية. ومن تلك الفوائد التي تتحقق مع المجاز اللغوي هو الإيجاز في الكلام فقد يعبر بالجزء ويراد به الكل، أو العكس صحيح أيضاً، ومدار الجمع بين الكل والجزء في الكلام مع إضمار أحدهما في التعبير أساسه المشاركة في المعنى، أما إذا انتفت المشاركة انتفت العلاقة بين الدلالة الحقيقية للفظ والدلالة المجازية، وكان كل وضع للفظ ابتداء. يشرح ذلك الآمدي فيقول: "فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشارك له في اسمه، ولهذا يقال إن بعض اللحم لحم وبعض العظم عظم وبعض الماء ماء، لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم، وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم، ولهذا لا يقال: بعض العشرة عشرة وبعض المائة مائة وبعض الرغيف رغيف، وبعض الدار دار إلى غير ذلك"(15). وهذه المسألة ذات أهمية كبيرة إذا نظرنا إليها من زاوية إجراء الحكم على جميع عناصر اللفظ الكلي، كما إذا أطلقنا على القرآن الكريم صفة "العربي" كما سماه الله تعالى مع أنه تضمن ألفاظاً غير عربية فسمى ذلك الآمدي "تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة" وقال بأن إطلاق الاسم العربي على القرآن الكريم مجازاً لا حقيقة، وإن كان بعض اللغويين والفقهاء قد خالفوا الآمدي في رأيه معتبرين أن القرآن الكريم قد أجرى الصيغ الدخيلة مجرى الصيغ العربية فكانت بذلك عربية، وأزال أعجميتها.
وبنظرية عامة يفصح الآمدي عن الإمكانية المطلقة لإثراء الرصيد اللغوي، ذلك أن اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول، تنسحب على ظاهرة المجاز، لأن ذلك يعد اصطلاحاً داخل اصطلاح كما أنه اعتباط داخل اعتباط وهو ما يسمح عن طواعية، بالاقتران العرفي بين اللفظ ودلالته المجازية فضلاً عن دلالته
ص236
الحقيقية، يقول الآمدي في ذلك: "فإن دلالات الأسماء على المعاني ليس لذواتها، ولا الاسم واجب للمعنى، بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية، وجواز إبدال اسم البياض بالسواد في ابتداء الوضع، وكما في أسماء الأعلام، والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم"(16). فالدال لا يستمد معناه وقيمته الدلالية من بنيته الصوتية، وإنما العوالم الدلالية مفتوحة على العوالم اللسانية، مما يفسر إمكانية تحريك الطاقة التعبيرية في اللغة، لإنشاء أنماط كلامية تكون مبنية على أساس الاقتران التعسفي، وهو أمر جار في المجاز باعتباره امتداداً في الدلالة لحقل الحقيقة. يقول عبد السلام المسدي: "يمد المجاز أمام ألفاظ اللغة جسوراً وقتية تتحول عليها من دلالة الوضع الأول، إلى دلالة الوضع الطارئ، ولكن الذهاب والإياب قد يبلغان حداً من التواتر يستقر به اللفظ في الحقل الجديد فيقطع عليه طريق الرجوع"(17).
ويدخل اللفظ بعد ذلك في حقل الحقيقة وبواسطة تواتر الاستعمال يتقادم ذلك الخيط الذي كان يصله بوضعه الأول ويمد هو جسراً ليعقد علاقة تنتقل عبرها دلالته إلى حقل المجاز، ليبرز من خلال هذا التشكل المستمر، الطابع الوظائفي للغة في تزاوج نظامها التواصلي وطبيعة مكوناتها الدلالية القائمة على مبدأ الاستيعاب والتماثل لصنوف الأنساق الكلامية التي يقتضيها الموقف الخطابي.
إن الاقتران التعسفي بين الدال والمدلول كما قررته الأبحاث اللسانية الحديثة –وأشار إليه الآمدي قبل ذلك-، يعطي للنظام اللغوي طابع المرونة والتمدد قصد احتواء ما جدّ من أنساق دلالية، وفي الوقت ذاته يجعل من حصول الاقتران العرفي الذي يشرف عليه أهل اللغة يمتد عبر زمن ليحصل التواتر اللازم، وفي ضوء هذه الفكرة يرد الآمدي على الذين أنكروا حداثة الأسماء الشرعية وبذاءة دلالتها، متعللين بعدم حصول الفهم من قبل المكلفين، ذلك لأن الشارع لم يطلعهم على حيثيات النقل الذي تم به تغيير في دلالة الأسماء الشرعية. يقول الآمدي: "قوله التفهيم، إنما يكون بالنقل لا نسلم، وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير، والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة"(18). وفي ذلك اهتمام من الآمدي بخصوص
ص237
استحداث الألفاظ وتعليقها بدلالة قديمة أو العكس، أو توليد صيغ جديدة بدلالاتها، فالاقتران العرفي يتخذ أشكالاً من التواضع منها التكرار وهو ما اصطلح على تسميته بتواتر الاستعمال، إذ يقذف اللفظ الجديد ليدخل في تفاعل مع عناصر النظام اللغوي حتى يشيع استعماله وتثبت دلالته في الأذهان. ثم هناك القرائن المتضافرة التي تأخذ تعليم اللفظ الجديد وتوسيع دائرة استعماله عن طريق المشابهة والمجاورة والمشاكلة والتمثيل، وهي أساليب تُعتمد في تلقين الأطفال الأصول الأولى للكلام القائم على التدريج والتدريب. والأمر الذي يجدر بيانه في هذا المقام هو طبيعة القناة الإبلاغية التي يتخذها الأخرس قصد تواصله مع المجتمع اللغوي، وقد اختصرت لغته في نظام علامي يقوم على أساس الرمز والإشارة. ويكون الآمدي قد تجاوز في اهتماماته اللغوية المنحى الدلالي الذي يخص العلامة اللسانية إلى منحى أشمل يعنى بالعلامة في مفهومها الواسع، لسانية كانت أم غير لسانية وهو ما أضحى يعرف في الدراسات اللغوية الحديثة" بالسيمياء (la semiologie) ، وإذا أردنا أن نعطي لحديث الآمدي عن لغة الأخرس أبعاداً لسانية لألفيناها تصب في مبحث لساني حديث تناول ضمنه الألسنيون الإعاقات الكلامية التي تحول دون تشكيل المقول الدلالي في بنى كلامية، والتي ترجع بسبب ذلك إلى أمراض عصبية ذات تأثير لساني اصطلح على تسميتها (بالعصب- ألسني) (Neurolinguistique)، والخلل يكمن في الأداء الكلامي مع وجود الكفاية اللغوية وهي المعرفة الضمنية بقواعد ونظام اللغة، وهو ما يجعل الأخرس أو الذي يعاني أمراضاً في النطق يهتدي إلى أنساق دلالية يبلغها عن طريق الكتابة أو الإشارة، قد لا يهتدي إليها من أوتي نطقاً صحيحاً وقادراً على الأداء الكلامي السليم.
وجملة القول أن مبحث الحقيقة والمجاز عند الآمدي، يمثل جانباً خصباً في جهوده الدلالية، وقد أبان من خلاله عن منهج مكتمل في بلورة مفاهيمه النظرية في تشكل أنماط إجرائية تبرز المنظومة اللغوية من خلاله ذات طاقة تعبيرية لا متناهية قادرة على التوليد لتشاكل الأنساق الدلالية المستحدثة. وبوضعه للمعايير المميزة للحقل المفهومي لكل من الحقيقة والمجاز يكون الآمدي من اللغويين النوادر الذين حاولوا أن يؤطروا التحولات الحاصلة في صلب النظام اللغوي حتى يبقى مظهراً على سلامة البنى النسقية التي تتمثل في سعة الكفاية الضمنية في اللغة وطاقاتها الاستيعابية لمجمل الحاجات اللغوية، وبقدر ما يؤدي المجاز من وظائف هامة في المنظومة اللغوية، له من الفوائد كذلك ما يجعله يقترن باستحداث سمات نوعية على مستوى الكلام، لخصها الآمدي في الوظيفة الجمالية
ص238
الفنية التي عندها يصبح المجاز أداة بيد الإنسان في خلق البنية الفنية انطلاقاً من بنية لغوية مشاعة بين أهل اللغة، ثم هناك الوظيفة الصوتية المتمثلة في النزوع نحو خفة النطق مع البحث عن الاقتصاد في الكلام، أما الوظيفة الدلالية فهي أساس ما يضطلع به المجاز وهو صنو الوظيفة الإبلاغية التواصلية مع زيادة في السمة النوعية على مستوى الخطاب اللغوي.
إن أهمية ما تقدم به الآمدي في هذا المبحث، يكمن في إرساء قواعد علمية تخص مبدأ التولد الدلالي، ويمكن استثمار ذلك في وضع المصطلحات العلمية، وفي تلقين ما استحدث في نظام اللغة من عناصر وعلامات لسانية لأهل اللغة، توسيعاً لنطاق التخاطب وإذاعة للمفاهيم الجديدة.
ص239
___________________________
( ) المصدر نفسه، ج1، ص 30.
(2) المصدر نفسه، ج1، ص 30.
(3) المصدر نفسه، ج1، ص 29.
(4) النواميس الشعرية والظاهرة الاصطلاحية، ص 23، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31/ 1984.
(5) الإحكام في أصول الأحكام، ج 1، ص 30.
(6) المصدر السابق، ج1، ص31.
(7) المصدر نفسه، ج1، ص32.
(8) المصدر نفسه، ج1، ص 33.
(9) المصدر نفسه، ج1، ص 33.
(10) المصدر نفسه، ج1، ص34.
(1 ) المصدر نفسه ج1، ص 33.
(2 ) المصدر نفسه، ج1، ص 53.
(3 ) المصدر نفسه، ج1، ص 36.
(4 ) المصدر نفسه، ج1، ص 46.
(5 ) المصدر نفسه، ج1، ص 37.
(6 ) المصدر نفسه، ج1، ص 39.
(7 ) النواميس اللغوية والظاهرة الاصطلاحية، ص 23، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30/31 سنة 1984.
(8 ) الإحكام في أصول الأحكام، ج1، ص36.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|