المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

علوم اللغة العربية
عدد المواضيع في هذا القسم 2749 موضوعاً
النحو
الصرف
المدارس النحوية
فقه اللغة
علم اللغة
علم الدلالة

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر

ابن حمزة( كان حياً 560 هـ)
28-4-2016
ماهيــة التجنــس
5-4-2016
تفسير الأية (49-56) من سورة طه
6-9-2020
تجزؤ fractionation
28-5-2019
اصناف فستق العبيد (فستق الحقل)
27-2-2017
موريس – كلايمن
17-9-2016


أنماط الدلالة اللسانية عند الآمدي  
  
310   12:07 مساءً   التاريخ: 14-8-2017
المؤلف : منقور عبد الجليل
الكتاب أو المصدر : علم الدلالة اصوله ومباحثه في التراث العربي
الجزء والصفحة : ص168- 177
القسم : علوم اللغة العربية / علم الدلالة / جهود القدامى في الدراسات الدلالية / جهود الآمدي /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-8-2017 253
التاريخ: 14-8-2017 207
التاريخ: 31-8-2017 186
التاريخ: 19-8-2017 170

 

أنماط العلامة اللسانية:

يتخذ الآمدي في تحديده لأنواع العلامة اللسانية مسلكين اثنين: مسلك صوري ومسلك مفهومي يقول في تعيين اللفظ المطلق: "أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات أو هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"(1). إن اللفظ المطلق الذي يغطي حقلاً من الألفاظ تتحدد صورته نحوياً، فهو نكرة في سياق الإثبات من ذلك قوله تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة). هذا من ناحية القيود الشكلية، أما من ناحية القيود المفهومية فاللفظ المطلق يدل على اشتراك غير محدد في الدلالة بينه وبين حقل من المدلولات، فالآمدي يأخذ في الاعتبار مظهرين متكاملين لكل مدلول في الحقل المفهومي، المظهر الأول يظهر من خلال العلاقة الحتمية التي تربطه بالدال وهذه العلاقة تسجل مكان الدال إلا أنها لا تسمح لنا بتحديده بكيفية إيجابية. والمظهر الثاني يقوم على علاقة هذا المدلول بكل المدلولات الأخرى داخل منظومة العلامات، فكل لفظة يشار بها إلى كثرة مختلفة الصور تغطيها صورة اللفظ المطلق، وموقعه من حقل مدلولاته هو موقع اللكسيم الرئيسي في الحقول الدلالية كما صنفها علماء الدلالة المحدثون، ويمكن أن نجد تقاسيم مشتركة بين اللفظ المطلق وبين اللفظ العام واللفظ الكلي، بحيث

ص168

 

يكمن الالتقاء بينها في اتساع مجال إرجاع كل منها، وفي مقابل اللفظ المطلق يأتي اللفظ المقيد وفيه تتحقق الوظيفة الإرجاعية بحيث يعين اللفظ مرجعاً محدداً في عالم الأعيان والأذهان، وهذا التعيين يرتكز على أساسين اثنين: أولهما تعيين أسماء العلم(2) التي لها مرجع واحد محدد لا أكثر وقد تقوم (السابقة) (prefixe) بالدور الحاسم في تحديد المرجع تحديداً لها يترك معه مجالاً للبس مثل قولنا: هذا الرجل، وهذه المرأة، وذلك المكان وما إلى ذلك. وثاني الأساسين هو التعيين بالصفة وهذا ما بحثه العالم اللساني (pierre leriat) في كتابه(3) حيث يقول: التعيين "هو عملية مرتبطة بالكلام ترتكز على تعيين أشياء (خارج النظام اللغوي، قد تكون حسية أو مجردة، مادية أو تحليلية)، نسمي الإرجاع الوظيفة التعيينية والمرجع الشيء المعين الذي قد يكون شيئاً مادياً أو مفهوماً مجرداً. وقد أحصى الآمدي طرق تقييد المطلق فذكر منها التعيين باسم العلم والتعيين بصفة زائدة يقول موضحاً ذلك: "وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين:

الأول: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين كزيد وعمرو، وهذا الرجل ونحوه.

الثاني: ما كان من الألفاظ دالاً على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك دينار مصري ودرهم مكي، وهذا النوع من المقيد. وإن كان مطلقاً في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي.

غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم فهو مطلق من وجه ومقيد من وجه"(4). وفي هذا الموضع يجري الآمدي تقاطعاً تمييزياً بين اللفظ المطلق واللفظ المقيد، فالمطلق قد تضيق دلالاته فيضحي مقيداً إلا أن اللفظ المقيد قد يقع بين الإطلاق والتقييد كما بين ذلك الآمدي من الأمثلة التي ساقها آنفاً، ولا يأخذ صاحب الإحكام مفهوم الإطلاق أو التقييد قاصراً إياه على الصيغة المعجمية فحسب، بل ويتناوله في سياقات التركيب المختلفة ولذلك يطرح إشكالات نوعية منها إذا وجدت جملتان قد ورد في إحداهما لفظ مطلق وفي الثانية لفظ مقيد من جنس واحد، هل يجوز إلحاق المطلق بالمقيد أو العكس؟.

يستند الآمدي في حل هذا الإشكال على اتحاد السبب واختلافه بين جملة الإطلاق وجملة التقييد، فإذا اتحد السبب كان الإلحاق وإذا اختلف السبب فالنظر

ص169

 

إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا لا يلحق مطلق بمقيد.

يشرح ذلك في قوله: "العهدة على اتحاد السبب واختلافه فإذا اتحد السبب فلا خلاف في إلحاق المطلق بالمقيد كما لو جاء في الظهار: "اعتقوا رقبة" ثم جاء "اعتقوا رقبة مؤمنة". أما إذا اختلف السبب فالنظر حينئذٍ إلى العلة الموجبة للإلحاق وإلا فلا ينزل المطلق منزلة المقيد كما لو جاء في الإظهار قولهم: "فتحرير رقبة" وفي القتل الخطأ: "فتحرير رقبة مؤمنة(5). إن ما أثاره الآمدي في موضوع اللفظ المطلق يمكن فهمه على ضوء ما حدده (ليونز) (j. Lyons) في مناقشة العلاقة بين التعيين denotation والإرجاع Reference(6).

فإذا كان اللفظ المطلق يحدد حقلاً معجمياً مفتوحاً وغير محصور، فإن التعيين هو العلاقة القائمة بين وحدة معجمية وما تعينه خارج النظام اللغوي من أشياء أو أشخاص أو غير ذلك، ولنسق لذلك مثل كلمة (رجل) فإنها تشرف على حقل غير محصور من جنس معين له سمات ومميزات مخصوصة وإذا كان لكل كلمة تعيينها فإن ذلك يحدد إرجاعها، إلا أن الإرجاع مرتبط أساساً بتسييق الوحدة المعجمية وهذا ما يكاد يكون سمة عامة عند الآمدي الذي يأخذ الصيغة المعجمية غالباً، داخل سياقات مختلفة لأن ذلك هو التعيين الأساسي لدلالتها.

إذا ورد لفظ دال على معنيين أو أكثر ويتعين كلاهما عند إطلاقه، فهو اللفظ المشترك ويدخل في باب المشترك اللفظي، أو ما سماه الآمدي باللفظ المجمل، يقول في تعريفه: "المجمل ماله دلالة على أحد أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه"(7). وهذا التصنيف للدوال، يرتكز أساساً على المدلول المتعدد كقولهم: العين: للذهب وللشمس ولمورد الماء، وإذا ورد هذا اللفظ في سياق عام لم يتعين أحد هذه المدلولات مثل قولنا: "رأيت العين". فلفظ "العين" يطرح في هذا السياق إشكالاً دلالياً وهو ما رصده الآمدي في تسجيل ذلك التردد في إنزال اللفظ على أحد المدلولين بسبب التردد في عود الضمير، أو بسبب تردد اللفظ بين جمع الأجزاء، وجمع الصفات أو بسبب الوقف والابتداء أو بسبب تردد الصفة أو تردد اللفظ بين مجازاته المتعددة عند تعذر حمله على حقيقته فقولك: "كل ما علمه الفقيه فهو كما علمه "فإن الضمير (هو) متردد بين العود إلى الفقيه أو ما علمه

ص170

 

الفقيه، وتعدد هذه القضايا اللغوية من المسائل التي أثارها علماء الدلالة المحدثون، يسجل ذلك الدكتور الفاسي الفهري فيقول: "إختيار مفهوم ملائم من بين لائحة المفاهيم التي يعبر عنها اللفظ المشترك يتطلب مجهوداً معرفياً خاصاً ويتسبب أحياناً في أخطاء(8) ولكن كيف يرفع اللبس الدلالي ويتعين مفهوم واحد من جملة المفاهيم التي يحتوي عليها المعجم الذهني، حول لفظ (العين) في المثال السابق يقول الآمدي: "والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الأصلي أو بعرف الاستعمال: والإجمال منتف بكل واحد منهما ولهذا كان الإجمال منتفياً عند قول القائل: "رأيت دابة" لما كان المتبادر إلى الفهم ذوات الأربع بعرف الاستعمال وإن كان على خلاف الوضع الأصلي"(9) فالآمدي يحدد منفذين لتعيين مفهوم ملائم من جملة لائحة من المدلولات يختزنها المعجم الذهني وهما: الوضع الأصلي وحقيقة اللفظ أما الثاني هو عرف الاستعمال، إذ اللفظ قد اكتسب عبر السياق اللغوي وقوعاً خاصاً، لأنه أضحى بؤرة لتجميع كل حيثيات المقام الذي يستعمل فيه.

يقول الدكتور الفاسي الفهري محدداً طرق رفع اللبس عن اللفظ المجمل وتعيين مدلول واحد له: "ويقع رفع الإلتباس عن طريق السياق اللغوي المباشر أو السياق الخطابي أو الوضع الذي يحدث فيه التواصل أي كل مصادر المعلومات المتوفرة لرفع اللبس"(10). ولكن رغم تسييق الصيغة المعجمية، أو بالنظر إلى إطارها التواصلي، فإن اللبس قد لا يرفع وهذا ما كان يشكل نقطة الخلاف بين جمهور علماء الأصول في تأويل النصوص القرآنية المتشابهة التي يحمل فيها اللفظ أكثر من مدلول واحد، ولذلك دأب علماء الدلالة المحدثون يبلورون مشروعاً يقضي بأن يكون لكل لفظ معنى نواة، وذلك بالرجوع إلى حقيقة الوضع الأصلي الذي أنتج فيه تعدد المدلولات حول الدال الواحد، ولذلك نرى الآمدي يسوق الشاهد ويردفه بتأويل اللفظ المشترك، ففي قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء). يقول العلماء: القرء هو الحيض أو الطهر، وقد ترتب عن ذلك الاختلاف في تحديد مدلول واحد للفظ (القرء) اختلاف بين علماء الأصول محل تحديد مدة مكوث المرأة المطلقة معتّدة. ومع ذلك عَدّ بعض اللغويين المحدثين تعدد مفاهيم اللفظ الواحد دليلاً على حيوية اللغة، لأن اللفظ أحادي المدلول قد

ص171

 

يرهق الجهد الذاكري، يقول الدكتور الفاسي في ذلك: "وعليه يكون تعدد المعاني دليلاً على حيوية اللغة ورواجها فكيف يمكن أن ننادي بتركه لفائدة أحادية المعنى؟ علماً بأن أحادية المعنى لا يمكن أن تقوم إلا بتحجير اللغة والقضاء على حركيتها، أي قتلها، وعلماً كذلك بأن المجاز والسياق يعرضان اللفظ للتوسع الدائم"(11). وعموماً فإن لتعيين المدلول الرئيسي للفظ المجمل أو المشترك، هو في حاجة إلى مزيد من الوعي اللغوي بحيث لا يلزم من تحديد مدلوله النواة، تعطيل لمطاطية الألفاظ داخل النظام اللغوي التي هي طبيعة كل عناصر اللغات التي تنزع نحو التجدد والتغير والتكيف مع الأوضاع المستجدة، وإن كان الغالب من العناصر اللغوية هي المفيدة لمدلول واحد نواة. ومن جهة ثانية فإن محاولة إثارة قضايا تخص الدلالة من قبل الآمدي، تؤخذ على أنها وعي لغوي بأهمية الآليات الذاتية للجملة العربية، معتمداً في ذلك سبيل تفكيك عناصرها، والوقوف على بؤرة الفعل الدلالي فيها، وذلك قصد استنباط قواعد عامة تصلح لأن تكون قوانين مطردة، لفهم كل الجمل وإمكانية إعادة الكتابة.

إن الإشكال الدلالي الذي يكتنف السياق اللغوي يمكن حله بصيغ التوضيح والتأويل، تلك الصيغ أطلق عليها الآمدي مصطلح "البيان". وهو لا يخرج في مفهومه عن الدليل الذي يفضي إلى العلم أو الظن.

يقول الآمدي معرفاً "البيان": أما البيان فاعلم أنه  لما كان متعلقاً بالتعريف والإعلام بما ليس بمعروف ولا معلوم، وكان ذلك مما يتوقف على الدليل، والدليل مرشد إلى المطلوب وهو العلم أو الظن الحاصل عن الدليل ولم يخرج البيان عن التعريف، والدليل والمطلوب الحاصل من الدليل"(12). ورغم أن الدليل لا يوصل إلى العلم اليقيني بل إلى الظن، يبقى في عرف الآمدي بياناً، لأنه يعتقد أن الظن هو في حد ذاته مطلوب خبري يترتب عليه دلالة خاصة ليست هي بالتأكيد دلالة القطع واليقين، وللبيان صيغ متعددة قد تكون حسية أو عقلية أو شرعية أو عرفية، بل إن السكوت يعد بياناً إذ يقول الآمدي: "فحد البيان ما هو حد الدليل() ويعم ذلك كل ما يقال له دليل كان مفيداً للقطع أو الظن وسواء كان عقلياً أو حسياً أو شرعياً أو عرفياً أو قولاً أو سكوتاً أو فعلاً أو ترك فعل "إلى غير ذلك".(13) فإذا اتضح مفهوم البيان وصيغته التي قد تكون صيغاً لغوية أو غير لغوية، فهل كل

ص172

 

سياق لغوي في حاجة إلى بيان أم أن هناك سياقات مخصوصة لذلك؟ إن السياق اللغوي لا يخلو إما أن يكون واضح الدلالة، أو حد المعنى، معين المدلول، فهو في طبيعته التركيبية والدلالية مبيَّن، أو يكون السياق اللغوي مجمل المعنى، عام اللفظ، مطلق الدلالة فهو يحتاج لإظهار دلالته وتعيينها إلى صيغ البيان، وقد بُحث موضوع "البيان" في الدرس اللغوي الحديث تحت مصطلح التأويل الذي عُدّ البحث في لغة اللغات، أي فيما يجعل منظومات الرموز مؤسسة بالنسبة للمتكلم والمخاطب، للكاتب والقارئ، والتأسيس هنا يعني إقامة الروابط الطبيعية والبيئية بين الخطاب وسياقه الحيوي من اجتماعي وانثربولوجي وذاتي"(14). إن ذلك النص الذي يحتاج إلى بيان أو تأويل لمنظومات رموزه، وكشف القناع عن سياقه الحيوي سماه الآمدي "المبيَّن" الذي يحتوي على بؤرة فاعلة في تركيبه تعطّل مفهوم دلالته الكلية يقول الآمدي شارحاً ذلك: "وأما المبيَّن فقد يطلق. ويراد به ما كان من الخطاب المبتدئ المستغني بنفسه عن بيان، وقد يراد به ما كان محتاجاً إلى البيان وقد ورد عليه بيانه، وذلك كاللفظ المجمل إذا بيّن المراد منه، والعام بعد التخصيص والمطلق بعد التقييد والفعل إذا اقترنت به ما يدل على الوجه الذي قصد منه إلى غير ذلك"(15) ولعل أهم كاتب خص البيان بشرح مستوف لجوانبه هو بلا ريب "الجاحظ" الذي عاش في حدود القرن الثاني الهجري، يقول الجاحظ معرفاً البيان: "والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي يجري إليها القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام، فأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت على المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع"(16). والظاهر أن الآمدي قد حصل مفهوم البيان من تعريف الجاحظ ذلك أنه ليس هناك كبير اختلاف بين التعريفين، إلا أن الآمدي كان أعمق بيان من الجاحظ ذلك لربطه بين البيان كأداة لتأويل الدلالة، ووضوح المدلول وتعيينه، وعموم مصطلح البيان لدلالتي العلم والظن معاً، لأن حاصل البيان قد يكون علماً وقد يكون ظناً، أما الجاحظ فالغاية عنده من البيان هو الفهم والإفهام بأي شيء حصل ذلك، ولعل مرد التباين بين العالمين إلى مادة تطبيق كل منهما، فالآمدي إذا كان قد اتخذ من نصوص القرآن

ص173

 

والأحاديث الشريفة مادة لتطبيقاته اللغوية ولاستنباط القواعد والسنن المطردة في كل خطاب لغوي عربي، فإن الجاحظ يكاد يقصر مفاهيمه اللغوية على كلام العرب وما فيه من عيّ وفصيح، وضرورة تحقيق غاية الفهم والإفهام من الخطاب اللغوي، على نقيض الآمدي، والأصوليين بصفة عامة، الذين تعارفوا على وجود دلالات مختلفة منها: الدلالة القطعية والدلالة الظنية.

إن المبيَّن يتفاوت إجماله وإيهامه، فهو ليس على درجة واحدة، وتبعاً لذلك فإن البيان وجب أن يجانس المبيَّن ولقد أوضح الآمدي هذه المسألة وأظهر أن البيان لا يخلو من أحد المظهرين: إما أن يكون أقوى دلالة من المبيَّن أو أدنى دلالة منه، إما أن يتساويا في ذلك فهو ممتنع يقول في ذلك: "إن كان المبيَّن مجملاً، كفى في تعيين أحد احتماليه أدنى ما يفيد الترجيح وإن كان عاماً أو مطلقاً، فلابد وأن يكون المخصص والمقيد في دلالته أقوى من دلالة العام على صورة التخصيص ودلالة المطلق على صورة التقييد"(17). فالبيان يكون أدنى من المبيّن إذا كان المبيّن مجملاً وذلك في تحديد أحد مدلولاته من ضمن لائحة قد تطول من المدلولات، أما إذا كان المبيّن مطلقاً فالبيان يكون أقوى منه في الدلالة على التقييد وإذا كان المبيّن عاماً كذلك في دلالة البيان عن التخصيص. إن هذا التدقيق في رفع العموم المطلق أو الإجمال القائم في دلالة الخطاب اللغوي يدل على عمق التحليل الذي وسم تفكير الآمدي بسعيه إلى تأسيس قواعد شاملة بناء على ملاحظات تشمل البنية اللسانية وعلاقتها بالبنية الدلالية، وما يجب التنبيه عليه هو أن الآمدي يجعل غايته دائماً في أي تحليل لساني لبنية الجملة أو النص، هو طبيعة وهيئة الدلالة لأنها مدار الأمر كله في منظومة الاتصال والإبلاغ.

إن حاجة "اللغة" إلى بيان حاجة لا تعود إلى ذات المتكلم فحسب بل إلى قدرة المتلقي على تفكيك رسالة الخطاب. ولذلك عد الآمدي الخطاب المجمل غير صالح للتواصل والإبلاغ لأنه بمثابة لغة تخص المتكلم أنشأها بنفسه. يقول الآمدي في ذلك: "إنه لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان"(18). ثم إن غاية الخطاب هو إيصال دلالة الرسالة إلى المتلقي وبذلك تحصل الفائدة من الإبلاغ، أما وأن يترك الخطاب المجمل دون بيان فسماه الآمدي لغواً،

ص174

 

لأنه قصور عن نقل المدركات الذهنية إلى من نريد إبلاغهم بذلك، وقد حدّد العلماء القول الشارح لغاية إفادة المخاطب بتصور مفرد أو لتمييز متشابه، حملوا الباث تبعة الشرح والتعريف.(19)

إن حصول الفائدة من الخطاب متعلقة بتحقيق الفهم من خلال المضمون الدلالي المحمول في سياق الخطاب، أما إذا تعذر الفهم لم تحصل الفائدة وكان الخطاب لغواً يقول الآمدي مبيناً ذلك: "إنما المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم، والمجمل الذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم، فلا يكون مفيداً ومالا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به لكونه لغواً.(20).

إن من تقسيمات الآمدي للألفاظ، قسماً سماه "اللفظ الظاهر" وهو اللفظ الواضح المعنى المنكشف الدلالة وهو الدال دلالة حقيقية أصلية، أو جعلَه العرف اللغوي ذا دلالة أصلية راجحة يقول الآمدي في تعريفه لهذا اللفظ: "اللفظ الظاهر ما دل على المعنى بالوضع الأصلي أو العرفي، ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً(21). إن دلالة اللفظ الظاهر مفتوحة على التأويل المرجوح بدليل، وبالنظر إلى دلالة الظاهر الأصلية أو العرفية، يتأرجح اللفظ بينهما مع احتماله الدلالة على معنى آخر يسنده دليل، ويتمصرف اللفظ إلى مدلوله غير الظاهر بتأويل مقبول، يتراوح بين القوة والضعف بحسب طبيعة اللفظ، ويضطلع بالتأويل متلق مثالي له القدرة على تفكيك بنية الخطاب، والوقوف على بنية الدلالة العميقة متمكناً من تحديد طبيعة الظاهر من الألفاظ، وما يناسبه من التأويل قوة أو ضعفاً وما يوافقه من الدليل الكاشف عن مدلوله الراجح. ففي قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فلفظ "الفقراء" لفظ ظاهر، وتأويله هو الاقتصار على البعض من الفقراء دون الكل، لأن الهدف هو رفع حاجة هؤلاء البعض في توفير الصدقة لهم وكذلك الأمر بالنسبة للفظ "المساكين". إن اللفظ الظاهر لا يحوّل من مدلوله بوجود قرينة صارفة إلا إذا كان في سياق لغوي، ويعني ذلك أن اللفظ قد اكتسب دلالات هامشية إضافية عن مدلوله، وهو ما تنص عليه المباحث اللسانية الحديثة التي تجمع أن لا معنى للكلمة خارج سياقها اللغوي(22). فاللفظ الظاهر على أساس ذلك، لا يتوقف فهم المراد منه على أمر خارجي وإنما الدلالة المقصودة تأتي من

ص175

 

سياقه، ويبقى في أمر استجابة المتلقي للخطاب المتضمن لصيغ من اللفظ الظاهر أن يكون على وعي أن الأصل في اللفظ عدم صرفه عن ظاهر إلا إذا اقتضى ذلك دليل راجع باحتماله التأويل وإرادة معناه غير الحقيقي، من ذلك إذا كان اللفظ الظاهر حقيقة يحتمل أن يراد به المعنى المجازي، وإذا كان عاماً يحتمل التخصيص، وإذا كان مطلقاً يحتمل التقييد وغير ذلك من وجوه التأويل في حقل أصول الفقه.

إنما هو حري بأن يشار إليه بعد هذه التفريعات لحقل الأدلة اللغوية، أن هذا الإنجاز يعد كسباً مرحلياً في مسار التحوّل المنهجي للنظرية الدلالية، إذ بلغ الآمدي الغاية في وضع الحدود وحصر المفارقات الدلالية القائمة على أساس سبر عميق لبنية الخطاب لاسكتناه حقيقة البنية الدلالية، إذ الوصول إلى حصر سمات تمييزية بين خطاب وآخر يدل على أنه ثمة إمكانية منهجية، لإرساء قواعد علمية تغدو نموذجاً متكاملاً لضبط آليات الأحداث الكلامية بالوقوف على ما يشكل نسقها السياقي العام الذي ينتظم العناصر اللسانية في الخطاب الإبلاغي على وجه التحديد. إن ما أنهى الآمدي به كتابه "الإحكام" هو مبحثه في المفاضلة بين التعاريف الموصلة إلى كشف المعنى عن المبيَّن باعتماد معايير موضوعية، ضمن المقاييس التي تعطي للحد المعرف صفة الشمولية المقرونة بالعمق في التعريف أن يكون الحد: "مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعارة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة،" بل أن يكون الحد مشاكلاً للمعرف بطريق المطابقة أو التضمن () فهو أولى لكونه أقرب من الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب، ولتحقيقه لغاية الإبلاغ وهو حصول الإفهام بلا زيادة ولا نقصان(23). إن القيمة التفسيرية للتعريف، تستمد بعدها الدلالي من الحد المعرف حتى يغدو التعريف والمعرف، ثنائية ترسم مجالاً دلالياً يحصل فيه امتداد المعنى، لكنه امتداد يحتفظ بنفس متصورات الخطاب الذاتية مع تحول حتمي في النسق البنيوي للمداخل المعجمية، التي تشكل الخطاب المطلوب تفسيره وتأويله.

إن الغرض المتوخى من إدراج الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية ضمن الاهتمام الدلالي عند الآمدي، هو محاولة تأسيس رؤية نظرية قادرة على إيجاد كل التفسيرات لمستويات الخطاب، فيغدو بذلك الآمدي بمرتكزاته المعرفية حول اللسان العربي، أحد المؤسسين لنظرية لسانية تخص اللغة العربية

ص176

 

التي تأخذ في ثنائية متلازمة، كل حيثيات الإنتاج اللغوي بدءاً بماهية الحدث الدلالي، وانتقالاً إلى فاعل الدلالة وقدراته الذاتية الكامنة وانتهاء عند متلقي الرسالة الإبلاغية وموقعه النفسي والاجتماعي والثقافي، هذه الثنائية المتلازمة التي نلخصها في مباحث الآمدي، طرفها الجانب المعرفي النظري الذي يؤسس لنظرية لغوية منطلقاتها- غالبه النص القرآني بأنظمته الخطابية وسننه في الإبلاغ، وطرفها الآخر التطبيق الإجرائي الذي يسعى إلى إخراج القاعدة اللغوية من حيز التنظيم والتجريد إلى حيز التطبيق والتمثيل، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل. ومن هنا تتبدى أهمية الضوابط الحاصرة لانتظام العناصر اللسانية الدالة في الخطاب، فنلقى السياق اللغوي ليس على درجة واحدة من وضوح الإحالة المرجعية، إّذ قد يتعطل الإرجاع لوجود خلل في متن الخطاب فتتحدد الدلالات ببروز المجال المرجعي وذلك بانتقاء عناصر استبدال تلغي عناصر الخطاب الآخر، أو تقوم بكتابتها بنمط مغاير لأنها قصُرت عن إيصال الدلالة، وذلك ما أفاض الآمدي الحديث حوله في مجال البيان والتأويل والتعريف

ص177

________________________

([1]) المصدر نفسه- ج3. ص3.

(2) انظر فعل مباحث علم الدلالة الحديث: الدال والمدلول: ص42.

(3) Semantique descriptive, p65-66.

(4) الإحكام في أصول الأحكام. ج3. ص4.

(5) المصدر السابق. ج3.ص5.

(6) انظر –التعيين والتضمين في علم الدلالة- (د. جوزيف شريم)- مجلة الفكر المعاصر، عدد 18/19 سنة 1982. ص72-73.

(7) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص10.

(8) اللسانيات واللغة العربية. ج. ص372.

(9) الإحكام في أصول الأحكام.

(10) اللسانيات واللغة العربية، ص372.

(1[1]) المرجع السابق، ص374.

(2[1]) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص25.

(3[1]) المصدر السابق ج3، ص26.

(4[1]) استراتيجية التسمية، التأويل وسؤال التراث، مطاع الصفدي، ص4، مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 30-31 سنة 1984.

(5[1]) الإحكام، ج3، ص26.

(6[1]) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص82.

(7[1]) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص31.

(8[1]) المصدر السابق: ج3 ص45.

(9[1]) عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ضوابط المعرفة وأصول الإستدلال والمناظرة. ص62.

(20) الإحكام في أصول الأحكام، ج3، ص52

([1]2) المصدر السابق، ج3. ص52.

(22) Element de linguistique generale, Andre Martine, P.65..

(23) انظر الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص282




هو العلم الذي يتخصص في المفردة اللغوية ويتخذ منها موضوعاً له، فهو يهتم بصيغ المفردات اللغوية للغة معينة – كاللغة العربية – ودراسة ما يطرأ عليها من تغييرات من زيادة في حروفها وحركاتها ونقصان، التي من شأنها إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة ، ولا علاقة لعلم الصرف بالإعراب والبناء اللذين يعدان من اهتمامات النحو. واصغر وحدة يتناولها علم الصرف تسمى ب (الجذر، مورفيم) التي تعد ذات دلالة في اللغة المدروسة، ولا يمكن أن ينقسم هذا المورفيم الى أقسام أخر تحمل معنى. وتأتي أهمية علم الصرف بعد أهمية النحو أو مساويا له، لما له من علاقة وطيدة في فهم معاني اللغة ودراسته خصائصها من ناحية المردة المستقلة وما تدل عليه من معانٍ إذا تغيرت صيغتها الصرفية وفق الميزان الصرفي المعروف، لذلك نرى المكتبة العربية قد زخرت بنتاج العلماء الصرفيين القدامى والمحدثين ممن كان لهم الفضل في رفد هذا العلم بكلم ما هو من شأنه إفادة طلاب هذه العلوم ومريديها.





هو العلم الذي يدرس لغة معينة ويتخصص بها – كاللغة العربية – فيحاول الكشف عن خصائصها وأسرارها والقوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة أسرار تطورها ، ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة مفصلة كرداسة ظاهرة الاشتقاق والإعراب والخط... الخ.
يتبع فقه اللغة من المنهج التاريخي والمنهج الوصفي في دراسته، فهو بذلك يتضمن جميع الدراسات التي تخص نشأة اللغة الانسانية، واحتكاكها مع اللغات المختلفة ، ونشأة اللغة الفصحى المشتركة، ونشأة اللهجات داخل اللغة، وعلاقة هذه اللغة مع أخواتها إذا ما كانت تنتمي الى فصيل معين ، مثل انتماء اللغة العربية الى فصيل اللغات الجزرية (السامية)، وكذلك تتضمن دراسة النظام الصوتي ودلالة الألفاظ وبنيتها ، ودراسة أساليب هذه اللغة والاختلاف فيها.
إن الغاية الأساس من فقه اللغة هي دراسة الحضارة والأدب، وبيان مستوى الرقي البشري والحياة العقلية من جميع وجوهها، فتكون دراسته للغة بذلك كوسيلة لا غاية في ذاتها.





هو العلم الذي يهتم بدراسة المعنى أي العلم الذي يدرس الشروط التي يجب أن تتوفر في الكلمة (الرمز) حتى تكون حاملا معنى، كما يسمى علم الدلالة في بعض الأحيان بـ(علم المعنى)،إذن فهو علم تكون مادته الألفاظ اللغوية و(الرموز اللغوية) وكل ما يلزم فيها من النظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو السياق.