أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-5-2017
348
التاريخ: 12-5-2017
334
التاريخ: 12-5-2017
409
التاريخ: 12-5-2017
292
|
قال تعالى : {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 27 - 31].
{ولله ملك السماوات والأرض} وهو قادر على البعث والإعادة {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} العادلون عن الحق الفاعلون للباطل أنفسهم وحياتهم في الدنيا لا يحصلون من ذلك إلا على عذاب دائم {وترى كل أمة جاثية} أي وترى يوم القيامة أهل كل ملة باركة على ركبها عن ابن عباس وقيل باركة مستوفزة(2) على ركبها كهيئة قعود الخصوم بين يدي القضاة عن مجاهد والضحاك وابن زيد وقيل إن الجثو للكفار خاصة وقيل هو عام للكفار والمؤمنين ينتظرون الحساب {كل أمة تدعى إلى كتابها} أي كتاب أعمالها الذي كان يستنسخ لها وقيل إلى كتابها المنزل على رسولها ليسألوا عما عملوا به {اليوم تجزون ما كنتم تعملون} أي يقال لهم ذلك {هذا كتابنا} يعني ديوان الحفظة.
{ينطق عليكم بالحق} أي يشهد عليكم بالحق والمعنى يبينه بيانا شافيا حتى كأنه ناطق {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} أي نستكتب الحفظة ما كنتم تعملون في دار الدنيا والاستنساخ الأمر بالنسخ مثل الاستكتاب الأمر بالكتابة وقيل المراد بالكتاب اللوح المحفوظ يشهد بما قضي فيه من خير وشر وعلى هذا فيكون معنى نستنسخ أن الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدون عندها من أحوال العباد وهو قول ابن عباس {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته} أي جنته وثوابه {ذلك هو الفوز المبين} أي الفلاح الظاهر .
ثم عقب سبحانه الوعد بالوعيد فقال {وأما الذين كفروا أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم} أي فيقال لهم أ فلم تكن حججي وبيناتي تقرأ عليكم من كتابي {فاستكبرتم} أي تعظمتم عن قبولها {وكنتم قوما مجرمين} أي كافرين كما قال أ فنجعل المسلمين كالمجرمين والفاء في قوله {أ فلم تكن} دالة على جواب أما المحذوف.
_____________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9، ص133-134.
2- استوفز في قعدته : قعد منتصبا غير مطمئن ، او وضع ركبتيه ورفع اليتيه ، او اسفل على رجليه ، ولما يستو قائما . وقد تهيأ للوثوب.
{ ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأَرْضِ} . يشير سبحانه بهذا إلى قدرته على الإحياء بعد الموت ، لأن من خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر ، ولا ريب ، على أن يحيي الموتى { ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } لأن مأواهم النار في هذا اليوم ، وما لهم من ناصرين { وتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً } . يحشر سبحانه الناس يوم القيامة باركين على الركب ينتظرون الحساب والجزاء ، وغير بعيد أن يكون هذا كناية عن هول المطلع وروعة الفزع .
{ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } . المراد بالكتاب هنا صحيفة الأعمال ، والمعنى ان كل أمة ، وكل امرئ مجزي بما أسلف ، وقادم على ما قدم ، وفي نهج البلاغة : (إذا هلك المرء قال الناس : ما ترك ، وقالت الملائكة ما قدم) . {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقال غدا للمجرمين : هذا ما كتبناه عنكم ، انه صورة طبق الأصل عن أعمالكم لا زيادة فيه ولا نقصان ، لأن اللَّه قد أمر ملائكة الحفظ والصدق أن تسجل أفعالكم ، وتحفظ عليكم عدد أنفاسكم التي قضيتموها في المعصية ولا تستركم من الكتبة ظلمة ، ولا يكنكم منهم حجاب : {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49] ج 5 ص 135 .
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُو الْفَوْزُ الْمُبِينُ } . سلكوا طريق الأمان ، فقادهم إلى رحمة اللَّه ورضوانه . وفي نهج البلاغة لن يفوز بالخير إلا عامله ، ولا يخزى جزاء الشر إلا فاعله {وأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ } ؟ . يقول سبحانه غدا للعتاة المتمردين تقريعا وتوبيخا : سمعتم صوت الحق فلم تستجيبوا له ، ورأيتم الواضحات من دلائله فأعرضتم عنها عنادا واستكبارا ، واسترحتم إلى الفساد والضلال ، فأنتم اليوم من الخاسرين .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص31.
قوله تعالى: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون} قال الراغب: الخسر والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: {تلك إذا كرة خاسرة} ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الأكثر، وفي المقنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين.
قال: وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية والتجارات البشرية.
وقال: والإبطال يقال في إفساد الشيء وإزالته سواء كان ذلك الشيء حقا أو باطلا قال تعالى: {ليحق الحق ويبطل الباطل} وقد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له نحو{ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون}، وقوله تعالى: {خسر هنالك المبطلون} أي الذين يبطلون الحق.
انتهى.
والأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث والجمع والحساب والجزاء وظهوره، وبذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم وهما واحد، والأشبه أن يكون قوله: {يومئذ} تأكيدا لقوله: {يوم تقوم الساعة}.
والمعنى: ويوم تقوم الساعة وهي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين أبطلوا الحق وعدلوا عنه.
قوله تعالى: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} إلخ، الجثو البروك على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الأصابع.
والخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية وإن كان متوجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون}.
والمعنى: وترى أنت وغيرك من الرائين كل أمة من الأمم جالسة على الجثو جلسة الخاضع الخائف كل أمة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها وهي صحيفة الأعمال وقيل لهم: {اليوم تجزون ما كنتم تعملون}.
ويستفاد من ظاهر الآية أن لكل أمة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا به قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الإسراء: 13] .
قوله تعالى: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} قال في الصحاح: ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى، والنسخة اسم المنتسخ منه.
انتهى، وقال الراغب: النسخ إزالة الشيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل ونسخ الظل الشمس والشيب الشباب - إلى أن قال - ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، والاستنساخ التقدم بنسخ الشيء والترشح للنسخ.
انتهى.
ومقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، ولازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} كتابا وأصلا وإن شئت فقل: في أصل وكتاب يستنسخ وينقل منه ولو أريد به ضبط الأعمال الخارجية القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتابا وأصلا يستنسخ، ولا دليل على كون {يستنسخ} بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.
ولازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ وتكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال وجزء من اللوح المحفوظ، ويكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.
وهذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق (عليه السلام) ومن طرق أهل السنة عن ابن عباس، وسيوافيك في البحث الروائي التالي.
وعلى هذا فقوله: {هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق} من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، وهومن خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى: {ويقال لهم هذا كتابنا} إلخ.
والإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال وهي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم وإضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الأعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى ونظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف وقوله: {ينطق عليكم بالحق} أي يشهد على ما عملتم ويدل عليه دلالة واضحة ملابسا للحق.
وقوله: {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق أي إن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لأنه اللوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.
ولولا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك ولا يحتمل منهم التكذيب لكذبوه، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].
وللقوم في الآية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله ومعنى الاستنساخ الكتابة والمعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون.
وفيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.
ومنها: أن الآية من كلام الله، والإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، وقيل: إلى اللوح المحفوظ، والاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
قوله تعالى: {أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين} تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة والشقاء والثواب والعقاب، والسعداء المثابون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والأشقياء المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين.
والمراد بالرحمة الإفاضة الإلهية تسعد من استقر فيها ومنها الجنة، والفوز المبين الفلاح الظاهر، والباقي واضح.
قوله تعالى: {وأما الذين كفروا أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين} المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب وجحود بشهادة قوله: {أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم} إلخ.
والفاء في {أ فلم تكن} للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما، والتقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، والمراد بالآيات الحجج الإلهية الملقاة إليهم عن وحي ودعوة، والمجرم هو المتلبس بالأجرام وهو الذنب.
والمعنى: وأما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا وتقريعا: أ لم تكن حججي تقرأ وتبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها وكنتم قوما مذنبين.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18، ص145-148.
هذه دليل آخر على مسألة المعاد، وقد قرأنا الشبهة المطروحة حوله في آيات القرآن الأُخرى، فتقول: {ولله ملك السماوات والأرض} فلما كان مالكاً لتمام عالم الوجود الواسع وحاكماً عليه، فمن المسلم أن يكون قادراً على إحياء الموتى، ومع وجود تلك القدرة المطلقة لا تكون عملية الإحياء بالأمر العسير.
لقد جعل الله سبحانه هذا العالم مزرعة للآخرة، ومتجراً وافر الربح إلى ذلك العالم، ولذلك يقول سبحانه في نهاية الآية: {ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون}لأنّهم فقدوا رأس مالهم ـ وهو العمر ـ ولم يتجروا فيه، ولم يشتروا متاعاً إلاّ الحسرة والندم.
إنّ الحياة والعقل والذكاء ومواهب الحياة الأُخرى هي رأس مال الإنسان في سوق التجارة هذا، لكن اتباع الباطل يبادلونه بمتاع فان سريع الزوال، ولذلك فإنّهم حين يأتون يوم القيامة، يوم لا ينفع إلاّ القلب السليم والإيمان والعمل الصالح سيرون خسارتهم الباهظة بأُم أعينهم، ولات ساعة مندم.
«يخسر» من الخسران، وهو فقدان رأس المال، وينسب أحياناً إلى نفس الإنسان ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ فيقال: خسر فلان، وأحياناً إلى تجارته فيقال: خسرت تجارته.
ومع أنّ أبناء الدنيا لا يستعملون هذا التعبير إلاّ في موارد المال والمقام والمواهب المادية، مع أنّ الأهم من الخسارة المادية هو فقدان رأس مال العقل والإيمان والثواب.
أمّا «المبطل» ـ من مادة «إبطال» ـ فلها في اللغة معان مختلفة، كإبطال الشيء، والكذب، والإستهزاء والمزاح، وطرح أمر باطل وذكره، وكلّ هذه المعاني يمكن أن تقبل في مورد الآية.
الأشخاص الذين أبطلوا الحق، والذين نشروا عقيدة الباطل وأهدافه، والذين كذبوا أنبياء الله، وسخروا من كلامهم، سيرون خسرانهم المبين في ذلك اليوم.
وتجسّد الآية التالية مشهد القيامة بتعبير بليغ مؤثر جدّاً، فتقول: {وترى كلّ أمة جاثية}.
يستفاد من بعض كلمات المفسّرين أنّ أصحاب الدعوى في الماضي كانوا يجلسون على هذه الهيئة في مجلس القضاء ليميزوا عن الآخرين، وسيجثو الجميع يوم القيامة في تلك المحكمة الكبرى لتتم محاكمتهم.
ويمكن أيضاً أن يكون هذا التعبير علامة على استعدادهم لتقبل أي أمر أوحكم يصدر بحقّهم، لأنّ من كان على أهبة الإستعداد يجثو على الركب.
أو أنّه إشارة إلى ضعف هؤلاء وعجزهم وخوفهم واضطرابهم الذي سيعانونه. وجمع كلّ هذه المعاني في مفهوم الآية ممكن أيضاً.
وللجاثية معان أُخرى، من جملتها الجمع الكثير المتراكم، أو جماعة جماعة، ويمكن أن تكون إشارة إلى تراكم البشر وازدحامهم في محكمة العدل الإلهي، أو جلوس كلّ أمة وفئة على حدة وبمعزل عن الأُمم الأُخرى. إلاّ أنّ المعنى الأوّل هو الأنسب والأشهر.
ثمّ تبيّن الآية ثاني مشاهد القيامة، فتقول: {كل أُمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} فإنّ هذا الكتاب صحيفة أعمال سجلت فيها كلّ الحسنات والسيئات، والقبائح والأفعال الجميلة، وأقوال الإنسان وأعماله، وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: { لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49].
وتعبير (كل أُمة تدعى إلى كتابها) يوحي بأنّ لكلّ أُمة كتاباً يتعلق بأفرادها جميعاً، إضافة إلى صحيفة الأعمال الخاصّة بكلّ فرد، ولا يبدو هذا الأمر عجيباً إذا علمنا أنّ للإنسان نوعين من الأعمال: الأعمال الفردية، والأعمال الجماعية، ولذلك فإن وجود نوعين من صحائف الأعمال يبدو طبيعياً جدّاً من هذه الناحية(2).
والتعبير بـ «تدعى» يوحي بأنّ هؤلاء يدعون إلى قراءة ما في كتبهم، وهذا المعنى نظير ما ورد في الآية (14) من سورة الإسراء: { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
ثمّ يأتيهم الخطاب من قبل الله مرّة أُخرى، فيقول مؤكّداً: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) فقد كنتم تفعلون كلّ ما يحلو لكم، ولم تكونوا تصدقون مطلقاً أنّ كلّ أعمالكم هذه تسجل في مكان ما، ولكن (إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون).
«نستنسخ» من مادة «إستنساخ»، وهي في الأصل مأخوذة من النسخ، وهو إزالة الشيء بشيء آخر، فيقال مثلاً: نسخت الشمس الظل. ثمّ استعملت في كتابة كتاب عن كتاب آخر من دون أن يمحى الكتاب الأوّل.
وهنا يبدو سؤال، وهو: إذا كان الله سبحانه قد أمر باستنساخ أعمال ابن آدم ،ذلك يستلزم أن يكون هناك كتاب قبل النسخ تكتب فيه تلك الأعمال؟ ولذلك فإنّ البعض يعتقد أنّ صحائف أعمال كلّ البشر قد كتبت في اللوح المحفوظ، والملائكة الموكلون بحفظ أعمال الإنسان يستنسخونها من ذلك اللوح المحفوظ.
إلاّ أنّ هذا المعنى لا يتلاءم كثيراً مع الآية مورد البحث، بل الملائم أحد معنيين هما: إمّا أن يكون الإستنساخ هنا بمعنى أصل الكتابة ـ كما قاله بعض المفسّرين ـ، أو أنّ نفس أعمال الإنسان كالكتاب التكويني تنسخ عنه الملائكة الحفظة وتصوره، ولذلك فقد ورد في آيات أُخر من القرآن الكريم التعبير بالكتابة بدل الإستنساخ، كما نقرأ ذلك في الآية (12) من سورة يس: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس: 12] (3).
وقد ورد تفصيل أوسع حول أنواع الكتب التي تسجل فيها الأعمال ـ صحيفة الأعمال الشخصية، وصحيفة أعمال الأُمم، والكتاب الجامع العام لكلّ أفراد البشر ـ في ذيل الآية (12) من سورة يس.
وتبيّن الآية التالية الجلسة الختامية للمحكمة وإصدار قرار الحكم، حيث تنال كلّ فئة جزاء أعمالها، فتقول: {فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربّهم في رحمته}.
إن ذكر «فاء التفريع» هنا دليل على أنّ نتيجة حفظ الأعمال والمحاسبة وتلك المحكمة الإلهية العادلة، هي دخول المؤمنين في رحمة الله سبحانه.
وطبقاً لهذه الآية، فإنّ الإيمان ـ وحده ـ غير كاف لأنّ يجعل المؤمنين يتنعمون بهذه الموهبة العظيمة والعطية الجزيلة، بل إنّ العمل الصالح شرط لذلك أيضاً.
والتعبير بـ «ربّهم» يحكي عن لطف الله الخاص، يكتمل بتعبير «الرحمة» بدل «الجنّة».
وتبلغ بهم نهاية الآية أوج الكمال حينما تقول: {ذلك هو الفوز المبين}.
إنّ لـ «رحمة الله» معنى واسعاً يشمل الدنيا والآخرة، وقد أطلقت في آيات القرآن الكريم على معان كثيرة، فتارة تطلق على مسألة الهداية، وأُخرى على الإنقاذ من قبضة الأعداء، وثالثة على المطر الغزير المبارك، ورابعة على نعم أُخرى كنعمة النور والظلمة، وأطلقت في موارد كثيرة على الجنّة ومواهب الله سبحانه في القيامة.
جملة {ذلك الفوز المبين} تكررت مرّة أُخرى في الآية (16) من سورة الأنعام، غاية ما هناك أنّ الفوز المبين قيل هناك لأُولئك الذين ينجون من عذاب الله عزَّ وجلّ: {من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين} أمّا هنا فقد قيلت فيمن دخل الجنّة وفي رحمة الله، وكلاهما في الواقع فوز عظيم: النجاة من العذاب، والدخول في مستقر رحمة الله سبحانه.
وهنا قد يرد هذا السؤال، وهو: هل أنّ المؤمنين الذين ليس لهم عمل صالح لا يدخلون الجنّة؟
والجواب: إنّهم يدخلونها لكن بعد أن يروا جزاءهم في جهنم حتى يطهروا، فإنّ الذين يردون مستقر رحمة الله هذا بعد الحساب مباشرة هم أصحاب العمل الصالح مضافاً إلى إيمانهم، وحسب.
كلمة «الفوز» ـ كما يقول الراغب في مفرداته ـ تعني الظفر المقترن بالسلامة، وقد استعملت في (19) مورداً من آيات القرآن المجيد، فوصف الفوز مرّة بالمبين، وأُخرى بالكبير، أمّا في غالب الآيات فقد وصف بالعظيم. وهو مستعمل عادة في شأن الجنّة، إلاّ أنّه استعمل في بعض الموارد في شأن التوفيق لطاعة الله ومغفرة الذنوب وأمثال ذلك.
وتذكر الآية الآتية مصير من يقع في الطرف المقابل لأُولئك السابقين، فتقول: {وأمّا الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين}.
وممّا يلفت النظر أنّ الكلام في هذه الآية عن الكفر فقط، وأمّا أعمال السوء التي هي عامل الدخول في عذاب الله وسببه فلم يجر لها ذكر، وذلك لأنّ الكفر وحده كاف لأنّ يدخل صاحبه العذاب، أو لأنّ التعبير بالمجرمين في ذيل الآية كاف لبيان هذا المعنى.
والنكتة الأُخرى هنا أنّه لم يرد كلام عن عقوبات الجحيم، بل الكلام عن التوبيخ الإلهي لهم وتقريعهم، وهو يعتبر أشد العذاب وأكبره، وتهون معه الجحيم كلّ عذابها.
وهنا نكتة تستحق الإنتباه، وهي: أنّه يستفاد من هذه الآية أنّ الله سبحانه لن يعذب أحداً من دون أن يبعث الأنبياء ويرسل الرسل وينزل آياته ـ أو كما يصطلح عليه تأكيد أحكام العقل بأحكام الشرع ـ وهذا منتهى لطفه ورحمته سبحانه.
وآخر ملاحظة هي أنّ أكبر مشاكل هؤلاء القوم هو استكبارهم على آيات الله من جهة، وتماديهم في المعصية والإجرام من جهة أُخرى، وهذا يستفاد من جملة {وكنتم قوماً مجرمين}.
___________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12، ص521-525.
2 ـ احتمل بعض المفسّرين أن يكون المراد من الكتاب في الآية أعلاه، هو الكتاب السماوي الذي أنزل على تلك الأُمة. إلاّ ظاهر الآية يدل على أنّه صحيفة الأعمال، خاصة بملاحظة الآية التالية، وأكثر المفسّرين على ذلك أيضاً.
3 ـ ورد في رواية عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إن لله ملائكة ينزلون كلّ يوم يكتبون فيه أعمال بني آدم». ويقول الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذه الرواية: ومعنى نستنسخ نستكتب الحفظة ما يستحقونه من ثواب وعقاب، ونلقي ما عداه ممّا أثبته الحفظة، لأنّهم يثبتونه جميعاً.
|
|
للتخلص من الإمساك.. فاكهة واحدة لها مفعول سحري
|
|
|
|
|
العلماء ينجحون لأول مرة في إنشاء حبل شوكي بشري وظيفي في المختبر
|
|
|
|
|
قسم العلاقات العامّة ينظّم برنامجاً ثقافياً لوفد من أكاديمية العميد لرعاية المواهب
|
|
|