أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-11-2016
1504
التاريخ: 25-9-2018
1492
التاريخ: 29-11-2016
1394
التاريخ: 27-5-2017
1188
|
تولى الإمام الحسن (عليه السلام) مسؤولية الخلافة في مناخ قلق غير مستقر وفي ظروف التعقيد والصراع، والتي برزت وتأزمت في أواخر حياة أبيه الإمام علي (عليه السلام). ومن هذه الظروف المعقدة القاسية نذكر ما يلي:
1 - بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) حكمه، مع جماهير لا تؤمن إيمانا واضحا كاملا برسالية المعركة وبأهدافها، ولا تتجاوب دينيا وإسلاميا مع متطلبات هذه المعركة، وكانت قد توزعت في تلك الفترة على أحزاب أربعة هي:
أ - الحزب الأموي: ويضم عناصر قوية تتمتع بنفوذ وكثرة في الأتباع وهؤلاء عملوا على نصرة معاوية في أوساط شيعة الحسن (عليه السلام) وكانوا بمثابة جواسيس وعيون على تحرك الإمام (عليه السلام).
ب - الخوارج: وكانوا أكثر أهل الكوفة لجاجة على الحرب حتى أنهم اشترطوا على الحسن (عليه السلام) عند بيعتهم له حرب الحالين الضالين فرفض، فأتوا إلى الحسين مبايعين فقال لهم: معاذ الله أن أبايعكم ما دام الحسن حيا عندئذ لم يجدوا بدا من مبايعة الحسن (عليه السلام) وهؤلاء تعاونوا مع الحزب الأموي على حياكة المؤامرات الخطيرة والمناهضة لخطة الإمام الحسن (عليه السلام).
ج - الشكاكون: وهم المتأثرون بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، فهم المذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. ويغلب على طبعهم الانهزام. وهم ينعقون مع كل ناعق بما تدر عليهم مصالحهم. د - الحمراء: وهم شرطة زياد طابعهم العام أنهم جنود المنتصر وسيوف المتغلب، بلغ من استفحال أمرهم آنذاك أن نسبوا الكوفة إليهم فقالوا كوفة الحمراء . وبمواجهة هؤلاء جميعا كان أتباع الحسن (عليه السلام) الذين هرعوا إلى مبايعته بعد وفاة أبيه علي (عليه السلام)، وكانوا هم الأكثر عددا في الكوفة ولكن دسائس الآخرين وفتنتهم كانت تعمل دائما لإحباط أي تحرك صادر عنهم.
2 - الفارق التاريخي بين شخصية الإمام الحسن (عليه السلام) وشخصية أبيه الإمام علي (عليه السلام) ونعني بالفارق التاريخي: رصيد كل واحد منهما في أذهان الناس، إذ ليس هناك فارق بينهما في حساب الله عز وجل فإن كل واحد منهما أمام معصوم، ولكن المقصود هو أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يؤمنون بفكرة النص على إمامة الإمام سوى القلة القليلة منهم، ولذلك لم يعاملوا الإمام الحسن (عليه السلام) كإمام مفترض الطاعة، منصوص عليه، وإنما عاملوه على أن إمامته إمامة عامة وامتداد لخط السقيفة ومفهومها للخلافة. والذي يؤكده هنا أن رصيد الإمام علي (عليه السلام) التأريخي في نفوس الناس لم يمتلك نظيره الإمام الحسن (عليه السلام).
3 - تسلم الإمام الحسن (عليه السلام) الحكم بعد استشهاد أبيه مباشرة مما قوى موجة الشك في رسالية المعركة التي يخوضها الإمام الحسن (عليه السلام) حتى أن الإيحاء كان لديهم قويا بأن المعركة هي معركة بيت مع بيت، أمويين مع هاشميين، وهي بالتالي ليست معركة رسالية. كل هذه الأسباب والملابسات، عقدت موقف الإمام (عليه السلام) من مسألة الحكم وبات الإمام أمام خيارات أربع لا خامس لها:
الخيار الأول: وهو إغراء الزعامات وأصحاب النفوذ بإعطائهم الأموال ووعدهم بمناصب، لاستمالتهم إلى جانبه، وهذا الخيار اقترحه البعض على الإمام الحسن لكنه رفضه بقوله أتريدون أن أطلب النصر بالجور فوالله ما كان ذلك أبدا .
الخيار الثاني: وهو أن يتجه الإمام إلى الصلح من أول الأمر ما دامت الأمة قد أنست بحياة الدعة وما دامت زعاماتها قد بدأت تتصل بمعاوية. استبعد الإمام الحسن (عليه السلام) العمل بأحد هذين الخيارين نهائيا لعدم جدواهما.
الخيار الثالث: أن يخوض معركة يائسة يستشهد فيها هو وجماعته.
الخيار الرابع: أن يصالح بعد أن يستنفذ أطول وقت ممكن ليسجل المواقف وليبين للناس من يثبت ممن ينحرف وها نحن نسأل بدورنا: هل خوض معركة يائسة كانت تؤدي إلى مفعول أو إلى تغيير الواقع الإسلامي آنذاك؟
والإجابة: كلا، لم تكن تلك المعركة اليائسة لتؤدي إلى أي مفعول، ما دامت سوف تتم في ظل شك الجماهير بهذه المعركة.
ومن هنا جاء لوم كثير من المؤرخين للإمام الحسن (عليه السلام) منددين بتكاسله وضعفه وتنازله عن حقه، حسما للفتنة وقبوله لحياة الدعة والراحة. وجوابا على هذا الافتراء يمكن القول: أن خوض الإمام (عليه السلام) ودخوله في معركة يائسة سلفا يجعل معركته في نظر كثير من المسلمين بمستوى المعركة التي خاضها عبد الله بن الزبير، حتى قتل وقتل معه كل أصحابه الخواص. ونسأل، هل فكر أحد من المسلمين بابن الزبير؟ وهل أن معركته التي خاضها حققت مكسبا حقيقيا للإسلام أو قدمت زخما جديدا للعمل؟ فالجواب، كلا، لم يفكر فيه أحد، لأن الناس كانوا يعيشون مفهوما واضحا تجاه عبد الله بن الزبير، فهو في نظرهم، خاض المعركة لزعامته الشخصية ضد عبد الملك بن مروان، ولم تكن من أجل إنقاذ الرسالة أو حماية الإسلام أو تعديل الحكم المنحرف. فنفس هذا الشك، بل بدرجة أقوى قد وجد عند الجماهير التي عاشت مع الإمام الحسن (عليه السلام).
وهناك أرقام تأريخية كثيرة، تؤكد لنا أن الإمام (عليه السلام) كان مدركا لموقفه وعارفا أن معركته مع معاوية مستحيلة الانتصار مع وجود ظاهرة الشك في الجماهير. والإمام (عليه السلام) ببياناته التأريخية، يرسم لنا أبعاد سياسته بوضوح في معالجته الواعية لأزمة الوضع مع أصحابه، وفي مقارعته لأعدائه، في بيان سياسي مؤثر، نلحظ فيه عمق المرارة وبليغ الرفض، ليؤكد من خلال كل كلمة من كلماته الحق الذي اطمأن إليه. ونحن نعطي دور الإيضاح والبيان للإمام (عليه السلام) ليكلمنا بكل شيء عن مجتمعه وموقفه من مشاكل زمانه، وعن الحلول التي خرج بها لحسم المشكلة، قال (عليه السلام): عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا، إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل إنهم لمختلفون ويقولون إن قلوبهم معنا وإن سيوفهم لمشهورة علينا . غررتموني، كما غررتم من كان قبلي مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط . أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن نقاتلهم بالسلامة والصبر، نشيب السلامة بالعداوة والصبر والجزع، وكنتم تتوجهون معنا. ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن، ودنياكم أمام دينكم وكنتم لنا، وقد صرتم علينا . ثم خنقته العبرة، فبكى وبكى الناس معه.
ومن أجل أن لا تنحرف الإمامة عن مسارها الصحيح الأصيل، أضاف بعد ذلك: أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه أنا ابن السراج المنير، أنا من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجز وطهرهم تطهيرا، أنا من أهل بيت فرض الله مودتهم في كتابه فقال {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} [الشورى: 23] (1)، فالحسنة مودتنا أهل البيت. فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعة الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دس رجلا من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة، ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا على الحسن (عليه السلام) الأمور. فعرف ذلك الحسن (عليه السلام) فأمر باستخراج الحميري من عند لحام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني سليم فأخرج وضربت عنقه، وكتب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: أما بعد: فإنك دسست الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء، وما أوشك ذلك، فتوقعه، إن شاء الله تعالى . فاجتمعت العساكر إلى معاوية وسار قاصدا إلى العراق، وقد عبأ هؤلاء، استعدادا لمحاربة الإمام الحسن (عليه السلام). وبدأ الإمام الحسن (عليه السلام) يستنهض أهل الكوفة للجهاد، وأمر حجر بن عدي الكندي، أن يهيئ القادة والناس لمواجهة معاوية بعد أن بلغه توجه معاوية بجيشه نحو العراق. أخذ المنادي يدور في أزقة الكوفة يهتف الصلاة جماعة ، فاندفع الناس إلى المسجد، ثم ارتقى الإمام (عليه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين *(واصبروا إن الله مع الصابرين)* فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني أن معاوية بلغه إنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة... فسكت الجميع. ونهض عدي بن حاتم الطائي حين رأى سكوت الناس فقال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام، ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم... أما تخافون مقت الله ولا عيبها ولا عارها. ثم استقبل الإمام الحسن فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، وقد سمعنا مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت ورأيت.
ثم قال: وهذا وجهي إلى معسكرنا، فمن أحب أن يوافي فليواف. ثم خرج من المسجد، ودابته بالباب، فركبها ومضى إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان المثل الأول للمجاهد المطيع، وهو إذ ذاك أول الناس عسكرا (2). وفي طئ ألف مقاتل لا يعصون لعدي أمرا (3). وقام قيس بن سعد بن معاذ، ومعقل بن قيس، وزيادة ابن صعصعة، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم، وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج (4). وصف الجيش ونزعاته ونشط - بعدهم - خطباء آخرون، فكلموا الحسن بمثل كلام عدي ابن حاتم، فقال لهم الحسن (عليه السلام):
رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء، والمودة، فجزاكم الله خيرا . وصف الجيش: لا أن شك الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة، ويبنى عليه كيانها، وهو السياج الواقعي للحكومة والشعب من الاعتداء، وعليه المعول في حفظ النظام وسيادة الأمن، - كما وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر لما ولاه مصر - في الجيش فيما إذا كان مخلصا في دفاعه ومؤمنا بحكومته. وكان الجيش الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس في الفتنة وماج في الشقاء فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية. وما أحسن ما وصفه الشيخ المفيد (قدس سره)، حيث قسمه إلى عدة عناصر وقد أجاد في وصفه وأبدع في تقسيمه، وأستنصر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة (ووسيلة)، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون إلى دين . (5) وأعرب الشيخ المفيد (طيب الله مثواه) في كلامه - أولا - عن كراهة الجيش لحرب وإيثاره العافية ورغبته في السلم، وأفاد - ثانيا - في تقسيمه أن الجيش ينقسم إلى عناصر متباينة في أفكارها، مختلفة في عقائدها واتجاهاتها، وهي كما يلي:
أ - الشيعة: والشيعة فيما يظهر كان عددهم أقل من الغوغائية والمنافقين وأصحاب المطامع في الجيش، ولو كان عددهم أكثر والغلبة لهم، لما استطاع الأشعث بن قيس، ومن ورائه أصحاب الجباه السود الخوارج من إجبار أمير المؤمنين (عليه السلام) على التحكيم في واقعة صفين، ولا اضطر الإمام الحسن (عليه السلام) إلى مصالحة معاوية بعد أن شاهد الدسائس والمؤامرات والتخاذل في صفوف جيشه. وهذا العنصر من الشيعة يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حق أهل البيت وأنهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.
ب - المحكمة: وهم الخوارج الذين ضمهم جيش الإمام وهم أساس الفتنة والانقلاب وفشل جيش الإمام في صفين ومن ثم مع الإمام الحسن (عليه السلام) وكانوا يرون قتال معاوية بكل حيلة ووسيلة لا إيمانا منهم بقضية الحسن وباطل معاوية، بل كانوا يرون الحسن ومعاوية في صعيد واحد.
ج - أصحاب المطامع: وهم فصيلة من الجند لا تؤمن بالقيم الروحية ولا تقدس العدل ولا تفقه الحق، وإنما كانت تنشد مصالحها وأطماعها، وكانت ترقب عن كثب أي الجهتين قد كتب لها النصر والظفر حتى تلتحق بها - كما حدث -.
د - الشكاكون: وأكبر الظن أن الشكاكين هم الذين أثرت عليهم دعوة الخوارج ودعاية الأمويين حتى شككوا في مبدأ أهل البيت (عليهم السلام) وفي رسالتهم الإصلاحية وهؤلاء لو اندلعت نيران الحرب لما ساعدوا الإمام بشيء، لأنهم لم يكونوا مدفوعين بدافع عقائدي في نصرة أهل البيت (عليهم السلام).
ه- أتباع الرؤساء: وهم أكثر العناصر عددا، وأعظمهم خطرا فهم يتبعون زعماءهم ورؤساءهم اتباعا أعمى، لا إرادة لهم ولا تفكير ولا شعور بالواجب، وهم المعبر عنهم بالهمج الرعاع، وكان أغلب سواد العراق ممن ينتمي إلى أحد الزعماء وأكثر زعماء هذه العشائر كانوا ممن كاتب معاوية بالطاعة والانقياد، كقيس بن الأشعث، وعمرو ابن الحجاج الزبيدي، وحجار بن أبجر، وشبث بن ربعي، وأضرابهم من الخوارج والمنافقين والانتهازيين الذين اشتركوا في أعظم مأساة سجلها التاريخ وهي قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (عليهما السلام) في كربلاء يوم عاشوراء بعد أن كاتبوه وبذلوا له نصرتهم.
هذه العناصر التي تكون منها جيش الإمام، بل جميع أبناء الشعب العراقي من نفر منهم إلى الحرب ومن لم ينفر، كان ينضم إلى أحد هذه الطوائف التي ذكرها الشيخ المفيد (رحمه الله) في كلامه القيم، وأكثر هؤلاء كانوا لا يؤمن من شرهم في السلم فضلا عن الحرب. واستخلف الإمام الحسن (عليه السلام) على الكوفة - ابن عمه - المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس للشخوص إليه في النخيلة. وخرج هو بمن معه، وكان خروجه لأول يوم من إعلانه الجهاد أبلغ حجة على الناس في سبيل استنفارهم. وانتظمت كتائب النخيلة خيار الأصحاب من شيعته وشيعة أبيه وآخرين من غيرهم. ونشط المغيرة بن نوفل لاستحثاث الناس إلى الجهاد وكان المنتظر للعهد الجديد، أن لا يتأخر أحد بالكوفة عن النشاط المتحمس لإجابة دعوة الإمام. ولكن شيئا من ذلك لم يقع!. وحتى السرايا الجاهزة التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أعدها للكرة على جنود الشام قبيل شهادته - وكانت تعد أربعين ألف مقاتل - قد انفرط عقدها وتمرد أكثرها، وتثاقل معها أكثر حملة السلاح في الكوفة عن الانصياع للأمر. وكان المذبذبون من رؤساء الكوفة، أشدهم تثاقلا في اللحظة الدقيقة التي أزفت فيها ساعة الجد. قالت النصوص التاريخية فيما ترفعه إلى الحارث الهمداني كشاهد عيان: وركب معه - أي مع الحسن - من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا، وغروه كما غروا أمير المؤمنين من قبله.. وعسكر في النخيلة عشرة أيام فلم يحضره إلا أربعة آلاف. فرجع إلى الكوفة، ليستنفر الناس، وخطب خطبته التي يقول فيها: غررتموني، كما غررتم من كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط . أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن نقاتلهم بالسلامة والصبر، نشيب السلامة بالعداوة والصبر والجزع، وكنتم تتوجهون معنا. ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن، ودنياكم أمام دينكم وكنتم لنا، وقد صرتم علينا . أقول: ثم لا ندري على التحقيق عدد من انضوى إليه - بعد ذلك - ولكنا علمنا أنه سار من الكوفة في عسكر عظيم على حد تعبير ابن أبي الحديد في شرح النهج. وغادر النخيلة وبلغ دير عبد الرحمن فأقام ثلاثا، والتحق به عند هذا الموضع مجاهدون آخرون لا نعلم عددهم. وكان دير عبد الرحمن هذا مفرق الطريق بين معسكري الإمام في المدائن. ومسكن. كما ذكرنا أن جيش الإمام الحسن (عليه السلام) تألف من زهاء عشرين ألفا، أو يزيد قليلا، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش، وهي الطريقة التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أي قابليات شخصية، أو عمرا معينا، ولا تنزع في مناهج تجنيدها إلى الإجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر على حمل السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي الله بالجهاد فإما أن يبعث فيه هذا الوازع، الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل الله، وإما أن يكون المغلوب على أمره بدوافع الدنيا والغنائم. ونجحت دعوة اتباع أهل البيت إلى حد ما، في اكتساب العدد الأكبر من المتحمسين للحرب، رغم المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون الذين سبق ذكرهم في الكوفة، ونشط الناس للخروج إلى معسكرهم (6) .
قيادة جيش الإمام (عليه السلام) وبداية الفتنة:
قيادة الجيش وبداية الفتنة روى الشيخ المجلسي في البحار: في بادئ الأمر أرسل الإمام الحسن (عليه السلام) قائدا في أربعة آلاف، وكان من كنده، وأمره أن يعسكر بالأنبار (7)، ولا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره. فلما توجه إلى الأنبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك، بعث إليه رسلا، وكتب إليه معهم: إنك إن أقبلت إلي، أولك بعض كور الشام والجزيرة، غير منفس عليك. وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم. فقبض الكندي المال، وغدر بالإمام الحسن (عليه السلام) وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الإمام الحسن (عليه السلام) فقام خطيبا وقال:
هذا الكندي توجه إلى معاوية، وغدر بي وبكم، وقد أخبرتكم مرة بعد مرة، أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلا آخر مكانه، وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم، ولا يراقب الله في ولا فيكم. فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتوكد عليه، وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا يفعل. فقال الإمام الحسن (عليه السلام): أنه سيغدر. فلما توجه إلى الأنبار، أرسل إليه معاوية رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه وبعث إليه بخمسة آلاف (ولعله يريد خمسمائة ألف) درهم، ومناه أي ولاية أحب من كور الشام والجزيرة، ففعل كصاحبه، وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يحفظ ما أخذ عليه من عهود... . ثم ذكر بعد هذا العرض، اتخاذ الحسن النخيلة معسكرا له، ثم خروجه إليها. نظر الإمام الحسن (عليه السلام) عن يمينه وعن شماله، وتصفح - مليا - الوجوه التي كانت تدور حوله من زعماء شيعته ومن سراة أهل بيته، ليختار منهم قائد مقدمته التي صمم على إرسالها إلى مسكن، فلم ير في بقية السيوف من كرام العشيرة وخلاصة الأنصار، أكثر اندفاعا للنصرة ولا أشد تظاهرا بالإخلاص للموقف من ابن عمه ( عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب) (8) و(قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري) و(سعيد بن قيس الهمداني) - رئيس اليمانية في الكوفة - فعهد إلى هؤلاء الثلاثة بالقيادة مرتين.
وكان عبيد الله بن عباس أحد سراة الهاشميين، ومثكول بقتل ولديه في اليمن من قبل الجيش الأموي بأمر قائده بسر بن أرطاة، وقديما قيل... ليست الثكلى كالمستأجرة ثم هو كان أسبق الناس دعوة إلى بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) يوم بايعه الناس بعد أبيه. وكان المفروض أن يكون حريا بهذه الثقة الغالية التي وضعها الإمام (عليه السلام) في ابن عمه. ودعاه، فعهد إليه عهده الذي لم يرو لنا بتمامه، وإنما حملت بعض المصادر صورة مختزلة منه. قال فيه: يا ابن عم! إني باعث معك اثني عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين وسر بهم على شط الفرات، ثم امض، حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته، فاحتبسه حتى آتيك، فإني على أثرك وشيكا. وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد، وسعيد بن قيس -. وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل، فقاتله. وأن أصبت، فقيس بن سعد على الناس، فإن أصيب فسعيد بن قيس على الناس . وتوالت الأحداث والدعايات المغرضة الهادفة من العدو لزعزعة معنويات جيش الإمام، خاصة المرتزقة منهم. وحدثته نفسه أن يرجع إلى المدائن، ويستقيل من منصبه كقائد لقوات الإمام (عليه السلام) لكنه تذكر الأيادي البيضاء التي أسبغها عليه ابن عمه الطاهرين، والاعتراف الصريح بالعجز وهو القائد الملهم. أما أن يتنازل من شموخه كقائد في معسكر إمام، فيساوم رسل معاوية على أجر الهزيمة، فلا ولا كرامة!!!؟
وكانت رسالة معاوية إليه، تضرب على وتر الحساس من ناحية حبه للتعاظم وتطلعه إلى السبق، فيقول له فيها: إن الحسن سيضطر (9) إلى الصلح، وخير لك أن تكون متبوعا ولا تكون تابعا (10)... . وجعل له فيها ألف ألف درهم (11). وكان معاوية أقدر من غيره على استغلال مأزق أعدائه. وهكذا صرع الشعور بالخيبة، والاستسلام للطمع، الفتى الأصيل. فإذا هو أبشع صور الخيانة المفضوحة والضعف المخذول. فلا الدين، ولا الوتر، ولا العنعنات القبلية، ولا الرحم الماسة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن قائده الأعلى، ولا الميثاق الذي واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة، ولا الخوف من حديث الناس ونقمة التاريخ بالذي منعه عن الانحدار إلى هذا المنحدر السحيق. ودخل حمى معاوية ليلا، دخول المنهزم المخذول الذي يعلم في نفسه أي أثم عظيم أتاه. ثم شاح عنه التاريخ بوجهه، فلم يذكره إلا في قائمته السوداء. وكان ذلك جزاء الخائنين، الذين يحفرون أجداثهم بأيديهم، ثم يموتون عامدين، قبل أن يموتوا مرغمين. وخلقت هزيمة عبيد الله بن عباس في مسكن جوا من التشاؤم الذريع، لم يقتصر أثره على مسكن، ولكنه تجاوزها إلى المدائن أيضا. فكانت النكبة الفاقرة بكل معانيها، وللمسؤوليات الهائلة التي تدرج إليها الموقف بعد هذه النكبة، ما يحمله عبيد الله أمام الله وأمام التاريخ. وتسلم قيادة المقدمة بعد فرار قائدها الأول، صاحبها الشرعي الذي سبق للإمام تعيينه للقيادة بعد عبيد الله، وهو (قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري) العقيدة المصهورة، والدهاء المعترف به في تاريخ العرب، والشخصية الممتازة من بقايا أصحاب الإمام علي (عليه السلام)، شب مع الجهاد، واستمر على الدرب اللاحب. وأنكر على الآخرين ضعفهم حين ضعفوا، ونقم عليهم استجابتهم للمغريات وعزوفهم عن الواجب. وما أن دان له المعسكر في مسكن حتى وقف بين صفوفه المتباقية فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة وتولى القيادة بعد أن قام فيهم خطيبا بتلك الخطبة الحماسية الملهبة، محاولا الحفاظ على البقية الباقية من جيشه والمعنويات المنهارة فقال:
أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الموله، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط، إن أباه العباس عم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين. وإن أخاه ولاه على البصرة فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولديه حتى قتلا، وصنع الآن الذي صنع. وهكذا اندفع القائد الجديد الصامد قيس في موقفه المؤمن بهدفه، يودع سلفه بهذه الكلمات الساخرة اللاذعة التي تكشف عن ماض هزيل ونفسية ساقطة. ثم أرسل إلى الإمام (عليه السلام) بكتاب ينبئه بما حدث، وتصل أنباء استسلام عبيد الله ومن معه لعدوه معاوية، ويشيع جو من المحنة والحيرة في النفوس، ويشعر الإمام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه وأخصهم به، وتتسرب الأنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقواد لمعاوية، وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والموادعة (12). ومن جهة أخرى دس معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي (13)، وغيرهم من الزعماء ورؤساء القبائل في الكوفة، دسيسا أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم وجند من أجناد الشام وأزوجك بنتا من بناتي. فبلغ ذلك الإمام الحسن (عليه السلام) فأخذ الحيطة والحذر، ممن؟ من قواد جيشه ورؤساء أنصاره!! ولبس اللامة والدرع تحت ثيابه، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة إلا دارعا، فرماه أحدهم بسهم وهو في صلاته فلم ينبت فيه لما عليه من اللامة والدرع. (14) ثم وجه معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة بألف ألف درهم على أن يصير معه أو ينصرف عنه. فأرجع إليه المال، وقال تخدعني عن ديني (15). وحين فشلت أساليب معاوية الخادعة وإغراءاته في قيس بن سعد الأنصاري في مسكن أرسل معاوية جواسيس ليندسوا في صفوف جيش الإمام الذي في المدائن ليشيعوا كذبا وزورا، نبأ مصالحة قيس مع معاوية، وجماعة أخرى من الجواسيس اندسوا في صفوف جيش الإمام بمسكن الذي هو بقيادة قيس بن سعد، بأن الإمام الحسن (عليه السلام) صالح معاوية، وبهذه الطريقة، إنطلت الخدعة على الخوارج ومن يرى رأيهم وفعلت فعلها.
تأثير الرشوة:
واستجابت النفوس المريضة التي لم يهذبها الدين إلى دعوى معاوية، وانجرفت بدنياه الحلوة، وانخدعت بوعوده المعسولة، فأخذت تتهاوى على أعتابه بتلبية طلباته، وممتثلة لأمره، فراسله جمع من الأشراف والوجوه البارزين من جيش الإمام برسائل متعددة أعربوا فيها عن استعدادهم إلى الفتك بالإمام متى ما طلب منهم ذلك وأراد، وهي ذات مضمونين: موقف الإمام الحرج
1 - تسليم الحسن له سرا أو جهرا.
2 - إغتياله وقتله متى ما أراد ذلك.
وقد بعث معاوية برسائلهم إلى الإمام ليطلع فيها على خيانة جيشه ورؤساء أجناده، وعندما عرضت عليه تلك الرسائل وعرف تواقيعهم أيقن بفسادهم، وتخاذلهم وسوء نياتهم. (16)
عودة إلى موقف الإمام: وهكذا: أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من قواده، والزعماء، وأهل الشرف، والبيوتات من أصحابه، كما تسميها بعض المصادر، وقد تبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند، حيث كان انهزامهم سببا لحدوث تمرد شامل في الجيش. وقد ارتفعت أرقام الفارين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله بن العباس وخاصته إلى ثمانية آلاف، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه يقول: وحقا إنها صدمة رهيبة، ومحنة شاقة وحادة تتداعى أمامها القوى وينهار بها ميزان الموقف. وتكشرت بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمل ثقلها ومسؤولياتها، عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ. ويقف الإمام موقف المتحير يبحث عن مخرج لهذا المأزق الحرج، الذي تداعت به معنويات جيشه في مسكن وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن. ووازن بين جيشه وجيش عدوه.. كان جيشه يتألف من عشرين ألفا فقط، كما أجمعت عليه المصادر التاريخية في مقابل ستين ألفا يتألف منها جيش معاوية، وبعد إسقاط الثمانية آلاف التي فرت من مسكن بعد فرار القائد عبيد الله، تكون نسبة جيش الإمام إلى جيش معاوية نسبة الخمس. وينهار الميزان بينهما في الحسابات العسكرية..
ومما زاد في تهالك الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي ابتدعها معاوية كسلاح ينفذ منه للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن، وسنذكر هنا لقطات من تلك الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسن (عليه السلام) بشقيه في المدائن ومسكن. وقد قذف معاوية كل ما في دخيلته من خبث ومكر وتلون في نسج خدعة وأباطيله وقد ضمن له كل ما أراد من الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه. وكان اختياره للأكاذيب يتم عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها فأرسل من يدس في معسكر المدائن:... بأن قيس بن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار معه.. (17)
ويوجه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه.. (18) فلما أصبح أراد أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة، ليتميز بذلك أولياؤه من أعدائه، ويكون على بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر أن ينادى الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال: الحمد لله كلما حمد حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق وائتمنه على الوحي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما بعد، فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريدا له بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردوا علي رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا. فنظر الناس [من الخوارج المحكمة] بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه. فقالوا: كفر والله الرجل، ثم شدوا على فسطاطه وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسا متقلدا السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده فقال: ادعوا لي ربيعة وهمدان، فدعوا فأحاطوا به ودفعوا الناس عنه، وسار ومعه شوب من غيرهم، فلما مر في مظلم ساباط بدر إليه الجراح بن سنان الأسدي، فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وهو سيف دقيق يكون غمده كالسوط، وقال: الله أكبر، أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم، وضربه الحسن (عليه السلام) واعتنقه وخرا جميعا إلى الأرض، فوثب إليه رجل من شيعة الحسن (عليه السلام) يقال له عبد الله بن خطل الطائي فنزع المغول من يده وخضخض به جوفه، وأكب عليه آخر يقال له ظبيان بن عمارة فقطع أنفه فهلك من ذلك، وأخذ آخر كان معه فشدخوا وجهه ورأسه حتى قتلوه. وحمل الحسن (عليه السلام) على سرير إلى المدائن فأنزل بها على سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامل أمير المؤمنين (عليه السلام) بها فأقره الحسن (عليه السلام)، واشتغل الحسن (عليه السلام) بنفسه يعالج جرحه وجاءه سعد بن مسعود بطبيب فقام عليه حتى برئ. هكذا ذكر المفيد وأبو الفرج، والذي ذكره الطبري وابن الأثير وسبط ابن الجوزي ناقلا له عن الشعبي، أنه لما نزل الحسن (عليه السلام) المدائن نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا إلى سرادق الحسن (عليه السلام) فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطا كان تحته، فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا. قال المفيد: وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالسمع والطاعة في السر، واستحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به. وجاء الوفد الشامي المؤلف من المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن كريز، وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليطلع الإمام الحسن عليها وليعرف ما انطوت عليه دخيلة أصحابه ممن أضمروا السوء وتطوعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب. وتنشر الكتب بين يدي الإمام الحسن ولم تكن لتزيده يقينا على ما يعرف من أصحابه من دخيلة السوء وحب الفتنة وكانت خطوطهم وتواقيعهم واضحة وصريحة لدى الإمام (عليه السلام). وعرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة ولكن الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية وكان دقيقا في جوابه، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، بل اندفع يعظهم ويدعوهم إلى الله عز وجل وما فيه نصح لهم وللأمة ويذكرهم بما هم مسؤولون به أمام الله ورسوله في حقه. ولكن المغيرة ورفاقه ممن طبع الشيطان على قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة أنى تنفع معهم العظة أو يعيدهم عن غيهم تذكير أو ترهيب، ولقد كان معاوية دقيقا في اختياره لهم لينفذوا له هذا الجانب من الخطة البارعة وليحبكوا له هذه الخدعة الرهيبة في سلسلة خدعه والتي كانت بداية النهاية لفصول المأساة التي انتهت بتوقيع عقد الهدنة بينه وبين الإمام. وحين رأى المغيرة ورفاقه أن الدور الأول من التمثيلية دبجها خبث معاوية معهم ومكره قد فشلت في إقناع الإمام بالصلح بل بقي في موقفه صامدا أمام هذه المؤثرات القوية الصاعقة انتقلوا لتمثيل الدور الثاني الذي إن لم يكن مضمون النتائج فورا.. فلا أقل من أنه سيترك أثرا سيئا يزيد موقف الإمام حراجة وضعفا. وغادر الوفد مقصورة الإمام مستعرضا مضارب الجيش الذي كان يترقب نتائج مفاوضات الوفد وما توصل إليه من اتفاق على الصلح أو المضي على درب المعركة.. وتشوف الجيش إلى الوفد وهو يغادر الإمام وباهتمام بالغ لعله يسمع منه كلمة تدل على نتائج المفاوضات ويرفع أحد أفراده صوته ليسمع الناس:
إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة وأجاب الصلح... (19 ) وهكذا: مثلوا دورهم هنا أخبث تمثيل، وخلقوا جوا لاهبا من المأساة تدهور على أثرها الموقف. وتفجرت كوامن الفتنة واضطراب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة، فأي غائلة هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه؟ وثارت المحكمة أي الخوارج ومن يرى رأيهم .. حيث مست كلمة الثالوث الشامي الخبيث الوتر الحساس فيها، فقد كانت هذه الفئة تطالب بالحرب بإصرار، فهي ما انضوت تحت لواء الإمام الحسن إلا لتحارب معاوية ولتقضي عليه، وفي تصورها الساذج أن انضمام جيش المدائن إلى من تبقى في مسكن من الجيش يكفي لمواجهة العدو، غير آخذة في اعتبارها التفوق العددي له مقرونة بالمكر والخداع.. ولعل الموقف الطبيعي في المرحلة الدقيقة من المحنة، إلتزم جانب الحكمة، والتفكير طويلا قبل اتخاذ أي موقف نهائي لحسم المشكلة، فهناك في الجيش من يرى الحرب هو الحل الحاسم، الذي لا يمكن تخطيه لأي سبب كان.. وهناك من يرى السلم والموادعة، إيثارا لعافية، وهروبا من حرج القتال. وإذا أخذنا باعتبارنا ما خلفته الشائعات الشامية بين عناصر الجيش من الاضطراب والتفكك، وانهيار المعنويات العسكرية، التي هي قوام الحركة للجيش عند الالتحام مع قطعات العدو أثناء القتال. وإذا أخذنا باعتبارنا أيضا، إنفصال جناحي الجيش الكوفي في مسكن والمدائن بمسافات كبيرة، بحيث يكون اتخاذ الموقف المتسرع من جانب الإمام بالحرب، وإعلام عدوه بذلك، مدعاة لحسم الموقف لصالح معاوية إذ لم يتبق في مسكن من أفراد الجيش إلا أربعة آلاف، بعد فرار ثمانية آلاف منه، وفيهم الوجوه والزعماء، وأصحاب البيوتات.. وهنا يسهل على معاوية ضرب جناح مسكن، وتصفيته قبل أن يصله أي مدد من المدائن، وكيف يمكن توفر الصمود لأربعة آلاف في مواجهة ستين ألفا مهما فرض لهم من القوة والصمود.. لو رجعنا للحسابات العسكرية. وتبقى المدائن وأمرها سهل، فلا تزال جيوب الخيانة معشعشة في أطرافها، وهي لن تعاني كثيرا في سبيل إنهاء الوضع لصالح معاوية بأساليبها الرهيبة، مع ما عليه الجيش من انهيار وارتباك. إذا أخذنا في اعتبارنا كل هذا، فليس من اللباقة العسكرية والحكمة القتالية، إعتماد موقف الحرب، والدخول في معركة خاسرة مع الخصم، فإن النهاية ستكون لصالحه لا محالة، ولا أقل على الأكثر، بنحو تكون نسبة النصر في جانب الإمام ضئيلة جدا. ولكن الإمام لم يتخذ أي موقف في هذه اللحظات من المحنة، ولم يشأ أن يتخذ موقفا منفصلا عن رأي عامة الجيش، ولذا نرى أن جوابه للوفد الشامي كان بدعوته إلى الله سبحانه، ونصرة الحق، مهملا الإجابة على رسالته الأساسية، وهي الدعوة للصلح بنفي أو إثبات. وخرج الوفد.. ليمزق ما كان قد تبقى من تماسك ووحدة بين عناصر جيش الإمام، بتلك الكلمات الخبيثة الكاذبة، وكانت عملية اختبار ناجحة، لخطة مرعبة، نفذها معاوية بلؤمه ومكره. إلى هنا لم يتخذ الإمام الحسن (عليه السلام) موقفا جديدا بعد، فهو لا يزال يتمسك بموقف استمرارا لموقفه السابق، ولم تظهر منه أي بادرة تشير إلى التراجع عنه.
ولكن الإمام وهو البصير بالمرحلة، لا بد وأنه استعرض بنفسه تطورات الوضع، من حين خروجه من الكوفة إلى اللحظات الدقيقة التي يعيشها في المدائن، ولا بد أنه لاحظ ما آل إليه أمر الجيش من التمزق وانهيار المعنويات العسكرية، خصوصا بعد خروج الوفد من عنده. إذن.. ما هو الموقف الذي يفترض أن يتخذه الإمام (عليه السلام) في هذه المرحلة الخانقة من الصراع..؟ الحرب..؟ الهدنة..؟ أو أي شيء آخر؟ ولكن الإمام لم يحدد لنفسه موقفا معينا قبل أن يختبر جنده ليتأكد له إلى أي مدى سيصمد معه جيشه في لحظات العنف، ولينكشف له صريحا واقع جيشه المكفهر الغامض.
فخرج وخطب الناس خطبة قال فيها: بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على رسوله وآله، إنا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم دنياكم أما دينكم، إلا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، أما الباقي فخاذل، وأما الباكي فثائر. ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلنا، وأخذنا لكن الرضا.. فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، وأمض الصلح.. (20)
وهنا انكشف للإمام واقع النهاية، فالجيش مجتمعا، أو الأكثر منه تواق للسلامة ومؤثر للعافية، فهو يطلب البقيا وإمضاء الصلح. وتنطفئ آخر ومضة من الأمل في نفس الإمام (عليه السلام )، الجيش قد أمضى الصلح بهذه السرعة الهائلة، ولم يذكر المؤرخون أي معارضة قد تكون صدرت من بعض الفئات المفروض فيها ذلك، كالمحكمة مثلا.. ولعلها وجدت أن المرحلة لا تحتمل الدخول في معركة خاسرة حتما مع الخصم، وأدركت سر الموقف المتدهور آنذاك، وأيا كان فلم يبق أمام الإمام الحسن (عليه السلام) خيار غير الهدنة.
ولننقل حديثنا إلى مسكن، وقائدها قيس بن عبادة المؤمن الصامد، فقد بلغت أنباء الهدنة مسكن في رسالة أرسلها الإمام الحسن لقيس، يطلب فيها منه الدخول في الجماعة، وموافاته بمن معه من الجيش. لم يتحمل قيس هذه النهاية، فأراد اختبار أصحابه والتعرف على دخائل نفوسهم، إزاء هذا الموقف المأساوي، فقام خطيبا فيهم وقال: .. أيها الناس: اختاروا الدخول في طاعة إمام ضلالة - أي معاوية -، أو القتال من غير إمام هدى.. فقال بعضهم: بل نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة، فبايعوا معاوية، وانصرف قيس فيمن تبعه (21).
محنة الإمام (عليه السلام):
لم يعن مؤرخو حياة الإمام الحسن (عليه السلام) بأكثر من الإشارة إلى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن تشفع لدى الإمام الحسن (عليه السلام) بقبول الهدنة أو تضطره إليه، فمن مذعن ساكت لا يبدي رأيا، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير، ومن ناقد جاهل خفي عليه سر الموقف فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير. فيرى أحدهم أن الذي طلب الهدنة هو الإمام الحسن (عليه السلام) ويرى الآخر أنه معاوية، ويرى بعضهم أن سبب طلبه الصلح أو قبوله إياه هو فتن الشام في المعسكرين [مسكن والمدائن]، ثم يختلفون في نوع الفتنة. بينما يرى البعض الآخر أن سبب قبول الصلح من جانب الإمام الحسن (عليه السلام) هو تفرق الناس عنه بعد إصابته ومرضه. ويرى ثالث منهم أن السبب هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته بالبقية البقية وقولهم له صريحا وأمض الصلح . ويرى الرابع، إن فرار قائده وخيانة أصحابه واستحلال بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتل، هو السبب لقبوله الهدنة. ولم يكن فيما دار عليه كل من الأصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الإمام الحسن (عليه السلام)، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح (أو قل) ما يجيب بأسلوبه على السؤال المتأدب، في عزوف الإمام الحسن (عليه السلام) عن (الشهادة) التي كانت ولا شك أفضل النهايتين، وأجدرهما بالإمام الخالد. إذا، فلماذا لم يفعل الحسن أولا، ما فعله الحسين أخيرا؟ ألجبن - وأستغفر الله - وما كان الحسين بأشجع من الحسن جنانا، ولا أمضى منه سيفا، ولا أكثر منه تعرضا لمهاب الأهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما العظيمة، خلقا، ودينا، وتضحية في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب، فأين مكان الجبن منه يا ترى؟ أم لطمع بالحياة، وحاشا الإمام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة الدنيا، على ما ادخره الله له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما قيمة الحياة حتى تكون مطمعا للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت على التضحيات؟ أم لأنه رضي معاوية لرياسة الإسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية، وهذه كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي إليه وفي وجوب قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره أخيرا. فيقول فيما كتبه إليه أيام البيعة في الكوفة: ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله مالك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به (22) .
ويقول وهو يجيب أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح: (والله لو وجدت أنصارا لقاتلت معاوية ليلي ونهاري) (23). ويقول في خطابه التاريخي في المدائن إنا والله ما يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم... . ويقول لأبي سعيد: علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة، حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل. إذا، فما سالم معاوية رضا به، ولا ترك القتال جبنا عن القتال، ولا تجافي عن الشهادة طمعا بالحياة، ولكنه صالح حين لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين، وما كان الإمام الحسن (عليه السلام) في عظمته بذلك الرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن يجد المنفذ إلى نقده والمأخذ عليه سبيل. سئل (24) الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) لماذا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان بينما ثار أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية؟ فأجابه السيد الشهيد (قدس سره): تصاب المجتمعات بعدة أمراض كما يصاب الأفراد، ومن الأمراض التي أصيب بها المجتمع الإسلامي أبان إمامة الإمام الحسن (عليه السلام) هو مرض الشك في القيادة ، وهذا الداء ظهر في أواخر حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث واجه أيام خلافته عدة حروب ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من أبناء الأمة، فأخذ الناس يشكون هل أن المعارك التي تخاض معارك رسالية أم أنها معارك قبلية أو شخصية؟ وقد عبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ظهور هذا الداء الاجتماعي في عدة مرات منها في خطبته المعروفة بخطبة الجهاد التي ألقاها على جنوده المنهزمين في مدينة الأنبار حيث قال لهم والألم يعصر قلبه: .. ألا وأني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم، وملكت عليكم الأوطان... . إن هذا الداء داء التواكل والتخاذل والتقاعس عن نصرة الحق وإيثار العافية والسلامة أو داء الشك في القيادة الذي ظهر في أواخر حياة الإمام علي (عليه السلام) استفحل واشتد في حياة الإمام الحسن (عليه السلام): فلم يكن باستطاعته في مثل هذه الظروف والمجتمع المصاب بهذا الداء أن يخوض معركة مصيرية تنتهي بالنصر على خصمه المتربص به، فإذا أضفنا إلى هذا شخصية الخصم معاوية الذي كان بإمكانه أن يبدو أمام الناس بمظهر الحاكم الملتزم بالدين، وكذلك تعدد انتماءات المقاتلين مع الإمام الحسن (عليه السلام) حتى أبدى بعضهم استعداده لمعاوية أن يسلم له الإمام (عليه السلام) حيا، وطعنه بعضهم طعنة غادرة إذا جمعنا هذا وغيره من الظروف عرفنا لماذا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية السبب باختصار هو الشك في قيادته وعدم وجود الأنصار المخلصين... أما في عهد إمامة الإمام الحسين (عليه السلام) فإن الأمة قد شفيت من مرض الشك بعد الممارسات الإجرامية الوحشية التي ارتكبها معاوية بحق الخصوص والعموم من الناس على مستوى الأموال والنفوس والأضاليل، وتيقنت الأمة الفارق بين القيادتين قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وقيادة خصومهم، إلا أنها أصيبت بمرض آخر هو (مرض فقدان الإرادة) المرض الذي عبر عنه الشاعر الفرزدق أصدق تعبير حينما التقاه الإمام الحسين (عليه السلام) في الطريق وهو عائد من العراق، حيث سأله الإمام الحسين (عليه السلام) كيف وجدت الناس؟ أجاب الفرزدق: قلوبهم معك وسيوفهم عليك إنهم يحبون الحسين قلبيا، ولكن لم تكن عندهم الإرادة الكافية لتجسيد هذا الحب تضحية على الأرض تقف إلى جنب الحسين (عليه السلام) لسياسة الترهيب والترغيب التي استخدمها الحاكم معهم، إضافة إلى مطالبة الناس للإمام بالثورة بعد أن اتضحت لهم تماما حقائق الأوضاع، وشخصية يزيد تختلف عن شخصية أبيه فهو مفضوح بأعماله وممارساته ألا أخلاقية، ومن هنا كان قرار الثورة مستخلصا من مجموع الظروف النفسية والاجتماعية لإعادة الإرادة إلى الأمة لإيجاد الانسجام والتناغم بين القلوب والسيوف فلا تكون القلوب إلى جهة والسيوف إلى جهة مضادة... لقد كان العلاج لداء فقدان الإرادة، هو الشهادة والتضحية، وهذا ما أشار إليه أبو عبد الله (عليه السلام) حينما قال:
إن كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي فيا سيوف خذيني
أتسائل متعجبا!! من هم الذين هجموا على الإمام (عليه السلام) وطعنوه ومن هم الذين احترز منهم ولبس لامة حربه ودرعه تحت ثيابه حذرا من غدرهم؟؟!!. أليس هم أصحابه، وجنده الذين خرج بهم ليدافع بهم عن شريعة السماء وليقاتلوا بين يديه أعداء الله من الجيش الأموي؟ إذا كان جيشه الذي يحارب بهم والقوة التي يضرب بها واليد التي يبطش بها شلاء، فكيف يستطيع أن يقف أمام ذلك الجيش العاتي والقوة الغاشمة من جيش معاوية من أهل الشام؟ أليس هذا كله دليلا قاطعا، وبرهانا ساطعا ومبررا على قبوله (عليه السلام) المهادنة والمصالحة؟ والذي أصبح به مهددا على حياته وحياة أهل بيته وأصحابه المخلصين من جيشه وحماته فضلا عن جيش عدوه وغدره. وأعجب من ذلك أولئك المتفلسفين الذين يعيشون في عافية، وفي وضع مستقر آمن وهادئ يلقون باللائمة على الإمام الحسن (عليه السلام) لماذا هادن أو صالح ولم يتصوروا الموقف الحرج الذي امتحن به الإمام، وهذا لا يصدر إلا عن حالتين إما عن جهل مطبق أو حقد أسود أعمى، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم حمل الإمام الحسن (عليه السلام) (25) بعد طعنه إلى المدائن وقد أخذ النزف منه مأخذا شديدا واشتدت به العلة، فأنزل في دار سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامله وعامل أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل على المدائن وبقي في دار الثقفي مدة للمعالجة، وفي خلال ذلك علم الإمام بأن بعض رؤساء القبائل وقواد جيشه الذين لا يملكون الورع والوازع الديني ولا الأخلاقي، كاتبوا معاوية سرا، وأبدوا استعدادهم لتنفيذ رغبته إن شاء قتلوه، أو شاء أسلموه مكتوفا إذا اقترب الجيشان (26)، وقد بعث معاوية من خبثه ودهائه بتلك الرسائل نفسها إلى الإمام ليطلعه على دخيلة نفسيات بعض قواده ورؤساء العشائر من أصحابه، وطلب منه الصلح وعرضها عليه وتعهد له قبول كل شرط يشترطه الإمام عليه. وكان الإمام يعاني من شدة الطعنة وقد تفرق معظم أصحابه وجيشه عنه كل إلى جهة، وذلك لعدم توحد جنوده وقواده في الهدف والمبدأ كما أسلفنا، وكل واحد منهم كان يسلك طريقا خاصا به ليضمن مصالحه لا سيما المرتزقة والغوغائية منهم. عند ذلك رأى الإمام الحسن (عليه السلام) بثاقب رأيه وتسديد السماء له، إن الوقوف بوجه جيش الشام لم يكن من صالح الإسلام ولا من صالحه أو صالح أهل بيته ويعته ش، وإن الخوض معارك خاسرة واضحة المعالم مسبقا، ضرب من عدم حنكة القيادة وعدم التدبير، ولئن انتصر معاوية في حربه هذه رسميا، لاستطاع أن يزيل الإسلام من أساسه ويقضي على الدين وعلى جميع المؤمنين الحقيقين من شيعة علي (عليه السلام) تماما، واستأصالهم من الوجود، ولم يبق من الإسلام إلا إسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
____________
(1) سورة الشورى، آية 23.
(2) شرح النهج (ج 4 ص 14).
(3) تاريخ اليعقوبي (ج 2 ص 171).
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 16 ص 37 - 40.
(5) الإرشاد ص 169، وذكر ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 143، والأربلي في كشف الغمة ص 161، والمجلسي في البحار ج 10 ص 110.
(6) نص عبارة ابن أبي الحديد في الموضوع (ج 4 ص 14).
(7) مدينة كانت على الفرات (غربي بغداد) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لأنها كانت تجمع بها أنابير الحنطة والشعير منذ أيام الفرس، وهي منطقة اليوم قرب الرمادي.
(8) لما استوثق الأمر لمعاوية بعد أيام التحكيم أنفذ بسر بن أرطاة إلى اليمن في طلب شيعة علي أمير المؤمنين وتتبع آثارهم وكان عليها عبيد الله بن العباس، فطلبه فلم يقدر عليه [فهرب] فأخبر = ابن أرطاة أن له ولدين صبيين فبحث عنهما فوجدهما فأخذهما وأخرجهما من الموضع الذي كانا فيه، وهما صغيران فذبحهما، فبلغ أمهما الخبر فكادت نفسها تخرج [وجنت] ثم أنشأت تقول:
هـــــا من أحس بـــابني الذين هما *** كالــدرتين تشظــا عنهـــا الصدف
هـــا من أحس بــــابني الـذين هما *** سمعي وعيني فقلبــي اليوم مختلف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا *** من قولهم ومن إفك والذين اقترفوا
أضحيت على ودجي طفلي مرهقة *** مستحوذة وكــذاك الظـــلم والسرف
مـــن ذل والهــــة عبــــراء مفجع *** على صبيين فــاتا إذ مضــى السلف .
(9) أقول: وهذا النص صريح بتكذيب الشائعة التي اجتاحت معسكر مسكن بأن الحسن كاتب معاوية على الصلح .
(10) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 15).
(11) اليعقوبي (ج 2 ص 191) وشرح النهج أيضا (ج 4 ص 15).
(12) أعيان الشيعة ج 4 ف 1 ص 22 عن المفيد.
(13) هؤلاء الأربعة خاصة كانوا قواد جيش ابن زياد لمحاربة الحسين يوم الطف.
(14) أعيان الشيعة ج 4 ف 1 ص 22 عن المفيد.
(15) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 214.
(16) جنات الخلود الفصل التاسع منه، كشف الغمة 2 / 154.
(17) اليعقوبي ج 2 ص 191، البداية والنهاية ج 8 / ص 14.
(18) اليعقوبي ج 2 ص 191، البداية والنهاية ج 8 / ص 14.
(19) انظر تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 191.
(20) ابن الأثير، الكامل ج 3 ص 204 ورواها الطبري، وابن خلدون وغيرهم من المؤرخين.
(21) الكامل لابن الأثير ج 3 ص 204.
(22) شرح نهج البلاغة ج 4 ص 12.
(23) احتجاج الطبرسي ص 151.
(24) تفضل سماحة الشيخ هادي الخزرجي مشكورا بهذه الدراسة القيمة التي دارت بينه وبين السيد الشهيد (قدس سره).
(25) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 214، 215.
(26) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 215.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|