أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-10-2016
203
التاريخ: 15-10-2016
226
التاريخ: 15-10-2016
279
التاريخ: 15-10-2016
222
|
يعد هذا العصر مقدمة للحضارة السومرية الناضجة والمرحلة الاولى في تكوينها(1)، وتعتقد الباحثة شترومنكر ومن خلال ابحاثها الاثارية ان مجموعة سكانية قدمت من جنوب بلاد الرافدين وسكنت في مواقع الشمال السوري او انها كانت على اتصال وثيق مع سكان بلاد الرافدين بحيث ان هناك جملة خصائص حضارية مشتركة تجعلنا نتأكد من هذه العلاقة الوثيقة في هذه المرحلة الزمنية(2)، ولكننا نعتقد ان هذه الخصائص الحضارية المشتركة لم تأت بفعل هجرة سكانية بل كانت امتداداً طبيعياً للحضارة السومرية من بلاد الرافدين الى مواقع الشمال السوري حيث اثبتت التنقيبات الاثارية ان شمال سوريا وبلاد الرافدين وجنوب اسيا الصغرى تشترك في صفات وخصائص مشتركة في التحولات الثقافية والاجتماعية التي حصلت في هذا العصر اذ كانت الفخاريات الوركائية تنتشر في مستوطنات تلك المناطق بعد ان انتظمت العلاقات التجارية في هذه المرحلة الزمنية مع مجرى نهر دجلة وعبر جبل سنجار الى الخابور والبليخ الى ان تصل نهر الفرات في سوريا قرب دير الزور والرقة ثم تستمر تلك الطرق شمالاً على طول نهر الفرات(3).
ابرز المواقع الاثرية المكشفة:
لقد اظهر لنا هذا العصر تطابقاً واضحاً بين بلاد الرافدين وسوريا الى درجة كبيرة وتمثل ذلك في العمارة والفنون والفخار والكتابة الصورية اذ اثبتت ذلك التنقيبات التي جرت في حوض الفرات الاوسط السوري والذي نشأت فيه مستوطنات مهمة تعود الى هذا العصر(4) الذي لعبت فيه مدينة الوركاء العراقية الجنوبية دوراً كبيراً لأنها ذا اهمية اقتصادية ودينية وحضارية بحيث اصبحت تسمية العصر الشبيه بالكتابي تقترن باسم الوركاء في حين انها كانت تسمية خاصة بالدور الأول منه(5)، بينما كان موقع تل براك الواقع على بعد 1 كم غربي نهر جغجغ(6) احد روافد الخابور يتمتع بأهمية خاصة بالنسبة لسوريا في هذا العصر لما قدمه من براهين تؤكد الامتداد الواضح لحضارة الوركاء في النواحي الثقافية والفكرية لبلاد الشام، ولعل ابرز ما تم اكتشافه في هذا الموقع هو المعبد المعروف باسم معبد العين والذي كانت جدرانه مزينة بالمخاريط الحجرية الملونة التي عرفت لأول مرة في تزيين الجدران الداخلية لمعابد مدينة الوركاء في الالف الرابع ق.م واشتهرت باسم زينة (الفسيفساء)(7).
اظهرت لنا التنقيبات الآثارية الحديثة التي جرت في سوريا أهمية مواقع أخرى تعود الى هذا العصر، ولعل من أهم تلك المواقع موقع حبوبة كبيرة على الضفة اليمنى للفرات الاوسط اذ لعبت هذه المدينة دوراً تجارياً هاماً منذ منتصف الألف الرابع ق. م لوقوعها على الطريق التجاري الذي يربط الشرق بالغرب(8) وقد كشف عن ثلاث طبقات بنائية تعود الى المدينة التي تبلغ مساحتها حوالي 18 هكتار ويحيطها سور خارجي يبتدئ بناءه من الطبقة الثانية، في حين كانت الطبقة الأولى منها غير مسورة(9), وتوضح اوجه الشبه في الطرز المعمارية وفنون الصناعات اليدوية التي ظهرت في كل من مدينتي حبوبة والوركاء على قيام صلات حضارية وثيقة بينهما منذ منتصف الالف الرابع ق.م(10), ولعل اولى اوجه التشابه هذه هو سور المدينة المبني على طراز سور مدينة الوركاء مع ملاحظة ان سور مدينة حبوبة يمتاز بزوايا قائمة بينما سور الوركاء اتخذ الشكل الدائري، وكان سور حبوبة يحيط بها من كل جهاتها عدا الشرق حيث كان النهر(11). يبلغ عرض جدار سور حبوبة ثلاثة امتار وقد دعم بعدد من الابراج الدفاعية واتخذت واجهته من الخارج شكل الطلعات والدخلات وشيد امام هذا السور من الخارج جدار آخر له بوابتان مشيدتان وفق طراز معماري واحد وبنيت الى جانب كل منهما غرفة مخصصة للحرس وفيه عدد من الابراج الدفاعية، تسعة منها تمتد ما بين الزاوية الشمالية القريبة من الجدار والبوابة الشمالية، كذلك الحال فقد كانت هناك تسعة ابراج دفاعية اخرى بين الزاوية الجنوبية الغربية منه والبوابة الجنوبية(12)، واذا لاحظنا سور الوركاء فأننا نلاحظ انه يتكون ايضاً من جدارين متلاصقين عرض الداخلي خمسة امتار والخارجي حوالي المترين ويلاصق السور من الداخل سلسلة من انصاف الأبراج ويبرز كل منها عن السور بما يقارب 2.5م وللسور مدخلان يقع الاول في الشمال والثاني في الجنوب(13).
تتميز مدينة حبوبة بتخطيطها المتقن الذي يذكرنا بتخطيط المدن السومرية في جنوب العراق حيث تخترق المدينة شوارع رئيسة تمتد من الشمال الى الجنوب وشوارع فرعية تتفرع من الشرق الى الغرب، كما تمتاز بدقة نظام تصريف مياه المجاري فيها حيث انها تمتد فوق خنادق في الأرض وشبكة من القنوات أو الانابيب الفخارية المتصلة بعضها مع بعض(14).
اما بالنسبة لبيوت السكن في المدينة فأنها مبنية من اللبن المعروف باسم (ريمشن) والذي عرفته مدينة الوركاء اولاً(15)، وغالبية تلك البيوت تمتاز بالطراز الثلاثي العناصر أي صالة رئيسة في الوسط وصفين من الغرف الصغيرة على الجانبين(16) وهو نفس الطراز المعماري الذي بنيت به المعابد الأولى لبلاد الرافدين(17)، وهناك طرازان آخران من عمارة البيوت في حبوبة وهما النوع البدائي البسيط الذي يتألف من مجموعة من الغرف التي بنيت بجانب بعضها دون ترتيب، أما الطراز الثاني وهو ما يمكن تسمية بالطراز الشرقي ويتألف في العادة من ساحة وسطية، مربعة الشكل أو مستطيلة يحيط بها عدد من القاعات والغرف حيث سكنت الاسرة في القاعة الكبيرة، فيما استخدمت الغرف لأغراض الخزن والطبخ، ولم تكن تلك البيوت بحجم واحد بل كان فيها الكبير والصغير(18)، وقد كان هذا الطراز سمة مميزة لعمارة بيوت السكن في العراق القديم وظل سائدا حتى العهود المتأخرة من تاريخ العراق الحديث(19).
أما الاواني الفخارية المعروفة بالأواني الناقوسية التي هي ذات جوانب مستقيمة وحافات مائلة مقلوبة نحو الخارج فقد عثر على عدد كبير منها في حبوبة والتي تظهر لنا تشابهاً في شكلها وطرازها مع الاواني الناقوسية التي عرفت في مدينة الوركاء وتم استظهارها في الطبقة الثانية والرابعة من منطقة (أي-انا)(20).
وتتشابه الاختام الاسطوانية لحبوبة مع اختام الوركاء من حيث مواضيعها الاسطورية والطبيعية المنقوشة عليها(21)، وثمة دليل آخر على الصلات الكبيرة بين حبوبة ومدن جنوب بلاد الرافدين ويتمثل هذا الدليل باكتشاف بعض الرقم الطينية ذات العلامات الصورية والتي تمثل اولى مراحل الكتابة التي اكتشفت نصوصها الأولى في معابد مدينة الوركاء(22).
والى الجنوب من حبوبة تم التنقيب في تل قناص والذي كان يمثل المركز الاداري والديني لمدينة حبوبة وكانت شوارع الموقع مرصوفة بالحصى، أما البيوت فكانت ذات طابق واحد وهناك نظام لتصريف المياه كالذي شاهدناه في حبوبة(23). لقد اكتشف في هذا الموقع عدد من الابنية ذات المساحات الواسعة نسبياً وكانت مشيدة على مرتفع يعلو قليلاً عن مستوى سطح الأرض التي شيدت عليها مساكن المدينة مما جعل مكتشفها الآثاري البلجيكي (فينيه) يعتقد ان تلك الابنية كانت ذات وظيفة دينية(24). ولكن في الواقع ان تلك الأبنية لم تكن تختلف في تفاصيلها الداخلية عن بيوت السكن الا بمساحتها الأكبر فقط(25)، واذا ما قورنت بمعابد مدينة الوركاء نرى ان الفارق كبير في سعتها، ولكنها تشترك معها في نوع زينة الجدران الداخلية والتي هي على شكل مخاريط حجرية ملونة كالتي عرفت في الوركاء باسم زينة الفسيفساء(26) اذ ان سكان موقع قناص كانت لهم نفس الاساليب الفنية في تزيين الجدران وفي صناعة الفخار التي عرفها سكان مدن جنوب بلاد الرافدين في هذا العصر(27).
ويعود الى العصر الشبيه بالكتابي ايضاً جبل عرودة الذي يقع الى الشمال من حبوبة حيث شيد سكان الموقع على قمة الجبل الذي يرتفع حوالي 60م عن السهل المجاور له معبدين كبيرين وفق الطراز الذي شيدت عليه الابنية التي اعتقد انها ذات وظيفة دينية في قناص، وزينت الجدران الداخلية لهذه المعابد ايضاً بزينة مشابهة لزينة الفسيفساء الوركائية، وقد وجدت في احد هذين المعبدين طبعات اختام ومجموعة من الرقم الطينية ذات العلامات الصورية التي وجد ما يشابهها ايضاً في تل قناص(28).
وتتوالى المواقع الآثارية السورية التي تعود الى هذا العصر في اعطاء الادلة على ان التأثيرات الحضارية لدور الوركاء قد امتدت الى اقصى الشمال السوري وهذ ما اوضحه موقع (جرابلس تحتاني) الواقع بالقرب من كركميش (التي هي الان ضمن الأراضي التركية) والذي عملت فيه البعثة البريطانية لأربعة مواسم تنقيبيه (1992-1995م) حيث اشارت لنا الفخاريات المكتشفة فيه الى انها كانت وركائية في شكلها وطراز صنعتها(29). ولعل آخر الادلة على الصلات الحضارية بين بلاد الرافدين وبلاد الشام في العصر الشبيه بالكتابي والمتوفرة لدينا لحد الان يأتينا من أحدث التنقيبات التي اجرتها البعثة الفرنسية برئاسة دومنيك بيير (D.Bayer) عام 1995 في تل مشنقة الذ استمر السكن فيه منذ دور العبيد وحتى النصف الأول من الالف الثالث ق.م، فقد تم استظهار طبقات دور الوركاء التي كشفت عن وجود سور دائري تقريباً ومجموعة من البيوت الكبيرة المبنية وفق التخطيط الثلاثي الذي رأيناه في بيوت حبوبة والمتأثرة بعمارة بلاد الرافدين (30).
ومن خلال ما تم عرضه انفاً نستخلص ان العصر الشبيه بالكتابي عصراً وفير الشواهد والادلة المادية التي تشهد على عمق الصلات الحضارية والتجارية بين بلاد الرافدين وبلاد الشام من خلال ما لعبته مستوطنات هذا العصر التي استعرضنا الابرز منها من دور هام في التجارة ما بين المدن الجنوبية لبلاد الرافدين وسواحل البحر المتوسط حيث انها كانت اشبه بالثغور السومرية على ضفاف الفرات الشرقية في سوريا(31)، وقد كان لمدينة الوركاء دور هام في امتداد واتساع تأثيرات هذا الدور الحضارية مما حدا بالباحث الايطالي الغزي (Algaze) ان يطلق تسمية (عالم الوركاء) على كل تلك المستوطنات التي وقعت تحت التأثيرات الحضارية لهذه المدينة(32).
____________
(1) لويد، ستين، اثار بلاد الرافدين، ص 101.
(2) أحمد، محمود عبد الحميد، وآخرون، اثر الوطن العربي القديم، ص 229.
(3)Mazzoni, S., “Tell Afis and Its region in the late chalcolithic period”, AAAS, (vol 43, 1999), P. 98.
(4) محيسن، سلطان، عصور ما قبل التاريخ، ص 377.
(5) بوناتز، دومينيك، وآخرون، الانهار والبوادي…، ص 43-44.
(6) اسمه القديم الهرماس. انظر:-
باقر، طه، مقدمة… ، ج1، ص 47.
(7) شترومنيغر، ايفا، "عصر فجر التاريخ"، الآثار السورية، (فينا، 1985)، ص 34.
Mallawan, M., IRAQ, vol 9, part I,1947, P. 32 f.
(8)شترومنيغر، ايفا، ، الآثار السورية، ، ص 32.
(9)Strommenger, E., “Habuba Kabira South Tell Qannas and Jebel Aruda” Ebla To Damascus (U.S.A. 1985) P. 86..
(10) شترومنيغر، ايفا، حبوبة الكبيرة مدينة عمرها خمسة الاف عام، ص 44.
(11) المصدر نفسه، ص 45.
(12) المصدر نفسه، ص 26. وللتوسع اكثر حول تفاصيل سور حبوبة انظر:
الأعظمي، محمد طه، الاسوار والتحصينات في العمارة العراقية القديمة، اطروحة دكتوراه غير منشورة، (جامعة بغداد، 1992)، ص 198 وما بعدها.
(13) ألأحمد، سامي سعيد، "المدن الملكية والعسكرية"، المدينة والحياة المدنية، ج1، (بغداد، 1988)، ص150.
(14) Strommenger, E., Ebla to Damascus, P.86.
(15)ibid., P. 85.
(16) شترومنيغر، ايفا، حبوبة الكبيرة…، ص 25-26.
(17) محيسن، سلطان، عصور ما قبل التاريخ، ص378. انظر كذلك:
سعيد، مؤيد، العمارة، حضارة العراق، ج1، (بغداد، 1985)، ص 111.
(18) ابو عساف، علي، اثار الممالك القديمة في سورية، ص 143-145.
(19) سليمان، عامر، "الحياة الاجتماعية والخدمات في المدن العراقية في الازمنة التاريخية القديمة"، المدينة والحياة المدنية، (بغداد، 1988)، ص 205.
(20) هاينريش، ارنست، "التنقيب في تل حبوبة الكبيرة وتل ممباقة"، ترجمة قاسم طوير، الحوليات السورية، م 20، 1970، ص 119.
أوتس، جوان وديفيد، نشوء الحضارة، ص 274.
(21) محيسن، سلطان، عصور ما قبل التاريخ، ص378.
(22) شترومنيغر، ايفا، حبوبة الكبيرة…، ص45-46.
(23) عبودي، هنري، معجم الحضارات السامية، (طرابلس، 1991)، ص 694.
(24) شترومنيغر، ايفا، حبوبة الكبيرة…، ص33.
(25) شترومنيغر، ايفا، الاثار السورية، ص33.
(26) شترومنيغر، ايفا، حبوبة الكبيرة…، ص33.
(27) عبودي، هنري، معجم الحضارات السامية، ص 694.
(28) محيسن، سلطان، عصور ما قبل التاريخ، ص379-380.
(29)Peltenburg, E., “Excavations at Jerablus- Tahtani, 1992”, Chronique Archeologique En Syrie, vol I, (Syrie, 1992), P. 427
(30) Beyer, D. “Mission archeologique francaise de Mashnaqa”, Chronique Archeologique En Syrie, vol I, (Syrie, 1992), P. 22f.
بيير، دومنيك، تل مشنقة، معرض الاثار السوري الاوربي، ص 55 وما بعدها.
(31)Fortin, M., Syria land of Civilizations, P. 50.
بهنسي، عفيف، الاثار السورية، (فينا، 1985)، ص5.
(32) Algaze, G., “Habuba on the Tigris: archaic Nineveh reconsidered”, JNES, (VOL 45, No. 2, 1986), P. 125 ff.
Mazzoni, S., AAAS, vol, 43, 1999, P. 98.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|