أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-09-2014
2740
التاريخ: 7-11-2014
9890
التاريخ: 3-12-2015
3970
التاريخ: 9-05-2015
2673
|
لم تكن العرب لتجهل موضع الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وصدقه وإخلاصه في دعوته ، كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وقد لمسوا من حقيقة القرآن أنّه الكتاب الذي لا ريب فيه ، وقد بهرهم جماله وحسن أُسلوبه وعجيب بيانه ، نعم ، سوى حميّة جاهلية حالت دون الاستسلام للحقّ الصريح والاعتراف بصدق رسالته الكريمة ، فلم تكن محاولاتهم تلك إلاّ تملّصات هزيلة ، وتخلّصاً مُعوجّاً عن سحر بيانه ، وانفلاتاً من روعة جلاله وهيمنة كبريائه .
كانت قضية الإعجاز القرآني بدأت تفرض ثقلها على كاهل العرب ، شاءت أو لم تشأ ، وقد أدركت قريش من أَوّل يومها ما لهذا الكلام السماوي من روعة وسحر وتأثير ، ولم يكد يملك أيّ عربيّ صميم ـ إذ يجد ذوقه الأصيل سليقةً وطبعاً ـ إلاّ أن يرضخ لأُبّهة بيانه الخارق ، معترفاً بأنّه كلام الله وليس من كلام البشر .
كانت قضية الإعجاز القرآني بدأت تفرض ثقلها على كاهل العرب ، شاءت أو لم تشأ ، وقد أدركت قريش من أَوّل يومها ما لهذا الكلام السماوي من روعة وسحر وتأثير ، ولم يكد يملك أيّ عربيّ صميم ـ إذ يجد ذوقه الأصيل سليقةً وطبعاً ـ إلاّ أن يرضخ لأُبّهة بيانه الخارق ، معترفاً بأنّه كلام الله وليس من كلام البشر .
الوليد بن المغيرة المخزومي :
هذا هو طاغية العرب وكبيرها الأَسنّ ، وعظيمها الوليد بن المغيرة المخزومي يقول : يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة ، فو الله ما هو بشعرٍ ولا بسحرٍ ولا بهذي جنون ، وإنّ قوله لمن كلام الله ... (1) .
قاله على ملأ من قريش ، وذلك بعد أن سمع القرآن لأوّل مرّة على أفواه المسلمين يُرتّلونه ترتيلاً ، فأعجبه قرآنه وبهرته جذبته .
وإنّ قريشاً لهابت تلك المفاجأة الخطيرة ، ومِن ثَمّ تآمرت على أن تحول دون إشاعة النبأ ، فقالوا : لئن صبأ الوليد ـ وهو ذو حسب ومال ـ لتصبأنّ قريش كلّها .
قال أبو جهل : أنا أكفيكم شانه ، فانطلق حتّى دخل على الوليد بيته ، فقال له : ألم ترَ أنّ قومك قد جمعوا لك الصدقة ! ( يريد التأنيب عليه بأنّه إنّما قال كلامه الآنف طمعاً في المال ) قال : ألست أكثرهم مالاً وولداً ؟! فقال له أبو جهل : يتحدّثون أنّك إنّما تدخل على أصحاب محمّد لتصيب من طعامهم ! قال الوليد : أقد تحدّثت به عشيرتي ؟! فلا تقصر عن سائر بني قصيّ ... فعزم أن لا يقرب أحداً من المسلمين بعد ذلك .
وله شهادة أُخرى نظيرتها ، قالها عندما مرّ على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وهو يتلو في صلاته بضع آيات من سورة المؤمن ، فانقلب إلى مجلس قومه مندهشاً قائلاً : والله لقد سمعت من محمّد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجنّ ، والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه يعلو ولا ، يعلى عليه (2) .
وفي رواية أُخرى ـ ذكرها القاضي عياض ـ : لمّا سمع الوليد بن المغيرة من النبي ( صلّى الله عليه وآله ) يقرأ : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل : 90] أَعجَبته فقال : والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمُغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ، ما هذا بقول بشر (3) .
ورواها أبو حامد الغزالي ناسباً لها إلى خالد بن عقبة ، ولعلّه أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، جاء إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وقال : اقرأ عليَّ القرآن ! فقرأ عليه : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ... إلخ ) ، فقال له خالد : أعد ! فأعاد ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقال خالد : والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وما يقول هذا بشر (4) .
وهكذا جاء في الإصابة وفي الذيل ( وما هذا بقول بشر ) ، أمّا الاستيعاب وأُسد الغابة فمتوافقان مع نسخة الغزالي .
قال أبو عمر : لا أدري هو خالد بن عقبة بن أبي معيط أو غيره ، وظنّي أنّه غيره (5) .
وأيضاً روى الحاكم بإسناده الصحيح أنّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ( صلّى الله عليه وآله ) فقرأ عليه القرآن ، فكأنّه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عمّ ، إنّ قومك يَرون أن يجمعوا لك مالاً ! قال الوليد : لِمَ ؟ قال : ليعطوكه ، فإنّك أتيت محمّداً لتتعرّض لما قبلَه ! قال : قد علمت قريش أنّي من أكثرهم مالاً ، قال أبو جهل : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنّك منكرٌ له أو أنّك كارهٌ له ، قال : وماذا أقول ، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي ولا أعلم برَجَز ولا بقصيدة منّي ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، ووالله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنّه ليعلوا وما يُعلى ، وإنّه ليُحطّم ( أو ليحكم ) ما تحته ، قال أبو جهل : لا يرضى عنك قومك حتّى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكّر ، فلمّا فكّر قال : هذا سحرٌ يُؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر : 11] .
قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري (6) .
وهكذا ائتمروا فيما يصنعون عندما تَفِد العرب في مواسم الحج فيستمعوا إلى قرآنه فينجذبون إليه انجذاباً ، فتوافقوا على أن يترصّدوا لقبائل العرب عند وفودها للحجّ في مداخل مكّة ، ويأخذوا بسبل الناس ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه من الإصغاء إلى ما يقوله محمّد بن عبد الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فيقولوا : إنّه لسحرٌ يُفرّق به بين المرء وأخيه وأبيه وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته !
كان الوليد قد حضر الموسم ، فاستغلّت قريش حضوره فاستشاروه بشأن دعوة محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، فأشار عليهم بتهمة السحر ؛ لمّا لم يجدوا سبيلاً إلى رميه بجنون أو شعر أو كهانة !
قال : يا معشر قريش : إنّه قد حضر هذا الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدّم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذّب بعضكم بعضاً ، ويردّ قولكم بعضه بعضاً !
قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به .
قال : بل أنتم فقولوا ، أَسمع .
قالوا : نقول : كاهن ! قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكُهّان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .
قالوا : فنقول : مجنون ! قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما بخنقه ولا تعالجه ولا وسوسته .
قالوا : فنقول : شاعر ! قال : وما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر .
قالوا : فنقول : ساحر ! قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحّار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم (7 .
قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟
قال : والله إنّ لقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لعَذق (8) ، وإنّ فرعه لجناه ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنّه باطل . وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقوله هو ، سحر يُفرّق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ، فتفرّقوا عنه بذلك .
فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه إيّاه ، وذكروا لهم أمره (9) .
وكانوا إذا رفع النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) صوته بالقرآن جعلوا يُصفّقون ويُصفّرون ويخلطون بالكلام لئلاّ تُسمع قراءته {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت : 26].
قال ابن عبّاس : كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وهو بمكّة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ، قال : بالتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إذا قرأ القرآن ، قريش تفعله (10) . الطفيل بن عمرو الدوسي :
وكان الطفيل بن عمرو الدوسي شاعراً لبيباً من أشراف العرب ، كان قد قَدِم مكّة و رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بها ، فمشى إليه رجال من قريش وقالوا له : يا طفيل ، إنّك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا ، وإنّما قوله كالسحر يُفرّق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وزوجته ، وإنّا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلّمه ولا تَسمَعن منه شيئاً .
وكانت قريش قد تخوّفت من إسلام الطفيل ، الشاعر المُفلّق ، وللشعر عند العرب مكانة سامية ، فإذا أسلم اندفعت العرب وراءه .
قال الدوسي : فوالله ما زالوا بي حتّى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلّمه ، حتى حشوت في أُذُني حين غدوت إلى المسجد كرسفاً ، فَرَقاً من أن يبلغني شيء من قوله .
قال : فغدوت إلى المسجد وإذا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قائم يُصلّي عند الكعبة ، فقمت قريباً منه ، فأبى الله إلاّ أن يسمعني بعض قوله : فسمعت كلاماً حسناً ، فقلت في نفسي : واثكل أُمّي ، والله إنّي لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته وإن كان قبيحاً تركته .
قال : فتبعته إلى بيته ، وحدّثته الحديث ، وقلت له : فأعرض عليَّ أمرك ! قال : فعرض ( صلّى الله عليه وآله ) عليَّ الإسلام وتلا عليّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه ، ولا أمراً أعدل منه ، فأسلمت وشهدت شهادة الحقّ ، فرجع إلى قومه وكان داعية الإسلام ، وأسلمت معه قبيلة دوس (11) .
هذه شهادة شاعر لبيب له مكانته عند العرب ، وله معرفته وذوقه وسليقته ، جذبته روعة كلام الله وقلبته من كافر وثنيّ مشرك إلى داعية من دعاة الإسلام !
النضر بن الحارث :
كان أبو جهل قد أزمع على أن ينال من محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، فأخذ حجراً و جلس ينتظر قدومه ، حتّى إذا جاء وقام للصلاة بين الركن اليماني والحجر الأسود جاعلاً الكعبة بينه وبين الشام ، فلمّا سجد احتمل أبو جهل الحجر وأقبل نحوه ، حتّى إذا دنا منه رجع منهزماً منتقعاً لونه مرعوباً ، قد يسبت يداه على حجره ، حتّى قذف الحجر من يده ، فقامت إليه رجال من قريش وقالوا له : مالك يا أبا الحكم ؟ قال : قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ـ وكان قد عاهد الله ليفضخنّ رأسه بحجر ما أطاق حمله ـ فلمّا دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قَصَرته ولا أنيابه لفحل قطّ ، فهمّ بي أن يبتلعني !
فلمّا قال لهم ذلك أبو جهل قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف وكان من رؤساء قريش ، فقال : يا معشر قريش ، إنّه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمّد فيكم غلاماً حدثاً أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانةً ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر ! لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ، وقلتم : كاهن ! لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم ، وقلتم : شاعر ! لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلّها ، هَزجه ورَجزه ، وقلتم : مجنون ! لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه ، قال : يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنّه والله لقد نزل بكم أمرٌ عظيم .
قال ابن هشام : وكان النضر هذا من شياطين قريش ، وكان ممّن ينصب العداء لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) (12) ، ومِن ثَمّ لم تكن شهادته تلك اعترافاً بصدقه ، ولا إيماناً بكتابه ، وإنّما هي إثارةً لشحناء قريش وتأليباً لعدائهم نحو دعوة الإسلام .
وسنأتي على بعض مواقفه التعنّتية مع رسول الإسلام ( في فصل القرعات ) ، وقع أسيراً يوم بدر ، فقتله رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فيمَن قتله صبراً (13) .
عتبة بن ربيعة :
قال ابن إسحاق : وحدّثني يزيد بن زياد عن محمّد بن القرظي قال :
حدّثت أنّ عتبة بن ربيعة ـ وكان سيّداً ـ قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمّد فاُكلّمه وأعرض عليه أُموراً لعلّه يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكف عنها ؟ وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه .
فقام إليه عتبة حتّى جلس إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فقال : يا ابن أخي ، إنّك منا حيث قد علمت من السِطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرّقت به جماعتهم ، وسفّهت به أحلامهم وعيّبت به آلهتهم ودينهم ، وكفّرت به مَن مضى من آبائهم ، فاسمع منّي أعرض عليك أُموراً تنظر فيها ، لعلّك تقبل منها بعضها !
فقال له رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : قل يا أبا الوليد ، أسمع !
قال : يا ابن أخي ، إن كنت إنّما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتّى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به مُلكاً ملّكناك علينا ... قال : وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّاً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتّى نُبرئك منه ، فإنّه ربّما غلب التابع على الرجل حتّى يُداوى منه !
حتّى إذا فرغ عتبة ورسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم ! قال ( صلّى الله عليه وآله ) : فاسمع منّي ! قال عتبة : أفعل !
فجعل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يقرأ من مُفتتح سورة فصّلت :
{حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت : 1 - 4] فمضى ( صلّى الله عليه وآله ) يقرأها عليه ، وهو منصتٌ لها .
قال : وكان عتبة ينصت لقراءته ( صلّى الله عليه وآله ) وقد ألقى يديه خَلف ظهره معتمداً عليهما يسمع منه ، ثُمّ انتهى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلى السجدة منها ، فسجد ثمّ قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ؟ فأنت وذاك !
فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ، فلمّا جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ؟
قال : ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قطّ ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ! يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكوننّ لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلككم وعزّه عزّكم ، وكنتم أسعد الناس به .
قالوا : سَحَرك والله يا أبا الوليد بلسانه .
قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم (14) .
وهي أيضاً شهادة ضافية من كبار قريش وزعماء العرب وسادتهم .
اُنيس بن جنادة :
هو أخو أبي ذر الغفاري ، كان أكبر منه ، وكان شاعراً معارضاً يفوق أقرانه عند المعارضة ، ينبئك عن ذلك حديث إسلام أخيه أبي ذر جندب بن جنادة ، قال : والله ما سمعت بأشعر من أخي اُنيس ، لقد ناقضَ اثني عشر شاعراً من معاريف شعراء الجاهلية فغلبهم ، وكان قاصداً مكّة ، فقلت له : فليستخبر من حال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فراث عليَّ ، ثُمّ جاء فقلت : ما صنعت ؟ قال :
لقيت رجلاً بمكّة على دينك ـ ( إذ كان أبو ذر يصلّي إلى ربه منذ ثلاث سنين ) ـ يزعم أنّ الله أرسله .
قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون شاعر ، كاهن ، ساحر .
قال أبو ذر ـ وكان اُنيس أحد الشعراء ـ : قال اُنيس : لقد سمعت قول الكَهَنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر ، فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر ! والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون .
قوله : أقراء الشعر أي أوزانه وقوافيه (15) . ثلاثة من أشراف قريش يتسلّلون بيت الرسول :
كانت قريش ربّما تتسلّل ليلاً إلى استماع القرآن من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) أو أحد أصحابه ؛ لترى ما في هذا الكلام من سرّ التأثير ، فقد اتّفق أنّ أبا سفيان بن حرب (16) وكذا أبو جهل بن هشام والأخنس بن شريق الثقفي ـ وكان لمّازاً خبيثاً يتظاهر بغير ما يبطنه ـ خرجوا ليلاً إلى بيته ( صلّى الله عليه وآله ) من غير أن يعلم كلّ بصاحبه ، فجلس كلّ واحد في مخبئه لا يعلم به أحد حتّى مطلع الفجر ، يستمعون إلى قرآنه وهو قائم يصلّي في بيته ، وعند الصباح أخذ كلّ منهم طريقه إلى بيته ، حتّى إذا جَمَعهم الطريق فشلوا وتلاوموا ، وقال لبعضهم لبعض : لا تعودوا لمثل ذلك ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ، وكان ذلك تأييداً لموضع محمّد ، ثمّ انصرفوا ، ولكن من غير أن ينقضي عَجبهم أو يرتوي ظمأُهم إلى استماع هذا الكلام السحريّ العجيب ، ومِن ثَمّ عادت مسرتهم في الليلة الثانية والثالثة ، وفي كلّ ليلة يُفتضحون عند الصباح ، حتّى تعاهدوا فيما بينهم أن لا يعودوا أبداً .
وفي صباح اليوم الثالث جاء الأخنس إلى أبي سفيان يَسترئيه فيما سمعه من محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ! فقال الأخنس : وأنا كذلك ، والذي حلفت به !
ثمّ رجع إلى أبي جهل ودخل عليه وقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمّد ؟ فقال : ماذا سمعتُ ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتّى إذا تجاثينا على الرُّكب وكنّا كفرسيّ رهان !
والآن قالوا : منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى نُدرك مثل هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نُصدّقه ، فقام عنه الأخنس وتركه ! (17) .
هكذا تحكّم الحسد والعصيبّة في نفوس قريش ، فحال دون قبولهم للحقّ الصريح ، فأخزاهم الله .
{قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران : 119] ، {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة : 21].
_____________________
1- تفسير الطبري : ج29 ، ص98 .
2- المعجزة الخالدة للسيّد هبة الدين الشهرستاني : ص21 ، والطلاوة ـ مثلثة الطاء ـ : البهجة والنضارة وأغدقت
3- الشفاء للقاضي عياض : ص220 ، وراجع الشرح للملاّ علي القارئ : ج1 ، ص316 .
4- إحياء العلوم : باب تلاوة القرآن ، ج1 ، ص281 ، ط 1358 .
5- الإصابة لابن حجر : ج1 ، ص410 ، والاستيعاب بهامش الإصابة : ج1 ، ص412 ، أُسد الغابة لابن الأثير : ج2 ، ص90 .
6- المستدرك على الصحيحينِ : ج2 ، ص507 ، وراجع الدّر المنثور : ج6 ، ص 283 ، وجامع البيان للطبري : ج29 ، ص98 .
7- إشارة إلى ما كان يفعل الساحر بأن يعقد خيطاً ثُمّ ينفث فيه ، أي ينفخ ما يدمدمه من أَوراد .
8- قال السهيلي : العَذق بفتح العين النخلة ، استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي ، وطاب فرعها إذا اجني أي اقتطف ثمرها . ( الروض الأنف : ج2 ، 21 ) .
9- سيرة ابن هشام : ج1 ، ص288 ـ 289 .
10- الدرّ المنثور للسيوطي : ج5 ، ص362 ـ 363 .
11- سيرة ابن هشام : ج2 ص 21 ـ 25 ، أُسد الغابة : ج3 ص54 .
12- سيرة ابن هشام : ج1 ص320 ـ 321 .
13- الدرّ المنثور : ج3 ص 180 .
14- سيرة ابن هشام : ج1 ص313 ـ 314 .
15- الشفاء للقاضي عياض : 224 ، شرح الشفاء للملاّ علي القاري : ج1 ص320 طبع اسلامبول 1285هـ ، راجع صحيح مسلم ج7 ص153 ، والمستدرك للحاكم : ج3 ص339 ، والإصابة : ج1 ص76 و ، ج4 ص63 .
16- ويُروى مكان أبي سفيان : الوليد بن المغيرة ، قال الرفاعي : وهؤلاء الثلاثة من بلغاء قريش الذين لا يعدل بهم في البلاغة أحد ، ( إعجاز القرآن ـ في الهامش ـ : ص213 ) .
17-ابن هشام : ج1 ص337 ـ 338 .
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|