المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8091 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
{ان أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه}
2024-10-31
{ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا}
2024-10-31
أكان إبراهيم يهوديا او نصرانيا
2024-10-31
{ قل يا اهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم الا نعبد الا الله}
2024-10-31
المباهلة
2024-10-31
التضاريس في الوطن العربي
2024-10-31



قاعدة « الميسور»  
  
1389   11:22 صباحاً   التاريخ: 18-9-2016
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : القواعد الفقهية
الجزء والصفحة : ج1 ص539 – 554 .
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / القواعد الفقهية / الميسور لايسقط بالمعسور - الميسور /

معنى قاعدة الميسور وموردها :

إذا تعذر بعض اجزاء المركبات الشرعية كالصلاة والحج والوضوء وغيرها (كمن لا يقدر على السورة لضيق الوقت) أو بعض شرائطها، (كمن لا يقدر على الستر أو مراعاة القبلة) أو اضطر الى ارتكاب بعض الموانع (كما إذا اضطر المصلي إلى الصلاة في الثوب النجس أو اجزاء غير المأكول) فإن قام هناك دليل خاص على وجوب الإتيان بالباقي، أو وجوب ترك الكل لعدم الأمر بالباقي فلا كلام.

اما ان لم يكن هناك دليل على شي‌ء من الطرفين فهل هناك قاعدة تقتضي وجوب الباقي إلا ما خرج بالدليل أم لا؟

المعروف في كثير من كلمات القوم نعم، وهو المسمى بقاعدة الميسور، مأخوذة من الحديث المشهور الاتى «الميسور لا يسقط بالمعسور» يعنى تعسر البعض لا يكون موجبا لسقوط الباقي إذا كان التعسر موجبا لسقوط التكليف بالمعسور.

ثمَّ انه لا إشكال في ان قضية إطلاقات أدلة الجزئية والشرطية هي سقوط الباقي بتعذر بعض الاجزاء أو الشرائط، أو الاضطرار الى ارتكاب بعض الموانع، وذلك لان إطلاقها دليل على اعتبارها في المأمور به‌ مطلقا حتى في ظرف التعذر ولازمه عدم الفائدة في فعل الباقي وهو واضح.

مدركها واسنادها :

استدل للقاعدة بأمور مختلفة ولكن العمدة من بينها الروايات الثلث، المرسلات، المشهورات، وسيأتي الإشارة إلى أمور أخر استدل بها لها أيضا ان شاء اللّه.

الاولى، ما روى عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم انه قال: إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم.

الثانية ما روى عن على عليه السّلام الميسور لا يسقط بالمعسور.

الثالثة ما روى عنه عليه السّلام أيضا: ما لا يدرك كله لا يترك كله ولكن رواهما في الكفاية عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم أيضا بينما صرح غير واحد بنقلهما عن على عليه السّلام وقد نقل المحقق الاشتيانى في تعليقاته عن غوالي اللئالي روايتهما عن على عليه السّلام.

والظاهر انهما كذلك مرويان عنه عليه السّلام.

وقد روى الحديث الأول مسندا عن طرق العامة فقد رواه البيهقي في سننه عن احمد بن حنبل عن يزيد بن هارون عن الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فقال ايها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم لو قلت نعم لو لوجبت ولما استطعتم ثمَّ قال‌ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم إلى أنبيائهم وإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شي‌ء فدعوه؛ ثمَّ قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب عن يزيد بن هارون  «1».

وقد يقال ان ضعف إسناد الأحاديث منجبرة بالشهرة المحققة وقد قيل انها بلغت حد الاشتهار حتى يعرفها العوام والنسوان وقال العلامة الأنصاري في كلام له في القاعدة في أبواب أصالة الاشتغال: «و ضعف اسنادها مجبور باشتهار التمسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات كما لا يخفى على المتتبع.

الكلام في دلالتها :

لو سلمنا انجبار اسناد بما عرفت من الشهرة بقي الكلام في دلالتها فإنها قابلة للبحث والتنقيب من شتى الجهات.

اما الحديث الاولى فالاستدلال به يتوقف على كشف معنى «من» و«ما» فيه :

- اما «من» في قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلم «منه» فتحمل ثلاث معان.

1- ان تكون تبعيضية، فالمعنى فأتوا البعض الذي تستطيعون واتركوا ما لا تستطيعون.

2- ان تكون بمعنى «الباء» فتكون للتعدية فإن الإتيان يتعدى بالباء.

3- ان تكون بيانية وهذا الاحتمال ضعيف لعدم كون الضمير الواقع بعدها بيانا لشي‌ء، فيبقى الاحتمالان الأولان، وحمل الحديث على كل منهما جائز وان كان الأول أظهر لأن الغالب في معنى «من» هو التبعيض ولا أقل من أنها أشهر واعرف من كونها بمعنى الباء.

ولكن يبقى الكلام في ان المراد التبعيض بحسب الافراد أو الأجزاء، يعنى فأتوا من افراده ومصاديقه ما استطعتم؛ أو من اجزائه ما استطعتم، ومن الواضح ان دلالته على المطلوب انما تتم لو كان التبعيض بحسب الاجزاء لا الافراد.

ولكن الذي يبعد هذا الاحتمال شأن ورود الحديث وما عرفت من من مسئلة الحج المروية في كتبهم بعبارات مختلفة كلها ترمى إلى شي‌ء واحد وهو انه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قالها عند السؤال عن تكرار الحج أو الإتيان به مرة واحدة مدة العمر وهو صريح في ان المراد منه التبعيض بحسب الافراد لا الاجزاء.

فالاستدلال بالحديث على دلالة الأمر على التكرار في قبال القول بدلالته على المرة أو عدم الدلالة على شي‌ء أولى من الاستدلال به على قاعدة الميسور- كما ذكره في الفصول- وان كان فيه أيضا ما لا يخفى كما سيأتي.

هذا مضافا الى ان الإتيان بالحج مكررا بمقدار الاستطاعة ليس واجبا بإجماع الأمة بلا خلاف من أحد؛ فالأمر في الحديث محمول على الاستحباب، وهذا اشكال آخر عليه.

والحاصل ان التمسك به ممنوع من وجهين، من جهة ظهوره بقرينة المورد في التبعيض الأفرادي- وهو خلاف المطلوب- ومن جهة ظهورة‌ في الاستحباب بقرينة المورد أيضا.

- واما كلمة «ما» في قوله استطعتم فتحتمل أيضا وجهين: الموصولة والمصدرية المادامية.

فعلى الأول يراد بها كل شي‌ء استطعتم من افراده، وعلى الثاني يكون المراد الإتيان به ما دامت القدرة على تكراره باقية.

والأول أظهر وان كان متحدا مع الثاني في النتيجة.

بقي هنا كلام :

وهو انه قد يتكلف لتصحيح الاستدلال بالحديث بإمكان استعمال لفظ الشي‌ء في قوله إذا أمرتكم بشي‌ء في الأعم من المركب ذات اجزاء والطبيعة ذات افراد فيكون المراد من قوله «ما استطعتم» الأعم من الاجزاء الميسورة وافرادها كذلك، عند عدم القدرة على الجميع، فيشمل القاعدة ومورد الحديث جميعا من دون اى محذور.

وما قد يقال من لزوم محذور الجمع بين اللحاظين المتنافيين فان لحاظ الكل في مقابل الاجزاء ينافي لحاظ الكلي في مقابل الافراد.

مدفوع بان استعماله في كليهما وان كان كذلك الا ان استعماله في الجامع بين الأمرين بمكان من الإمكان واى جامع أوسع وأشمل من كلمة «شي‌ء» الدال على مطلق الموجود. فاذن لا مانع من الأخذ بالحديث في المقام.

ولكن مع ذلك كله لا يمكن المساعدة عليه فان استعمال الشي‌ء في الجامع بل في كل واحد منهما بعينه وان كان جائزا- كما ذكرنا في‌ محله من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنيين وان تعدد اللحاظين بل وتنافيهما أمر شعري لا حقيقة له، فان الاستعمال ليس من قبيل فناء اللفظ في المعنى الذي هو آني الوجود- الا ان هذا النحو من الاستعمال مخالف للظاهر لا يصار اليه الا بدليل، كما ان استعماله في الجامع هنا أيضا مخالف لظاهر سوق الحديث، بل الظاهر منه هو خصوص الافراد لا غير كما يظهر بأدنى تأمل في معنى الحديث عند متفاهم العرف.

هذا مضافا الى لزوم استعمال الأمر في الجامع بين الوجوب والاستحباب لما قد عرفت من عدم وجوب التكرار في الحج قطعا وهذا أيضا يحتاج إلى قرينة بعد القطع بلزوم صرفه عن الوجوب الظاهر فيه بمقتضى طبيعته.

و بالجملة الاستدلال بها للقاعدة مشكل جدا.

الحديث الثاني وهو المروي عن على عليه السّلام: الميسور لا يسقط بالمعسور ، وقد يقال ان دلالته أظهر من الأول لعدم وجود مورد خاص له يخرجه عن ظهوره في الاجزاء.

ولكن مع ذلك فيه أبحاث من جهات شتى:

أولها- هل المراد منه الميسور من الافراد؛ أو من الاجزاء أو الأعم منهما؟ فان المتعلق فيه محذوف ويحتمل أمورا مختلفة. ومن الواضح انه لا يصح الاستدلال به الا على الأولين، فهذا مانع عن التمسك به.

ولكن لا يبعد دعوى الإطلاق فيه، فالميسور من كل شي‌ء- سواء كان من افراده كما إذا لم يتمكن من صوم كل يوم من شهر رمضان، أو من اجزائه كما إذا لم يتمكن من السورة في صلوته- لا يترك بمعسوره.

ثانيها هل الأمر فيه إلا مستفاد من قوله «لا يسقط» للوجوب أو أعم منه والاستحباب؟ قد يقال ان مقتضى إطلاقه وشموله للمستحبات- لعدم الدليل على خروجها منه- كون الأمر بالباقي مستعملا في الأعم، فقوله لا يسقط لا ظهور له في التحريم مطلقا، وحينئذ يسقط الاستدلال بها حتى في مورد الواجبات. والحاصل انه لو قلنا بخروج المستحبات عنه كان تخصيصا بلا مخصص، وان قلنا بشموله لها سقط ظهور الأمر فيها عن الوجوب.

هذا ولكن الإنصاف ان إطلاقه لا يمنع عن الأخذ به في المقام لظهوره في اتحاد حكم الميسور من العمل مع الكل، فان كان واجبا فهو واجب وان كان مستحبا فهو مستحب. وهذا مما لا ينبغي الشك فيه.

ثالثها ان اجزاء المركب ليس ميسورا للكل ابدا، وذلك لان وجوب الجزء في ضمن وجوب الكل وجوب ضمني غير استقلالي ومن الواضح ارتفاعه بارتفاع وجوب الكل فلو ثبت هناك وجوب على الاجزاء الباقية كان وجوبا أخر غير ضمني بل كان استقلاليا فهذا ليس ميسورا له بل شي‌ء مباين له. وان شئت قلت إذا ارتفع وجوب الكل لتعذر بعض اجزائه كان وجوب الباقي، بالوجوب السابق، من قبيل الانتفاء بانتفاء الموضوع.

فاذن لا بد من تخصيصه بأفراد الكلى وانه لا تسقط الافراد الممكنة.

بالإفراد المعسورة.

هذا وفيه اشكال واضح لان الميسور والمعسور صفتان للاجزاء والكل لا للوجوب العارض لهما فلو فرض اختلاف الوجوبين لم يختلف الموضوعين فالمعنى ان الحمد والركوع والسجود التي تكون ميسورة لا تترك بتعذر الإتيان بالسورة وان شئت قلت هذان عنوانان مشيران الى ذوات الأجزاء الخارجية المعتبرة في المركبات لا إليها بصفة الجزئية للكل حتى تنتفي بانتفاء الكل.

رابعها ان الحكم بعدم السقوط محمول على الميسور، اى «الميسور من العمل» فلا بد من إحراز هذا العنوان قبلا حتى يصح الحكم بعدم سقوطه، ومن المعلوم ان كون الشي‌ء ميسورا من العمل معناه كونه مما يصدق عليه عنوانه في الجملة ويقوم به الملاك والمصلحة كذلك.

وان شئت قلت: الميسور من الشي‌ء هو ما لا يصح سلب اسمه منه فاذا كان المتعذر من الاجزاء ما يوجب سلب الاسم عنه كان الباقي خارجا عن محط القاعدة فإذا أمر المولى عبده بطبيخ يتركب من عدة اجزاء من الأرز وبعض الحبوب والبقل والملح والماء، ولم يقدر العبد الا على الملح والماء لم تجر القاعدة في حقه ولا تعد هذان ميسورا للطبيخ كما هو واضح.

وإذا كان الأمر كذلك أشكل الأمر في المركبات الشرعية لأن صدق الاسم وعدمه موكول الى تشخيص الشارع وامره، فشمول القاعدة لها موكول إلى أمره والمفروض ان الأمر بالباقي لا يستكشف الا من القاعدة.

والانصاف ان هذا الإشكال أيضا قابل للدفع لان صدق العناوين الشرعية مثل الصلاة وأشباهها لا يتوقف على ورود الأمر بها شرعا بل المقياس‌ فيه نظر المتشرعة المتبع في الحقائق الشرعية المقتبس من مذاق الشارع المقدس.

فلو تعسر جميع أركان الحج ولم يقدر الأ على مجرد صلاة الطواف أو هي والطواف نفسها لم يصدق عليها عنوان الحج قطعا بخلاف ما لو قدر على الوقوفين وغيرهما ما عدا رمى الجمرات مثلا. وكذا الكلام في الصلاة. وغيرها.

فتلخص من جميع ما ذكرنا إمكان دفع جميع الإشكالات عن الرواية فلو ثبت اعتبار اسنادها بالشهرة لم يبق غبار على الاستدلال بها.

هذا ولكن ستعرف ان شاء اللّه بعد نقل الحديث الثالث ان هنا اشكالا هاما عليهما لا يمكن دفعه ومعه يشكل الاعتماد عليهما في إثبات القاعدة.

اما الحديث الثالث وهو ما روى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ما لا يدرك كله لا يترك كله فالكلام فيه من بعض الجهات كالكلام في سابقة فان كلمة «كل» كما يحتمل الكل بحسب الافراد يحتمل الكل بحسب الاجزاء وكذلك يحتمل الأعم منهما.

لا يبعد دعوى الإطلاق فيه أيضا فإن لفظة كل جامع بينهما فمعنى الحديث إذا لم يدرك جميع الافراد الواجب فعلها لا يترك جميعها، كما انه إذا يتمكن من تمام اجزاء المركب لا يترك جمع اجزائه.

وان أبيت عن ذلك لم يبعد القول بان ظهور الكل في الجمع من ناحية الإجزاء أقوى من ظهوره في جمع الافراد فتدبر.

وعلى كل حال لو تمَّ الحديث من ناحية السند لم يبعد تماميته من ناحية الدلالة.

ولكن هنا اشكال ذات أهمية يرد على الحديثين وهو:

لا شك في ان قاعدة الميسور عقلائية قبل ان تكون شرعية وقد اشتهرت بين العقلاء بعبارات شتى واستعارات وتشبيهات مختلفة وقد ذكره الشعراء في أشعارهم بما يطول بذكرها المقام.

فاذا لم يقدروا على الوفاء بجميع ما وعدوه، أو فعل جميع ما التزموه، أو أداء جميع ما يجب عليهم بنحو من الأنحاء، أو كسب جميع ما له دخل في مقاصدهم تنزلوا الى ما يمكن إدراكه.

وهكذا الأمر في جميع أعمالهم وحاجاتهم فلا يوجب عدم القدرة على جميع الافراد أو جميع الاجزاء ترك جميعها والاعراض عن تحصيل ما يمكن تحصيله من الافراد والاجزاء.

وهذا من الوضوح بمكان لا يخفى على احد.

ولكن ليس ذلك عندهم إلا في العمومات الإفرادية التي يكون كل فرد مشتملا على مصلحة مستقلة، أو المركبات التي تكون ذات مراتب من ناحية المصالح كما هو كذلك غالبا، وبعبارة أخرى تتعلق بكل مرتبة منه طلب وتتعدد فيها المطلوب وان كان لا يجوز الاقتصار على المرتبة الدانية عند التمكن من المرتبة العالية.

فالمعجون المركب من عشرة أجزاء التي تقوم بمصالح مختلفة إذا لم‌ تكن جميعها ميسورة وكان في الخمسة أو الستة أو الأقل منها بعض المصلحة عمدوا إليها تعويلا على تلك القاعدة العقلائية.

وعندئذ لا بد من إحراز تعدد المطلوب قبلا حتى يجوز الأخذ بهذه القاعدة فلو قلنا ان قوله عليه السّلام ما لا يدرك كله لا يترك كله، أو قوله عليه السّلام الميسور لا يسقط بالمعسور أيضا إشارة الى هذه القاعدة وإمضاء لها لا تأسيس لقاعدة أخرى، بل ولا فيها تطبيق خاص على المركبات الشرعية حتى تكون منقحا لمصاديقها الشرعية ودليلا على ان مركباته دائما ذات مراتب من المصلحة (إلا ما خرج بالدليل) فيجوز الاكتفاء بالبعض عند عدم القدرة على الجميع، وحينئذ لم يجز الأخذ بهما وان تمت إسنادهما ودلالتهما .

والانصاف ان القول بدلالتهما على أزيد مما ذكرنا مما هو ثابت بين العقلاء مشكل جدا، بل الظاهر انها إرشاد الى ما عندهم لا غير فليس فيها تعبد بتعدد المراتب والمطلوبات في المركبات الشرعية مصداقا ولا تأسيس قاعدة جديدة مفهوما.

بل لا بد من إحراز تعدد المطلوب أو قيام بعض الملاك بالناقص بعد تعذر الكامل حتى يتمسك بها ومن المعلوم عدم الحاجة الى تعبد خاص حينئذ.

وعندئذ نقول:

إذا ثبت من الخارج ان المركب الفلاني ليس قابلا للتبعيض من ناحية الاجزاء والشرائط والموانع- كالصوم- فلا تجرى فيه القاعدة أصلا. فلا يجوز الاكتفاء بصيام بعض اليوم عند عدم القدرة على الجميع أو الاكتفاء باجتناب بعض المفطرات عند عدم القدرة على ترك جميعها، اللهم إلا في مثل مرض الاستسقاء على اشكال قوى.

وإذا ثبت من مذاق الشارع وموارد أحكامه ان المركب الفلاني يقبل التبعيض كذلك نقول بجريان القاعدة فيه وذلك مثل الصلاة حيث قد ثبت عدم جواز تركها بمجرد تعذر بعض اجزائها أو شرائطها أو عدم القدرة على ترك جميع موانعها.

ولكن مع ذلك لا بد من ان يكون الباقي مما يصدق عليه عنوان الصلاة ولو على الأعم.

وإذا لم يثبت شي‌ء من الأمرين لم يجز التمسك بها لعدم إحراز موضوعها كما هو ظاهر.

ولعل تمسك القوم بها انما هو فيما كان من قبيل القسم الثاني فاستشهادهم بالروايات بعنوان قاعدة في كلماتهم لا يكون دليلا على كونها قاعدة تعبدية ثبتت من الشرع، بل هي كما عرفت قاعدة عقلائية مركوزة في جميع الأذهان عند إحراز موضوعها.

ولا أقل من الشك في ذلك ومعه لا يجوز الاستدلال بها كقاعدة تعبدية خاصة.

ومما يجب ذكره في المقام ما قد يقال انه قلما يكون موردا تمسك الأصحاب بهذه القاعدة فيها الا وقد ورد فيه نص خاص.

فكأنهم ذكروها تأييدا للنصوص الواردة فيها فتأمل.

جريان القاعدة في المستحبات :

ومما ذكرنا تعرف ان التمسك بالقاعدة في المستحبات أظهر وأوضح لما قد ثبت في محله من ان القيود الواردة في المستحبات ليست غالبا من قبيل التقييد بل من قبيل تعدد المطلوب ويجرى فيها هذه القاعدة الارتكازية العقلائية، فإذا تعذر بعض تلك القيود استحب فعل الباقي، وهذا أيضا ليس تعبدا خاصا بعد ثبوت ذاك الموضوع.

تنبيه :

قد ذكر صاحب الجواهر قدس اللّه سره الشريف في بعض كلماته في أبواب الجبائر في الوضوء ما حاصله: «ان الاستدلال بقاعدة الميسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب والا لو أخذ بظاهره في سائر التكاليف لا ثبت فقها جديدا لا يقول به احد من أصحابنا» «2».

ومحصل كلامه ان هذه القاعدة- لو سلم الاستدلال بها وثبت حجيتها كانت كقاعدة لا ضرر بناء على ما ذكر غير واحد منهم من ان عمومها موهونة بكثرة التخصيصات فلا يجوز العمل بظاهرها فكأنهم فهموا منها غير ما نفهم من ظاهرها ولعلها كانت عندهم مقرونة بقرائن خاصة تدلهم على معنى آخر غير ما يستفاد من ظاهرها وحيث لا نعلم ذاك المعنى لا بد لنا من الأخذ بما عملوا به وترك ما تركوه.

وبناء عليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر في سقوط عمومها عن الحجية وقلة الجدوى فيها الا فيما عمل به الأصحاب.

وكأنه نظر في ذلك الى عدم جريان الميسور في مثل الصيام فإنه لا يجوز التبعيض فيه لا من ناحية الزمان، بحيث إذا لم يقدر على الصوم في تمام الوقت اكتفى ببعض اليوم، ولا من ناحية المفطرات التي تجب تركها- الا ما قد يقال في ما إذا خاف الصائم التلف على نفسه من جواز الشرب له بقدر ما يمسك الرمق، ولكنه أيضا غير مسلم والروايات الواردة في هذا المعنى لا تدل على أزيد من جواز شرب ما يمسك به الرمق وعدم‌ جواز الشرب حتى يرتوي ولا دلالة لها على صحة صيامه بل لعل معناه جواز الإفطار بشرب شي‌ء من الماء ثمَّ قضاء ذاك اليوم، ولكن مع ذلك عليه ان يمسك عن الزائد حفظا لحرمة شهر رمضان كغيره ممن يفطر.

وكذلك في أبواب الأغسال لا يجوز لمن لا يجد الماء لتمام الغسل ولا يقدر الأعلى غسل بعض بدنه ان يكتفى به بمقتضى هذه القاعدة.

وكذلك في الوضوء لا يجوز لمن لا يجد الماء الا لغسل وجهه، أو وجهه وإحدى يديه، الاكتفاء به بمقتضاها.

وهكذا في أبواب الحج لا يجوز لمن لا يقدر الا على بعض الوقوفات أو بعض الطواف من بين اعمال الحج اكتفائه به، استنادا إليها.

ومثله من لا يقدر الا على بعض ركعات الصلاة مثلا فلا يجوز له الاكتفاء به وهكذا غيرها.

فلو اكتفينا بجميع ذلك وما شابهها حصل منها فقه جديد لا نعهده.

هذا ولكن الإنصاف ان الظاهر ان أصحابنا الأقدمين رضوان اللّه عليهم لم يكن عندهم قرائن خاصة محفوفة بمثل خبر الميسور وشبهه تدلهم على معنى خاص فيها كما ذكرنا مثل ذلك في باب قاعدة لا ضرر، وان هو الا من قبيل احالة ما لا نفهمه على أمر مجهول.

بل الظاهر ان ما كانت بأيديهم هنا هو الذي تكون بأيدينا ولكنهم بصرافة أذهانهم وعدم شوبها بشوائب الاحتمالات المختلفة الحاصلة عندنا فهموا منها انها ناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عند العقلاء فيما ثبت فيه تعدد المطلوب وتكثر الملاكات.

فاذا ثبت من الخارج ان العمل الفلاني تشتمل على ملاكات مختلفة‌ أو ان كامله مشتمل على ملاك كامل وناقصه على بعض المصلحة، تمسكوا بهذه القاعدة عند تعذر شي‌ء منها.

وهذا مؤيد آخر ما اخترناه في معنى القاعدة آنفا ومع ما ذكرنا لا يرد على عمومها تخصيص، ولا يلزم من العمل بها فقه جديد، ولا يتوقف العمل بها على ثبوت فهم الأصحاب وعملهم بها في الموارد الخاصة.

إلى هنا تمَّ الكلام في قاعدة الميسور والحمد اللّه وقع الفراغ منه يوم السبت 28 من شوال سنة 1392 من الهجرة النبوية على هاجرها الصلاة والسلام.

________________

(1) السنن الكبرى للبيهقي ج 4 ص 326.

(2) الجواهر ج 2 ص 303.

 

 

 




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.