المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



مباحث الحجة  
  
1587   08:29 صباحاً   التاريخ: 6-9-2016
المؤلف : الشيخ محمد رضا المظفر
الكتاب أو المصدر : أصول الفقه
الجزء والصفحة : ج2 ص 7- 45.
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / مباحث الحجة /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 6-9-2016 1114
التاريخ: 19-7-2020 1767
التاريخ: 5-9-2016 1827
التاريخ: 5-9-2016 2625

تمهيد:

إن مقصودنا من هذا البحث، وهو (مباحث الحجة)، تنقيح ما يصلح أن يكون دليلا وحجة على الأحكام الشرعية، لنتوصل إلى الواقع من أحكام الله تعالى. فإن أصبنا بالدليل ذلك الواقع كما أردنا، فذلك هو الغاية القصوى، وإن أخطأناه، فنحن نكون معذورين غير معاقبين في مخالفة الواقع. والسر في كوننا معذورين عند الخطأ هو لأجل أننا قد بذلنا جهدنا وقصارى وسعنا في البحث عن الطرق الموصلة إلى الواقع من أحكام الله تعالى، حتى ثبت لدينا - على سبيل القطع - أن هذا الدليل المعين، كخبر الواحد مثلا، قد ارتضاه الشارع لنا طريقا إلى أحكامه (جعله حجة عليها. فالخطأ الذي نقع فيه انما جاء من الدليل الذي نصبه وارتضاه لنا، لا من قبلنا. وسيأتي بيان كيف نكون معذورين، وكيف يصح وقوع الخطأ في الدليل المنصوب حجة، مع أن الشارع هو الذي نصبه وجعله حجة.

ولا شك في أن هذا المقصد هو غاية الغايات من مباحث علم أصول ألفقه، وهو العمدة فيها، لأنه هو الذي يحصل كبريات مسائل المقصدين السابقين (الأول والثاني) فإنه لما كان يبحث في المقصد الأول عن تشخيص صغريات الظواهر اللفظية (1) فإنه في هذا المقصد يبحث عن حجية مطلق الظواهر اللفظية بنحو العموم، فتتألف الصغرى من نتيجة المقصد الأول، والكبرى من نتيجة هذا المقصد، ليستنتج من ذلك الحكم الشرعي، فيقال مثلا. صيغة افعل ظاهرة في الوجوب (الصغرى) وكل ظاهر حجة (الكبرى) فينتج: صيغة افعل حجة في الوجوب (النتيجة) فإذا وردت صيغة افعل في آية أو حديث استنتج من ذلك وجوب متعلقها. وهكذا يقال في المقصد الثاني، إذ يبحث فيه عن تشخيص صغريات أحكام العقل، وفي هذا المقصد يبحث عن حجية حكم العقل فتتألف منهما صغرى وكبرى. وقد أوضحنا كل ذلك في تمهيد المقصدين (فراجع). وعليه، فلا بد ان نستقصي في بحثنا عن كل ما قيل أو يمكن ان يقال باعتباره وحجيته، لنستوفي البحث، ولنعذر عند الله تعالى في أتباع ما يصح أتباعه وطرح مالا يثبت اعتباره. وينبغي بنا أيضا - من باب التمهيد والمقدمة - ان نبحث عن موضوع هذا المقصد، وعن معنى الحجية، وخصائصها: والمناط فيها، وكيفية اعتبارها، وما يتعلق بذلك، فنضع المقدمة في عدة مباحث، كما نضع المقصد في عدة أبواب:

المقدمة وفيها مباحث: 

1 - موضوع المقصد الثالث من التمهيد المتقدم في بيان المقصود من (مباحث الحجة) يتبين لنا أن الموضوع لهذا المقصد الذي يبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع ومحمولاته هو: (كل شيء يصلح أن يدعى ثبوت الحكم الشرعي به، ليكون دليلا وحجة عليه). فإن استطعنا في هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعي (2) إن هذا الطريق مثلا حجة، أخذنا به ورجعنا إليه لإثبات الأحكام الشرعية، وإلا طرحناه وأهملناه وبصريح العبارة نقول: إن الموضوع لهذا المقصد في الحقيقة هو (ذات الدليل) بما هو في نفسه، لا بما هو دليل. وأما محمولاته ولواحقه التي نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له، فهي كون ذلك الشيء دليلا وحجة، فأما أن نثبت ذلك أو ننفيه.

ولا يصح إن نجعل موضوعه الدليل بما هو دليل، أو الحجة بما هي حجة، أي بصفة كونه دليلا وحجة، كما نسب ذلك إلى المحقق القمي أعلى الله مقامه في قوانينه، إذ جعل موضوع أصل علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة. ولو كان الأمر كما ذهب إليه رحمه الله لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد كلها عن علم الأصول، لأنها تكون حينئذ من مباديه التصورية لا من مسائله. وذلك واضح، لان البحث عن حجية الدليل يكون بحثا عن أصل وجود الموضوع وثبوته الذي هو مفاد كان التامة، لا بحثا عن لواحق الموضوع الذي هو مفاد كان الناقصة. والمعروف عند أهل ألفن أن البحث عن وجود الموضوع - أي موضوع كان سواء كان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه ومسائله - معدود من مبادئ العلم التصورية، لا من مسائله. ولكن هنا ملاحظة ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد، هي: إن تخصيص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة - كما فعل الكثير من مؤلفينا - يستدعي أن يلتزموا بأن الموضوع هو الدليل بما هو دليل، كما فعل حب القوانين، وذلك لان هؤلاء لما خصصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنما خصصوه بها لأنها معلومة الحجية عندهم، فلا بد أنهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هي أدلة، لا بما هي هي، وإلا لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغيرها مما هو غير معتبر عندهم كالقياس وإلاستحسان ونحوهما، وما كان وجه لتخصيصها بالأدلة الأربعة. وحينئذ لا مخرج لهم من الإشكال المتقدم، وهو لزوم خروج عمدة مسائل علم الأصول عنه. وعلى هذا يتضح أن مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانين ليست في محلها، لان دعواه هذه لا بد من الالتزام بها بعد الالتزام بان الموضوع خصوص الأدلة الأربعة، وإن لزم عليه إشكال خروج أهم المسائل عنه. ولو كان الموضوع هي الأدلة بما هي هي - كما ذهب إليه صاحب الفصول - لما كان معنى لتخصيصه بخصوص الأربعة، ولوجب تعميمه لك ما يصلح أن يبحث عن دليليته وإن ثبت بعد البحث انه ليس بدليل.

والخلاصة: انه إما أن نخصص الموضوع بالأدلة الأربعة فيجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانين فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول، وإما أن نعمم الموضوع - كما هو الصحيح - لكل ما يصلح أن يدعى أنه دليل، فلا يختص بالأربعة. وحينئذ يصح أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول وتدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم. فالإلتزام بأن الموضوع هي الأربعة فقط ثم الالتزام بأنها بما هي هي لا يجتمعان. وهذا أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلة الأربعة، وهو الذي نريد إثباته هنا. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ص 6 من المجلد الأول.

والنتيجة: أن الموضوع الذي يبحث عنه في هذا المقصد هو: (كل شيء يصلح أن يدعى انه دليل وحجة). فيعم البحث كل ما يقال انه حجة، فيدخل فيه البحث عن حجية خبر الواحد والظواهر والشهرة والإجماع المنقول والقياس وإلاستحسان ونحو ذلك، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فما ثبت أنه حجة من هذه الأمور أخذنا به، وما لم يثبت طرحناه. كما يدخل فيه أيضا البحث عن مسألة التعادل والتراجيح، لان البحث فيها - في الحقيقة - عن تعيين ما هو حجة ودليل من بين المتعارضين، فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجة. ونحن جعلناها في المجلد الأول ص 8 خاتمة لعلم الأصول أتباعا لمنهج القوم، ورأينا الآن العدول عن ذلك رعاية لواقعها وللاختصار.

2 - معنى الحجة:

1 - الحجة لغة: كل شيء يصلح أن يحتج به على الغير. وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه. والظفر على الغير على نحوين: أما بإسكاته وقطع عذره وإبطاله. وإما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة له لدى الغير.

 2 - وأما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان:

أ - ما عند المناطقة. ومعناها: (كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوبا) أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطها إلى العلم المجهول سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن. وقد يطلقون الحجة أيضا على نفس (الحد الأوسط) في القياس.

ب - ما عند الأصوليين، ومعناها عندهم حسب تتبع استعمالها: (كل شيء يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة القطع). أي لا يكون سببا للقطع بمتعلقه، وإلا فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها اللغوي. أو قل بتعبير آخر: (الحجة كل شيء يكشف عن شيء آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له) ونعني بكونه مثبتا له: أن إثباته يكون بحسب الجعل من الشارع المكلف بعنوان أنه هو الواقع. وإنما يصح ذلك ويكون مثبتا له فبضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشيء الكاشف الحاكي وعلى أنه حجة من قبل الشارع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق معنى الجعل للحجية وكيف يثبت الحكم بالحجة.

وعلى هذا، فالحجة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع، أي أن القطع لا يسمى حجة بهذا المعنى بل بالمعنى اللغوي. لان طريقية القطع - كما سيأتي - ذاتية غير مجعولة من قبل أحد. وتكون الحجة بهذا المعنى الأصولي مرادفة لكلمة (الأمارة). كما أن كلمة (الدليل) وكلمة (الطريق) تستعملان في هذا المعنى، فيكونان مرادفتين لكلمة الأمارة والحجة أو كالمترادفتين. وعليه، فلك أن تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة (مباحث الحجة): (مباحث الأمارات). أو (مباحث الأدلة). أو (مباحث الطرق) وكلها تؤدي معنى واحدا. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الصدد أن استعمال كلمة (الحجة) في المعنى الذي تؤديه كلمة (الأمارة) مأخوذ من المعنى اللغوي من باب تسمية الخاص باسم العام، نظرا إلى أن الأمارة مما يصح أن يحتج المكلف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفة الواقع فتكون معذرة له، كما انه مما يصح أن يحتج بها المولى على المكلف إذا لم يعمل بها ووقع في مخالفة الحكم الواقعي فيستحق العقاب على المخالفة.

 3 - مدلول كلمة الأمارة والظن المعتبر:

بعد أن قلنا: أن الأمارة مرادفة لكلمة الحجة باصطلاح الأصوليين، ينبغي أن ننقل؟؟ الكلام إلى كلمة (الأمارة) لنتسقط بعض استعمالاتها، كما سنستعملها بدل كلمة الحجة في المباحث الآتية فنقول: إنه كثيرا ما يجري على السنة الأصوليين إطلاق كلمة الأمارة على معنى ما تؤديه كلمة (الظن). ويقصدون من الظن (الظن المعتبر): أي الذي اعتبره الشارع وجعله حجة، ويوهم ذلك أن الأمارة والظن المعتبر لفظان مترادفان يؤديان معنى واحدا، مع أنهما ليسا كذلك.

وفي الحقيقة أن هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في الاستعمال لا أنه وضع آخر لكلمة الأمارة. وإنما مدلول الأمارة الحقيقي هو كل شيء اعتبره الشارع لأجل أنه يكون سببا للظن كخبر الواحد والظواهر. والمجاز هنا: أما من جهة إطلاق السبب على مسببه، فيسمى الظن المسبب (أمارة) وأما من جهة إطلاق المسبب على سببه، فتسمى الأمارة التي هي سبب للظن (ظنا) فيقولون: الظن المعتبر والظن الخاص، وإلاعتبار والخصوصية إنما هما لسبب الظن. ومنشأ هذا التسامح في الإطلاق هو أن السر في اعتبار الأمارة وجعلها حجة وطريقا هو إفادتها للظن دائما أو على الأغلب، ويقولون للثاني الذي يفيد الظن على الاغلب: (الظن النوعي) على ما سيأتي بيانه.

4 - الظن النوعي ومعنى (الظن النوعي):

أن الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظن عند غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع انما يكون من هذه الجهة، فلا يضر في اعتبارها وحجيتها الا يحصل منها ظن فعلي للشخص الذي قامت عنده الأمارة، بل تكون حجة عند هذا الشخص أيضا حيث أن دليل اعتبارها دل على أن الشارع انما اعتبرها حجة ورضي بها طريقا لان من شأنها أن تفيد الظن وان لم يحصل الظن الفعلي منها لدى بعض الأشخاص. ثم لا يخفى عليك أنا قد نعبر فيما يأتي تبعا للأصوليين فنقول: الظن الخاص أو الظن المعتبر أو الظن الحجة، وأمثال هذه التعبيرات، والمقصود منها دائما سبب الظن، أعني الأمارة المعتبرة وان لم تفد ظنا فعليا. فلا يشتبه عليك الحال.

5 - الأمارة والأصل العملي :

واصطلاح الأمارة لا يشمل (الأصل العملي) كالبراءة وإلاحتياط والتخيير و الاستصحاب، بل هذه الأصول تقع في جانب والإمارة في جانب آخر مقابل له فإن المكلف إنما يرجع إلى الأصول إذا افتقد الأمارة، أي إذا لم تقم عنده الحجة على الحكم الشرعي الواقعي. على ما سيأتي توضيحه وبيان السر فيه. ولا ينافي ذلك أن هذه الأصول أيضا قد يطلق عليها إنها حجة، فإن إطلاق الحجة عليها ليس بمعنى الحجة في باب الأمارات، بل بالمعنى اللغوي باعتبار إنها معذورة للمكلف إذا عمل بها واخطأ الواقع، ويحتج بها المولى على المكلف إذا خالفها ولم يعمل بها ففوت الواقع المطلوب. ولأجل هذا جعلنا باب (الأصول العملية) بابا آخر مقابل باب (مباحث الحجة). وقد أشير في تعريف الأمارة إلى خروج الأصول العملية بقولهم: (يثبت متعلقه)، لان الأصول العملية لا تثبت متعلقاتها، لأنه ليس لسانها لسان إثبات الواقع والحكاية عنه، وإنما هي في حقيقتها مرجع للمكلف في مقام العمل عند الحيرة والشك في الواقع وعدم ثبوت حجة عليه. وغاية شأنها أنها تكون معذرة للمكلف. ومن هنا اختلفوا في (الاستصحاب) انه أمارة أو أصل، باعتبار أن له شأن الحكاية عن الواقع وإحرازه في الجملة، لان اليقين السابق غالبا ما يورث الظن ببقاء المتيقن في الزمان اللاحق، ولان حقيقته - كما سيأتي في موضعه - البناء على اليقين السابق بعد الشك كأن المتيقن السابق لم يزل ولم يشك في بقائه. ولأجل هذا سمي الاستصحاب عند من يراه أصلا: (أصلا محرزا). فمن لاحظ في الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنه يوجب الظن واعتبر حجيته من هذه الجهة عدة من الأمارات. ومن لاحظ فيه أن الشارع إنما جعله مرجعا للمكلف عند الشك والحيرة واعتبر حجيته من جهة دلالة الأخبار عليه عده من جملة الأصول. وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ذلك في محله مع بيان الحق فيه.

 

6 - المناط في إثبات حجية الأمارة :

مما يجب أن نعرفه - قبل البحث والتفتيش عن الأمارات التي هي حجة - المناط في إثبات حجية الأمارة وأنه بأي شيء يثبت لنا أنها حجة يعول عليها. وهذا هو أهم شيء تجب معرفته قبل الدخول في المقصود، فنقول: إنه لا شك في أن الظن بما هو ظن لا يصح أن يكون هو المناط في حجية الأمارة ولا يجوز أن يعول عليه في إثبات الواقع، لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] ، وقد ذم الله تعالى في كتابه المجيد من يتبع الظن بما هو ظن كقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116] وقال تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59] وفي هذه الآية الأخيرة بالخصوص قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء عليه، فما لم يأذن به لا بد أن يكون افتراءا بحكم المقابلة بينهما، فلو نسبنا الحكم إلى الله تعالى من دون أذن منه فلا محالة يكون افتراءا محرما مذموما بمقتضى الآية. ولا شك في أن العمل بالظن وإلالتزام به على أنه من الله ومثبت لأحكامه يكون من نوع نسبة الحكم إليه من دون أذن منه، فيدخل في قسم الافتراء المحرم. وعلى هذا التقرير، فالقاعدة تقتضي أن الظن بما هو ظن لا يجوز العمل على مقتضاه ولا الأخذ به لإثبات أحكام الله مهما كان سببه، لأنه لا يغني من الحق شيئا، فيكون خرصا باطلا، وافتراءا محرما. هذا مقتضى القاعدة الأولية في الظن بمقتضى هذه الآيات الكريمة، ولكن لو ثبت بدليل قطعي وحجة يقينية أن الشارع قد جعل ظنا خاصا من سبب مخصوص طريقا لأحكامه واعتبره حجة عليها وارتضاه أمارة يرجع إليها وجوز لنا الأخذ بذلك السبب المحقق للظن - فإن هذا الظن يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأولية، إذ لا يكون خرصا وتخمينا ولا افتراء. وخروجه من القاعدة يكون تخصيصا بالنسبة إلى آية النهي عن أتباع الظن، ويكون تخصصا بالنسبة إلى آية الافتراء لأنه يكون حينئذ من قسم ما أذن الله تعالى به، وما أذن به ليس افتراء. وفي الحقيقة إن الأخذ بالظن المعتبر الذي ثبت على سبيل القطع بأنه حجة لا يكون أخذا بالظن بما هو ظن وإن كان اعتباره عند الشارع من جهة كونه ظنا، بل يكون أخذا بالقطع واليقين ذلك القطع الذي قام على اعتبار ذلك السبب للظن، وسيأتي أن القطع حجة بذاته لا يحتاج إلى جعل من أحد. ومن هنا يظهر الجواب عما شنع به جماعة من الأخبارين على الأصوليين من أخذهم ببعض الأمارات الظنية الخاصة كخبر الواحد ونحوه إذ شنعوا عليهم بأنهم أخذوا بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا. وقد فاتهم أن الأصوليين إذ أخذوا بالظنون الخاصة لم يأخذوا بها من جهة إنها ظنون فقط، بل أخذوا بها من حجة أنها معلومة الاعتبار على سبيل القطع بحجيتها، فكان أخذهم بها في الحقيقة أخذا بالقطع واليقين، لا بالظن والخرص والتخمين. ولأجل هذا سميت الأمارات المعتبرة بالطرق العلمية نسبة إلى العلم القائم على اعتبارها وحجيتها، لان حجيتها ثابتة بالعلم.

إلى هنا يتضح ما أردنا أن نرمي إليه، وهو أن المناط في إثبات حجية الأمارات ومرجع اعتبارها وقوامه ما هو؟ - انه العلم القائم على اعتبارها وحجيتها، فإذا لم يحصل العلم بحجيتها واليقين بأذن الشارع بالتعويل عليها والأخذ بها، لا يجوز الأخذ بها وإن أفادت ظنا غالبا لان الأخذ بها يكون حينئذ خرصا وافتراء على الله تعالى. ولأجل هذا قالوا: يكفي في طرح الأمارة أن يقع الشك في اعتبارها، أو فقل على الأصح: يكفي الا يحصل العلم باعتبارها، فإن نفس عدم العلم بذلك كاف في حصول العلم بعدم اعتبارها، أي بعدم جواز التعويل عليها والاستناد إليها. وذلك كالقياس وإلاستحسان وما إليهما وإن أفادت ظنا قويا.

ولا نحتاج في مثل هذه الأمور إلى الدليل على عدم اعتبارها وعدم حجيتها، بل بمجرد عدم حصول القطع بحجية الشيء يحصل القطع بعدم جواز الاستناد إليه في مقام العمل، وبعدم صحة التعويل عليه، فيكون القطع مأخوذا في موضوع حجية الأمارة.

ويتحصل من ذلك كله أن أمارية الأمارة وحجية الحجة انما تحصل وتتحقق بوصول علمها إلى المكلف، وبدون العلم بالحجية لا معنى لفرض كون الشيء أمارة وحجة، ولذا قلنا: إن مناط إثبات الحجة وقوامها (العلم). فهو مأخوذ في موضوع الحجية فإن العلم تنتهي إليه حجية كل حجة. ولزيادة الإيضاح لهذا الأمر، ولتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقيقة البديهية، نقول من طريق آخر لإثباتها:

أولا - إن الظن بما هو ظن ليس حجة بذاته. وهذه مقدمة واضحة قطعية، وإلا لو كان الظن حجة بذاته لما جاز النهي عن أتباعه والعمل به ولو في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئية، لان ما هو بذاته حجة يستحيل النهي عن الأخذ به، كما سيأتي في حجية القطع (المبحث الآتي) ولا شك في وقوع النهي عن أتباع الظن في الشريعة الإسلامية المطهرة، ويكفي في إثبات ذلك قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن..).

ثانيا - إذا لم يكن الظن حجة بذاته، فحجيته تكون عرضية، أي أنها تكون مستفادة من الغير. فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه حجية الظن. فإن كان هو القطع، فذلك هو (المطلوب). وإن لم يكن قطعا، فما هو؟

وليس يمكن فرض شيء آخر غير نفس الظن، فإنه لا ثالث لهما يمكن فرض حجيته. ولكن الظن الثاني القائم على حجية الظن الأول أيضا ليس حجة بذاته، إذ لا فرق بين ظن وظن من هذه الناحية. فننقل الكلام إلى هذا (الظن الثاني)، ولا بد أن تكون حجيته أيضا مستفادة من الغير، فما هو ذلك الغير؟. فإن كان هو القطع، فذلك هو (المطلوب). وإن لم يكن قطعا، فظن ثالث. فننقل الكلام إلى هذا (الظن الثالث)، فيحتاج إلى (ظن رابع). وهكذا إلى غير النهاية، ولا ينقطع التسلسل الا بالانتهاء إلى ما هو حجة بذاته وليس هو إلا (العلم).

ثالثا - فانتهى الأمر بالأخير إلى (العلم). فتم المطلوب. وبعبارة أسد وأخصر، نقول: إن الظن لما كانت حجيته ليست ذاتية، فلا تكون الا بالعرض، وكل ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما هو بالذات، ولا مجاز بلا حقيقة. وما هو حجة بالذات ليس الا (العلم). فانتهى الأمر بالأخير إلى (العلم). وهذا ما أردنا إثباته، وهو أن قوام الأمارة والمناط في إثبات حجيتها هو (العلم) فانه تنتهي إليه حجية كل حجة، لان حجيته ذاتية.

 7 - حجية العلم ذاتية :  

كررنا في البحث السابق القول بأن (حجية العلم ذاتية) ووعدنا ببيانها، وقد حل هنا الوفاء بالوعد، فنقول:

قد ظهر مما سبق معنى كون الشيء حجيته ذاتية، فان معناه أن حجيته منبعثة من نفس طبيعة ذاته، فليست مستفادة من الغير ولا تحتاج إلى جعل من الشارع ولا إلى صدور أمر منه بأتباعه، بل العقل هو الذي يكون حاكما بوجوب أتباع ذلك الشيء. وما هذا شأنه ليس هو إلا العلم. ولقد أحسن الشيخ العظيم الأنصاري (قدس سره) مجلي هذه الأبحاث في تعليل وجوب متابعة القطع (3) فانه بعد أن ذكر أنه (لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجودا) علل ذلك بقوله: (لأنه بنفسه طريق إلى الواقع وليست طريقته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا). وهذا الكلام فيه شيء من الغموض بعد أن اختلفت تعبيرات الأصوليين من بعده، فنقول لبيانه: إن هنا شيئين أو تعبيرين:

(أحدهما) وجوب متابعة القطع والأخذ به.

(ثانيهما) طريقية القطع للواقع. فما المراد من كون القطع حجة بذاته؟ هل المراد أن وجوب متابعته أمر ذاتي له، كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليين المتأخرين، أم أن المراد أن طريقيته ذاتية؟. وإنما صح أن يسأل هذا السؤال، فمن أجل قياسه على الظن حينما نقول: أنه حجة، فأن فيه جهتين:

1 - (جهة طريقيته للواقع) فحينما نقول: أن حجيته مجعولة، نقصد أن طريقيته مجعولة، لأنها ليست ذاتية له، لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقا إلى الواقع بإلغاء احتمال الخلاف، كأنه لم يكن فتتم بذلك طريقيته الناقصة ليكون كالقطع في الأيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو المجعول للشارع.

 2 - (جهة وجوب متابعته) فحينما نقول: أنه حجة، نقصد أن الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظن والأخذ به أمرا مولويا. فينتزع من هذا الأمر أن هذا الظن موصل إلى الواقع ومنجز له. فيكون المجعول هذا الوجوب، ويكون هذا معنى حجية الظن. وإذا كان هذا حال الظن، فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان الجهتان، فنلاحظهما حينما نقول مثلا: إن حجيته ذاتية أما من جهة كونه طريقا بذاته وأما من جهة وجوب متابعته لذاته. ولكن - في الحقيقة - أن التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة، منشأها ضيق العبارة عن المقصود، إذ يقاس على الظن، والسر في ذلك واضح، لأنه ليس للقطع متابعة مستقلة غير الأخذ بالواقع المقطوع به، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقل غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به، أي وجوب طاعة الواقع المنكشف بالقطع من وجوب أو حرمة أو نحوهما. إذ ليس وراء انكشاف الواقع شيء ينتظره الإنسان، فإذا انكشف الواقع له فلا بد أن يأخذ به. وهذه اللابدية لابدية عقلية (4) منشأها أن القطع بنفسه طريق إلى الواقع، وعليه فيرجع التعبير بوجوب متابعة القطع إلى معنى كون القطع بنفسه طريقا إلى الواقع، وأن نفسه نفس انكشاف الواقع. فالجهتان فيه جهة واحدة في الحقيقة.

وهذا هو السر في تعليل الأنصاري رحمه الله لوجوب متابعته بكونه طريقا بذاته ولم يتعرض في التعليل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا ركز البحث كله على طريقته الذاتية. ويظهر لنا - حينئذ - أنه لا معنى لان يقال في تعليل حجيته الذاتية: أن وجوب متابعته أمر ذاتي له. وإذا اتضح ما تقدم وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيا، وهو كل البحث عن حجية القطع وما وراءه من الكلام فكله فضول، وعليه فنقول: تقدم أن القطع حقيقته انكشاف الواقع، لأنه حقيقة نورية محظة لا غطش فيها وإلا احتمال للخطأ يرافقها. فالعلم نور لذاته نور لغيره، فذاته نفس الانكشاف لا أنه شيء له الانكشاف. وقد عرفتم في مباحث الفلسفة أن الذات والذاتي يستحيل جعله بالجعل التأليفي، لان جعل شيء لشيء انما يصح أن يفرض فيما يمكن فيه التفكيك بين المجعول والمجعول له. وواضح أنه يستحيل التفكيك بين الشيء وذاته أي بين الشيء ونفسه، ولا بينه وبين ذاتياته. وهذا معنى قولهم المشهور: (الذاتي لا يعلل). وإنما المعقول من جعل القطع هو جعله بالجعل البسيط أي خلقه وإيجاده. وعليه، فلا معنى لفرض جعل الطريقية للقطع جعلا تأليفيا، بأي نحو فرض للجعل سواء كان جعلا تكوينيا أم جعلا تشريعيا، فان ذلك مساوق لجعل القطع لنفس القطع، وجعل الطريق لذات الطريق. وعلى تقدير التنزيل عن هذا وقلنا مع من قال: أن القطع شيء له الطريقية والكاشفية عن الواقع، كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليين المتأخرين عن الشيخ - فعلى الأقل تكون الطريقية من لوازم ذاته التي لا تنفك عنه، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة. ولوازم الذات كالذات يستحيل أيضا جعلها بالجعل التأليفي على ما هو الحق، وإنما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسيطا لا بجعل آخر وراء جعل الذات. وقد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة. وإذا استحال جعل الطريقية للقطع استحال نفيها عنه، لأنه كما يستحيل جعل الذات ولوازمها يستحيل نفي الذات ولوازمها عنها وسلبها بالسلب التأليفي. بل نحن انما نعرف استحالة جعل الذات والذاتي ولوازم الذات بالجعل التأليفي لانا نعرف أولا امتناع انفكاك الذات عن نفسها وامتناع انفكاك لوازمها عنها، كما تقدم بيانه. على أن نفي الطريقية عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع وفي نظره، فانه - مثلا - حينما يقطع بأن هذا الشيء واجب يستحيل عليه أن يقطع ثانيا بأن هذا القطع ليس طريقا موصلا إلى الواقع، فان معنى هذا أن يقطع ثانيا بأن ما قطع بأنه واجب ليس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأول على حاله. وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجد انه يستحيل أن يقع منه حتى لو كان في الواقع على خطأ في قطعه الأول ولا يصح هذا إلا إذا تبدل قطعه وزال. وهذا شيء آخر غير ما نحن في صدده. والحاصل أن اجتماع القطعين بالنفي والإثبات محال كاجتماع النفي والإثبات بل يستحيل في حقه حتى احتمال أن قطعه ليس طريقا إلى الواقع. فان هذا الاحتمال مساوق لانسلاخ القطع عنده، وانقلابه إلى الظن. فما فرض أنه قطع لا يكون قطعا، وهو خلف محال. وهذا الكلام لا ينافي أن يحتمل الإنسان أو يقطع أن بعض علومه على الإجمال غير المعين في نوع خاص ولا في زمن من الأزمنة كان على خطأ، فانه بالنسبة إلى كل قطع فعلي بشخصه لا يتطرق إليه الاحتمال بخطأه، وإلا لو اتفق له ذلك لا نسلخ عن كونه قطعا جازما. نعم لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة ومعينة في وقت واحد فانه لا بد أن تتسلخ كلها عن كونها اعتقادا جازما، فان بقاء قطعه في جميعها مع تطرق احتمال خطأ واحد منها لا على التعيين لا يجتمعان.

والخلاصة: أن القطع يستحيل جعل الطريقية له تكوينا وتشريعا، ويستحيل نفيها عنه، مهما كان السبب الموجب له.

وعليه. فلا يعقل التصرف بأسبابه، كما نسب ذلك إلى بعض الأخباريين من حكمهم بعدم تجويز الأخذ بالقطع إذا كان سببه من مقدمات عقلية، وقد أشرنا إلى ذلك في المجلد الأول ص 196. وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأشخاص بأن يعتبر قطع شخص ولا يعتبر قطع آخر، كما قيل بعدم الاعتبار بقطع القطاع قياسا على كثير الشك الذي حكم شرعا بعدم الاعتبار بشكه في ترتب أحكام الشك. وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأزمنة ولا من جهة متعلقة بأن يفرق في اعتباره بين ما إذا كان متعلقه الحكم فلا يعتبر، وبين ما إذا كان متعلقه موضوع الحكم أو متعلقه فيعتبر. فان القطع في كل ذلك طريقيته ذاتية غير قابلة للتصرف فيها بوجه من الوجوه وغير قابلة لتعلق الجعل بها نفيا وإثباتا. وإنما الذي يصح ويمكن أن يقع في الباب هو ألفات نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في مقدمات قطعه، فإذا تنبه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أن قطعه سيتبدل إما إلى احتمال الخلاف أو إلى القطع بالخلاف ولا ضمير في ذلك. وهذا واضح

8 - موطن حجية الأمارات :  

قد أشرنا في مبحث الإجزاء (المجلد الأول ص 230) إلى أن جعل الطرق والأمارات يكون في فرض التمكن من تحصيل العلم. وأحلنا بيانه إلى محله. وهذا هو محله، فنقول: إن غرضنا من ذلك القول هو أننا إذ نقول: أن أمارة حجة كخبر الواحد - مثلا - فإنما نعني أن تلك الأمارة مجعولة حجة مطلقة، أي أنها في نفسها حجة مع قطع النظر عن كون الشخص الذي قامت عنده تلك الأمارة متمكنا من تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكن منه فهي حجة يجوز الرجوع إليها لتحصيل الأحكام مطلقا حتى في موطن يمكن فيه أن يحصل القطع بالحكم لمن قامت عنده الأمارة، أي كان باب العلم بالنسبة إليه مفتوحا. فمثلا، إذا قلنا بحجية خبر الواحد فانا نقول أنه حجة حتى في زمان يسع المكلف أن يرجع إلى المعصوم رأسا فيأخذ الحكم منه مشافهة على سبيل اليقين، فانه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجة، يجوز للمكلف أن يرجع إليه، ولا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم. وعلى هذا، فلا يكون موطن حجية الأمارات في خصوص مورد تعذر حصول العلم أو امتناعه، أي ليس في خصوص مورد انسداد باب العلم، بل الأعم من ذلك. فيشمل حتى موطن التمكن من تحصيل العلم وانفتاح بابه. نعم، مع حصول العلم بالواقع فعلا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة بل لا معنى لحجيتها حينئذ، لا سيما مع مخالفة للعلم، لان معنى ذلك انكشاف خطأها. ومن هنا كان هذا الأمر موضع حيرة الأصوليين وبحثهم، إذ للسائل - كما سيأتي - أن يسأل: كيف جاز أن تفرضوا صحة الرجوع إلى الأمارات الظنية مع انفتاح باب العلم بالأحكام، إذ قد يوجب سلوكها تفويت الواقع عند خطأها؟ ولا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت الواقع مع التمكن من تحصيله. بل ذلك قبيح يستحيل في حقه. ولأجل هذا السؤال المحرج سلك الأصوليون عدة طرق للجواب عنه وتصحيح جعل حجية الأمارات. وسيأتي بيان هذه الطرق والصحيح منها في البحث (12) ص 33. وغرضنا من ذكر هذا التنبيه هو أن هذا التصحيح شاهد على ما أردنا الإشارة إليه هنا: من أن موطن حجية الأمارات وموردها ما هو أعم من فرض التمكن من تحصيل العلم وانفتاح بابه ومن فرض انسداد بابه.

ومن هنا نعرف وجه المناقشة في استدلال بعضهم على حجية خبر الواحد بالخصوص بدليل انسداد باب العلم، كما صنع صاحب المعالم، فانه لما كان المقصود إثبات حجية خبر الواحد في نفسه حتى مع فرض انفتاح باب العلم لا يبقى معنى للاستدلال على حجيته بدليل الانسداد. على أن دليل الانسداد أنما يثبت فيه حجية مطلق الظن من حيث هو ظن كما سيأتي بيانه، فلا يثبت به حجية ظن خاص بما هو ظن خاص. نعم، استدل بعضهم على حجية خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير ولا يبعد صحة ذلك، ويعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار التي بأيدينا التي نعلم على الإجمال بأن بعضها موصل إلى الواقع ومحصل له. ولا يتميز الموصل إلى الواقع من غيره، مع انحصار السنة في هذه الأخبار التي بأيدينا وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظن وإلاطمئنان من هذه الأخبار وهذا ما نعنيه بخبر الواحد. والفرق بين دليل الانسداد الكبير والصغير: أن الكبير هو انسداد باب العلم في جميع الأحكام من جهة السنة وغيرها، والصغير هو انسداد باب العلم بالسنة مع انفتاح باب العلم في الطرق الأخرى، والمفروض أنه ليس لدينا الا هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها العلم، وبعضها حجة قطعا وموصل إلى الواقع.

 9 - الظن الخاص والظن المطلق :

تكرر منا هذا التعبير بالظن الخاص والظن المطلق، وهو اصطلاح للأصوليين المتأخرين فينبغي بيان ما يعنون بهما، فنقول:

 1 - يراد من (الظن الخاص): كل ظن قام دليل قطعي على حجيته واعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد الكبير. وعليه فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة مطلقا حتى مع انفتاح باب العلم، ويسمى أيضا (الطريق العلمي) نسبة إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجيته كما تقدم.

 2 - يراد من (الظن المطلق): كل ظن قام دليل الانسداد الكبير على حجيته واعتباره. فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة في خصوص حالة انسداد باب العلم والعلمي، أي انسداد باب نفس العلم بالأحكام وباب الطرق العلمية المؤدية إليها. ونحن في هذا المختصر لا نبحث إلا عن الظنون الخاصة فقط، أما الظنون المطلقة فلا نتعرض لها، لثبوت حجية جملة من الأمارات المغنية عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلمي. فلا تصل النوبة إلى هذا الفرض حتى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن. ولكن بعد أن انتهينا إلى هنا ينبغي ألا يخلو هذا المختصر من الإشارة إلى مقدمات دليل الانسداد على نحو الاختصار تنويرا لذهن الطالب، فنقول:

10 - مقدمات دليل الانسداد أن الدليل المعروف ب‍ (دليل الانسداد) يتألف من مقدمات أربع إذا تمت يترتب عليها حكم العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظن في الأحكام أي ظن كان، عدا الظن الثابت فيه - على نحو القطع - عدم جواز العمل به كالقياس مثلا. ونحن نذكر بالاختصار هذه المقدمات:

 1 - (المقدمة الأولى) دعوى انسداد باب العلم والعلمي في معظم أبواب ألفقه في عصورنا المتأخرة عن عصر أئمتنا عليهم السلام. وقد علمت أن أساس المقدمات كلها هي هذه المقدمة، وهي دعوى قد ثبت عندنا عدم صحتها، لثبوت انفتاح باب الظن الخاص بل العلم في معظم أبواب ألفقه فانهار هذا الدليل من أساسه.

2 - (المقدمة الثانية) أنه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا، ولا يجوز طرحها في مقام العمل. وإهمالها وطرحها يقع بفرضين: أما بأن نعتبر أنفسنا كالبهائم أصل لا تكليف علينا. وأما بأن نرجع إلى أصالة البراءة وأصالة عدم التكليف في كل موضع لا يعلم وجوبه وحرمته. وكلا الفرضين ضروري البطلان.

 3 - (المقدمة الثالثة) أن بعد فرض وجوب التعرض للأحكام المعلومة إجمالا فإن الأمر لتحصيل فراغ الذمة منها يدور بين حالات أربع لا خامسة لها:

 أ - تقليد من يرى انفتاح باب العلم.

ب - الأخذ بالاحتياط في كل مسألة.

ج - الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مسألة من نحو البراءة وإلاحتياط والتخيير والاستصحاب، حسبما يقتضيه حال المسألة.

د - الرجوع إلى الظن في كل مسألة فيها ظن بالحكم، وفيما عداها يرجع إلى الأصول العملية. ولا يصح الأخذ بالحالات الثلاث الأولى، فتتعين الرابعة.

 أما (الأولى) وهي تقليد الغير في انفتاح باب العلم فلا يجوز، لان المفروض أن المكلف يعتقد بالانسداد فكيف يصح له الرجوع إلى من يعتقد بخطأه وأنه على جهل.

وأما (الثانية) وهي الأخذ بالاحتياط، فانه يلزم منه العسر والحرج الشديدان، بل يلزم اختلال النظام لو كلف جميع المكلفين بذلك.

وأما (الثالثة) وهي الأخذ بالأصل الجاري فلا يصح أيضا لوجود العلم الإجمالي بالتكاليف ولا يمكن ملاحظة كل مسألة على حدة غير منظمة إلى غيرها من المسائل الأخرى المجهولة الحكم. والحاصل أن وجود العلم الإجمالي بوجود المحرمات والواجبات في جميع المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة والاستصحاب، ولو في بعضها.

 4 - (المقدمة الرابعة) انه بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها الظن، وفيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظن وبين الرجوع إلى الطرف المرجوح أي الموهوم. ولا شك في أن الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا. وعليه، فيتعين الأخذ بالظن ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به كالقياس. (وهو المطلوب). وفي فرض الظن المقطوع بعدم حجيته يرجع إلى الأصول العملية، كما يرجع إليها في المسائل المشكوكة التي لا يقوم فيها ظن أصلا. ولا ضير حينئذ بالرجوع إلى الأصول العملية لانحلال العلم الإجمالي بقيام الظن في معظم المسائل ألفقهية إلى: علم تفصيلي بالأحكام التي قامت عليها الحجة، وشك بدوي في الموارد الأخرى، فتجري فيها الأصول. هذه خلاصة (مقدمات دليل الانسداد)، وفيها أبحاث دقيقة طويلة الذيل لا حاجة لنا بها، ويكفي ما ذكرناه عنها بالاختصار.

11 - اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل قام إجماع الإمامية على أن أحكام الله تعالى مشتركة بين العالم والجاهل بها، أي أن حكم الله ثابت لموضوعه في الواقع سواء علم به المكلف أم لم يعلم، فانه مكلف به على كل حال. فالصلاة - مثلا - واجبة على جميع المكلفين سواء علموا بوجوبها أم جهلوه، فلا يكون العلم دخيلا في ثبوت الحكم أصلا. وغاية ما نقوله في دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجز الحكم التكليفي، بمعنى أنه لا يتنجز على المكلف على وجه يستحق على مخالفته العقاب الا إذا علم به، سواء كان العلم تفصيليا أو إجماليا (5)، أو قامت لديه حجة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم. فالعلم وما يقوم مقامه يكون - على ما هو التحقيق - شرطا لتنجز التكليف لا علة تامة، خلافا للشيخ الآخوند صاحب الكفاية قدس سره. فإذا لم يحصل العلم ولا ما يقوم مقامه بعد الفحص واليأس لا يتنجز عليه التكليف الواقعي ، يعني لا يعاقب المكلف لو وقع في مخالفته على جهل، ولا لكان العقاب عليه عقابا بلا بيان، وهو قبيح عقلا، (وسيأتي إن شاء الله تعالى في أصل البراءة شرح ذلك). وفي قبال هذا القول زعم من يرى أن الأحكام انما تثبت لخصوص العالم بها أو من قامت عنده الحجة، فمن لم يعلم بالحكم ولم تقم لديه الحجة عليه لا حكم في حقه حقيقة وفي الواقع. ومن هؤلاء من يذهب إلى تصويب المجتهد، إذ يقول: إن كل مجتهد مصيب وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى في هذا الجزء. وعن الشيخ الأنصاري - أعلى الله مقامه - وعن غيره أيضا كصاحب الفصول رحمه الله، إن أخبارنا متواترة معنى في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وهو كذلك. و (الدليل على هذا الاشتراك) - مع قطع النظر عن الإجماع وتواتر الأخبار - واضح، وهو أن نقول:

1 - أن الحكم لو لم يكن مشتركا لكان مختصا بالعالم به إذ لا يجوز أن يكون مختصا بالجاهل به، وهو واضح.

2 - وإذا ثبت انه مختص بالعالم، فان معناه تعليق الحكم على العلم به.

3 - ولكن تعليق الحكم على العلم به محال، لأنه يلزم منه الخلف.

4 - أذن يتعين أن يكون مشتركا بين العالم والجاهل. (بيان لزوم الخلف): انه لو كان الحكم معلقا على العلم به كوجوب الصلاة مثلا، فانه يلزمه - بل هو نفس معنى التعليق - عدم الوجوب لطبيعي الصلاة، إذ الوجوب يكون حسب الفرض للصلاة المعلومة الوجوب بما هي معلومة الوجوب، بينما أن تعلق العلم بوجوب الصلاة لا يمكن فرضه إلا إذا كان الوجوب متعلقا بطبيعي الصلاة. فما فرضناه متعلقا بطبيعي الصلاة لم يكن متعلقا بطبيعيها، بل بخصوص معلوم الوجوب. وهذا هو الخلف المحال. وببيان آخر في وجه استحالة تعليق الحكم على العلم به نقول: إن تعليق الحكم على العلم به يستلزم منه المحال، وهو استحالة العلم بالحكم، والذي يستلزم منه المحال محال، فيستحيل نفس الحكم. وذلك لأنه قبل حصول العلم لا حكم - حسب الفرض، فإذا أراد أن يعلم يعلم بماذا؟ فلا يعقل حصول العلم لديه بغير متعلق مفروض الحصول. وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلق عليه، لاستحالة ثبوت الحكم بدون موضوعه. وهو واضح. وعلى هذا، فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. وإذا استحال ذلك تعين أن يكون الحكم مشتركا بين العالم والجاهل، أي بثبوته واقعا في صورتي العلم والجهل، وان كان الجاهل القاصر معذورا أي انه لا يعاقب على المخالفة. وهذا شيء آخر غير نفس عدم ثبوت الحكم في حقه.

ولكنه قد يستشكل في استكشاف اشتراك الأحكام في هذا الدليل بما تقدم منا في المجلد الأول (ص 69 و 159)، من أن الإطلاق والتقييد متلازمان في مقام الإثبات لأنهما من قبيل العدم والملكة، فإذا استحال التقييد في مورد استحال معه الإطلاق أيضا. فكيف - إذن - نستكشف اشتراك الأحكام من إطلاق أدلتها لامتناع تقييدها بالعلم. وإلاطلاق كالتقييد محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلة الأحكام. وقد أصر شيخنا النائيني أعلى الله مقامه على امتناع الإطلاق في ذلك، وقال بما محصله: انه لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلة الأحكام، بل لا بد لإثباته من دليل آخر سماه (متمم الجعل)، على أن يكون الاشتراك من باب (نتيجة الإطلاق)، كاستفادة تقييد الأمر العبادي بقصد الامتثال من دليل ثان (متمم للجعل) على أن يكون ذلك من باب (نتيجة التقييد) وكاستفادة تقييد وجوب الجهر وإلاخفات والقصر والإتمام بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمم للجعل، على أن يكون ذلك أيضا من باب نتيجة التقييد. وقال بما خلاصته : يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلة التي ادعى الشيخ الأنصاري تواترها، فتكون هي المتممة للجعل. أقول: ويمكن الجواب عن الإشكال المذكور بما محصله: أن هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة اشتراك الأحكام متوقفة على إثبات إطلاق أدلتها بالنسبة إلى العالم بها، غير أن المطلوب الذي ينفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصلة. فيكون التقابل بين اشتراك الأحكام واختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب والإيجاب، لا من باب تقابل العدم والملكة، لان المراد من الاشتراك نفس عدم الاختصاص بالعالم. وهذه السلب يكفي في استفادته من أدلة الأحكام من نفس إثبات امتناع الاختصاص ، ولا يحتاج إلى مؤنة زائدة لإثبات الإطلاق أو إثبات نتيجة الإطلاق يتمم الجعل من إجماع أو أدلة أخرى، لأنه من نفس امتناع التقييد نعلم أن الحكم مشترك لا يختص بالعالم. نعم يتم ذلك الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلا من جهة بيانية وفي مرحلة الإنشاء في دليل نفس الحكم، وان كان واقعه يمكن أن يكون مقيدا أو مطلقا مع قطع النظر عن أدائه باللفظ، فإنه حينئذ لا يمكن بيانه بنفسه دليله الأول فنحتاج إلى استكشاف الواقع المراد من دليل آخر نسميه متمم الجعل ولأجل ذلك نسميه بالمتمم للجعل، فتحصل لنا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد من دون أن يحصل تقييد أو إطلاق المفروض أنهما مستحيلان كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد الامتثال في الواجب التعبدي. أما لو كان نفس الحكم واقعا مع قطع النظر عن أدائه بأية عبارة كانت - كما فيما نحن فيه - يستحيل تقييده سواء أدى ذلك ببيان واحد أو ببيانين أو بألف بيان، فإن واقعه لا محالة ينحصر في حالة واحدة، وهو أن يكون في نفسه شاملا لحالتي وجود القيد المفروض وعدمه. وعليه، فلا حاجة في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق دليله الأول ولا من دليل ثان متمم للجعل. ولا نمانع أن نسمي ذلك (نتيجة الإطلاق) إذا حلا لكم هذا التعبير. ويبقى الكلام حينئذ في وجه تقييد وجوب الجهر وإلاخفات والقصر والإتمام بالعلم مع فرض امتناعه حتى بمتمم الجعل، والمفروض أن هذا التقييد ثابت في الشريعة، فكيف تصححون ذلك ؟ - فنقول: انه لما امتنع تقييد الحكم بالعلم فلا بد أن نلتمس توجيها لهذا الظاهر من الأدلة. وينحصر التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين الموردين عن الإعادة والقضاء وإسقاطهما عنه اكتفاء بما وقع كإعفاء الناسي، وان كان الوجوب واقعا غير مقيد بالعلم. وإلاعادة والقضاء بيد الشارع رفعهما ووضعهما. ويشهد لهذا التوجيه أن بعض الروايات في البابين عبرت بسقوط الإعادة عنه، كالرواية عن أبي جعفر عليه السلام فيمن صلى في السفر أربعا: (إن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة). 12 - تصحيح جعل الأمارة بعدما ثبت أن جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم - مع ما ثبت

مع اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل - تنشأ (شبهة عويصة) في صحة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق ص 25، وهي : - انه في فرض التمكن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن يأذن الشارع بأتباع الأمارة الظنية، وهي - حسب الفرض - تحتمل الخطأ المفوت للواقع . والإذن في تفويته قبيح عقلا، لان الأمارة لو كانت دالة على جواز الفعل - مثلا - وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة، فإن الأذن بأتباع الأمارة في هذا الفرض يكون أذنا بترك الواجب أو فعل الحرام، مع أن الفعل لا يزال باقيا على وجوبه الواقعي أو حرمته الواقعية مع تمكن المكلف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض. ولا شك في قبح ذلك من الحكيم. وهذه الشبهة هي التي الجأت بعض الأصوليين إلى القول بأن الأمارة مجعولة على نحو (السببية)، إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو (الطريقية) التي هي الأصل في الأمارة على ما سيأتي من شرح ذلك قريبا. والحق معهم إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقية، لان المفروض أن الأمارة قد ثبتت حجيتها قطعا فلا بد أن يفرض - حينئذ - في قيام الأمارة أو في أتباعها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطأها حتى لا يكون أذن الشارع بتفويت الواقع قبيحا ، ما دام أن تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى أو مساوية لمصلحة الواقع فينشأ على طبق مؤدى الأمارة حكم ظاهري بعنوان انه الواقع، إما أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة أو مخالفا له عند الخطأ. ونحن - بحمد الله تعالى - نرى أن الشبهة يمكن دفعها على تقدير الطريقية، فلا حاجة إلى فرض السببية. والوجه في دفع الشبهة: انه بعد أن فرضنا أن القطع قام على أن الأمارة الكذائية كخبر الواحد حجة يجوز أتباعها مع التمكن من تحصيل العلم، فلا بد أن يكون الأذن من الشارع العالم بالحقائق الواقعية لأمر علم به وغاب عنا علمه. ولا يخرج هذا الأمر عن أحد شيئين لا ثالث لهما، وكل منهما جائز عقلا لا مانع منه:

1 - أن يكون قد علم بأن إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم التي تتفق للمكلفين أو أكثر منها. بمعنى أن العلوم التي يتمكن المكلفون من تحصيلها يعلم الشارع بأن خطأها سيكون مساويا لخطأ الأمارة المجعولة أو أكثر خطأ منها.

 2 - أن يكون قد علم بأن في عدم جعل أمارات خاصة لتحصيل الأحكام وإلاقتصار على العلم تضييقا على المكلفين ومشقة عليهم، لا سيما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها والأخذ بها في شؤونهم الخاصة وأمورهم الدنيوية وبناء العقلاء كلهم كان عليها. وهذا الاحتمال الثاني قريب إلى التصديق جدا، فإنه لا نشك في أن تكليف كل واحد من الناس بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة في تحصيل جميع الأحكام أمر فيه مالا يوصف من الضيق والمشقة، لا سيما أن ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة ما يتعلق بشؤونهم الدنيوية. وعليه، فمن القريب جدا أن الشارع إنما رخص في أتباع الأمارات الخاصة فلغرض تسهيل الأخذ بأحكامه والوصول إليها. ومصلحة التسهيل من المصالح النوعية المتقدمة في نظر الشارع على المصالح الشخصية التي قد نفوت أحيانا على بعض المكلفين عند العمل بالأمارة لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلامية التي بنيت في تشريعها على التيسير والتسهيل. وعلى التقديرين وإلاحتمالين فإن الشارع في أذنه بأتباع الأمارة طريقا إلى الوصول إلى الواقع من أحكامه لا بد أن يفرض فيه أنه قد تسامح في التكاليف الواقعية عند خطأ الأمارة، أي أن الأمارة تكون معذرة للمكلف فلا يستحق العقاب في مخالفة الحكم كما لا يستحق ذلك عند المخالفة في خطأ القطع، لا انه بقيام الأمارة يحدث حكم آخر ثانوي، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع بلا فرق. ولذا إن الشارع في الموارد التي يريد فيها المحافظة على تحصيل الواقع على كل حال أمر بأتباع الاحتياط ولم يكتف بالظنون فيها، وذلك كموارد الدماء والفروج.

 13 - الأمارة طريق أو سبب قد أشرنا في البحث السابق إلى مذهبي السببية والطريقية في الأمارة وقد عقدنا هذا البحث لبيان هذا الخلاف. فإن ذلك من الأمور التي وقعت أخيرا موضع البحث والرد والبدل عند الأصوليين، فاختلفوا في أن الأمارة هل هي حجة مجعولة على نحو (الطريقية)، أو أنها حجة مجعولة على نحو (السببية)، أي أنها طريق أو سبب. والمقصود من كونها (طريقا): أنها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى الواقع للكشف عنه، فإن أصابته فانه يكون منجزا بها وهي منجزة له، وإن أخطأته فإنها حينئذ تكون صرف معذر للمكلف في مخالفة الواقع. والمقصود من كونها (سببا): انها تكون سببا لحدوث مصلحة في مؤداها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام الواقعية على تقدير الخطأ، فينشئ الشارع حكما ظاهريا على طبق ما أدت إليه الأمارة. والحق أنها مأخوذة على نحو (الطريقية). والسر في ذلك واضح بعدما تقدم، فإن القول بالسببية - كما قلنا - مترتب على القول بالطريقية، يعني إن منشأ قول من قال بالسببية هو العجز عن تصحيح جعل الطرق على نحو الطريقية، فيلتجئ إلى فرض السببية. أما إذا أمكن تصحيح الطريقية فلا يبقى دليل على السببية ويتعين كون الأمارة طريقا محضا، لان الطريقية هي الأصل فيها. ومعنى إن الطريقية هي الأصل: ان طبع الأمارة لو خليت ونفسها يقتضي أن تكون طريقا محضا إلى مؤداها، لان لسانها التعبير عن الواقع والحكاية والكشف عنه. على أن العقلاء انما يعتبرونها ويستقر بناؤهم عليها فلأجل كشفها عن الواقع، ولا معنى لان يفرض في بناء العقلاء أنه على نحو السببية، وبناء العقلاء هو الأساس الأول في حجية الأمارة كما سيأتي. نعم إذا منع مانع عقلي من فرض الأمارة طريقا من جهة الشبهة المتقدمة أو نحوها، فلا بد أن تخرج على خلاف طبعها ونلتجئ إلى فرض السببية. ولما كنا دفعنا الشبهة في جعلها على نحو الطريقية فلا تصل النوبة إلى التماس دليل على سببيتها أو طريقيتها، إذ لا موضع للترديد وإلاحتمال لنحتاج إلى الدليل.

 هذا وقد يلتمس الدليل على السببية من نفس دليل حجية الأمارة بأن يقال: أن دليل الحجية - لا شك - يدل على وجوب أتباع الأمارة. ولما كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، فلا بد أن يكون في أتباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب أتباعها وإن كانت على خطأ في الواقع. وهذه هي السببية بعينها. أقول: والجواب عن ذلك واضح فانا نسلم إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، ولكن لا يلزم في المقام أن يكون في نفس أتباع الأمارة مصلحة، بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع، فيكون جعل وجوب أتباع الأمارة لغرض تحصيل مصلحة الواقع. بل يجب أن يكون الحال فيها كذلك، لأنه - لا شك - أن الغرض من جعل الأمارة هي الوصول بها إلى الواقع فالمحافظة على الواقع والوصول إليه هو الباعث على جعل الأمارة لغرض تنجيزه وتحصيله، فيكون الأمر بأتباع الأمارة طريقا إلى تحصيل الواقع. ولذا نقول: إذا لم تصب الواقع لا تكليف هناك ولا تدارك لما فات من الواقع، وما هي إلا المعذرية في مخالفته ورفع العقاب على المخالفة، لا أكثر وهذه المعذرية تقتضيها نفس الرخصة في أتباع الأمارة التي قد تخطئ. وعلى هذا، فليس لهذا الأمر الطريقي المتعلق بأتباع الأمارة بما هو أمر طريقي مخالفة ولا موافقة، لأنه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى الفعل الذي هو مؤدى الأمارة مستقلا عن الأمر الواقعي وإنما هو جعل للأمارة منجزة للأمر الواقعي، فهو موجب لدعوة الأمر الواقعي، فلا بعث حقيقي في مقابل البعث الواقعي فلا تكون له مصلحة الا مصلحة الواقع، ولا طاعة غير طاعة الواقع، إذ لا بعث فيه إلا بعث الواقع.

 14 - المصلحة السلوكية ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره إلى فرض المصلحة السلوكية في الأمارات لتصحيح جعلها - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء المجلد الأول ص 230 - وحمل عليه كلام الشيخ الطوسي في العدة والعلامة في النهاية. وإنما ذهب إلى هذا الفرض لأنه لم يتم عنده تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقية المحضة، ووجد أيضا أن القول بالسببية المحضة يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإمامية فسلك طريقا وسطا لا يذهب به إلى الطريقية المحضة ولا إلى السببية المحضة وهو أن يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة وتطبيق العمل على ما أدت إليه، وبهذه المصلحة بتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ. فتكون الأمارة من ناحية لها شأن الطريقية إلى الواقع، ومن ناحية أخرى لها شأن السببية. وغرضه من فرض المصلحة السلوكية إن نفس سلوك طريق الأمارة والاستناد إليها في العمل بمؤداها فيه مصلحة تعود لشخص المكلف يتدارك بها ما يفوته من مصلحة الواقع عند الخطأ، من دون أن يحدث في نفس المؤدى - أي في ذات الفعل والعمل - مصلحة حتى تستلزم إنشاء حكم آخر غير الحكم الواقعي على طبق ما أدت إليه الأمارة الذي هو نوع من التصويب (6).

قال رحمه الله في رسائله فيما قال: (ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤداها من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع). ولا ينبغي أن يتوهم أن القول بالمصلحة السلوكية هي نفس ما ذكرناه في أحد وجهي تصحيح الطريقية من فرض مصلحة التسهيل، لان الغرض من القول بالمصلحة السلوكية أن تحدث مصلحة في سلوك الأمارة تعود تلك المصلحة لشخص المكلف لتدارك ما يفوته من مصلحة الواقع، بينما أن غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعية قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأمارة، وتلك المصلحة النوعية مقدمة في مقام المزاحمة عند الشارع على مصلحة الواقع التي قد تفوت على شخص المكلف. وإذا اتضح الفرق بينهما نقول: أن القول بالمصلحة السلوكية وفرضها يأتي بالمرتبة الثانية للقول بمصلحة التسهيل. يعني انه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهيل ، أو قلنا بعدم تقديم المصلحة النوعية على المصلحة الشخصية، ولم يصح عندنا أيضا احتمال مساواة خطأ الأمارات للعلوم - فانا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكية إذا استطعنا تصحيحها، فرارا من الوقوع في التصويب الباطل. وأما نحن فإذ ثبت عندنا أن هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصية ومقدمة عليها عند الشارع، أصبحنا في غنى عن فرض المصلحة السلوكية. على أن المصلحة السلوكية إلى الآن لم نتحقق مراد الشيخ منها ولم نجد الوجه لتصحيحها في نفسها، فإن في عبارته شيئا من الاضطراب والأيهام، وكفى أن يقع في بعض النسخ زيادة كلمة (الأمر) على قوله: (إلا إن العمل على طبق تلك الأمارة) فتصير العبارة هكذا (إلا أن الأمر بالعمل.) فلا يدرى مقصوده هل انه في نفس العمل مصلحة سلوكية أو في الأمر به. وقيل: أن هذا التصحيح وقع من بعض تلامذته إذ أوكل إليه أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في مجلس البحث. وعلى كل حال، فإن الظاهر أن ألفارق عنده بين السببية المحضة وبين المصلحة السلوكية بمقتضى عبارته قبل التصحيح المذكور أن المصلحة على الأول تكون قائمة بذات الفعل وعلى الثاني قائمة بعنوان آخر هو السلوك فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل. ولكننا لم نتعقل هذا ألفارق المذكور، لأنه انما يتم إذا استطعنا أن نتعقل لعنوان السلوك عنوانا مستقلا في وجوده عن ذات الفعل لا ينطبق عليه ولا يتحد معه حتى لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل، وتصوير هذا في غاية الإشكال . ولعل هذا هو السر في مناقشة تلاميذه له فحمل بعضهم على إضافة كلمة (الأمر)، ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر لا إلى متعلقه فلا يقع التزاحم بين المصلحتين. وجه الإشكال:

(أولا) إننا لا نفهم من عنوان السلوك والاستناد إلى الأمارة إلا عنوانا للفعل الذي تؤدي إليه الأمارة بأي معنى فسرنا السلوك والاستناد، إذ ليس للسلوك ومتابعة الأمارة وجود آخر مستقل غير نفس وجود الفعل المستند إلى الأمارة. نعم، إذا أردنا من الاستناد إلى الأمارة معنى آخر، وهو الفعل القصدي من النفس، فإن له وجودا آخر غير وجود الفعل لأنه فعل قلبي جوانحي لا وجود له إلا وجودا قصديا. ولكنه من البعيد جدا أن يكون ذلك غرض الشيخ من السلوك، لان هذا الفعل القلبي انما يصح أن يفرض وجوبه ففي خصوص الأمور العبادية. ولا معنى للالتزام بوجوب القصد في جميع أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.

 (ثانيا) على تقدير تسليم اختلافهما وجودا فإن قيام المصلحة بشيء إنما يدعو إلى تعلق الأمر به لا بشيء آخر غيره وجودا وان كانا متلازمين في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك وإن كان بمعنى الفعل القلبي فإنه إذا كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به فكيف يصح توجيه الأمر إلى ذات الفعل والمفروض أن له وجودا آخر لم تقم به المصلحة. وأما إضافة كلمة (الأمر) على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدا عن مراده وعباراته الأخرى.

 15 - الحجية أمر اعتباري أو انتزاعي من الأمور التي وقعت موضع البحث أيضا عن المتأخرين مسألة أن الحجية هل هي من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها وذاتها، أو إنها من الانتزاعيات التي تنتزع من المجعولات. وهذا النزاع في الحجية فرع - في الحقيقة - عن النزاع في أصل الأحكام الوضعية . وهذا النزاع في خصوص الحجية - على الأقل - لم أجد له ثمرة عملية في الأصول. على أن هذا النزاع في أصله غير محقق ولا مفهوم لان لكلمتي الاعتبارية وإلانتزاعية مصطلحات كثيرة، في بعضها تكون الكلمتان متقابلتين، وفي البعض الآخر متداخلتين. وتفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة. ونكتفي أن نقول على سبيل الاختصار: إن الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أن المراد من الأمر الانتزاعي هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أولا وبالذات، بمعنى أن الإيجاد والجعل الاعتباري ينسب أولا وبالذات إلى شيء والمجعول حقيقة ثم ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شيء آخر. فالمجعول الأول هو الأمر الاعتباري والثاني هو الأمر الانتزاعي. فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأول بالذات والى الثاني بالعرض، لا أنه هناك جعلان واعتباران ينسب أحدهما إلى شيء ابتداء وينسب ثانيهما إلى آخر يتبع الأول، فإن هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.

 

فيقال في الملكية - مثلا - التي هي من جملة موارد النزاع أن المجعول أولا وبالذات هو إباحة تصرف الشخص بالشيء المملوك، فينتزع منها أنه مالك، أي أن الجعل ينسب ثانيا وبالعرض إلى الملكية. فالملكية يقال لها: إنها مجعولة بالعرض ويقال لها: أنها منتزعة من الإباحة. هذا إذا قيل إن الملكية انتزاعية، أما إذا قيل إنها اعتبارية فتكون عندهم هي المجعولة أولا وبالذات للشارع أو العرف. وعلى هذا، فإذا أريد من الانتزاع هذا المعنى - فالحق أن الحجية أمر اعتباري، وكذلك الملكية والزوجية ونحوها من الأحكام الوضعية. وشأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفية المسلم فيها أنها من الاعتباريات الشرعية. توضيح ذلك: إن حقيقة الجعل هو الإيجاد. والإيجاد على نحوين:

1 - ما يراد منه إيجاد الشيء حقيقة في الخارج. ويسمى: الجعل التكويني، أو الخلق.

 2 - ما يراد منه إيجاد الشيء اعتبارا وتنزيلا، وذلك بتنزيله منزلة الشيء الخارجي الواقعي من جهة ترتيب أثر من آثاره أو لخصوصية فيه من خصوصيات الأمر الواقعي. ويسمى: الجعل الاعتباري، أو التنزيلي. وليس له واقع إلا الاعتبار والتنزيل، وان كان نفس الاعتبار أمرا واقعيا حقيقيا لا اعتباريا. مثلا حينما يقال: زيد أسد، فإن الأسد مطابقة الحقيقي هو الحيوان المفترس المخصوص، وهو طبعا مجعول ومخلوق بالجعل والخلق التكويني، ولكن العرف يعتبرون الشجاع أسدا. فزيد أسدا اعتبارا وتنزيلا من قبل العرف من جهة ما فيه من خصوصية الشجاعة كالأسد الحقيقي. ومن هذا المثال يظهر كيف أن الأحكام التكليفية اعتبارات شرعية، لان الأمر حينما يريد من شخص أن يفعل فعلا ما فبدلا عن يدفعه بيده مثلا ليحركه نحو العمل ينشئ الأمر بداعي جعل في دخيلة نفس المأمور. فيكون هذا الإنشاء للأمر دفعا وتحريكا اعتباريا تنزيلا له منزلة الدفع الخارجي باليد مثلا. وكذلك النهي زجر اعتباري تنزيلا له منزله الردع والزجر الخارجي باليد مثلا. وكذلك يقال في حجية الأمارة المجعولة، فان القطع لما كان موصلا إلى الواقع حقيقة وطريقا بنفسه إليه، فالشارع يعتبر الأمارة الظنية طريقا إلى الواقع تنزيلا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف، فتكون الأمارة قطعا اعتباريا وطريقا تنزيليا. ومتى صح وأمكن أن تكون الحجية هي المعتبرة أولا وبالذات فما الذي يدعو إلى فرضها مجعولة ثانيا وبالعرض، حتى تكون أمرا انتزاعيا، الا أن يريدوا من الانتزاع معنى آخر، وهو ما يستفاد من دليل الحكم على نحو الدلالة الإلتزامية كأن تستفاد الحجية للأمارة من الأمر بأتباعها مثل ما لو قال الإمام (عليه السلام ): (صدق العادل) الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حجية خبر العادل واعتباره عند الشارع. وهذا المعنى للإنتزاعي صحيح ولا مانع من أن يقال للحجية أنها أمر انتزاعي بهذا المعنى، ولكنه بعيد عن مرامهم لان هذا المعنى من الانتزاعية لا يقابل الاعتبارية بالمعنى الذي شرحناه. وعلى كل حال فدعوى انتزاعية الحجية بأي معنى للإنتزاعي لا موجب لها، لاسيما انه لم يتفق ورود أمر من الشارع بأتباع أمارة من الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات والروايات حتى يفرض أن الحجية منتزعة من ذلك الأمر. هذا كل ما أردنا بيانه من المقدمات قبل الدخول في المقصود. وإلان نشرع في البحث عن المقصود، وهو تشخيص الأدلة التي هي حجة على الأحكام الشرعية من قبل الشارع المقدس. ونضعها في أبواب.

_____________
(1) إن بعض مشايخنا الأعاظم قدس سره التزم في المسألة الأصولية أنها يجب أن تقع كبرى في القياس الذي يستنبط منه الحكم الشرعي وجعل ذلك مناطا في كون المسألة أصولية، ووجه المسائل الأصولية على هذا النحو. وهو في الحقيقة لزوم ما لا يلزم وقد أوضحنا الحقيقة هنا وفيما سبق.

(2) سيأتي في المبحث السادس بيان انه لماذا يجب أن يكون ثبوت حجية الدليل بالدليل القطعي ولا يكفي الدليل الظني.

(3) مما يجب التنبيه عليه أن المراد من العلم هنا هو (القطع) أي الجزم الذي لا يحتمل الخلاف، ولا يعتبر فيه أن يكون مطابقا للواقع في نفسه، وإن كان في نظر القاطع لا يراه الا مطابقا للواقع، فالقطع الذي هو حجة تجب متابعته أعم من اليقين والجهل المركب. يعني أن المبحوث عنه هو العلم جهة أنه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع.

(4) هذه اللابدية العقلية هي نفس وجوب الطاعة الذي هو وجوب عقلي. لأنه داخل في الآراء المحمودة التي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء، كما شرحناه في الجزء الثاني.

(5) سيأتي في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى مدى تأثير العلم الإجمالي في تنجيز الأحكام الواقعية.

(6) إن التصويب الباطل على ما بينه الشيخ على نحوين:

 (الأول) ما ينسب إلى الأشاعرة وهو أن يفرض أن لا حكم ثابتا في نفسه يشترك فيه العالم والجاهل، بل الشارع ينشئ أحكامه على طبق ما تؤدي إليه آراء المجتهدين.

 (الثاني) ما ينسب إلى المعتزلة وهو أن تكون هناك أحكام واقعية ثابتة في نفسها يشترك فيها العالم والجاهل. ولكن لرأي المجتهد أثرا في تبدل عنوان موضوع الحكم أو متعلقه، فتحدث على وفق ما أدى إليه رأيه  مصلحة غالبة على مصلحة الواقع، فينشئ الشارع أحكاما ظاهرية ثانوية غير الأحكام الواقعية. وهذا المعنى من التصويب ترجع إليه السببية المحضة. وإنما كان هذا تصويبا باطلا لان معناه جلو؟؟؟ الواقع عن الحكم حين قيام الأمارة على خلافه.

مباحث الحجة

المؤلف : الشيخ محمد رضا المظفر.

الكتاب : أصول الفقه ج2 (ص : 7- 45).

________________________

تمهيد:

إن مقصودنا من هذا البحث، وهو (مباحث الحجة)، تنقيح ما يصلح أن يكون دليلا وحجة على الأحكام الشرعية، لنتوصل إلى الواقع من أحكام الله تعالى. فإن أصبنا بالدليل ذلك الواقع كما أردنا، فذلك هو الغاية القصوى، وإن أخطأناه، فنحن نكون معذورين غير معاقبين في مخالفة الواقع. والسر في كوننا معذورين عند الخطأ هو لأجل أننا قد بذلنا جهدنا وقصارى وسعنا في البحث عن الطرق الموصلة إلى الواقع من أحكام الله تعالى، حتى ثبت لدينا - على سبيل القطع - أن هذا الدليل المعين، كخبر الواحد مثلا، قد ارتضاه الشارع لنا طريقا إلى أحكامه (جعله حجة عليها. فالخطأ الذي نقع فيه انما جاء من الدليل الذي نصبه وارتضاه لنا، لا من قبلنا. وسيأتي بيان كيف نكون معذورين، وكيف يصح وقوع الخطأ في الدليل المنصوب حجة، مع أن الشارع هو الذي نصبه وجعله حجة.

ولا شك في أن هذا المقصد هو غاية الغايات من مباحث علم أصول ألفقه، وهو العمدة فيها، لأنه هو الذي يحصل كبريات مسائل المقصدين السابقين (الأول والثاني) فإنه لما كان يبحث في المقصد الأول عن تشخيص صغريات الظواهر اللفظية (1) فإنه في هذا المقصد يبحث عن حجية مطلق الظواهر اللفظية بنحو العموم، فتتألف الصغرى من نتيجة المقصد الأول، والكبرى من نتيجة هذا المقصد، ليستنتج من ذلك الحكم الشرعي، فيقال مثلا. صيغة افعل ظاهرة في الوجوب (الصغرى) وكل ظاهر حجة (الكبرى) فينتج: صيغة افعل حجة في الوجوب (النتيجة) فإذا وردت صيغة افعل في آية أو حديث استنتج من ذلك وجوب متعلقها. وهكذا يقال في المقصد الثاني، إذ يبحث فيه عن تشخيص صغريات أحكام العقل، وفي هذا المقصد يبحث عن حجية حكم العقل فتتألف منهما صغرى وكبرى. وقد أوضحنا كل ذلك في تمهيد المقصدين (فراجع). وعليه، فلا بد ان نستقصي في بحثنا عن كل ما قيل أو يمكن ان يقال باعتباره وحجيته، لنستوفي البحث، ولنعذر عند الله تعالى في أتباع ما يصح أتباعه وطرح مالا يثبت اعتباره. وينبغي بنا أيضا - من باب التمهيد والمقدمة - ان نبحث عن موضوع هذا المقصد، وعن معنى الحجية، وخصائصها: والمناط فيها، وكيفية اعتبارها، وما يتعلق بذلك، فنضع المقدمة في عدة مباحث، كما نضع المقصد في عدة أبواب:

المقدمة وفيها مباحث: 

1 - موضوع المقصد الثالث من التمهيد المتقدم في بيان المقصود من (مباحث الحجة) يتبين لنا أن الموضوع لهذا المقصد الذي يبحث فيه عن لواحق ذلك الموضوع ومحمولاته هو: (كل شيء يصلح أن يدعى ثبوت الحكم الشرعي به، ليكون دليلا وحجة عليه). فإن استطعنا في هذا المقصد أن نثبت بدليل قطعي (2) إن هذا الطريق مثلا حجة، أخذنا به ورجعنا إليه لإثبات الأحكام الشرعية، وإلا طرحناه وأهملناه وبصريح العبارة نقول: إن الموضوع لهذا المقصد في الحقيقة هو (ذات الدليل) بما هو في نفسه، لا بما هو دليل. وأما محمولاته ولواحقه التي نفحصها ونبحث عنها لإثباتها له، فهي كون ذلك الشيء دليلا وحجة، فأما أن نثبت ذلك أو ننفيه.

ولا يصح إن نجعل موضوعه الدليل بما هو دليل، أو الحجة بما هي حجة، أي بصفة كونه دليلا وحجة، كما نسب ذلك إلى المحقق القمي أعلى الله مقامه في قوانينه، إذ جعل موضوع أصل علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي أدلة. ولو كان الأمر كما ذهب إليه رحمه الله لوجب أن تخرج مسائل هذا المقصد كلها عن علم الأصول، لأنها تكون حينئذ من مباديه التصورية لا من مسائله. وذلك واضح، لان البحث عن حجية الدليل يكون بحثا عن أصل وجود الموضوع وثبوته الذي هو مفاد كان التامة، لا بحثا عن لواحق الموضوع الذي هو مفاد كان الناقصة. والمعروف عند أهل ألفن أن البحث عن وجود الموضوع - أي موضوع كان سواء كان موضوع العلم أو موضوع أحد أبوابه ومسائله - معدود من مبادئ العلم التصورية، لا من مسائله. ولكن هنا ملاحظة ينبغي التنبيه عليها في هذا الصدد، هي: إن تخصيص موضوع علم الأصول بالأدلة الأربعة - كما فعل الكثير من مؤلفينا - يستدعي أن يلتزموا بأن الموضوع هو الدليل بما هو دليل، كما فعل حب القوانين، وذلك لان هؤلاء لما خصصوا الموضوع بهذه الأربعة فإنما خصصوه بها لأنها معلومة الحجية عندهم، فلا بد أنهم لاحظوها موضوعا للعلم بما هي أدلة، لا بما هي هي، وإلا لجعلوا الموضوع شاملا لها ولغيرها مما هو غير معتبر عندهم كالقياس وإلاستحسان ونحوهما، وما كان وجه لتخصيصها بالأدلة الأربعة. وحينئذ لا مخرج لهم من الإشكال المتقدم، وهو لزوم خروج عمدة مسائل علم الأصول عنه. وعلى هذا يتضح أن مناقشة صاحب الفصول لصاحب القوانين ليست في محلها، لان دعواه هذه لا بد من الالتزام بها بعد الالتزام بان الموضوع خصوص الأدلة الأربعة، وإن لزم عليه إشكال خروج أهم المسائل عنه. ولو كان الموضوع هي الأدلة بما هي هي - كما ذهب إليه صاحب الفصول - لما كان معنى لتخصيصه بخصوص الأربعة، ولوجب تعميمه لك ما يصلح أن يبحث عن دليليته وإن ثبت بعد البحث انه ليس بدليل.

والخلاصة: انه إما أن نخصص الموضوع بالأدلة الأربعة فيجب أن نلتزم بما التزم به صاحب القوانين فتخرج مباحث هذا المقصد الثالث عن علم الأصول، وإما أن نعمم الموضوع - كما هو الصحيح - لكل ما يصلح أن يدعى أنه دليل، فلا يختص بالأربعة. وحينئذ يصح أن نلتزم بما التزم به صاحب الفصول وتدخل مباحث هذا المقصد في مسائل العلم. فالإلتزام بأن الموضوع هي الأربعة فقط ثم الالتزام بأنها بما هي هي لا يجتمعان. وهذا أحد الشواهد على تعميم موضوع علم الأصول لغير الأدلة الأربعة، وهو الذي نريد إثباته هنا. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ص 6 من المجلد الأول.

والنتيجة: أن الموضوع الذي يبحث عنه في هذا المقصد هو: (كل شيء يصلح أن يدعى انه دليل وحجة). فيعم البحث كل ما يقال انه حجة، فيدخل فيه البحث عن حجية خبر الواحد والظواهر والشهرة والإجماع المنقول والقياس وإلاستحسان ونحو ذلك، بالإضافة إلى البحث عن أصل الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فما ثبت أنه حجة من هذه الأمور أخذنا به، وما لم يثبت طرحناه. كما يدخل فيه أيضا البحث عن مسألة التعادل والتراجيح، لان البحث فيها - في الحقيقة - عن تعيين ما هو حجة ودليل من بين المتعارضين، فتكون المسألة من مسائل مباحث الحجة. ونحن جعلناها في المجلد الأول ص 8 خاتمة لعلم الأصول أتباعا لمنهج القوم، ورأينا الآن العدول عن ذلك رعاية لواقعها وللاختصار.

2 - معنى الحجة:

1 - الحجة لغة: كل شيء يصلح أن يحتج به على الغير. وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه. والظفر على الغير على نحوين: أما بإسكاته وقطع عذره وإبطاله. وإما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة له لدى الغير.

 2 - وأما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان:

أ - ما عند المناطقة. ومعناها: (كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوبا) أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطها إلى العلم المجهول سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن. وقد يطلقون الحجة أيضا على نفس (الحد الأوسط) في القياس.

ب - ما عند الأصوليين، ومعناها عندهم حسب تتبع استعمالها: (كل شيء يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة القطع). أي لا يكون سببا للقطع بمتعلقه، وإلا فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها اللغوي. أو قل بتعبير آخر: (الحجة كل شيء يكشف عن شيء آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له) ونعني بكونه مثبتا له: أن إثباته يكون بحسب الجعل من الشارع المكلف بعنوان أنه هو الواقع. وإنما يصح ذلك ويكون مثبتا له فبضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشيء الكاشف الحاكي وعلى أنه حجة من قبل الشارع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق معنى الجعل للحجية وكيف يثبت الحكم بالحجة.

وعلى هذا، فالحجة بهذا الاصطلاح لا تشمل القطع، أي أن القطع لا يسمى حجة بهذا المعنى بل بالمعنى اللغوي. لان طريقية القطع - كما سيأتي - ذاتية غير مجعولة من قبل أحد. وتكون الحجة بهذا المعنى الأصولي مرادفة لكلمة (الأمارة). كما أن كلمة (الدليل) وكلمة (الطريق) تستعملان في هذا المعنى، فيكونان مرادفتين لكلمة الأمارة والحجة أو كالمترادفتين. وعليه، فلك أن تقول في عنوان هذا المقصد بدل كلمة (مباحث الحجة): (مباحث الأمارات). أو (مباحث الأدلة). أو (مباحث الطرق) وكلها تؤدي معنى واحدا. ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا الصدد أن استعمال كلمة (الحجة) في المعنى الذي تؤديه كلمة (الأمارة) مأخوذ من المعنى اللغوي من باب تسمية الخاص باسم العام، نظرا إلى أن الأمارة مما يصح أن يحتج المكلف بها إذا عمل بها وصادفت مخالفة الواقع فتكون معذرة له، كما انه مما يصح أن يحتج بها المولى على المكلف إذا لم يعمل بها ووقع في مخالفة الحكم الواقعي فيستحق العقاب على المخالفة.

 3 - مدلول كلمة الأمارة والظن المعتبر:

بعد أن قلنا: أن الأمارة مرادفة لكلمة الحجة باصطلاح الأصوليين، ينبغي أن ننقل؟؟ الكلام إلى كلمة (الأمارة) لنتسقط بعض استعمالاتها، كما سنستعملها بدل كلمة الحجة في المباحث الآتية فنقول: إنه كثيرا ما يجري على السنة الأصوليين إطلاق كلمة الأمارة على معنى ما تؤديه كلمة (الظن). ويقصدون من الظن (الظن المعتبر): أي الذي اعتبره الشارع وجعله حجة، ويوهم ذلك أن الأمارة والظن المعتبر لفظان مترادفان يؤديان معنى واحدا، مع أنهما ليسا كذلك.

وفي الحقيقة أن هذا تسامح في التعبير منهم على نحو المجاز في الاستعمال لا أنه وضع آخر لكلمة الأمارة. وإنما مدلول الأمارة الحقيقي هو كل شيء اعتبره الشارع لأجل أنه يكون سببا للظن كخبر الواحد والظواهر. والمجاز هنا: أما من جهة إطلاق السبب على مسببه، فيسمى الظن المسبب (أمارة) وأما من جهة إطلاق المسبب على سببه، فتسمى الأمارة التي هي سبب للظن (ظنا) فيقولون: الظن المعتبر والظن الخاص، وإلاعتبار والخصوصية إنما هما لسبب الظن. ومنشأ هذا التسامح في الإطلاق هو أن السر في اعتبار الأمارة وجعلها حجة وطريقا هو إفادتها للظن دائما أو على الأغلب، ويقولون للثاني الذي يفيد الظن على الاغلب: (الظن النوعي) على ما سيأتي بيانه.

4 - الظن النوعي ومعنى (الظن النوعي):

أن الأمارة تكون من شأنها أن تفيد الظن عند غالب الناس ونوعهم. واعتبارها عند الشارع انما يكون من هذه الجهة، فلا يضر في اعتبارها وحجيتها الا يحصل منها ظن فعلي للشخص الذي قامت عنده الأمارة، بل تكون حجة عند هذا الشخص أيضا حيث أن دليل اعتبارها دل على أن الشارع انما اعتبرها حجة ورضي بها طريقا لان من شأنها أن تفيد الظن وان لم يحصل الظن الفعلي منها لدى بعض الأشخاص. ثم لا يخفى عليك أنا قد نعبر فيما يأتي تبعا للأصوليين فنقول: الظن الخاص أو الظن المعتبر أو الظن الحجة، وأمثال هذه التعبيرات، والمقصود منها دائما سبب الظن، أعني الأمارة المعتبرة وان لم تفد ظنا فعليا. فلا يشتبه عليك الحال.

5 - الأمارة والأصل العملي :

واصطلاح الأمارة لا يشمل (الأصل العملي) كالبراءة وإلاحتياط والتخيير و الاستصحاب، بل هذه الأصول تقع في جانب والإمارة في جانب آخر مقابل له فإن المكلف إنما يرجع إلى الأصول إذا افتقد الأمارة، أي إذا لم تقم عنده الحجة على الحكم الشرعي الواقعي. على ما سيأتي توضيحه وبيان السر فيه. ولا ينافي ذلك أن هذه الأصول أيضا قد يطلق عليها إنها حجة، فإن إطلاق الحجة عليها ليس بمعنى الحجة في باب الأمارات، بل بالمعنى اللغوي باعتبار إنها معذورة للمكلف إذا عمل بها واخطأ الواقع، ويحتج بها المولى على المكلف إذا خالفها ولم يعمل بها ففوت الواقع المطلوب. ولأجل هذا جعلنا باب (الأصول العملية) بابا آخر مقابل باب (مباحث الحجة). وقد أشير في تعريف الأمارة إلى خروج الأصول العملية بقولهم: (يثبت متعلقه)، لان الأصول العملية لا تثبت متعلقاتها، لأنه ليس لسانها لسان إثبات الواقع والحكاية عنه، وإنما هي في حقيقتها مرجع للمكلف في مقام العمل عند الحيرة والشك في الواقع وعدم ثبوت حجة عليه. وغاية شأنها أنها تكون معذرة للمكلف. ومن هنا اختلفوا في (الاستصحاب) انه أمارة أو أصل، باعتبار أن له شأن الحكاية عن الواقع وإحرازه في الجملة، لان اليقين السابق غالبا ما يورث الظن ببقاء المتيقن في الزمان اللاحق، ولان حقيقته - كما سيأتي في موضعه - البناء على اليقين السابق بعد الشك كأن المتيقن السابق لم يزل ولم يشك في بقائه. ولأجل هذا سمي الاستصحاب عند من يراه أصلا: (أصلا محرزا). فمن لاحظ في الاستصحاب جهة ما له من إحراز وأنه يوجب الظن واعتبر حجيته من هذه الجهة عدة من الأمارات. ومن لاحظ فيه أن الشارع إنما جعله مرجعا للمكلف عند الشك والحيرة واعتبر حجيته من جهة دلالة الأخبار عليه عده من جملة الأصول. وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ذلك في محله مع بيان الحق فيه.

 

6 - المناط في إثبات حجية الأمارة :

مما يجب أن نعرفه - قبل البحث والتفتيش عن الأمارات التي هي حجة - المناط في إثبات حجية الأمارة وأنه بأي شيء يثبت لنا أنها حجة يعول عليها. وهذا هو أهم شيء تجب معرفته قبل الدخول في المقصود، فنقول: إنه لا شك في أن الظن بما هو ظن لا يصح أن يكون هو المناط في حجية الأمارة ولا يجوز أن يعول عليه في إثبات الواقع، لقوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] ، وقد ذم الله تعالى في كتابه المجيد من يتبع الظن بما هو ظن كقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } [الأنعام: 116] وقال تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس: 59] وفي هذه الآية الأخيرة بالخصوص قد جعل ما أذن به أمرا مقابلا للافتراء عليه، فما لم يأذن به لا بد أن يكون افتراءا بحكم المقابلة بينهما، فلو نسبنا الحكم إلى الله تعالى من دون أذن منه فلا محالة يكون افتراءا محرما مذموما بمقتضى الآية. ولا شك في أن العمل بالظن وإلالتزام به على أنه من الله ومثبت لأحكامه يكون من نوع نسبة الحكم إليه من دون أذن منه، فيدخل في قسم الافتراء المحرم. وعلى هذا التقرير، فالقاعدة تقتضي أن الظن بما هو ظن لا يجوز العمل على مقتضاه ولا الأخذ به لإثبات أحكام الله مهما كان سببه، لأنه لا يغني من الحق شيئا، فيكون خرصا باطلا، وافتراءا محرما. هذا مقتضى القاعدة الأولية في الظن بمقتضى هذه الآيات الكريمة، ولكن لو ثبت بدليل قطعي وحجة يقينية أن الشارع قد جعل ظنا خاصا من سبب مخصوص طريقا لأحكامه واعتبره حجة عليها وارتضاه أمارة يرجع إليها وجوز لنا الأخذ بذلك السبب المحقق للظن - فإن هذا الظن يخرج عن مقتضى تلك القاعدة الأولية، إذ لا يكون خرصا وتخمينا ولا افتراء. وخروجه من القاعدة يكون تخصيصا بالنسبة إلى آية النهي عن أتباع الظن، ويكون تخصصا بالنسبة إلى آية الافتراء لأنه يكون حينئذ من قسم ما أذن الله تعالى به، وما أذن به ليس افتراء. وفي الحقيقة إن الأخذ بالظن المعتبر الذي ثبت على سبيل القطع بأنه حجة لا يكون أخذا بالظن بما هو ظن وإن كان اعتباره عند الشارع من جهة كونه ظنا، بل يكون أخذا بالقطع واليقين ذلك القطع الذي قام على اعتبار ذلك السبب للظن، وسيأتي أن القطع حجة بذاته لا يحتاج إلى جعل من أحد. ومن هنا يظهر الجواب عما شنع به جماعة من الأخبارين على الأصوليين من أخذهم ببعض الأمارات الظنية الخاصة كخبر الواحد ونحوه إذ شنعوا عليهم بأنهم أخذوا بالظن الذي لا يغني من الحق شيئا. وقد فاتهم أن الأصوليين إذ أخذوا بالظنون الخاصة لم يأخذوا بها من جهة إنها ظنون فقط، بل أخذوا بها من حجة أنها معلومة الاعتبار على سبيل القطع بحجيتها، فكان أخذهم بها في الحقيقة أخذا بالقطع واليقين، لا بالظن والخرص والتخمين. ولأجل هذا سميت الأمارات المعتبرة بالطرق العلمية نسبة إلى العلم القائم على اعتبارها وحجيتها، لان حجيتها ثابتة بالعلم.

إلى هنا يتضح ما أردنا أن نرمي إليه، وهو أن المناط في إثبات حجية الأمارات ومرجع اعتبارها وقوامه ما هو؟ - انه العلم القائم على اعتبارها وحجيتها، فإذا لم يحصل العلم بحجيتها واليقين بأذن الشارع بالتعويل عليها والأخذ بها، لا يجوز الأخذ بها وإن أفادت ظنا غالبا لان الأخذ بها يكون حينئذ خرصا وافتراء على الله تعالى. ولأجل هذا قالوا: يكفي في طرح الأمارة أن يقع الشك في اعتبارها، أو فقل على الأصح: يكفي الا يحصل العلم باعتبارها، فإن نفس عدم العلم بذلك كاف في حصول العلم بعدم اعتبارها، أي بعدم جواز التعويل عليها والاستناد إليها. وذلك كالقياس وإلاستحسان وما إليهما وإن أفادت ظنا قويا.

ولا نحتاج في مثل هذه الأمور إلى الدليل على عدم اعتبارها وعدم حجيتها، بل بمجرد عدم حصول القطع بحجية الشيء يحصل القطع بعدم جواز الاستناد إليه في مقام العمل، وبعدم صحة التعويل عليه، فيكون القطع مأخوذا في موضوع حجية الأمارة.

ويتحصل من ذلك كله أن أمارية الأمارة وحجية الحجة انما تحصل وتتحقق بوصول علمها إلى المكلف، وبدون العلم بالحجية لا معنى لفرض كون الشيء أمارة وحجة، ولذا قلنا: إن مناط إثبات الحجة وقوامها (العلم). فهو مأخوذ في موضوع الحجية فإن العلم تنتهي إليه حجية كل حجة. ولزيادة الإيضاح لهذا الأمر، ولتمكين النفوس المبتدئة من الاقتناع بهذه الحقيقة البديهية، نقول من طريق آخر لإثباتها:

أولا - إن الظن بما هو ظن ليس حجة بذاته. وهذه مقدمة واضحة قطعية، وإلا لو كان الظن حجة بذاته لما جاز النهي عن أتباعه والعمل به ولو في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئية، لان ما هو بذاته حجة يستحيل النهي عن الأخذ به، كما سيأتي في حجية القطع (المبحث الآتي) ولا شك في وقوع النهي عن أتباع الظن في الشريعة الإسلامية المطهرة، ويكفي في إثبات ذلك قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن..).

ثانيا - إذا لم يكن الظن حجة بذاته، فحجيته تكون عرضية، أي أنها تكون مستفادة من الغير. فننقل الكلام إلى ذلك الغير المستفادة منه حجية الظن. فإن كان هو القطع، فذلك هو (المطلوب). وإن لم يكن قطعا، فما هو؟

وليس يمكن فرض شيء آخر غير نفس الظن، فإنه لا ثالث لهما يمكن فرض حجيته. ولكن الظن الثاني القائم على حجية الظن الأول أيضا ليس حجة بذاته، إذ لا فرق بين ظن وظن من هذه الناحية. فننقل الكلام إلى هذا (الظن الثاني)، ولا بد أن تكون حجيته أيضا مستفادة من الغير، فما هو ذلك الغير؟. فإن كان هو القطع، فذلك هو (المطلوب). وإن لم يكن قطعا، فظن ثالث. فننقل الكلام إلى هذا (الظن الثالث)، فيحتاج إلى (ظن رابع). وهكذا إلى غير النهاية، ولا ينقطع التسلسل الا بالانتهاء إلى ما هو حجة بذاته وليس هو إلا (العلم).

ثالثا - فانتهى الأمر بالأخير إلى (العلم). فتم المطلوب. وبعبارة أسد وأخصر، نقول: إن الظن لما كانت حجيته ليست ذاتية، فلا تكون الا بالعرض، وكل ما بالعرض لا بد أن ينتهي إلى ما هو بالذات، ولا مجاز بلا حقيقة. وما هو حجة بالذات ليس الا (العلم). فانتهى الأمر بالأخير إلى (العلم). وهذا ما أردنا إثباته، وهو أن قوام الأمارة والمناط في إثبات حجيتها هو (العلم) فانه تنتهي إليه حجية كل حجة، لان حجيته ذاتية.

 7 - حجية العلم ذاتية :  

كررنا في البحث السابق القول بأن (حجية العلم ذاتية) ووعدنا ببيانها، وقد حل هنا الوفاء بالوعد، فنقول:

قد ظهر مما سبق معنى كون الشيء حجيته ذاتية، فان معناه أن حجيته منبعثة من نفس طبيعة ذاته، فليست مستفادة من الغير ولا تحتاج إلى جعل من الشارع ولا إلى صدور أمر منه بأتباعه، بل العقل هو الذي يكون حاكما بوجوب أتباع ذلك الشيء. وما هذا شأنه ليس هو إلا العلم. ولقد أحسن الشيخ العظيم الأنصاري (قدس سره) مجلي هذه الأبحاث في تعليل وجوب متابعة القطع (3) فانه بعد أن ذكر أنه (لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجودا) علل ذلك بقوله: (لأنه بنفسه طريق إلى الواقع وليست طريقته قابلة لجعل الشارع إثباتا أو نفيا). وهذا الكلام فيه شيء من الغموض بعد أن اختلفت تعبيرات الأصوليين من بعده، فنقول لبيانه: إن هنا شيئين أو تعبيرين:

(أحدهما) وجوب متابعة القطع والأخذ به.

(ثانيهما) طريقية القطع للواقع. فما المراد من كون القطع حجة بذاته؟ هل المراد أن وجوب متابعته أمر ذاتي له، كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليين المتأخرين، أم أن المراد أن طريقيته ذاتية؟. وإنما صح أن يسأل هذا السؤال، فمن أجل قياسه على الظن حينما نقول: أنه حجة، فأن فيه جهتين:

1 - (جهة طريقيته للواقع) فحينما نقول: أن حجيته مجعولة، نقصد أن طريقيته مجعولة، لأنها ليست ذاتية له، لوجود احتمال الخلاف. فالشارع يجعله طريقا إلى الواقع بإلغاء احتمال الخلاف، كأنه لم يكن فتتم بذلك طريقيته الناقصة ليكون كالقطع في الأيصال إلى الواقع. وهذا المعنى هو المجعول للشارع.

 2 - (جهة وجوب متابعته) فحينما نقول: أنه حجة، نقصد أن الشارع أمر بوجوب متابعة ذلك الظن والأخذ به أمرا مولويا. فينتزع من هذا الأمر أن هذا الظن موصل إلى الواقع ومنجز له. فيكون المجعول هذا الوجوب، ويكون هذا معنى حجية الظن. وإذا كان هذا حال الظن، فالقطع ينبغي أن يكون له أيضا هاتان الجهتان، فنلاحظهما حينما نقول مثلا: إن حجيته ذاتية أما من جهة كونه طريقا بذاته وأما من جهة وجوب متابعته لذاته. ولكن - في الحقيقة - أن التعبير بوجوب متابعة القطع لا يخلو عن مسامحة ظاهرة، منشأها ضيق العبارة عن المقصود، إذ يقاس على الظن، والسر في ذلك واضح، لأنه ليس للقطع متابعة مستقلة غير الأخذ بالواقع المقطوع به، فضلا عن أن يكون لهذه المتابعة وجوب مستقل غير نفس وجوب الأخذ بالواقع المقطوع به، أي وجوب طاعة الواقع المنكشف بالقطع من وجوب أو حرمة أو نحوهما. إذ ليس وراء انكشاف الواقع شيء ينتظره الإنسان، فإذا انكشف الواقع له فلا بد أن يأخذ به. وهذه اللابدية لابدية عقلية (4) منشأها أن القطع بنفسه طريق إلى الواقع، وعليه فيرجع التعبير بوجوب متابعة القطع إلى معنى كون القطع بنفسه طريقا إلى الواقع، وأن نفسه نفس انكشاف الواقع. فالجهتان فيه جهة واحدة في الحقيقة.

وهذا هو السر في تعليل الأنصاري رحمه الله لوجوب متابعته بكونه طريقا بذاته ولم يتعرض في التعليل لنفس الوجوب. ومن أجل هذا ركز البحث كله على طريقته الذاتية. ويظهر لنا - حينئذ - أنه لا معنى لان يقال في تعليل حجيته الذاتية: أن وجوب متابعته أمر ذاتي له. وإذا اتضح ما تقدم وجب علينا توضيح معنى كون القطع طريقا ذاتيا، وهو كل البحث عن حجية القطع وما وراءه من الكلام فكله فضول، وعليه فنقول: تقدم أن القطع حقيقته انكشاف الواقع، لأنه حقيقة نورية محظة لا غطش فيها وإلا احتمال للخطأ يرافقها. فالعلم نور لذاته نور لغيره، فذاته نفس الانكشاف لا أنه شيء له الانكشاف. وقد عرفتم في مباحث الفلسفة أن الذات والذاتي يستحيل جعله بالجعل التأليفي، لان جعل شيء لشيء انما يصح أن يفرض فيما يمكن فيه التفكيك بين المجعول والمجعول له. وواضح أنه يستحيل التفكيك بين الشيء وذاته أي بين الشيء ونفسه، ولا بينه وبين ذاتياته. وهذا معنى قولهم المشهور: (الذاتي لا يعلل). وإنما المعقول من جعل القطع هو جعله بالجعل البسيط أي خلقه وإيجاده. وعليه، فلا معنى لفرض جعل الطريقية للقطع جعلا تأليفيا، بأي نحو فرض للجعل سواء كان جعلا تكوينيا أم جعلا تشريعيا، فان ذلك مساوق لجعل القطع لنفس القطع، وجعل الطريق لذات الطريق. وعلى تقدير التنزيل عن هذا وقلنا مع من قال: أن القطع شيء له الطريقية والكاشفية عن الواقع، كما وقع في تعبيرات بعض الأصوليين المتأخرين عن الشيخ - فعلى الأقل تكون الطريقية من لوازم ذاته التي لا تنفك عنه، كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة. ولوازم الذات كالذات يستحيل أيضا جعلها بالجعل التأليفي على ما هو الحق، وإنما يكون جعلها بنفس جعل الذات جعلا بسيطا لا بجعل آخر وراء جعل الذات. وقد أوضحنا ذلك في مباحث الفلسفة. وإذا استحال جعل الطريقية للقطع استحال نفيها عنه، لأنه كما يستحيل جعل الذات ولوازمها يستحيل نفي الذات ولوازمها عنها وسلبها بالسلب التأليفي. بل نحن انما نعرف استحالة جعل الذات والذاتي ولوازم الذات بالجعل التأليفي لانا نعرف أولا امتناع انفكاك الذات عن نفسها وامتناع انفكاك لوازمها عنها، كما تقدم بيانه. على أن نفي الطريقية عن القطع يلزم منه التناقض بالنسبة إلى القاطع وفي نظره، فانه - مثلا - حينما يقطع بأن هذا الشيء واجب يستحيل عليه أن يقطع ثانيا بأن هذا القطع ليس طريقا موصلا إلى الواقع، فان معنى هذا أن يقطع ثانيا بأن ما قطع بأنه واجب ليس بواجب مع فرض بقاء قطعه الأول على حاله. وهذا تناقض بحسب نظر القاطع ووجد انه يستحيل أن يقع منه حتى لو كان في الواقع على خطأ في قطعه الأول ولا يصح هذا إلا إذا تبدل قطعه وزال. وهذا شيء آخر غير ما نحن في صدده. والحاصل أن اجتماع القطعين بالنفي والإثبات محال كاجتماع النفي والإثبات بل يستحيل في حقه حتى احتمال أن قطعه ليس طريقا إلى الواقع. فان هذا الاحتمال مساوق لانسلاخ القطع عنده، وانقلابه إلى الظن. فما فرض أنه قطع لا يكون قطعا، وهو خلف محال. وهذا الكلام لا ينافي أن يحتمل الإنسان أو يقطع أن بعض علومه على الإجمال غير المعين في نوع خاص ولا في زمن من الأزمنة كان على خطأ، فانه بالنسبة إلى كل قطع فعلي بشخصه لا يتطرق إليه الاحتمال بخطأه، وإلا لو اتفق له ذلك لا نسلخ عن كونه قطعا جازما. نعم لو احتمل خطأ أحد علوم محصورة ومعينة في وقت واحد فانه لا بد أن تتسلخ كلها عن كونها اعتقادا جازما، فان بقاء قطعه في جميعها مع تطرق احتمال خطأ واحد منها لا على التعيين لا يجتمعان.

والخلاصة: أن القطع يستحيل جعل الطريقية له تكوينا وتشريعا، ويستحيل نفيها عنه، مهما كان السبب الموجب له.

وعليه. فلا يعقل التصرف بأسبابه، كما نسب ذلك إلى بعض الأخباريين من حكمهم بعدم تجويز الأخذ بالقطع إذا كان سببه من مقدمات عقلية، وقد أشرنا إلى ذلك في المجلد الأول ص 196. وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأشخاص بأن يعتبر قطع شخص ولا يعتبر قطع آخر، كما قيل بعدم الاعتبار بقطع القطاع قياسا على كثير الشك الذي حكم شرعا بعدم الاعتبار بشكه في ترتب أحكام الشك. وكذلك لا يمكن التصرف فيه من جهة الأزمنة ولا من جهة متعلقة بأن يفرق في اعتباره بين ما إذا كان متعلقه الحكم فلا يعتبر، وبين ما إذا كان متعلقه موضوع الحكم أو متعلقه فيعتبر. فان القطع في كل ذلك طريقيته ذاتية غير قابلة للتصرف فيها بوجه من الوجوه وغير قابلة لتعلق الجعل بها نفيا وإثباتا. وإنما الذي يصح ويمكن أن يقع في الباب هو ألفات نظر الخاطئ في قطعه إلى الخلل في مقدمات قطعه، فإذا تنبه إلى الخلل في سبب قطعه فلا محالة أن قطعه سيتبدل إما إلى احتمال الخلاف أو إلى القطع بالخلاف ولا ضمير في ذلك. وهذا واضح

8 - موطن حجية الأمارات :  

قد أشرنا في مبحث الإجزاء (المجلد الأول ص 230) إلى أن جعل الطرق والأمارات يكون في فرض التمكن من تحصيل العلم. وأحلنا بيانه إلى محله. وهذا هو محله، فنقول: إن غرضنا من ذلك القول هو أننا إذ نقول: أن أمارة حجة كخبر الواحد - مثلا - فإنما نعني أن تلك الأمارة مجعولة حجة مطلقة، أي أنها في نفسها حجة مع قطع النظر عن كون الشخص الذي قامت عنده تلك الأمارة متمكنا من تحصيل العلم بالواقع أو غير متمكن منه فهي حجة يجوز الرجوع إليها لتحصيل الأحكام مطلقا حتى في موطن يمكن فيه أن يحصل القطع بالحكم لمن قامت عنده الأمارة، أي كان باب العلم بالنسبة إليه مفتوحا. فمثلا، إذا قلنا بحجية خبر الواحد فانا نقول أنه حجة حتى في زمان يسع المكلف أن يرجع إلى المعصوم رأسا فيأخذ الحكم منه مشافهة على سبيل اليقين، فانه في هذا الحال لو كان خبر الواحد حجة، يجوز للمكلف أن يرجع إليه، ولا يجب عليه أن يرجع إلى المعصوم. وعلى هذا، فلا يكون موطن حجية الأمارات في خصوص مورد تعذر حصول العلم أو امتناعه، أي ليس في خصوص مورد انسداد باب العلم، بل الأعم من ذلك. فيشمل حتى موطن التمكن من تحصيل العلم وانفتاح بابه. نعم، مع حصول العلم بالواقع فعلا لا يبقى موضع للرجوع إلى الأمارة بل لا معنى لحجيتها حينئذ، لا سيما مع مخالفة للعلم، لان معنى ذلك انكشاف خطأها. ومن هنا كان هذا الأمر موضع حيرة الأصوليين وبحثهم، إذ للسائل - كما سيأتي - أن يسأل: كيف جاز أن تفرضوا صحة الرجوع إلى الأمارات الظنية مع انفتاح باب العلم بالأحكام، إذ قد يوجب سلوكها تفويت الواقع عند خطأها؟ ولا يحسن من الشارع أن يأذن بتفويت الواقع مع التمكن من تحصيله. بل ذلك قبيح يستحيل في حقه. ولأجل هذا السؤال المحرج سلك الأصوليون عدة طرق للجواب عنه وتصحيح جعل حجية الأمارات. وسيأتي بيان هذه الطرق والصحيح منها في البحث (12) ص 33. وغرضنا من ذكر هذا التنبيه هو أن هذا التصحيح شاهد على ما أردنا الإشارة إليه هنا: من أن موطن حجية الأمارات وموردها ما هو أعم من فرض التمكن من تحصيل العلم وانفتاح بابه ومن فرض انسداد بابه.

ومن هنا نعرف وجه المناقشة في استدلال بعضهم على حجية خبر الواحد بالخصوص بدليل انسداد باب العلم، كما صنع صاحب المعالم، فانه لما كان المقصود إثبات حجية خبر الواحد في نفسه حتى مع فرض انفتاح باب العلم لا يبقى معنى للاستدلال على حجيته بدليل الانسداد. على أن دليل الانسداد أنما يثبت فيه حجية مطلق الظن من حيث هو ظن كما سيأتي بيانه، فلا يثبت به حجية ظن خاص بما هو ظن خاص. نعم، استدل بعضهم على حجية خبر الواحد بدليل الانسداد الصغير ولا يبعد صحة ذلك، ويعنون به انسداد باب العلم في خصوص الأخبار التي بأيدينا التي نعلم على الإجمال بأن بعضها موصل إلى الواقع ومحصل له. ولا يتميز الموصل إلى الواقع من غيره، مع انحصار السنة في هذه الأخبار التي بأيدينا وحينئذ نلتجئ إلى الاكتفاء بما يفيد الظن وإلاطمئنان من هذه الأخبار وهذا ما نعنيه بخبر الواحد. والفرق بين دليل الانسداد الكبير والصغير: أن الكبير هو انسداد باب العلم في جميع الأحكام من جهة السنة وغيرها، والصغير هو انسداد باب العلم بالسنة مع انفتاح باب العلم في الطرق الأخرى، والمفروض أنه ليس لدينا الا هذه الأخبار التي لا يفيد أكثرها العلم، وبعضها حجة قطعا وموصل إلى الواقع.

 9 - الظن الخاص والظن المطلق :

تكرر منا هذا التعبير بالظن الخاص والظن المطلق، وهو اصطلاح للأصوليين المتأخرين فينبغي بيان ما يعنون بهما، فنقول:

 1 - يراد من (الظن الخاص): كل ظن قام دليل قطعي على حجيته واعتباره بخصوصه غير دليل الانسداد الكبير. وعليه فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة مطلقا حتى مع انفتاح باب العلم، ويسمى أيضا (الطريق العلمي) نسبة إلى العلم باعتبار قيام العلم على حجيته كما تقدم.

 2 - يراد من (الظن المطلق): كل ظن قام دليل الانسداد الكبير على حجيته واعتباره. فيكون المراد منه الأمارة التي هي حجة في خصوص حالة انسداد باب العلم والعلمي، أي انسداد باب نفس العلم بالأحكام وباب الطرق العلمية المؤدية إليها. ونحن في هذا المختصر لا نبحث إلا عن الظنون الخاصة فقط، أما الظنون المطلقة فلا نتعرض لها، لثبوت حجية جملة من الأمارات المغنية عندنا عن فرض انسداد باب العلم والعلمي. فلا تصل النوبة إلى هذا الفرض حتى نبحث عن دليل الانسداد لإثبات حجية مطلق الظن. ولكن بعد أن انتهينا إلى هنا ينبغي ألا يخلو هذا المختصر من الإشارة إلى مقدمات دليل الانسداد على نحو الاختصار تنويرا لذهن الطالب، فنقول:

10 - مقدمات دليل الانسداد أن الدليل المعروف ب‍ (دليل الانسداد) يتألف من مقدمات أربع إذا تمت يترتب عليها حكم العقل بلزوم العمل بما قام عليه الظن في الأحكام أي ظن كان، عدا الظن الثابت فيه - على نحو القطع - عدم جواز العمل به كالقياس مثلا. ونحن نذكر بالاختصار هذه المقدمات:

 1 - (المقدمة الأولى) دعوى انسداد باب العلم والعلمي في معظم أبواب ألفقه في عصورنا المتأخرة عن عصر أئمتنا عليهم السلام. وقد علمت أن أساس المقدمات كلها هي هذه المقدمة، وهي دعوى قد ثبت عندنا عدم صحتها، لثبوت انفتاح باب الظن الخاص بل العلم في معظم أبواب ألفقه فانهار هذا الدليل من أساسه.

2 - (المقدمة الثانية) أنه لا يجوز إهمال امتثال الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا، ولا يجوز طرحها في مقام العمل. وإهمالها وطرحها يقع بفرضين: أما بأن نعتبر أنفسنا كالبهائم أصل لا تكليف علينا. وأما بأن نرجع إلى أصالة البراءة وأصالة عدم التكليف في كل موضع لا يعلم وجوبه وحرمته. وكلا الفرضين ضروري البطلان.

 3 - (المقدمة الثالثة) أن بعد فرض وجوب التعرض للأحكام المعلومة إجمالا فإن الأمر لتحصيل فراغ الذمة منها يدور بين حالات أربع لا خامسة لها:

 أ - تقليد من يرى انفتاح باب العلم.

ب - الأخذ بالاحتياط في كل مسألة.

ج - الرجوع إلى الأصل العملي الجاري في كل مسألة من نحو البراءة وإلاحتياط والتخيير والاستصحاب، حسبما يقتضيه حال المسألة.

د - الرجوع إلى الظن في كل مسألة فيها ظن بالحكم، وفيما عداها يرجع إلى الأصول العملية. ولا يصح الأخذ بالحالات الثلاث الأولى، فتتعين الرابعة.

 أما (الأولى) وهي تقليد الغير في انفتاح باب العلم فلا يجوز، لان المفروض أن المكلف يعتقد بالانسداد فكيف يصح له الرجوع إلى من يعتقد بخطأه وأنه على جهل.

وأما (الثانية) وهي الأخذ بالاحتياط، فانه يلزم منه العسر والحرج الشديدان، بل يلزم اختلال النظام لو كلف جميع المكلفين بذلك.

وأما (الثالثة) وهي الأخذ بالأصل الجاري فلا يصح أيضا لوجود العلم الإجمالي بالتكاليف ولا يمكن ملاحظة كل مسألة على حدة غير منظمة إلى غيرها من المسائل الأخرى المجهولة الحكم. والحاصل أن وجود العلم الإجمالي بوجود المحرمات والواجبات في جميع المسائل المشكوكة الحكم يمنع من إجراء أصل البراءة والاستصحاب، ولو في بعضها.

 4 - (المقدمة الرابعة) انه بعد أن أبطلنا الرجوع إلى الحالات الثلاث ينحصر الأمر في الرجوع إلى الحالة الرابعة في المسائل التي يقوم فيها الظن، وفيها يدور الأمر بين الرجوع إلى الطرف الراجح في الظن وبين الرجوع إلى الطرف المرجوح أي الموهوم. ولا شك في أن الأخذ بطرف المرجوح ترجيح للمرجوح على الراجح، وهو قبيح عقلا. وعليه، فيتعين الأخذ بالظن ما لم يقطع بعدم جواز الأخذ به كالقياس. (وهو المطلوب). وفي فرض الظن المقطوع بعدم حجيته يرجع إلى الأصول العملية، كما يرجع إليها في المسائل المشكوكة التي لا يقوم فيها ظن أصلا. ولا ضير حينئذ بالرجوع إلى الأصول العملية لانحلال العلم الإجمالي بقيام الظن في معظم المسائل ألفقهية إلى: علم تفصيلي بالأحكام التي قامت عليها الحجة، وشك بدوي في الموارد الأخرى، فتجري فيها الأصول. هذه خلاصة (مقدمات دليل الانسداد)، وفيها أبحاث دقيقة طويلة الذيل لا حاجة لنا بها، ويكفي ما ذكرناه عنها بالاختصار.

11 - اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل قام إجماع الإمامية على أن أحكام الله تعالى مشتركة بين العالم والجاهل بها، أي أن حكم الله ثابت لموضوعه في الواقع سواء علم به المكلف أم لم يعلم، فانه مكلف به على كل حال. فالصلاة - مثلا - واجبة على جميع المكلفين سواء علموا بوجوبها أم جهلوه، فلا يكون العلم دخيلا في ثبوت الحكم أصلا. وغاية ما نقوله في دخالة العلم في التكليف دخالته في تنجز الحكم التكليفي، بمعنى أنه لا يتنجز على المكلف على وجه يستحق على مخالفته العقاب الا إذا علم به، سواء كان العلم تفصيليا أو إجماليا (5)، أو قامت لديه حجة معتبرة على الحكم تقوم مقام العلم. فالعلم وما يقوم مقامه يكون - على ما هو التحقيق - شرطا لتنجز التكليف لا علة تامة، خلافا للشيخ الآخوند صاحب الكفاية قدس سره. فإذا لم يحصل العلم ولا ما يقوم مقامه بعد الفحص واليأس لا يتنجز عليه التكليف الواقعي ، يعني لا يعاقب المكلف لو وقع في مخالفته على جهل، ولا لكان العقاب عليه عقابا بلا بيان، وهو قبيح عقلا، (وسيأتي إن شاء الله تعالى في أصل البراءة شرح ذلك). وفي قبال هذا القول زعم من يرى أن الأحكام انما تثبت لخصوص العالم بها أو من قامت عنده الحجة، فمن لم يعلم بالحكم ولم تقم لديه الحجة عليه لا حكم في حقه حقيقة وفي الواقع. ومن هؤلاء من يذهب إلى تصويب المجتهد، إذ يقول: إن كل مجتهد مصيب وسيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى في هذا الجزء. وعن الشيخ الأنصاري - أعلى الله مقامه - وعن غيره أيضا كصاحب الفصول رحمه الله، إن أخبارنا متواترة معنى في اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل وهو كذلك. و (الدليل على هذا الاشتراك) - مع قطع النظر عن الإجماع وتواتر الأخبار - واضح، وهو أن نقول:

1 - أن الحكم لو لم يكن مشتركا لكان مختصا بالعالم به إذ لا يجوز أن يكون مختصا بالجاهل به، وهو واضح.

2 - وإذا ثبت انه مختص بالعالم، فان معناه تعليق الحكم على العلم به.

3 - ولكن تعليق الحكم على العلم به محال، لأنه يلزم منه الخلف.

4 - أذن يتعين أن يكون مشتركا بين العالم والجاهل. (بيان لزوم الخلف): انه لو كان الحكم معلقا على العلم به كوجوب الصلاة مثلا، فانه يلزمه - بل هو نفس معنى التعليق - عدم الوجوب لطبيعي الصلاة، إذ الوجوب يكون حسب الفرض للصلاة المعلومة الوجوب بما هي معلومة الوجوب، بينما أن تعلق العلم بوجوب الصلاة لا يمكن فرضه إلا إذا كان الوجوب متعلقا بطبيعي الصلاة. فما فرضناه متعلقا بطبيعي الصلاة لم يكن متعلقا بطبيعيها، بل بخصوص معلوم الوجوب. وهذا هو الخلف المحال. وببيان آخر في وجه استحالة تعليق الحكم على العلم به نقول: إن تعليق الحكم على العلم به يستلزم منه المحال، وهو استحالة العلم بالحكم، والذي يستلزم منه المحال محال، فيستحيل نفس الحكم. وذلك لأنه قبل حصول العلم لا حكم - حسب الفرض، فإذا أراد أن يعلم يعلم بماذا؟ فلا يعقل حصول العلم لديه بغير متعلق مفروض الحصول. وإذا استحال حصول العلم استحال حصول الحكم المعلق عليه، لاستحالة ثبوت الحكم بدون موضوعه. وهو واضح. وعلى هذا، فيستحيل تقييد الحكم بالعلم به. وإذا استحال ذلك تعين أن يكون الحكم مشتركا بين العالم والجاهل، أي بثبوته واقعا في صورتي العلم والجهل، وان كان الجاهل القاصر معذورا أي انه لا يعاقب على المخالفة. وهذا شيء آخر غير نفس عدم ثبوت الحكم في حقه.

ولكنه قد يستشكل في استكشاف اشتراك الأحكام في هذا الدليل بما تقدم منا في المجلد الأول (ص 69 و 159)، من أن الإطلاق والتقييد متلازمان في مقام الإثبات لأنهما من قبيل العدم والملكة، فإذا استحال التقييد في مورد استحال معه الإطلاق أيضا. فكيف - إذن - نستكشف اشتراك الأحكام من إطلاق أدلتها لامتناع تقييدها بالعلم. وإلاطلاق كالتقييد محال بالنسبة إلى قيد العلم في أدلة الأحكام. وقد أصر شيخنا النائيني أعلى الله مقامه على امتناع الإطلاق في ذلك، وقال بما محصله: انه لا يمكن أن نحكم بالاشتراك من نفس أدلة الأحكام، بل لا بد لإثباته من دليل آخر سماه (متمم الجعل)، على أن يكون الاشتراك من باب (نتيجة الإطلاق)، كاستفادة تقييد الأمر العبادي بقصد الامتثال من دليل ثان (متمم للجعل) على أن يكون ذلك من باب (نتيجة التقييد) وكاستفادة تقييد وجوب الجهر وإلاخفات والقصر والإتمام بالعلم بالوجوب من دليل آخر متمم للجعل، على أن يكون ذلك أيضا من باب نتيجة التقييد. وقال بما خلاصته : يمكن استفادة الإطلاق في المقام من الأدلة التي ادعى الشيخ الأنصاري تواترها، فتكون هي المتممة للجعل. أقول: ويمكن الجواب عن الإشكال المذكور بما محصله: أن هذا الكلام صحيح لو كانت استفادة اشتراك الأحكام متوقفة على إثبات إطلاق أدلتها بالنسبة إلى العالم بها، غير أن المطلوب الذي ينفعنا هو نفس عدم اختصاص الأحكام بالعالم على نحو السالبة المحصلة. فيكون التقابل بين اشتراك الأحكام واختصاصها بالعالم من قبيل تقابل السلب والإيجاب، لا من باب تقابل العدم والملكة، لان المراد من الاشتراك نفس عدم الاختصاص بالعالم. وهذه السلب يكفي في استفادته من أدلة الأحكام من نفس إثبات امتناع الاختصاص ، ولا يحتاج إلى مؤنة زائدة لإثبات الإطلاق أو إثبات نتيجة الإطلاق يتمم الجعل من إجماع أو أدلة أخرى، لأنه من نفس امتناع التقييد نعلم أن الحكم مشترك لا يختص بالعالم. نعم يتم ذلك الإشكال لو كان امتناع التقييد ليس إلا من جهة بيانية وفي مرحلة الإنشاء في دليل نفس الحكم، وان كان واقعه يمكن أن يكون مقيدا أو مطلقا مع قطع النظر عن أدائه باللفظ، فإنه حينئذ لا يمكن بيانه بنفسه دليله الأول فنحتاج إلى استكشاف الواقع المراد من دليل آخر نسميه متمم الجعل ولأجل ذلك نسميه بالمتمم للجعل، فتحصل لنا نتيجة الإطلاق أو نتيجة التقييد من دون أن يحصل تقييد أو إطلاق المفروض أنهما مستحيلان كما كان الحال في تقييد الوجوب بقصد الامتثال في الواجب التعبدي. أما لو كان نفس الحكم واقعا مع قطع النظر عن أدائه بأية عبارة كانت - كما فيما نحن فيه - يستحيل تقييده سواء أدى ذلك ببيان واحد أو ببيانين أو بألف بيان، فإن واقعه لا محالة ينحصر في حالة واحدة، وهو أن يكون في نفسه شاملا لحالتي وجود القيد المفروض وعدمه. وعليه، فلا حاجة في مثله إلى استكشاف الاشتراك من نفس إطلاق دليله الأول ولا من دليل ثان متمم للجعل. ولا نمانع أن نسمي ذلك (نتيجة الإطلاق) إذا حلا لكم هذا التعبير. ويبقى الكلام حينئذ في وجه تقييد وجوب الجهر وإلاخفات والقصر والإتمام بالعلم مع فرض امتناعه حتى بمتمم الجعل، والمفروض أن هذا التقييد ثابت في الشريعة، فكيف تصححون ذلك ؟ - فنقول: انه لما امتنع تقييد الحكم بالعلم فلا بد أن نلتمس توجيها لهذا الظاهر من الأدلة. وينحصر التوجيه في أن نفرض أن يكون هذا التقييد من باب إعفاء الجاهل بالحكم في هذين الموردين عن الإعادة والقضاء وإسقاطهما عنه اكتفاء بما وقع كإعفاء الناسي، وان كان الوجوب واقعا غير مقيد بالعلم. وإلاعادة والقضاء بيد الشارع رفعهما ووضعهما. ويشهد لهذا التوجيه أن بعض الروايات في البابين عبرت بسقوط الإعادة عنه، كالرواية عن أبي جعفر عليه السلام فيمن صلى في السفر أربعا: (إن كانت قرئت عليه آية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد، وان لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة). 12 - تصحيح جعل الأمارة بعدما ثبت أن جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم - مع ما ثبت

مع اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل - تنشأ (شبهة عويصة) في صحة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق ص 25، وهي : - انه في فرض التمكن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن يأذن الشارع بأتباع الأمارة الظنية، وهي - حسب الفرض - تحتمل الخطأ المفوت للواقع . والإذن في تفويته قبيح عقلا، لان الأمارة لو كانت دالة على جواز الفعل - مثلا - وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة، فإن الأذن بأتباع الأمارة في هذا الفرض يكون أذنا بترك الواجب أو فعل الحرام، مع أن الفعل لا يزال باقيا على وجوبه الواقعي أو حرمته الواقعية مع تمكن المكلف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض. ولا شك في قبح ذلك من الحكيم. وهذه الشبهة هي التي الجأت بعض الأصوليين إلى القول بأن الأمارة مجعولة على نحو (السببية)، إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو (الطريقية) التي هي الأصل في الأمارة على ما سيأتي من شرح ذلك قريبا. والحق معهم إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقية، لان المفروض أن الأمارة قد ثبتت حجيتها قطعا فلا بد أن يفرض - حينئذ - في قيام الأمارة أو في أتباعها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطأها حتى لا يكون أذن الشارع بتفويت الواقع قبيحا ، ما دام أن تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى أو مساوية لمصلحة الواقع فينشأ على طبق مؤدى الأمارة حكم ظاهري بعنوان انه الواقع، إما أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة أو مخالفا له عند الخطأ. ونحن - بحمد الله تعالى - نرى أن الشبهة يمكن دفعها على تقدير الطريقية، فلا حاجة إلى فرض السببية. والوجه في دفع الشبهة: انه بعد أن فرضنا أن القطع قام على أن الأمارة الكذائية كخبر الواحد حجة يجوز أتباعها مع التمكن من تحصيل العلم، فلا بد أن يكون الأذن من الشارع العالم بالحقائق الواقعية لأمر علم به وغاب عنا علمه. ولا يخرج هذا الأمر عن أحد شيئين لا ثالث لهما، وكل منهما جائز عقلا لا مانع منه:

1 - أن يكون قد علم بأن إصابة الأمارة للواقع مساوية لإصابة العلوم التي تتفق للمكلفين أو أكثر منها. بمعنى أن العلوم التي يتمكن المكلفون من تحصيلها يعلم الشارع بأن خطأها سيكون مساويا لخطأ الأمارة المجعولة أو أكثر خطأ منها.

 2 - أن يكون قد علم بأن في عدم جعل أمارات خاصة لتحصيل الأحكام وإلاقتصار على العلم تضييقا على المكلفين ومشقة عليهم، لا سيما بعد أن كانت تلك الأمارات قد اعتادوا سلوكها والأخذ بها في شؤونهم الخاصة وأمورهم الدنيوية وبناء العقلاء كلهم كان عليها. وهذا الاحتمال الثاني قريب إلى التصديق جدا، فإنه لا نشك في أن تكليف كل واحد من الناس بالرجوع إلى المعصوم أو الأخبار المتواترة في تحصيل جميع الأحكام أمر فيه مالا يوصف من الضيق والمشقة، لا سيما أن ذلك على خلاف ما جرت عليه طريقتهم في معرفة ما يتعلق بشؤونهم الدنيوية. وعليه، فمن القريب جدا أن الشارع إنما رخص في أتباع الأمارات الخاصة فلغرض تسهيل الأخذ بأحكامه والوصول إليها. ومصلحة التسهيل من المصالح النوعية المتقدمة في نظر الشارع على المصالح الشخصية التي قد نفوت أحيانا على بعض المكلفين عند العمل بالأمارة لو أخطأت. وهذا أمر معلوم من طريقة الشريعة الإسلامية التي بنيت في تشريعها على التيسير والتسهيل. وعلى التقديرين وإلاحتمالين فإن الشارع في أذنه بأتباع الأمارة طريقا إلى الوصول إلى الواقع من أحكامه لا بد أن يفرض فيه أنه قد تسامح في التكاليف الواقعية عند خطأ الأمارة، أي أن الأمارة تكون معذرة للمكلف فلا يستحق العقاب في مخالفة الحكم كما لا يستحق ذلك عند المخالفة في خطأ القطع، لا انه بقيام الأمارة يحدث حكم آخر ثانوي، بل شأنها في هذه الجهة شأن القطع بلا فرق. ولذا إن الشارع في الموارد التي يريد فيها المحافظة على تحصيل الواقع على كل حال أمر بأتباع الاحتياط ولم يكتف بالظنون فيها، وذلك كموارد الدماء والفروج.

 13 - الأمارة طريق أو سبب قد أشرنا في البحث السابق إلى مذهبي السببية والطريقية في الأمارة وقد عقدنا هذا البحث لبيان هذا الخلاف. فإن ذلك من الأمور التي وقعت أخيرا موضع البحث والرد والبدل عند الأصوليين، فاختلفوا في أن الأمارة هل هي حجة مجعولة على نحو (الطريقية)، أو أنها حجة مجعولة على نحو (السببية)، أي أنها طريق أو سبب. والمقصود من كونها (طريقا): أنها مجعولة لتكون موصلة فقط إلى الواقع للكشف عنه، فإن أصابته فانه يكون منجزا بها وهي منجزة له، وإن أخطأته فإنها حينئذ تكون صرف معذر للمكلف في مخالفة الواقع. والمقصود من كونها (سببا): انها تكون سببا لحدوث مصلحة في مؤداها تقاوم تفويت مصلحة الأحكام الواقعية على تقدير الخطأ، فينشئ الشارع حكما ظاهريا على طبق ما أدت إليه الأمارة. والحق أنها مأخوذة على نحو (الطريقية). والسر في ذلك واضح بعدما تقدم، فإن القول بالسببية - كما قلنا - مترتب على القول بالطريقية، يعني إن منشأ قول من قال بالسببية هو العجز عن تصحيح جعل الطرق على نحو الطريقية، فيلتجئ إلى فرض السببية. أما إذا أمكن تصحيح الطريقية فلا يبقى دليل على السببية ويتعين كون الأمارة طريقا محضا، لان الطريقية هي الأصل فيها. ومعنى إن الطريقية هي الأصل: ان طبع الأمارة لو خليت ونفسها يقتضي أن تكون طريقا محضا إلى مؤداها، لان لسانها التعبير عن الواقع والحكاية والكشف عنه. على أن العقلاء انما يعتبرونها ويستقر بناؤهم عليها فلأجل كشفها عن الواقع، ولا معنى لان يفرض في بناء العقلاء أنه على نحو السببية، وبناء العقلاء هو الأساس الأول في حجية الأمارة كما سيأتي. نعم إذا منع مانع عقلي من فرض الأمارة طريقا من جهة الشبهة المتقدمة أو نحوها، فلا بد أن تخرج على خلاف طبعها ونلتجئ إلى فرض السببية. ولما كنا دفعنا الشبهة في جعلها على نحو الطريقية فلا تصل النوبة إلى التماس دليل على سببيتها أو طريقيتها، إذ لا موضع للترديد وإلاحتمال لنحتاج إلى الدليل.

 هذا وقد يلتمس الدليل على السببية من نفس دليل حجية الأمارة بأن يقال: أن دليل الحجية - لا شك - يدل على وجوب أتباع الأمارة. ولما كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في متعلقاتها، فلا بد أن يكون في أتباع الأمارة مصلحة تقتضي وجوب أتباعها وإن كانت على خطأ في الواقع. وهذه هي السببية بعينها. أقول: والجواب عن ذلك واضح فانا نسلم إن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، ولكن لا يلزم في المقام أن يكون في نفس أتباع الأمارة مصلحة، بل يكفي أن ينبعث الوجوب من نفس مصلحة الواقع، فيكون جعل وجوب أتباع الأمارة لغرض تحصيل مصلحة الواقع. بل يجب أن يكون الحال فيها كذلك، لأنه - لا شك - أن الغرض من جعل الأمارة هي الوصول بها إلى الواقع فالمحافظة على الواقع والوصول إليه هو الباعث على جعل الأمارة لغرض تنجيزه وتحصيله، فيكون الأمر بأتباع الأمارة طريقا إلى تحصيل الواقع. ولذا نقول: إذا لم تصب الواقع لا تكليف هناك ولا تدارك لما فات من الواقع، وما هي إلا المعذرية في مخالفته ورفع العقاب على المخالفة، لا أكثر وهذه المعذرية تقتضيها نفس الرخصة في أتباع الأمارة التي قد تخطئ. وعلى هذا، فليس لهذا الأمر الطريقي المتعلق بأتباع الأمارة بما هو أمر طريقي مخالفة ولا موافقة، لأنه في الحقيقة ليس فيه جعل للداعي إلى الفعل الذي هو مؤدى الأمارة مستقلا عن الأمر الواقعي وإنما هو جعل للأمارة منجزة للأمر الواقعي، فهو موجب لدعوة الأمر الواقعي، فلا بعث حقيقي في مقابل البعث الواقعي فلا تكون له مصلحة الا مصلحة الواقع، ولا طاعة غير طاعة الواقع، إذ لا بعث فيه إلا بعث الواقع.

 14 - المصلحة السلوكية ذهب الشيخ الأنصاري قدس سره إلى فرض المصلحة السلوكية في الأمارات لتصحيح جعلها - كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في مبحث الإجزاء المجلد الأول ص 230 - وحمل عليه كلام الشيخ الطوسي في العدة والعلامة في النهاية. وإنما ذهب إلى هذا الفرض لأنه لم يتم عنده تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقية المحضة، ووجد أيضا أن القول بالسببية المحضة يستلزم القول بالتصويب المجمع على بطلانه عند الإمامية فسلك طريقا وسطا لا يذهب به إلى الطريقية المحضة ولا إلى السببية المحضة وهو أن يفرض المصلحة في نفس سلوك الأمارة وتطبيق العمل على ما أدت إليه، وبهذه المصلحة بتدارك ما يفوت من مصلحة الواقع عند الخطأ. فتكون الأمارة من ناحية لها شأن الطريقية إلى الواقع، ومن ناحية أخرى لها شأن السببية. وغرضه من فرض المصلحة السلوكية إن نفس سلوك طريق الأمارة والاستناد إليها في العمل بمؤداها فيه مصلحة تعود لشخص المكلف يتدارك بها ما يفوته من مصلحة الواقع عند الخطأ، من دون أن يحدث في نفس المؤدى - أي في ذات الفعل والعمل - مصلحة حتى تستلزم إنشاء حكم آخر غير الحكم الواقعي على طبق ما أدت إليه الأمارة الذي هو نوع من التصويب (6).

قال رحمه الله في رسائله فيما قال: (ومعنى وجوب العمل على طبق الأمارة وجوب ترتيب أحكام الواقع على مؤداها من دون أن تحدث في الفعل مصلحة على تقدير مخالفة الواقع). ولا ينبغي أن يتوهم أن القول بالمصلحة السلوكية هي نفس ما ذكرناه في أحد وجهي تصحيح الطريقية من فرض مصلحة التسهيل، لان الغرض من القول بالمصلحة السلوكية أن تحدث مصلحة في سلوك الأمارة تعود تلك المصلحة لشخص المكلف لتدارك ما يفوته من مصلحة الواقع، بينما أن غرضنا من مصلحة التسهيل مصلحة نوعية قد لا تعود لشخص من قامت عنده الأمارة، وتلك المصلحة النوعية مقدمة في مقام المزاحمة عند الشارع على مصلحة الواقع التي قد تفوت على شخص المكلف. وإذا اتضح الفرق بينهما نقول: أن القول بالمصلحة السلوكية وفرضها يأتي بالمرتبة الثانية للقول بمصلحة التسهيل. يعني انه إذا لم تثبت عندنا مصلحة التسهيل ، أو قلنا بعدم تقديم المصلحة النوعية على المصلحة الشخصية، ولم يصح عندنا أيضا احتمال مساواة خطأ الأمارات للعلوم - فانا نلتجئ إلى ما سلكه الشيخ من المصلحة السلوكية إذا استطعنا تصحيحها، فرارا من الوقوع في التصويب الباطل. وأما نحن فإذ ثبت عندنا أن هناك مصلحة التسهيل في جعل الأمارة تفوق المصالح الشخصية ومقدمة عليها عند الشارع، أصبحنا في غنى عن فرض المصلحة السلوكية. على أن المصلحة السلوكية إلى الآن لم نتحقق مراد الشيخ منها ولم نجد الوجه لتصحيحها في نفسها، فإن في عبارته شيئا من الاضطراب والأيهام، وكفى أن يقع في بعض النسخ زيادة كلمة (الأمر) على قوله: (إلا إن العمل على طبق تلك الأمارة) فتصير العبارة هكذا (إلا أن الأمر بالعمل.) فلا يدرى مقصوده هل انه في نفس العمل مصلحة سلوكية أو في الأمر به. وقيل: أن هذا التصحيح وقع من بعض تلامذته إذ أوكل إليه أمر تصحيح العبارة بعد مناقشات تلاميذه لها في مجلس البحث. وعلى كل حال، فإن الظاهر أن ألفارق عنده بين السببية المحضة وبين المصلحة السلوكية بمقتضى عبارته قبل التصحيح المذكور أن المصلحة على الأول تكون قائمة بذات الفعل وعلى الثاني قائمة بعنوان آخر هو السلوك فلا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل. ولكننا لم نتعقل هذا ألفارق المذكور، لأنه انما يتم إذا استطعنا أن نتعقل لعنوان السلوك عنوانا مستقلا في وجوده عن ذات الفعل لا ينطبق عليه ولا يتحد معه حتى لا تزاحم مصلحته مصلحة الفعل، وتصوير هذا في غاية الإشكال . ولعل هذا هو السر في مناقشة تلاميذه له فحمل بعضهم على إضافة كلمة (الأمر)، ليجعل المصلحة تعود إلى نفس الأمر لا إلى متعلقه فلا يقع التزاحم بين المصلحتين. وجه الإشكال:

(أولا) إننا لا نفهم من عنوان السلوك والاستناد إلى الأمارة إلا عنوانا للفعل الذي تؤدي إليه الأمارة بأي معنى فسرنا السلوك والاستناد، إذ ليس للسلوك ومتابعة الأمارة وجود آخر مستقل غير نفس وجود الفعل المستند إلى الأمارة. نعم، إذا أردنا من الاستناد إلى الأمارة معنى آخر، وهو الفعل القصدي من النفس، فإن له وجودا آخر غير وجود الفعل لأنه فعل قلبي جوانحي لا وجود له إلا وجودا قصديا. ولكنه من البعيد جدا أن يكون ذلك غرض الشيخ من السلوك، لان هذا الفعل القلبي انما يصح أن يفرض وجوبه ففي خصوص الأمور العبادية. ولا معنى للالتزام بوجوب القصد في جميع أفعال الإنسان المستند فعلها إلى الأمارة.

 (ثانيا) على تقدير تسليم اختلافهما وجودا فإن قيام المصلحة بشيء إنما يدعو إلى تعلق الأمر به لا بشيء آخر غيره وجودا وان كانا متلازمين في الوجود. فمهما فرضنا من معنى للسلوك وإن كان بمعنى الفعل القلبي فإنه إذا كانت المصلحة المقتضية للأمر قائمة به فكيف يصح توجيه الأمر إلى ذات الفعل والمفروض أن له وجودا آخر لم تقم به المصلحة. وأما إضافة كلمة (الأمر) على عبارة الشيخ فهي بعيدة جدا عن مراده وعباراته الأخرى.

 15 - الحجية أمر اعتباري أو انتزاعي من الأمور التي وقعت موضع البحث أيضا عن المتأخرين مسألة أن الحجية هل هي من الأمور الاعتبارية المجعولة بنفسها وذاتها، أو إنها من الانتزاعيات التي تنتزع من المجعولات. وهذا النزاع في الحجية فرع - في الحقيقة - عن النزاع في أصل الأحكام الوضعية . وهذا النزاع في خصوص الحجية - على الأقل - لم أجد له ثمرة عملية في الأصول. على أن هذا النزاع في أصله غير محقق ولا مفهوم لان لكلمتي الاعتبارية وإلانتزاعية مصطلحات كثيرة، في بعضها تكون الكلمتان متقابلتين، وفي البعض الآخر متداخلتين. وتفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة. ونكتفي أن نقول على سبيل الاختصار: إن الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أن المراد من الأمر الانتزاعي هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أولا وبالذات، بمعنى أن الإيجاد والجعل الاعتباري ينسب أولا وبالذات إلى شيء والمجعول حقيقة ثم ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شيء آخر. فالمجعول الأول هو الأمر الاعتباري والثاني هو الأمر الانتزاعي. فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأول بالذات والى الثاني بالعرض، لا أنه هناك جعلان واعتباران ينسب أحدهما إلى شيء ابتداء وينسب ثانيهما إلى آخر يتبع الأول، فإن هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.

 

فيقال في الملكية - مثلا - التي هي من جملة موارد النزاع أن المجعول أولا وبالذات هو إباحة تصرف الشخص بالشيء المملوك، فينتزع منها أنه مالك، أي أن الجعل ينسب ثانيا وبالعرض إلى الملكية. فالملكية يقال لها: إنها مجعولة بالعرض ويقال لها: أنها منتزعة من الإباحة. هذا إذا قيل إن الملكية انتزاعية، أما إذا قيل إنها اعتبارية فتكون عندهم هي المجعولة أولا وبالذات للشارع أو العرف. وعلى هذا، فإذا أريد من الانتزاع هذا المعنى - فالحق أن الحجية أمر اعتباري، وكذلك الملكية والزوجية ونحوها من الأحكام الوضعية. وشأنها في ذلك شأن الأحكام التكليفية المسلم فيها أنها من الاعتباريات الشرعية. توضيح ذلك: إن حقيقة الجعل هو الإيجاد. والإيجاد على نحوين:

1 - ما يراد منه إيجاد الشيء حقيقة في الخارج. ويسمى: الجعل التكويني، أو الخلق.

 2 - ما يراد منه إيجاد الشيء اعتبارا وتنزيلا، وذلك بتنزيله منزلة الشيء الخارجي الواقعي من جهة ترتيب أثر من آثاره أو لخصوصية فيه من خصوصيات الأمر الواقعي. ويسمى: الجعل الاعتباري، أو التنزيلي. وليس له واقع إلا الاعتبار والتنزيل، وان كان نفس الاعتبار أمرا واقعيا حقيقيا لا اعتباريا. مثلا حينما يقال: زيد أسد، فإن الأسد مطابقة الحقيقي هو الحيوان المفترس المخصوص، وهو طبعا مجعول ومخلوق بالجعل والخلق التكويني، ولكن العرف يعتبرون الشجاع أسدا. فزيد أسدا اعتبارا وتنزيلا من قبل العرف من جهة ما فيه من خصوصية الشجاعة كالأسد الحقيقي. ومن هذا المثال يظهر كيف أن الأحكام التكليفية اعتبارات شرعية، لان الأمر حينما يريد من شخص أن يفعل فعلا ما فبدلا عن يدفعه بيده مثلا ليحركه نحو العمل ينشئ الأمر بداعي جعل في دخيلة نفس المأمور. فيكون هذا الإنشاء للأمر دفعا وتحريكا اعتباريا تنزيلا له منزلة الدفع الخارجي باليد مثلا. وكذلك النهي زجر اعتباري تنزيلا له منزله الردع والزجر الخارجي باليد مثلا. وكذلك يقال في حجية الأمارة المجعولة، فان القطع لما كان موصلا إلى الواقع حقيقة وطريقا بنفسه إليه، فالشارع يعتبر الأمارة الظنية طريقا إلى الواقع تنزيلا لها منزلة القطع بالواقع بإلغاء احتمال الخلاف، فتكون الأمارة قطعا اعتباريا وطريقا تنزيليا. ومتى صح وأمكن أن تكون الحجية هي المعتبرة أولا وبالذات فما الذي يدعو إلى فرضها مجعولة ثانيا وبالعرض، حتى تكون أمرا انتزاعيا، الا أن يريدوا من الانتزاع معنى آخر، وهو ما يستفاد من دليل الحكم على نحو الدلالة الإلتزامية كأن تستفاد الحجية للأمارة من الأمر بأتباعها مثل ما لو قال الإمام (عليه السلام ): (صدق العادل) الذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حجية خبر العادل واعتباره عند الشارع. وهذا المعنى للإنتزاعي صحيح ولا مانع من أن يقال للحجية أنها أمر انتزاعي بهذا المعنى، ولكنه بعيد عن مرامهم لان هذا المعنى من الانتزاعية لا يقابل الاعتبارية بالمعنى الذي شرحناه. وعلى كل حال فدعوى انتزاعية الحجية بأي معنى للإنتزاعي لا موجب لها، لاسيما انه لم يتفق ورود أمر من الشارع بأتباع أمارة من الأمارات في جميع ما بأيدينا من الآيات والروايات حتى يفرض أن الحجية منتزعة من ذلك الأمر. هذا كل ما أردنا بيانه من المقدمات قبل الدخول في المقصود. وإلان نشرع في البحث عن المقصود، وهو تشخيص الأدلة التي هي حجة على الأحكام الشرعية من قبل الشارع المقدس. ونضعها في أبواب.

_____________
(1) إن بعض مشايخنا الأعاظم قدس سره التزم في المسألة الأصولية أنها يجب أن تقع كبرى في القياس الذي يستنبط منه الحكم الشرعي وجعل ذلك مناطا في كون المسألة أصولية، ووجه المسائل الأصولية على هذا النحو. وهو في الحقيقة لزوم ما لا يلزم وقد أوضحنا الحقيقة هنا وفيما سبق.

(2) سيأتي في المبحث السادس بيان انه لماذا يجب أن يكون ثبوت حجية الدليل بالدليل القطعي ولا يكفي الدليل الظني.

(3) مما يجب التنبيه عليه أن المراد من العلم هنا هو (القطع) أي الجزم الذي لا يحتمل الخلاف، ولا يعتبر فيه أن يكون مطابقا للواقع في نفسه، وإن كان في نظر القاطع لا يراه الا مطابقا للواقع، فالقطع الذي هو حجة تجب متابعته أعم من اليقين والجهل المركب. يعني أن المبحوث عنه هو العلم جهة أنه جزم لا يحتمل الخلاف عند القاطع.

(4) هذه اللابدية العقلية هي نفس وجوب الطاعة الذي هو وجوب عقلي. لأنه داخل في الآراء المحمودة التي تتطابق عليها آراء العقلاء بما هم عقلاء، كما شرحناه في الجزء الثاني.

(5) سيأتي في الجزء الرابع إن شاء الله تعالى مدى تأثير العلم الإجمالي في تنجيز الأحكام الواقعية.

(6) إن التصويب الباطل على ما بينه الشيخ على نحوين:

 (الأول) ما ينسب إلى الأشاعرة وهو أن يفرض أن لا حكم ثابتا في نفسه يشترك فيه العالم والجاهل، بل الشارع ينشئ أحكامه على طبق ما تؤدي إليه آراء المجتهدين.

 (الثاني) ما ينسب إلى المعتزلة وهو أن تكون هناك أحكام واقعية ثابتة في نفسها يشترك فيها العالم والجاهل. ولكن لرأي المجتهد أثرا في تبدل عنوان موضوع الحكم أو متعلقه، فتحدث على وفق ما أدى إليه رأيه  مصلحة غالبة على مصلحة الواقع، فينشئ الشارع أحكاما ظاهرية ثانوية غير الأحكام الواقعية. وهذا المعنى من التصويب ترجع إليه السببية المحضة. وإنما كان هذا تصويبا باطلا لان معناه جلو؟؟؟ الواقع عن الحكم حين قيام الأمارة على خلافه.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.