أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-10-2019
1201
التاريخ: 21-7-2020
2599
التاريخ: 18-8-2016
1583
التاريخ: 18-8-2016
1005
|
تمهيدات:
1 - تقدم في المجلد الأول ص 43: إن الغرض من المقصد الأول تشخيص ظواهر بعض الألفاظ من ناحية عامة والغاية منه - كما ذكرنا - تنقيح صغريات أصالة الظهور. وطبعا انما يكون ذلك في خصوص الموارد التي وقع فيها الخلاف بين الناس. وقلنا: اننا سنبحث عن الكبرى، وهي حجية (أصالة الظهور)، في المقصد الثالث. وقد حل بحمد الله تعالى موضع البحث عنها.
2 - ان البحث عن حجية الظواهر من توابع البحث عن الكتاب والسنة، أعني ان الظواهر ليست دليلا قائما بنفسه في مقابل الكتاب والسنة بل انما تحتاج إلى إثبات حجيتها لغرض الأخذ بالكتاب والسنة، فهي من متممات حجيتها، إذ من الواضح انه لا مجال للأخذ بهما من دون ان تكون ظواهرهما حجة. والنصوص التي هي قطعية الدلالة أقل القليل فيهما.
3- تقدم ان الأصل حرمة العمل بالظن ما لم يدل دليل قطعي على حجيته، والظواهر من جملة الظنون، فلا بد من التماس دليل قطعي على حجيتها ليصح التمسك بظواهر الآيات والأخبار. وسيأتي بيان هذا الدليل.
4- ان البحث عن الظهور يتم بمرحلتين:
(الأولى) - في ان هذا اللفظ المخصوص ظاهر في هذا المعنى المخصوص أم غير ظاهر. والمقصد الأول كله متكفل بالبحث عن ظهور بعض الألفاظ التي وقع الخلاف في ظهورها، كالأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد. وهي في الحقيقة من بعض صغريات أصالة الظهور.
(الثانية) - في ان اللفظ الذي قد أحرز ظهوره هل هو حجة عند الشارع في ذلك المعنى، فيصح ان يحتج به المولى على المكلفين ويصح ان يحتج به المكلفون؟ والبحث عن هذه المرحلة الثانية هو المقصد الذي عقد من اجله هذا الباب، وهو الكبرى التي إذا ضممناها إلى صغرياتها يتم لنا الأخذ بظواهر الآيات والروايات.
5 - ان المرحلة الأولى - وهي تشخيص صغريات أصالة الظهور - تقع بصورة عامة في موردين:
(الأول) - في وضع اللفظ للمعنى المبحوث عنه، فانه إذا أحرز وضعه له لا محالة يكون ظاهرا فيه، نحو وضع صيغة افعل للوجوب والجملة الشرطية لما يستلزم المفهوم. إلى غير ذلك.
(الثاني) - في قيام قرينة عامة أو خاصة على إرادة المعنى من اللفظ. والحاجة إلى القرينة أما في مورد إرادة غير ما وضع له اللفظ، وأما في مورد اشتراك اللفظ في أكثر من معنى. ومع فرض وجود القرينة لا محالة يكون اللفظ ظاهرا فيما قامت عليه القرينة سواء كانت القرينة متصلة أو منفصلة. وإذا اتضحت هذه التمهيدات فينبغي أن نتحدث عما يهم من كل من المرحلتين في مباحث مفيدة في الباب. (طرق إثبات الظواهر) إذا وقع الشك في الموردين السابقين، فهناك طرق لمعرفة وضع الألفاظ ومعرفة القرائن العامة: (منها) - أن يتتبع الباحث بنفسه استعمالات العرب ويعمل رأيه واجتهاده إذا كان من أهل الخبرة باللسان والمعرفة بالنكات البيانية. ونظير ذلك ما استنبطناه (م 1 ص 58) من أن كلمة (الأمر) لفظ مشترك بين ما يفيد معنى الشيء والطلب، وذلك بدلالة اختلاف اشتقاق الكلمة بحسب المعنيين واختلاف الجمع فيها بحسبهما. و (منها) - ان يرجع إلى علامات الحقيقة والمجاز كالتبادر وأخواته. وقد تقدم الكلام عن هذه العلامات (م 1 ص 21 - 24).
و(منها) - ان يرجع إلى أقوال علماء اللغة. وسيأتي بيان قيمة أقوالهم. وهناك أصول اتبعها بعض القدماء لتعيين وضع الألفاظ أو ظهوراتها، في موارد تعارض أحوال اللفظ. والحق انه لا أصل لها مطلقا، لأنه لا دليل على اعتبارها. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم (م 1 ص 25). وهي مثل ما ذهبوا إليه من أصالة عدم الاشتراك في مورد الدوران بين الاشتراك وبين الحقيقة والمجاز، ومثل أصالة الحقيقة لإثبات وضع اللفظ عند الدوران بين كونه حقيقة أو مجازا. أما انه لا دليل على اعتبارها، فلان حجية مثل هذه الأصول لا بد من استنادها إلى بناء العقلاء. والمسلم من بنائهم هو ثبوته في الأصول التي تجري لإثبات مرادات المتكلم دون ما يجري لتعيين وضع الألفاظ والقرائن. ولا دليل آخر في مثلها غير بناء العقلاء.
(حجية قول اللغوي) إن (أقوال اللغويين) لا عبرة بأكثرها في مقام استكشاف وضع الألفاظ لان أكثر المدونين للغة همهم ان يذكروا المعاني التي شاع استعمال اللفظ فيها من دون كثير عناية منهم بتمييز المعاني الحقيقية من المجازية الا نادرا، عدا الزمخشري في كتابه (أساس اللغة)، وعدا بعض المؤلفات في فقه اللغة. وعلى تقدير أن ينص اللغويون على المعنى الحقيقي، فان أفاد نصهم العلم بالوضع فهو، وإلا فلا بد من التماس الدليل على حجية الظن الناشئ من قولهم. وقيل في الاستدلال عليه وجوه من الأدلة لا بأس بذكرها وما عندنا فيها:
أولا - قيل: الدليل الإجماع. وذلك لأنه قائم على الأخذ بقول اللغوي بلا نكير من أحد وان كان اللغوي واحدا. أقول: وأنى لنا بتحصيل هذا الإجماع العملي المدعى بالنسبة إلى جميع الفقهاء؟ وعلى تقدير تحصيله فأنى لنا من إثبات حجية مثله؟ وقد تقدم البحث مفصلا عن منشأ حجية الإجماع، وليس هو مما يشمل هذا المقام بما هو حجة، لان المعصوم لا يرجع إلى نصوص أهل اللغة حتى يستكشف من الإجماع موافقته في هذه المسألة، أي رجوعه إلى أهل اللغة عملا. ثانيا - قيل: الدليل بناء العقلاء لان من سيرة العقلاء وبنائهم العملي على الرجوع إلى أهل الخبرة الموثوق بهم في جميع الأمور التي يحتاج في معرفتها إلى خبرة وأعمال الرأي والاجتهاد، كالشؤون الهندسية والطبية ومنها اللغات ودقائقها، ومن المعلوم ان اللغوي معدود من أهل الخبرة في فنه. والشارع لم يثبت منه الردع عن هذه السيرة العملية، فيستكشف من ذلك موافقته لهم ورضاه بها. أقول: ان بناء العقلاء إنما يكون حجة إذا كان يستكشف منه على نحو اليقين موافقة الشارع وإمضاؤه لطريقتهم. وهذا بديهي. ولكن نحن نناقش إطلاق المقدمة المتقدمة القائلة: ان موافقة الشارع لبناء العقلاء تستكشف من مجرد عدم ثبوت ردعه عن طريقتهم، بل لا يحصل هذا الاستكشاف الا بأحد شروط ثلاثة كلها غير متوفرة في المقام:
1 - لا يكون مانع من كون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في البناء والسيرة، فإنه في هذا الفرض لا بد أن يستكشف انه متحد المسلك معهم بمجرد عدم ثبوت ردعه لأنه من العقلاء بل رئيسهم. ولو كان له مسلك ثان لبينه ولعرفناه، وليس هذا مما يخفى. ومن هذا الباب الظواهر وخبر الواحد، فإن الأخذ بالظواهر والاعتماد عليها في التفهيم، مما جرت عليها سيرة العقلاء، والشارع لا بد أن يكون متحد المسلك معهم لأنه لا مانع من ذلك بالنسبة إليه وهو منهم بما هم عقلاء ولم يثبت منه ردع. وكذلك يقال في خبر الواحد الثقة فإنه لا مانع من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في الاعتماد عليه في تبليغ الأحكام ولم يثبت منه الردع. أما الرجوع إلى أهل الخبرة فلا معنى لفرض أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء في ذلك، لأنه لا معنى لفرض حاجته إلى أهل الخبرة في شأن من الشؤون حتى يمكن فرض ان تكون له سيرة عملية في ذلك لا سيما في اللغة العربية.
2 - إذا كان هناك مانع من أن يكون الشارع متحد المسلك مع العقلاء، فلا بد أن يثبت لدينا جريان السيرة العملية حتى في الأمور الشرعية بمرأى ومسمع من الشارع، فإذا لم يثبت حينئذ الردع منه يكون سكوته من قبيل التقرير لمسلك العقلاء. وهذا مثل الاستصحاب فإنه لما كان مورده الشك في الحالة السابقة فلا معنى لفرض اتحاد الشارع في المسلك مع العقلاء بالأخذ بالحالة السابقة، إذ لا معنى لفرض شكه في بقاء حكمه، ولكن لما كان الاستصحاب قد جرت السيرة فيه حتى في الأمور الشرعية ولم يثبت ردع الشارع عنه فإنه يستكشف منه إمضاؤه لطريقتهم. أما الرجوع إلى أهل الخبرة في اللغة فلم يعلم جريان السيرة العقلائية في الأخذ بقول اللغوي في خصوص الأمور الشرعية، حتى يستكشف من عدم ثبوت ردعه رضاه بهذه السيرة في الأمور الشرعية.
3 - إذا انتفى الشرطان المتقدمان فلا بد حينئذ من قيام دليل خاص قطعي على رضا الشارع وإمضائه للسيرة العملية عند العقلاء. وفي مقامنا ليس عندنا هذا الدليل، بل الآيات الناهية عن أتباع الظن كافية في ثبوت الردع عن هذه السيرة العملية.
ثالثا - قيل: الدليل حكم العقل.
لان العقل يحكم بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم، فلا بد أن يحكم الشارع بذلك أيضا، إذ أن هذا الحكم العقلي من الآراء المحمودة التي تطابقت عليها آراء العقلاء، والشارع منهم، بل رئيسهم. وبهذا الحكم العقلي أوجبنا رجوع العامي إلى المجتهد في التقليد، غاية الأمر أنا اشترطنا في المجتهد شروطا خاصة كالعدالة والذكورة لدليل خاص. وهذا الدليل الخاص غير موجود في الرجوع إلى قول اللغوي، لأنه في الشؤون ألفنية لم يحكم العقل الا برجوع الجاهل إلى العالم الموثوق به من دون اعتبار عدالة أو نحوها كالرجوع إلى الأطباء والمهندسين. وليس هناك دليل خاص يشترط العدالة أو نحوها في اللغوي، كما ورد في المجتهد. أقول: وهذا الوجه أقرب الوجوه في إثبات حجية قول اللغوي، ولم أجد الآن ما يقدح به.
(الظهور التصوري والتصديقي) قيل: ان الظهور على قسمين: تصوري وتصديقي.
1 - (الظهور التصوري) الذي ينشأ من وضع اللفظ لمعنى مخصوص. وهو عبارة عن دلالة مفردات الكلام على معانيها اللغوية أو العرفية. وهو تابع للعلم بالوضع سواء كان في الكلام أو في خارجه قرينة على خلافه أو لم تكن.
2 - (الظهور التصديقي) الذي ينشأ من مجموع الكلام. وهو عبارة عن دلالة جملة الكلام على ما يتضمنه من المعنى، فقد تكون دلالة الجملة مطابقة لدلالة المفردات وقد تكون مغايرة لها كما إذا احتف الكلام بقرينة توجب صرف مفاد جملة الكلام عما يقتضيه مفاد المفردات. والظهور التصديقي يتوقف على فراغ المتكلم من كلامه فإن لكل متكلم أن يلحق بكلامه ما شاء من القرائن فما دام متشاغلا بالكلام لا ينعقد لكلامه الظهور التصديقي. ويستتبع هذا الظهور التصديقي ظهور ثان تصديقي، وهو الظهور بأن هذا هو مراد المتكلم، وهذا هو المعين لمراد المتكلم في نفس الأمر. فيتوقف على عدم القرينة المتصلة والمنفصلة، لان القرينة مطلقا تهدم هذا الظهور، بخلاف الظهور التصديقي الأول فانه لا تهدمه القرينة المنفصلة.
أقول: ونحن لا نتعقل هذا التقسيم، بل الظهور قسم واحد، وليس هو الا دلالة اللفظ على مراد المتكلم. وهذه الدلالة هي التي نسميها الدلالة التصديقية. وهي أن يلزم من العلم بصدور اللفظ من المتكلم العلم بمراده من اللفظ، أو يلزم منه الظن بمراده. والأول يسمى (النص)، ويختص الثاني باسم (الظهور). ولا معنى للقول بان اللفظ ظاهر ظهورا تصوريا في معناه الموضوع له، وقد سبق في المجلد الأول ص 18 بيان حقيقة الدلالة، وإن ما يسمونه بالدلالة التصورية ليست بدلالة، وإنما كان ذلك منهم تسامحا في التعبير بل هي من باب تداعي المعاني، فلا علم ولا ظن فيها بمراد المتكلم، فلا دلالة فلا ظهور، وإنما كان خطور. والفرق بعيد بينهما. وأما تقسيم الظهور التصديقي إلى قسمين فهو تسامح أيضا، لأنه لا يكون الظهور ظهورا الا إذا كشف عن المراد الجدي للمتكلم إما على نحو اليقين أو الظن، فالقرينة المنفصلة لا محالة تهدم الظهور مطلقا. نعم قبل العلم بها يحصل للمخاطب قطع بدوي أو ظن بدوي يزولان عند العلم بها، فيقال حينئذ قد انعقد للكلام ظهور على خلاف ما تقتضيه القرينة المنفصلة. وهذا كلام شايع عن الأصوليين (راجع م 1 ص 133). وفي الحقيقة ان غرضهم من ذلك الظهور الابتدائي البدوي الذي يزول عند العلم بالقرينة المنفصلة، لا انه هناك ظهوران ظهور لا يزول بالقرينة المنفصلة وظهور يزول بها. ولا بأس أن يسمى هذا الظهور البدوي الظهور الذاتي وتسميته بالظهور مسامحة على كل حال. وعلى كل حال، سواء سميت الدلالة التصورية ظهورا أم لم تسم، وسواء سمي الظن البدوي ظهورا أم لم يسم، فان موضع الكلام في حجية الظهور هو الظهور الكاشف عن مراد المتكلم بما هو كاشف وان كان كشفا نوعيا.
(وجه حجية الظهور) ان الدليل على حجية الظاهر منحصر في بناء العقلاء. والدليل يتألف من مقدمتين قطعيتين، على نحو ما تقدم في الدليل على حجية خبر الواحد من طريق بناء العقلاء. وتفصيلهما هنا أن نقول:
(المقدمة الأولى) - انه من المقطوع به الذي لا يعتريه الريب ان أهل المحاورة من العقلاء قد جرت سيرتهم العملية وتبانيهم في محاوراتهم الكلامية على اعتماد المتكلم على ظواهر كلامه في تفهيم مقاصده، ولا يفرضون عليه ان يأتي بكلام قطعي في مطلوبه لا يحتمل الخلاف. وكذلك - تبعا لسيرتهم الأولى - تبانوا أيضا على العمل بظواهر كلام المتكلم والأخذ بها في فهم مقاصده، ولا يحتاجون في ذلك إلى أن يكون كلامه نصا في مطلوبه لا يحتمل الخلاف. فلذلك يكون الظاهر حجة للمتكلم على السامع يحاسبه عليه ويحتج به عليه لو حمله على خلاف الظاهر، ويكون أيضا حجة للسامع على المتكلم يحاسبه عليه ويحتج به عليه لو ادعى خلاف الظاهر. ومن أجل هذا يؤخذ المرء بظاهر إقراره ويدان به وإن لم يكن نصا في المراد. (المقدمة الثانية) - ان من المقطوع به أيضا ان الشارع المقدس لم يخرج في محاوراته واستعماله للألفاظ عن مسلك أهل المحاورة من العقلاء في تفهيم مقاصده بدليل ان الشارع من العقلاء بل رئيسهم، فهو متحد المسلك معهم، ولا مانع من اتحاده معهم في هذا المسلك، ولم يثبت من قبله ما يخالفه. وإذا ثبتت هاتان المقدمتان القطعيتان لا محالة يثبت على سبيل الجزم ان الظاهر حجة عند الشارع، حجة له على المكلفين، وحجة معذرة للمكلفين. هذا، ولكن وقعت لبعض الناس شكوك في عموم كل من المقدمتين، لا بد من التعرض لها وكشف الحقيقة فيها. أما (المقدمة الأولى) فقد وقعت عدة أبحاث فيها:
1 - في أن تباني العقلاء على حجية الظاهر هل يشترط فيه حصول الظن ألفعلي بالمراد؟
2 - في أن تبانيهم هل يشترط فيه عدم الظن بخلاف الظاهر؟
3 - في ان تبانيهم هل يشترط فيه جريان أصالة عدم القرينة؟
4 - في ان تبانيهم هل هو مختص بمن قصد إفهامه فقط، أو يعم غيرهم فيكون الظاهر حجة مطلقا؟ وأما (المقدمة الثانية) - فقد وقع البحث فيها في حجية ظواهر الكتاب العزيز، بل قيل: ان الشارع ردع عن الأخذ بظواهر الكتاب فلم يكن متحد المسلك فيه مع العقلاء. وهذه المقالة منسوبة إلى الأخباريين. وعليه فينبغي البحث عن كل واحد واحد من هذه الأمور، فنقول:
1 - اشتراط الظن ألفعلي بالوفاق: قيل: لا بد في حجية الظاهر من حصول ظن فعلي بمراد المتكلم، وإلا فهو ليس بظاهر. يعني ان المقوم لكون الكلام ظاهرا حصول الظن ألفعلي للمخاطب بالمراد منه، وإلا فلا يكون ظاهرا، بل يكون مجملا.
أقول: من المعلوم ان الظهور صفة قائمة باللفظ، وهو كونه بحالة يكون كاشفا عن مراد المتكلم ودالا عليه، والظن بما هو ظن أمر قائم بالسامع لا باللفظ فكيف يكون مقوما لكون اللفظ ظاهرا، وإنما أقصى ما يقال انه يستلزم الظن فمن هذه الجهة يتوهم ان الظن يكون مقوما لظهوره. وفي الحقيقة ان المقوم لكون الكلام ظاهرا عند أهل المحاورة هو كشفه الذاتي عن المراد، أي كون الكلام من شأنه أن يثير الظن عند السامع بالمراد منه، وإن لم يحصل ظن فعلي للسامع، لان ذلك هو الصفة القائمة بالكلام المقومة لكونه ظاهرا عند أهل المحاورة. والمدرك لحجية الظاهر ليس الا بناء العقلاء فهو المتبع في أصل الحجية وخصوصياتها. الا ترى لا يصح للسامع أن يحتج بعدم حصول الظن ألفعلي عنده من الظاهر إذا أراد مخالفته مهما كان السبب لعدم حصول ظنه، ما دام ان اللفظ بحالة من شأنه ان يثير الظن لدى عامة الناس. وهذا ما يسمى بالظن النوعي، فيكتفي به في حجية الظاهر، كما يكتفي به في حجية خبر الواحد كما تقدم، وإلا لو كان الظن ألفعلي معتبرا في حجية الظهور لكان كل كلام في آن واحد حجة بالنسبة إلى شخص غير حجة بالنسبة إلى شخص آخر. وهذا ما لا يتوهمه أحد. ومن البديهي انه لا يصح ادعاء ان الظاهر لكي يكون حجة لا بد ان يستلزم الظن ألفعلي عند جميع الناس بغير استثناء، وإلا فلا يكون حجة بالنسبة إلى كل أحد.
2 - اعتبار عدم الظن بالخلاف: قيل: ان لم يعتبر الظن بالوفاق فعلى الأقل يعتبر ألا يحصل ظن بالخلاف. قال الشيخ صاحب الكفاية في رده: (والظاهر أن سيرتهم على أتباعها - أي الظواهر - من غير تقييد بإفادتها الظن فعلا، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها، ضرورة انه لا مجال للاعتذار من مخالفة بعدم إفادتها الظن بالوفاق ولا بوجود الظن بالخلاف). أقول: ان كان منشأ الظن بالخلاف أمر يصح في نظر العقلاء الاعتماد عليه في التفهيم، فانه لا ينبغي الشك في أن مثل هذا الظن يضر في حجية الظهور بل - على التحقيق - لا يبقى معه ظهور للكلام حتى يكون موضعا لبناء العقلاء، لان الظهور يكون حينئذ على طبق. ذلك الأمر المعتمد عليه في التفهيم، حتى لو فرض ان ذلك الأمر ليس بأمارة معتبرة عند الشارع، لان الملاك في ذلك بناء العقلاء. وأما إذا كان منشأ الظن ليس مما يصح الاعتماد عليه في التفهيم عند العقلاء فلا قيمة لهذا الظن من ناحية بناء العقلاء على أتباع الظاهر، لان الظهور قائم في خلافه، ولا ينبغي الشك في عدم تأثير مثله في تبانيهم على حجية الظهور. والظاهر ان مراد الشيخ صاحب الكفاية من الظن بالخلاف هذا القسم الثاني فقط لا ما يعم القسم الأول.
ولعل مراد القائل باعتبار عدم الظن بالخلاف هو القسم الأول فقط، لا ما يعم القسم الثاني، فيقع التصالح بين الطرفين.
3 - أصالة عدم القرينة: ذهب الشيخ الأعظم في رسائله إلى أن الأصول الوجودية - مثل أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق ونحوها التي هي كلها أنواع لأصالة الظهور - ترجع كلها إلى أصالة عدم القرينة، بمعنى ان أصالة الحقيقة ترجع إلى أصالة عدم قرينة المجاز، وأصالة العموم إلى أصالة عدم المخصص.. وهكذا. والظاهر ان غرضه من الرجوع: أن حجية أصالة الظهور إنما هي من جهة بناء العقلاء على حجية أصالة عدم القرينة. وذهب الشيخ صاحب الكفاية إلى العكس من ذلك، أي انه يرى أن أصالة عدم القرينة هي التي ترجع إلى أصالة الظهور. يعني ان العقلاء ليس لهم الا بناء واحد وهو البناء على أصالة الظهور، وهو نفسه بناء على أصالة عدم القرينة، لا أنه هناك، بناءان عندهم: بناء على أصالة عدم القرينة وبناء آخر على أصالة الظهور والبناء الثاني بعد البناء الأول ومتوقف عليه، ولا أن البناء على أصالة الظهور مرجع حجيته ومعناه إلى البناء على أصالة عدم القرينة. أقول: الحق ان الأمر لا كما أفاده الشيخ الأعظم ولا كما أفاده صاحب الكفاية، فانه ليس هناك أصل عند العقلاء غير أصالة الظهور يصح ان يقال له: (أصالة عدم القرينة)، فضلا عن ان يكون هو المرجع لأصالة الظهور أو أن أصالة الظهور هي المرجع له. بيان ذلك: انه عند الحاجة إلى إجراء أصالة الظهور لا بد أن يحتمل ان المتكلم الحكيم أراد خلاف ظاهر كلامه. وهذا الاحتمال لا يخرج عن أحدى صورتين لا ثالثة لهما:
(الأولى) أن يحتمل إرادة خلاف الظاهر مع العلم بعدم نصب قرينة من قبله لا متصلة ولا منفصلة. وهذا الاحتمال اما من جهة احتمال الغفلة عن نصب القرينة أو احتمال قصد الأيهام، أو احتمال الخطأ، أو احتمال قصد الهزل، أو لغير ذلك - فانه في هذه الموارد يلزم المتكلم بظاهر كلامه، فيكون حجة عليه، ويكون حجة له أيضا على الآخرين. ولا تسمع منه دعوى الغفلة ونحوها، وكذلك لا تسمع من الآخرين دعوى احتمالهم للغفلة ونحوها، وهذا معنى أصالة الظهور عند العقلاء، أي ان الظهور هو الحجة عندهم - كالنص - بإلغاء كل تلك الاحتمالات. ومن الواضح انه في هذه الموارد لا موقع لأصالة عدم القرينة سالبة بانتفاء الموضوع، لأنه لا احتمال لوجودها حتى نحتاج إلى نفيها بالأصل. فلا موقع أذن في هذه الصورة للقول برجوع أصالة الظهور إلى هذا الأصل، ولا للقول برجوعه إلى أصالة الظهور.
(الثانية) - ان يحتمل إرادة خلاف الظاهر من جهة احتمال نصب قرينة خفيت علينا - فانه في هذه الصورة يكون موقع لتوهم جريان أصالة عدم القرينة، ولكن في الحقيقة ان معنى بناء العقلاء على أصالة الظهور - كما تقدم - إنهم يعتبرون الظهور حجة كالنص بإلغاء احتمال الخلاف، أي احتمال كان. ومن جملة الاحتمالات التي تلغى ان وجدت احتمال نصب القرينة. وحكمه حكم احتمال الغفلة ونحوها من جهة انه احتمال ملغي ومنفي لدى العقلاء. وعليه، فالمنفي عند العقلاء هو الاحتمال، لا ان المنفي وجود القرينة الواقعية، لان القرينة الواقعية غير الواصلة لا أثر لها في نظر العقلاء ولا تضر في الظهور حتى يحتاج إلى نفيها بالأصل، بينما ان معنى أصالة عدم القرينة - لو كانت - البناء على نفي وجود القرينة، لا البناء على نفي احتمالها، والبناء على نفي الاحتمال هو معنى البناء على أصالة الظهور ليس شيئا آخر. وإذا اتضح ذلك يكون واضحا لدينا انه ليس للعقلاء في هذه الصورة الثانية أيضا أصل يقال له (أصالة عدم القرينة)، حتى يقال برجوعه إلى أصالة الظهور أو برجوعها إليه، سالبة بانتفاء الموضوع. والخلاصة: انه ليس لدى العقلاء الا أصل واحد، هو أصالة الظهور، وليس لهم الا بناء واحد، وهو البناء على إلغاء كل احتمال ينافي الظهور: من نحو احتمال الغفلة، أو الخطأ، أو تعمد الأيهام، أو نصب القرينة على الخلاف أو غير ذلك. فكل هذه الاحتمالات - ان وجدت - ملغية في نظر العقلاء، وليس معنى إلغائها الا اعتبار الظهور حجة كأنه نص لا احتمال معه بالخلاف لا انه هناك لدى العقلاء أصول متعددة وبناءات مترتبة مترابطة، كما ربما يتوهم، حتى يكون بعضها متقدما على بعض، أو بعضها يساند بعضا. نعم، لا بأس بتسمية إلغاء احتمال الغفلة بأصالة عدم الغفلة من باب المسامحة، وكذلك تسمية إلغاء احتمال القرينة بأصالة عدمها.. وهكذا في كل تلك الاحتمالات ولكن ليس ذلك الا تعبيرا آخر عن أصالة الظهور. ولعل من يقول برجوع أصالة الظهور إلى أصالة عدم القرينة أو بالعكس أراد هذا المعنى من أصالة عدم القرينة. وحينئذ لو كان هذا مرادهم لكان كل من القولين صحيحا ولكان مالهما واحدا، فلا خلاف.
4 - حجية الظهور بالنسبة إلى غير المقصودين بالإفهام: ذهب المحقق القمي في قوانينه إلى عدم حجية الظهور بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه بالكلام. ومثل لغير المقصودين بالإفهام بأهل زماننا وأمثالهم الذين لم يشافهوا بالكتاب العزيز وبالسنة، نظرا إلى ان الكتاب العزيز ليست خطاباته موجهة لغير المشافهين، وليس هو من قبيل تأليفات المصنفين التي يقصد بها إفهام كل قارئ لها. واما السنة فبالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن المعصومين في مقام الجواب عن سؤال السائلين لا يقصد منها الا إفهام السائلين دون سوأهم. أقول: ان هذا القول لا يستقيم، وقد ناقشه كل من جاء بعده من المحققين، وخلاصة ما ينبغي مناقشته به ان يقال: ان هذا كلام مجمل غير واضح، فما الغرض من نفي حجية الظهور بالنسبة إلى غير المقصود إفهامه؟
1 - ان كان الغرض ان الكلام لا ظهور ذاتي له بالنسبة إلى هذا الشخص فهو أمر يكذبه الوجدان.
2 - وان كان الغرض - كما قيل في توجيه كلامه - دعوى انه ليس للعقلاء بناء على إلغاء احتمال القرينة في الظواهر بالنسبة إلى غير المقصود بالإفهام، فهي دعوى بلا دليل، بل المعروف في بناء العقلاء عكس ذلك، قال الشيخ الأنصاري في مقام رده : (انه لا فرق في العمل بالظهور اللفظي وأصالة عدم الصارف عن الظاهر: بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد).
3 - وان كان الغرض - كما قيل في توجيه كلامه أيضا - انه لما كان من الجائز عقلا ان يعتمد المتكلم الحكيم على قرينة غير معهودة ولا معروفة الا لدى من قصد إفهامه، فهو احتمال لا ينفيه العقل، لأنه لا يقبح من الحكيم ولا يلزم نقض غرضه إذا نصب قرينة تخفى على غير المقصودين بالإفهام. ومثل هذه القرينة الخفية على تقدير وجودها لا يتوقع من غير المقصود بالإفهام ان يعثر عليها بعد الفحص. فهو كلام صحيح في نفسه الا انه غير مرتبط بما نحن فيه، أي لا يضر بحجية الظهور ببناء العقلاء.
وتوضيح ذلك: ان الذي يقوم حجية الظهور هو نفي احتمال القرينة ببناء العقلاء لا نفي احتمالها بحكم العقل، ولا ملازمة بينهما، أي انه إذا كان احتمال القرينة لا ينفيه العقل فلا يلزم منه عدم نفيه ببناء العقلاء النافع في حجية الظهور. بل الأمر أكثر من ان يقال انه لا ملازمة بينهما، فان الظهور لا يكون ظهورا الا إذا كان هناك احتمال للقرينة غير منفي بحكم العقل، وإلا لو كان احتمالها منفيا بحكم العقل كان الكلام نصا لا ظاهرا. وعلى نحو العموم نقول: لا يكون الكلام ظاهرا ليس بنص قطعي في المقصود الا إذا كان مقترنا باحتمال عقلي أو احتمالات عقلية غير مستحيلة التحقق، مثل احتمال خطأ المتكلم، أو غفلته، أو تعمده للأيهام لحكمة، أو نصبه لقرينة تخفى على الغير أو لا تخفى. ثم لا يكون الظاهر حجة الا إذا كان البناء العملي من العقلاء على إلغاء مثل هذه الاحتمالات، أي عدم الاعتناء بها في مقام العمل بالظاهر. وعليه فالنفي الادعائي العملي للاحتمالات هو المقوم لحجية الظهور، لا نفي الاحتمالات عقلا من جهة استحالة تحقق المحتمل، فانه إذا كانت الاحتمالات مستحيلة التحقق لا تكون محتملات ويكون الكلام حينئذ نصا لا نحتاج في الأخذ به إلى فرض بناء العقلاء على إلغاء الاحتمالات. وإذا اتضح ذلك نستطيع ان نعرف ان هذا التوجيه المذكور للقول بالتفصيل في حجية الظهور لا وجه له، فانه أكثر ما يثبت به ان نصب القرينة الخفية بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه أمر محتمل غير مستحيل التحقق، لأنه لا يقبح من الحكيم ان يصنع مثل ذلك، فالقرينة محتملة عقلا. ولكن هذا لا يمنع من ان يكون البناء العملي من العقلاء على إلغاء مثل هذا الاحتمال، سواء أمكن ان يعثر على هذه القرينة بعد الفحص - لو كانت - أو لا يمكن.
4 - ثم على تقدير تسليم الفرق في حجية الظهور بين المقصودين بالإفهام وبين غيره، فالشأن كل الشأن في انطباق ذلك على واقعنا بالنسبة إلى الكتاب العزيز والسنة: أما (الكتاب العزيز) فانه من المعلوم لنا ان التكاليف التي يتضمنها عامة لجميع المكلفين ولا اختصاص لها بالمشافهين. وبمقتضى عمومها يجب الا تقترن بقرائن تخفى على غير المشافهين. بل لا شك في ان المشافهين ليسوا وحدهم المقصودين بالإفهام بخطابات القرآن الكريم. وأما (السنة)، فان الأحاديث الحاكية لها على الأكثر تتضمن تكاليف عامة لجميع المكلفين أو المقصود بها إفهام الجميع حتى غير المشافهين، وقلما يقصد بها إفهام خصوص المشافهين في بعض الجوابات على أسئلة خاصة. وإذا قصد ذلك فان التكليف فيها لا بد ان يعم غير السائل بقاعدة الاشتراك. ومقتضى الأمانة في النقل وعدم الخيانة من الراوي المفروض فيه ذلك ان ينبه على كل قرينة دخيلة في الظهور، ومع عدم بيانها منه يحكم بعدمها.
5 - حجية ظواهر الكتاب: نسب إلى جماعة من الأخباريين القول بعدم حجية ظواهر الكتاب العزيز، وأكدوا: انه لا يجوز العمل بها من دون ان يرد بيان وتفسير لها من طريق آل البيت عليهم السلام.
أقول: ان القائلين بحجية ظواهر الكتاب:
1 - لا يقصدون حجية كل ما في الكتاب، وفيه آيات محكمات وأخر متشابهات. بل المتشابهات لا يجوز تفسيرها بالرأي. ولكن التمييز بين المحكم والمتشابه ليس بالأمر العسير على الباحث المتدبر، إذا كان هذا ما يمنع من الأخذ بالظواهر التي هي من نوع المحكم.
2 - لا يقصدون - أيضا - بالعمل بالمحكم من آياته جواز التسرع بالعمل به من دون فحص كامل عن كل ما يصلح لصرفه عن الظهور في الكتاب والسنة من نحو الناسخ والمخصص والمقيد وقرينة المجاز..
3 - لا يقصدون - أيضا - انه يصح لكل أحد ان يأخذ بظواهره وان لم تكن له سابقة معرفة وعلم ودراسة لكل ما يتعلق بمضمون آياته. فالعامي وشبه العامي ليس له ان يدعي فهم ظواهر الكتاب والأخذ بها. وهذا أمر لا اختصاص له بالقرآن، بل هذا شأن كل كلام يتضمن المعارف العالية والأمور العلمية وهو يتوخى الدقة في التعبير.
ألا ترى أن لكل علم أهلا يرجع إليهم في فهم مقاصد كتب ذلك العلم، وإن له أصحابا يؤخذ منهم آراء ما فيه من مؤلفات. مع ان هذه الكتب والمؤلفات لها ظواهر تجري على قوانين الكلام وأصول اللغة، وسنن أهل المحاورة هي حجة على المخاطبين بها وهي حجة على مؤلفيها، ولكن لا يكفي للعامي ان يرجع إليها ليكون عالما بها أو يحتج بها أو يحتج بها عليه بغير تلمذة على أحد أهلها، ولو فعل ذلك هل تراه لا يؤنب على ذلك ولا يلام. وكل ذلك لا يسقط ظواهرها عن كونها حجة في نفسها، ولا يخرجها عن كونها ظواهر يصح الاحتجاج بها. وعلى هذا، فالقرآن الكريم إذ نقول انه حجة على العباد، فليس معنى ذلك ان ظواهره كلها هي حجة بالنسبة إلى كل أحد حتى بالنسبة إلى من لم يتزود بشيء من العلم والمعرفة.
وحينئذ نقول لمن ينكر حجية ظواهر الكتاب: ماذا تعني من هذا الإنكار؟
1 - ان كنت تعني هذا المعنى الذي تقدم ذكره، وهو عدم جواز التسرع بالأخذ بها من دون فحص عما يصلح لصرفها عن ظواهرها وعدم جواز التسرع بالأخذ بها من كل أحد - فهو كلام صحيح. وهو أمر طبيعي في كل كلام عال رفيع، وفي كل مؤلف في المعارف العالية. ولكن قلنا: انه ليس معنى ذلك ان ظواهره مطلقا ليست بحجة بالنسبة إلى كل أحد.
2 - وإن كنت تعني الجمود على خصوص ما ورد من آل البيت عليهم السلام، على وجه لا يجوز التعرض لظواهر القرآن والأخذ بها مطلقا فيما لم يرد فيه بيان من قبلهم، حتى بالنسبة إلى من يستطيع فهمه من العارفين بمواقع الكلام وأساليبه ومقتضيات الأحوال، مع الفحص عن كل ما يصلح للقرينة أو ما يصلح لنسخه - فإنه أمر لا يثبته ما ذكروه له من أدلة. كيف، وقد ورد عنهم عليهم السلام إرجاع الناس إلى القرآن الكريم، مثل ما ورد من الأمر بعرض الأخبار المتعارضة عليه، بل ورد عنهم ما هو أعظم من ذلك وهو عرض كل ما ورد عنهم على القرآن الكريم، كما ورد عنهم الأمر برد الشروط المخالفة للكتاب في أبواب العقود، ووردت عنهم أخبار خاصة دالة على جواز التمسك بظواهره نحو قوله عليه السلام لزرارة لما قال له: (من أين علمت ان المسح ببعض الرأس؟) فقال عليه السلام : (لمكان الباء) ويقصد الباء من قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم). فعرف زرارة كيف يستفيد الحكم من ظاهر الكتاب. ثم إذا كان يجب الجمود على ما ورد من أخبار بيت العصمة فإن معنى ذلك هو الأخذ بظواهر أقوالهم لا بظواهر الكتاب. وحينئذ ننقل الكلام إلى نفس أخبارهم حتى فيما يتعلق منها بتفسير الكتاب، فنقول: هل يكفي لكل أحد ان يرجع إلى ظواهرها من دون تدبر وبصيرة ومعرفة، ومن دون فحص عن القرائن وإطلاع على كل ما دخل في مضامينها؟ بل هذه الأخبار لا تقل من هذه الجهة عن ظواهر الكتاب، بل الأمر فيها أعظم لان سندها يحتاج إلى تصحيح وتنقيح وفحص، ولان جملة منها منقول بالمعنى، وما ينقل بالمعنى لا يحرز فيه نص ألفاظ المعصوم وتعبيره ولا مراداته.
ولا يحرز في أكثرها أن النقل كان لنص الألفاظ.
واما ما ورد من النهي عن التفسير بالرأي، مثل النبوي المشهور: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) - فالجواب عنه ان التفسير غير الأخذ بالظاهر والأخذ بالظاهر لا يسمى تفسيرا. على ان مقتضى الجمع بينها وبين تلك الأخبار المجوزة للأخذ بالكتاب والرجوع إليه حمل التفسير بالرأي - إذا سلمنا انه يشمل الأخذ بالظاهر - على معنى التسرع بالأخذ به بالاجتهادات الشخصية من دون فحص ومن دون سابق معرفة وتأمل ودراسة كما يعطيه التعليل في بعضها بان فيه ناسخا ومنسوخا، وعاما وخاصا. مع انه في الكتاب العزيز من المقاصد العالية ما لا ينالها الا أهل الذكر، وفيه ما يقصر عن الوصول إلى إدراكه أكثر الناس. ولا يزال تنكشف له من الأسرار ما كان خافيا على المفسرين كلما تقدمت العلوم والمعارف مما يوجب الدهشة ويحقق إعجازه من هذه الناحية. والتحقيق ان في الكتاب العزيز جهات كثيرة من الظهور تختلف ظهورا وخفاء، وليست ظواهره من هذه الناحية على نسق واحد بالنسبة إلى أكثر الناس، وكذلك كل كلام، ولا يخرج الكلام بذلك عن كونه ظاهرا يصلح للاحتجاج به عند أهله. بل قد تكون الآية الواحدة لها ظهور من جهة لا يخفى على كل أحد، وظهور آخر يحتاج إلى تأمل وبصيرة فيخفى على كثير من الناس. ولنضرب لذلك مثلا قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، فان هذه الآية الكريمة ظاهرة في أن الله تعالى قد أنعم على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله )بإعطائه الكوثر. وهذا الظهور بهذا المقدار لا شك فيه لكل أحد. ولكن ليس كل الناس فهموا المراد من (الكوثر) فقيل: المراد به نهر في الجنة وقيل: المراد القرآن والنبوة.
وقيل: المراد به ابنته فاطمة عليها السلام. وقيل غير ذلك. ولكن من يدقق في السورة يجد ان فيها قرينة على المراد منه، وهي الآية التي بعدها {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] و الأبتر: الذي لا عقب له، فإنه بمقتضى المقابلة يفهم منها ان المراد الأنعام عليه بكثرة العقب والذرية. وكلمة (الكوثر) لا تأبى عن ذلك، فان (فوعل) تأتي للمبالغة، فيراد بها المبالغة في الكثرة، والكثرة: نماء العدد. فيكون المعنى: إنا أعطيناك الكثير من الذرية والنسل. وبعد هذه المقارنة ووضوح معنى الكوثر يكون للآية ظهور يصح الاحتجاج به ولكنه ظهور بعد التأمل والتبصر. وحينئذ ينكشف صحة تفسير كلمة (الكوثر) بفاطمة لانحصار ذريته الكثيرة من طريقها، لا على ان تكون الكلمة من أسمائها.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|