أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-8-2016
![]()
التاريخ: 13-6-2020
![]()
التاريخ: 31-8-2016
![]()
التاريخ: 5-8-2016
![]() |
هل الأوامر والنواهي تتعلّق بالأفراد أو الطبائع ؟
تحرير محلّ النزاع :
لا يخفى : أنّ كلماتهم في تحرير محلّ النزاع مختلفة جدّاً :
فيظهر من بعضها أنّ النزاع في تعلّقها بالفرد الخارجي الذي هو منشأ انتزاع الصور الذهنية أو بالطبائع بما هي هي ، مع قطع النظر عن الوجودين(1) .
ويردّه : أنّ الضرورة تقضي بامتناع كون الفرد الخارجي معروضاً للوجوب ; لأنّه ظرف السقوط بوجه لا العروض ، فبعيد جدّاً أن يقع النزاع في شيء أحد شقّيه باطل بالضرورة .
كما يظهر من بعض آخر : أنّ المسألة لغوية ، والنزاع في مفاد مادّة الأمر والنهي ، وأنّها وضعت للعناوين الكلّية أو لأفرادها ، وتشبّث في ذلك بالتبادر(2) .
وفيه : أنّ ذلك إعادة بلا عائدة ; إذ البحث عنه قد تقدّم مستوفى في فصل المشتقّ(3) ، على أ نّه نقل عن السكّاكي الإجماع على أنّ المصادر الخالية عن اللام والتنوين موضوعة للطبيعة اللابشرط(4) .
والعجب من بعضهم ; حيث أبدى قولاً ثالثاً فقال : إنّ النزاع مبني على النزاع المعروف في الفلسفة بأنّ الأصيل هو الوجود أو الماهية ، أو على نزاع آخر ; وهو أنّ الطبيعي هل له وجود في الخارج أو لا ، فالمسألة عقلية محضة أو مبتنية عليها(5) .
وفيه : أنّ البحث في المقام إنّما هو في الأوامر المتوجّهة إلى العرف ، المستبعدين عن المعارف والتحقيقات العلمية ، فابتناء البحث العرفي على المسائل الدقيقة بمراحل عن الواقع .
وهناك رأي رابع ; وهو أنّ البحث في سراية الإرادة إلى الخصوصيات اللاحقة بالطبيعة في الخارج وعدمها ; معلّلاً بأنّ الطبيعة في الخارج تلحقه قيود وتتعيّن بحدود لا مناص لها عنها ، فالبحث إنّما هو في أنّ الواجب هل هو نفس الطبيعة ، أو هي مع كلّيات القيود ; من الزمان والمكان(6) .
وفيه : أنّ هناك ليس ميزاناً يعيّن ذلك ; إذ لو كان الغرض قائماً بنفس الطبيعة فلا وجه لتعلّق الأمر بقيودها ، وإن كان قائماً بإضافتها إلى الحدود الفردية فلا محالة تسرّي الإرادة إليها ، ويتعلّق الأمر بها .
ثمّ إنّ محطّ البحث ليس في تعلّقها بالكلّي الطبيعي أو أفراده بما هو المصطلح في المنطق ; فإنّ الماهيات الاعتبارية ـ كالصلاة والحجّ ـ ليست من الكلّيات الطبيعية ولا مصاديقها مصاديق الكلّي الطبيعي ; فإنّ الماهيات المخترعة وكذا أفرادها ليست موجودة في الخارج ; لأنّ المركّب الاختراعي ـ كالصلاة والحجّ ـ لم يكن تحت مقولة واحدة ، ولا يكون لمجموع الاُمور وجود حقيقي حتّى يكون مصداقاً لكلّي طبيعي . بل المراد من الطبيعي هنا هو العنوان الكلّي ; سواء كان من الطبائع الأصيلة أم لا .
ولا يختصّ البحث بصيغة الأمر والنهي ، بل يعمّ متعلّق مطلق الطلب والزجر بأيّ دالّ ; ولو بالإشارة أو بالجملة الإخبارية في مقام الإنشاء .
والذي يصلح لأن يقع محطّ البحث ، ويظهره النظر في كثير من مقالاتهم : هو أنّ الأمر إذا تعلّق بماهية بالمعنى المتقدّم هل يسري إلى الأفراد والمصاديق المتصوّرة بنحو الإجمال منها ; بحيث تكون الطبيعة وسيلة إلى تعلّقه بالمصاديق الملحوظة بنحو الإجمال ، لا بقيد كون الأفراد ملحوظة ومتصوّرة ، بل نفس ذات الأفراد ، كما في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ .
فيكون معنى «صلّ» أوجد فرد الصلاة ومصداقها ، لا بمعنى أنّ الواجب هو الفرد الخارجي أو الذهني بما هو كذلك ، بل ذات الفرد المتصوّر إجمالاً ; فإنّ الأفراد قابلة للتصوّر إجمالاً قبل وجودها ، كما أنّ الطبيعة قابلة للتصوّر كذلك .
إذا عرفت ذلك فنقول : الحقّ أنّ متعلّق الحكم ـ بعثاً كان أو زجراً ـ هو نفس الكلّي والعنوان بما هو هو ، مع قطع النظر عن الوجودين والنشأتين ، لا مقيّداً بالوجود الذهني ـ كما هو واضح ـ ولا بلحاظ اتّحاده مع المعنون في الخارج ـ كما جنح إليه بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ (7) إذ لحاظ الاتّحاد مرتبة حصول وجود المأمور به وحصول الغرض ، فلا معنى للحاظه عند البعث ، بل المأمور به هو نفس الكلّي وذات العنوان الذي إذا وجد في الخارج يصير منشأً للآثار .
والوجه في ذلك : أنّ البعث الحقيقي لا يمكن أن يتعلّق بما هو أوسع أو أضيق ممّا هو دخيل في الغرض ; للزوم تعلّق الإرادة والشوق بغير المقصود أو به مع الزيادة جزافاً .
فإذا لم يكن للخصوصيات الفردية دخالة في غرض الآمر فلا يعقل البعث نحوها ـ ولو إلى العنوان الكلّي من الخصوصيات ـ لأنّ البعث تابع للإرادة التشريعيـة التابعة للمصالح ، وتعلّقها بما لا دخل له في تحصيلها ممتنع ، كتعلّقها ابتداءً بأمر بلا غاية .
وتوهّم تعلّقها بها تبعاً لما هو من ملازمات المراد باطل ; لأ نّه مع خروجه من محطّ البحث ـ لأنّ الكلام ليس في استلزام إرادة لإرادة اُخرى كباب المقدّمة ، بل في متعلّق الأمر ـ قد فرغنا من بطلانه(8) .
فإن قلت : إنّ الطبيعة بما هي هي غير محبوبة ولا مبغوضة ولا متعلّقة للأمر والنهي ; إذ ليست إلاّ هي من حيث إنّها هي ، كما هو المراد من التعبير المعروف بتأخير قيد الحيثية عن السلب ، فكيف يتعلّق به الطلب ويعرض عليها الوجوب ؟ إن هذا إلاّ شيء عجاب .
قلت : معنى الكلمة الدارجة بين الأكابر هو أنّ الوجود والعدم والحبّ والبغض وغيرها ليس عين الطبيعي ولا جزئه ، بل هو في حدّ الذات خال عن هاتيك القيود عامّة ، وهذا لا ينافي أن يعرض عليها الوجود والعدم ، ويتعلّق بها الأمر والنهي .
وإن شئت قلت : إنّ سلب هذه المفاهيم عنها سلب بالحمل الأوّلي ; فإنّ مرتبة الماهية مرتبة حدّ الشيء ، ولا يعقل في هذه المرتبة أن يوجد فيها الوجود والعدم ، وإلاّ يصير الوجود أو العدم جزء المفهوم أو عينه ، ويكون واجب الوجود أو ممتنعه بالذات ; إذ البحث عن ذاتيات الشيء وما به الشيء هو هو ، ولا يعقل أن يكون الوجود جزء ماهية الممكن أو عينه ، وإلاّ لزم الانقلاب . نعم يعرضها الوجود والعدم ، وينطبق كلّ واحد عليها انطباقاً بالحمل الشائع العرضي . وقس عليهما إمكان تعلّق الأمر والنهي .
ولا يلزم من تعلّقهما عليها أن تكون هي منشأ للآثار ومحبوبة ومبغوضة ، بل المولى لمّا رأى أنّ الطبيعة في الوجود الخارجي منشأ للأثر المطلوب فلا محالة يبعث العبد إليها حتّى ينبعث ويوجدها خارجاً بالأمر ، فالأمر متعلّق بالطبيعة ; لغرض انبعاث العبد وصيرورتها من الليس إلى الأيس ، فتعلّق الأمر بالطبيعة طريق إلى حصول المطلوب والمحبوب ، وسيأتي توضيحه .
فتحصّل ممّا مرّ : أنّ الطبيعة ـ أيّة طبيعة كانت ـ لا يعقل أن تكون مرآة لشيء من الخصوصيات الفردية اللاحقة لها في الخارج ، وقد تقدّم أنّ مجرّد اتّحادها معها لا يوجب الكشف والدلالة ، فلا تكون نفس تصوّر الماهية كافية في تصوّر الخصوصيات ، فلابدّ للآمر أن يتصوّرها مستقلاًّ بعنوانها أو بعنوان غير عنوان الطبيعي ; ولو بالانتقال من الطبيعي إليها ، ثمّ ينقدح إرادة اُخرى متعلّقة بها مستقلاًّ غير الإرادة المتعلّقة بنفس الطبيعة ، أو يتّسع الإرادة الاُولى من جهة المتعلّق ، وتتعلّق بوحدتها على الطبيعة مع الخصوصيات الفردية . ولكن الإرادة الثانية أو توسّع الإرادة الاُولى جزاف محض ; لأنّ الغرض قائم بنفس العنوان لا مع قيوده ، فتدبّر .
وبتقريب آخر : أنّ تصوّر الأفراد غير تصوّر الطبيعة ; لأنّ القوّة التي تدرك الأفراد غير القوّة التي تدرك الطبيعي ; لأنّ تصوّر الخاصّ الجزئي من شؤون القوى النازلة للنفس ، وتعقّل الطبيعة من شؤون القوى العاقلة ، بعد تجريد الخصوصيات . فربّما يتصوّر الأفراد مع الغفلة عن نفس الطبيعة وبالعكس .
فالآمر إذا أراد أن يوجّه الأمر إلى الطبيعة فلابدّ من لحاظها في نفسها ، وإذا أراد الأمر بالأفراد لابدّ من لحاظها إمّا بعنوان عامّ إجمالي ; وهو مباين لعنوان الطبيعة في العقل ، وإمّا بلحاظ الأفراد تفصيلاً لو أمكن إحضار الأفراد الكثيرة تفصيلاً في الذهن ، ولكن لحاظها تفصيلاً غير لحاظ الطبيعة أيضاً .
وحينئذ لو فرض أنّ ذات الطبيعة يترتّب عليها الأثر في الوجود الخارجي فلابدّ للآمر من تصوّرها وتصوّر البعث إليها وإرادته ، ففي هذا اللحاظ لا يكون الأفراد ملحوظة ; لا إجمالاً ولا تفصيلاً ولا ملازمة بين اللحاظين ، وصرف اتّحاد الخصوصيات الخارجية مع الطبيعة خارجاً لا يوجب الملازمة العقلية ، فلابدّ في تعلّق الأمر بها من لحاظ مستأنف وإرادة مستأنفة ، ولكن مع ذلك يكون كلّ من البعث والإرادة جزافياً بلا غاية ، فتدبّر .
تنبيه : فيما وضعت له هيئة البعث :
لا شكّ في أنّ الغرض من البعث إلى الطبيعة هو إيجادها وجعلها من الأعيان الخارجية ; ضرورة أنّ الطبيعة لا تسمن ولا تغني ، بل لا تكون طبيعة حقيقة مالم تتلبّس بالوجود .
ولكن الكلام إنّما هو في أنّ هيئة البعث هل وضعت لطلب الإيجاد والوجود ، أو أ نّها وضعت لنفس البعث إلى الطبيعة ؟ إلاّ أنّ البعث إليها لمّا كان ممّا لا محصّل له قدّر فيه الوجود أو الإيجاد ، أو أنّ البعث إليها يلزمه عرفاً تحصيلها وإيجادها ، من دون تشبّث بإدخال الوجود فيه بنحو الوضع له ، أو تقديره في المستعمل فيه ، وجوه : أقواها الأخير .
والسرّ فيه : هو أنّ العرف لمّا أدرك أنّ الطبيعة لا يمكن نيلها وتحصيلها بنفسها ; عارية عن لباس الوجود يتوجّه من ذلك إلى أنّ البعث إليها بعث إلى إيجادها حقيقة .
وإن شئت قلت : إنّ الطبيعة لا تكون طبيعة حقيقة بالحمل الشائع إلاّ بإيجادها خارجاً ; لأنّ الطبيعة بما هي هي ليست بشيء وفي الوجود الذهني ليست نفس الطبيعي بما هي هي . وحينئذ ينتقل بارتكازه إلى أنّ إطاعة التحريك والبعث نحوها لا تحصل إلاّ بإيجادها خارجاً ، هذا كلّه ثبوتاً .
وأمّا في مقام الإثبات : فلما قدّمنا من تعيين مفاد الأمر هيئة ومادّة ، وأنّ الثانية موضوعة لنفس الطبيعة والاُولى موضوعة للبعث إليها بحكم التبادر .
ويشهد بذلك : أ نّه لا يفهم من مثل «أوجد الصلاة» إيجاد وجود الصلاة ، بل يفهم منه البعث إلى الإيجاد ، فتدبّر .
بحث وتفصيل : في كيفية تعلّق الأمر بالطبيعة
هل يتعلّق الأمر بنفس الماهية أو بما هي ملحوظة مرآة للخارج باللحاظ التصوّري وإن كان اللاحظ يقطع بخلافه بالنظر التصديقي ؟
قد يقال : إنّ محطّ البحث في تعلّق الأمر بالطبيعة هي الطبيعة على النحو الثاني ، وأمّا نفس الطبيعة فلا يعقل تعلّق الأمر بها ; لأنّها من حيث هي ليست إلاّ هي ; لا تكون مطلوبة ولا مأموراً بها ، فلابدّ أن تؤخذ الطبيعة بما هي مرآة للخارج باللحاظ التصوّري حتّى يمكن تعلّق الأمر بها(9) ، انتهى .
ولكن هذا ناش من الغفلة عن معنى قولهم : الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ; ولهذا زعم أنّ الماهية لا يمكن أن يتعلّق بها أمر .
وتوضيح ذلك : أنّ الماهية مرتبة ذات الشيء ، والأشياء كلّها ـ عدا ذات الشيء ـ منتفية عن مرتبة ذاته ، ولا يكون شيء منها عيناً لها ولا جزءً مقوّماً منها ; و إن كان كلّ ما ذكر يلحق بها ، ولكنّه خارج من ذاتها وذاتياتها ، وهذا لا ينافي لحوق شيء بها .
فالماهية وإن كانت من حيث هي ليست إلاّ هي ـ أي في مرتبة ذاتها لا تكون إلاّ نفس ذاتها ـ لكن تلحقها الوحدة والكثرة والوجود وغيرها من خارج ذاتها ، وكلّ ما يلحقها ليس عين ذاتها ولا ذاتياً لها بالمعنى المصطلح في باب إيساغوجي .
فالأمر إنّما يتعلّق بنفس الطبيعة من غير لحاظها متّحدة مع الخارج ، بل لمّا رأى المولى أنّ الماهية في الخارج منشأ الآثار ، من غير توجّه نوعاً إلى كون الآثار لوجودها أو لنفسها في الخارج فلا محالة يبعث المأمور إلى إيجادها وجعلها خارجية ، والمولى يرى أ نّها معدومة ويريد بالأمر إخراجها من العدم إلى الوجود بوسيلة المكلّف .
فلحاظ الاتّحاد التصوّري مع القطع بالخلاف تصديقاً ـ مع كونه لا محصّل له في نفسه ـ لا يفيد شيئاً . ومع الغفلة عن القطع بالخلاف مناف لتعلّق الأمر وتحريك المأمور نحو الإيجاد ; لأنّ لحاظ الاتّحاد التصوّري ظرف حصول المأمور به عند المولى ، فلا معنى لأن يتعلّق الأمر في هذا اللحاظ ، بل التحقيق المساعد للوجدان : أنّ الأمر متعلّق بنفس الطبيعة حين توجّه الآمر إلى معدوميتها ، والمولى يريد بالأمر سدّ باب أعدامها وإخراجها إلى الوجود بتوسّط المكلّف . على أنّ ما قدّمناه مراراً(10) من امتناع مرآتية الماهية للأفراد كاف في دفعه ، فتدبّر .
نقد وتحصيل : في المراد من وجود الطبيعي خارجاً:
إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا تعرف : أنّ تخيير المكلّف في إيجاد الطبيعة في ضمن أيّ فرد شاء تخيير عقلي لا شرعي ، كيف وقد عرفت أنّ انفهام الإيجاد من الأمر ليس لدلالة اللفظ عليه ، بل لانتقال العرف بعقله وفكره إلى أنّ الطبيعة لا تتحقّق إلاّ بالوجود ، من دون تنصيص من المولى عليه ، ومعه كيف يكون التخيير بين الإيجادات شرعياً ؟
وبالجملة : أنّ ما تعلّق به الطلب هو نفس الطبيعة ، ولكن العقل يدرك أنّ تفويض الطبيعة إليه لا يمكن إلاّ بالتمسّك بذيل الوجود ، ويرى أنّ كلّ فرد منها واف بغرضه ، فلا محالة يحكم بالتخيير بين الأفراد . وأمّا المولى فليس الصادر منه سوى البعث إلى الطبيعة تعييناً ، لا تخييراً.
نعم ، يظهر عن بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ كون التخيير شرعياً بين الحصص ، وحاصل ما أفاده بطوله : هو أ نّه إذا تعلّق الأمر بعنوان على نحو صرف الوجود فهل يسري إلى أفراده تبادلاً ، فتكون الأفراد بخصوصياتها تحت الطلب ، أو لا ؟
وعلى الثاني فهل يسري إلى الحصص المقارنة للأفراد ـ كما في الطبيعة السارية ـ أولا ، بل الطلب يقف على نفس الطبيعة ؟
قال : توضيح المراد يحتاج إلى مقدّمة ; وهي أنّ الطبيعي يتحصّص حسب أفراده ، وكلّ فرد منه مشتمل على حصّة منه مغايرة للحصّة الاُخرى باعتبار محدوديتها بالمشخّصات الفردية ، ولا ينافي ذلك اتّحاد تلك الحصص بحسب الذات ، وهذا معنى قولهم(11) : إنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأولاد ، وإنّ مع كلّ فرد حصّة من الطبيعي غير الآخر ، ويكون الآباء مع اختلافها بحسب المرتبة متّحدة ذاتاً .
ثمّ قال : التحقيق يقتضي وقوف الطلب على نفس الطبيعة ، وأقام عليه دليلين .
ثمّ قال : إنّ عدم سراية الطلب إلى الحصص إنّما هو بالقياس إلى الحيثية التي بها تمتاز الحصص الفردية بعضها عن البعض الآخر المشترك معه في الحقيقة النوعية .
وأمّا بالنسبة إلى الحيثية الاُخرى التي بها تشترك تلك الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر المشاركة لها في الجنس القريب ; وهي الحيثية التي بها قوام نوعيتها فلا بأس بدعوى السراية إليها ، بل لعلّه لا محيص عنها ; من جهة أنّ الحصص بالقياس إلى تلك الحيثية واشتمالها على مقوّمها العالي ليست إلاّ عين الطبيعي . ونتيجة ذلك كون التخيير بين الحصص شرعياً لا عقلياً .
إن قلت : إنّ الطلب تعلّق بالعناوين والصور الذهنية لا المعنونات الخارجية ، فيستحيل سرايته إلى الحصص الفردية ; حيث إنّها تباين الطبيعي ذهناً ; وإن كان كلّ من الحصص والطبيعي ملحوظاً بنحو المرآتية .
قلت : إنّ المدّعى هو تعلّق الطلب بالطبيعي بما هو مرآة للخارج ، ولا ريب في أنّ وجود الطبيعي في الخارج لا يمتاز عن وجود الحصص ، بل هو الجهة المشتركة الجامعة بين الحصص ، والمرئي بالطبيعي الملحوظ مرآة للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص ، وهذا مرادنا من سراية الطلب من الطبيعي إلى حصصه . بل التعبير بها مسامحي ; إذ بالنظر الدقّي يكون الطلب المتعلّق بالطبيعي الملحوظ مرآة للخارج متوجّهاً إلى الجهة الجامعة بين الحصص ، فمتعلّق الطلب في الحقيقة هي تلك الجهة الجامعة بعينها(12) ، انتهى .
أقول : الظاهر أ نّه أشار في تحقيق الكلّي الطبيعي إلى ما اشتهر بين تلامذته ـ قدس سره ـ ; نقلاً عنه من أنّ الحصص بالنسبة إلى الأفراد كالآباء والأولاد ، والطبيعي هو أب الآباء ، وهو الجهة المشتركة بين الحصص ، ويكون الطبيعي مرآة لهذه الجهة المشتركة الخارجية .
وزعم : أنّ المراد من قول بعض أهل المعقول : إنّ الطبيعي بالنسبـة إلى الأفراد كالآباء بالنسبة إلى الأولاد ، هو الحصص ، وأنّ هنا آباء ; هـي الحصص ، وأب الآباء ; وهو القدر المشترك بينها ، الذي يكون الطبيعي مرآة له ، غفلةً عـن أنّ ما ذكروا من أنّ نسبة الطبيعي إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأبناء إنّما هـو لأجل الفرار عن الأب الواحد الذي التزم به الرجل الهمداني ، الذي صادفه الشيخ في مدينـة همدان(13) ، وهذا المحقّق جمع بين الالتزام بمقالة الرجل الهمداني وبين ما هـو المشهور في ردّه(14) ; غفلةً عن حقيقة الحال .
ولمّا كان ذلك منشأ للخلط والاشتباه في مواضع كثيرة فلا بأس بالإشارة إلى ما هو المحقّق في محلّه :
فنقول : إنّ الطبيعي من الشيء هو حدّ الشيء وذاتية ومقوّمه ; بحيث يوضع بوضعه ويرتفع برفعه ، وهو حدّ الشيء بما هو حدّه ، لا معدوم ولا موجود ولا واحد ولا كثير ، بل هو في مرتبة فوق هذه الأوصاف والعوارض .
نعم ، قد يقع في مرتبة دونها مجالياً لهذه الأوصاف ، فيصير موجوداً وكثيراً ، لكن كلّ ذلك في مرتبة متأخّرة عن رتبة الطبيعي وذاته .
وبعبارة اُخرى : إنّ مأخذ الطبيعي والماهية المؤلّفة من الجنس والفصل هو الموجودات الخارجية بما أ نّها واقعة في صراط التكامل ومدارج الكمال ، والموجود إذا وقع في بعض المدارج يدرك منه مفهوم عامّ ، كالجسم يندرج تحته عدّة من الأشياء المشتركة مع هذا الموجود في هذا المفهوم ، ثمّ يدرك منه مفهوم آخر يميّز ذلك الموجود عن بقية الأشياء ، وهذان المفهومان بما هما أمران مفصّلان حدّ تفصيلي لذلك الموجود ، ويعبّر عنهما بالجنس والفصل ، والمفهوم البسيط الإجمالي المنتزع من هذين يسمّى نوعاً .
ثمّ إذا أدركه الكمال الآخر ودخل في مرتبة اُخرى وصار جسماً نامياً يدرك له جنس وفصل آخر ، فكلّما زاد الشيء في تكامله ومدارجه ينتزع في كلّ مرتبة مفهوم من ذاته ، مغاير مع ما كان ينتزع قبل الوصول إليها .
ثمّ إذا فرضنا موجوداً آخر مثل ذلك ; بحيث دخل في المدارج التي دخل فيها الموجود السابق ينتزع منه في كلّ مرتبة مثل ما ينتزع من الآخر ، وهكذا في الثالث والرابع . فحينئذ فالمراد من الطبيعي هو المفاهيم المنتزعة عن الشيء باعتبار درجاته ومراتبه . وعليه يتعدّد الطبيعي بتعدّد أفراده ; إذ ينال العقل من كلّ فرد مفهوماً مغايراً مع ما يناله من الآخر ، ولكن تغايراً بالعدد .
فإن قلت : يلزم على هذا أن يكون الطبيعي نفس الصور المنتزعة القائمة بالذهن ، ومع التقيّد بالوجود الذهني كيف يكون حدّاً للشيء الموجود في الخارج ؟
قلت : التعبير بالانتزاع وما أشبهه لأجل تقريب المطلب ، وإلاّ فهو بما أ نّه أمر منتزع موجود في وعاء الذهن من مراتب الوجود ، ولا يعقل أن يكون حدّاً للموجود ، بل الماهية هي الشيء الذي يراه الإنسان تارة موجوداً في الذهن ، واُخرى موجوداً في الخارج ، وثالثة غير موجود فيهما ، ولكن العلم لا يتعلّق بالماهية المجرّدة إلاّ بلحاظها في الذهن وتجريدها عن سائر الخصوصيات ، ومع ذلك لا تكون ماهية مجرّدة ، بل مختلطة بالوجود الذهني .
وبذلك يظهر : أنّ الماهية المحضة بلا شيء معه لا ينالها الإنسان ; إذ الطريق إليها إنّما هو التصوّر والإدراك الذهني ، وكلّما تصوّرتها فهو ينصبغ بالوجود ، وكلّما جرّدتها فقد أخليتها .
وأمّا جعلها حـدّاً للشيء فإنّما هـو لأجل الغفلة عـن الوجـود الذهني وتحصّله فيه . فحينئذ إذا كان معنى الطبيعي هو المفهوم الذي ينتزعه الذهن من الشيء بحسب مواقفـه أو ما يراه النفس موجـوداً في الخارج تارة وفي الذهن اُخـرى ، فلا محالـة لـو فرض حصول مصداق ـ كزيد مثلاً ـ لهـذا الطبيعي في الخارج فقد وجد الطبيعي فيه بتمام شؤونه ، ولو فرض حصول مصداق ثان ـ كخالد ـ فقد وجد فيه الطبيعي بتمام أجزائه أيضاً ، وهكذا لو فرض ثالث .
فهاهنا أفراد وإنسانات بحسب عدد الأفراد ويتكثّر بتكثّرها ; فزيد إنسان تامّ ، وخالد إنسان تامّ آخر ، وهكذا الثالث ، لا أ نّه حصّة من الإنسان أو جزء منه حتّى يصير كلّ واحد من الأفراد ناقصاً في الإنسانية ، ويكون الإنسان التامّ شيئاً قائماً مع هذه الأفراد ، كما زعمه الرجل الهمداني .
نعم ، إنسانية زيد غير إنسانية خالد في الخارج ، وطبيعي الأوّل غير طبيعي الثاني ; تغايراً بالعدد ، ولكن العقل إذا جرّد إنسانية هذا وذاك عن العوارض المفردة ينال من الجميع شيئاً واحداً بالنوع ; لارتفاع الميز ، وهذا لا ينافي تعدّده وتكثّره في الخارج ، وسيجيء نصّ الشيخ الرئيس على ما ذكرنا(15) .
وإن شئت قلت : إنّ الطبيعي موجود في الخارج لا بنعت الوحدة النوعية ولا بوصف الجامعية ، بل العموم والاشتراك لاحقٌ به في موطن الذهن ، والجهة المشتركة ليس لها موطن إلاّ العقل ، والخارج موطن الكثرة ، والطبيعي موجود في الخارج بوجودات متكثّرة ، وهو متكثّر حسب تكثّر الأفراد والوجودات ، لا بمعنى تحصّصه بحصص ; فإنّه لا محصّل له ، بل بمعنى أنّ كلّ فرد متّحد في الخارج مع الطبيعي بتمام ذاته ; لأنّ ذاته غير مرهونة بالوحدة والكثرة ، فهو مع الكثير كثير .
فزيد إنسان لا حصّة منه ، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخرى منه وهكذا ، وإلاّ لزم كون زيد بعض الإنسان وعمرو كذلك ، وهو ضروري الفساد .
ومنه يتّضح : أنّ الجهة المشتركة بنعت الاشتراك ليست موجودة في الخارج ، وإلاّ لزم أن يكون موجوداً بنعت الوحدة ; لأنّ الوجود مساوق للوحدة ، فيلزم إمّا وحدة جميع الأفراد وجوداً وماهية أو كون الواحد كثيراً ، وكون كلّ فرد موجوداً بوجودين : أحدهما بحيثية الجهة المشتركة ، فيكون كلّ الأفراد واحداً في الوجود الخارجي من هذه الحيثية ، وثانيهما وجوده بالحيثية الممتازة مع قُرنائه .
وهذا ـ أي كون الإنسان غير موجود بنعت الوحدة والاشتراك ، بل بنعت الكثرة المحضة ـ مراد من قال : إنّ الطبيعي مع الأفراد كالآباء مع الأولاد ، لا الأب مع الأبناء ، وهذا خلاصة ما عليه الأكابر .
وأمّا الرجل الهمداني فزعم : أنّ معنى وجود الطبيعي في الأعيان هو أنّ ذاتاً واحدة بعينها مقارنة لكلّ واحد من المقارنات المختلفة ، موجودة بنعت الوحدة في الخارج ، وأنّ ما به الاشتراك الذاتي بين الأفراد متحقّق خارجاً .
وكأنّه توهّم من قولهم : إنّ الأشخاص مشترك في حقيقة واحدة ; وهي الطبيعي ، ومن قولهم : إنّ الكلّي الطبيعي موجود في الخارج أنّ مقصود القوم هو موجودية الجهة المشتركة بما هي كذلك في الخارج ; قائلاً : هل بلغ من عقل الإنسان أن يظنّ أنّ هذا موضع خلاف بين الحكماء؟
وما ذكره هذا الرجل هو معنى كون الطبيعي كأب واحد بالنسبة إلى الأبناء ; أي يكون الطبيعي بنعت الوحـدة والاشتراك موجـوداً في الخارج ، وفي مقابله مقالـة المحقّقين من أنّ نسبـة الطبيعي إلى الأفـراد كالآباء إلى الأولاد ، وأنّ الطبيعـي موجـود في الخارج بنعت الكثرة المحضة ، وأنّ الوحدة والاشتراك تعرضان عليه في موطن الذهن ، والجهة المشتركة لا موطن لها إلاّ العقل ، وأنّ الخارج موطن الكثرة ، والطبيعي موجـود في الخارج متكثّر بتكثّر الأفـراد ، لا بمعنى تحصّصه بحصص ، وأنّ الموجود مع كلّ فرد حصّة منه لا نفسه ; فإنّه لا يرجع إلى محصّل ، بل بمعنى أنّ كلّ فرد في الخارج هو الطبيعي بتمام ذاته ; لأنّ ذاته غير مرهونة بالوحدة والكثرة ، فهو مع الكثير كثير ، ومع الواحد واحد .
فزيد إنسان لا حصّة منه ، وعمرو إنسان آخر لا حصّة اُخرى ، ففي الخارج اُناس كثيرة حسب كثرة الأفراد لا إنسان واحد معها ، وإلاّ لزم أن تكون الجهة المشتركة موجودة بنعت الوحدة ; لأنّ الوجود يساوق الوحدة ، فلزم وحدة جميع الأفراد خارجاً ; وجوداً وماهية بالوحدة الشخصية العينية .
وهذا المحقّق الاُصولي لمّا لم يصل إلى مغزى مرام المحقّقين جمع بين الآباء والأب ، فجعل للأفراد آباء وجدّاً ; وهو أب الآباء . ولهذا تراه صرّح ـ في جواب إن قلت ـ بأنّ وجود الطبيعي في الخارج هو الجهة المشتركة ، وأنّ المرئي بالطبيعي الملحوظ مرآة للخارج ليس إلاّ تلك الجهة الجامعة بين الحصص . وهذا بعينه قول الرجل الهمداني الذي أفرد شيخ المشائيين رسالة لردّه وقد نقل بعض الأكابر نصّ الشيخ بأنّ الإنسانية الموجودة كثيرة بالعدد ، وليست ذاتاً واحدة ، وكذلك الحيوانية ، لا أ نّها كثيرة باعتبار إضافات مختلفة ، بل ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ زيد هي غير ذات الإنسانية المقارنة لخواصّ عمرو ، فيهما إنسانيتان : إنسانية قارنت خواصّ زيد ، وإنسانية قارنت خواصّ عمرو ، لا غيرية باعتبار المقارنة حتّى تكون حيوانية واحدة تقارن المتقابلات من الفصول . وهذه العبارة ـ كما ترى ـ نصّ على خلاف ما زعمه ذلك المحقّق ، مع أنّ البرهان قائم على خلافه .
ثمّ إنّه ربّما يؤيّد مذهب الرجل الهمداني بوجهين ، وربّما يتمسّك بهما المحقّق المزبور ، وقدّمنا كلمة منه ـ رحمه الله ـ في مبحث الوضع :
الأوّل : أ نّه يمتنع انتزاع مفهوم واحد من الأفراد بلا جامع اشتراكي في الخارج ; إذ الكثير بما هو كثير لا يمكن أن يقع منشأً لانتزاع الواحد ، فلابدّ من جهة جامعة خارجية بنعت الوحدة حتّى يكون الطبيعي مرآة لها ومنتزعاً منها .
وفيه : أنّ وحدة الطبيعي ليست وحدة عددية بل وحدة نوعية ، وظرف عروضها إنّما هو الذهن ; إذ النفس بواسطة القوى النازلة ينال من كلّ فرد إنسانية مغايرة لما يناله من الآخر ، ولكن إذا جرّدها عن الخصوصيات الفردية ينعدم التعدّد قهراً بانعدام ميزهما ، فيصير مفهوماً واحداً . والمتوهّم تخيّل : أنّ الذهن ينال المفهوم الواحد من الخارج ، وصار بصدد تصحيح منشئه .
أضف إليه : أنّ الطبيعي ليس من الانتزاعيات ، بل من الماهيات المتأصّلة الموجودة في الخارج تبعاً للوجود تحقّقاً وتكثّراً ، وأنّ معنى موجوديتها موجوديتها ذاتاً تبعاً للوجود ، لا موجودية منشأ انتزاعها ، وأنّ كثرة الوجود منشأ تكثّرها خارجاً ; لأنّها بذاتها لا كثيرة ولا واحدة .
فالكثرة تعرضها خارجاً بمعنى صيرورة ذاتها كثيرة بتبع الوجود خارجاً ، والوحدة تعرضها في العقل عند تجريدها عن كافّة اللواحق . وما سبق منّا من التعبير بلفظ الانتزاع فلأجل التسهيل .
والحاصل : أنّ الانتزاع هنا ـ على فرض صحّته ـ ليس إلاّ عبارة عن إدراك النفس من كلّ فرد بعد تجريده عن المميّزات ما تدرك من فرد آخر ، فإذا جرّدت النفس خصوصيات زيد تدرك منه معنى الإنسان ـ أي طبيعية ـ من غير اتّصافه بنعت الوحدة المشتركة النوعية ، وكذا إذا جرّدت خصوصيات عمرو تنال منه ما تنال من زيد بلا تفاوت .
ثمّ إذا لاحظت أنّ ما أدركته مكرّراً مشترك بين الأفراد تحكم بأ نّه الجهة المشتركة . فالوحدة تعرضه في العقل عند التحليل والتجزئة . ولكن لا يغرّنك لفظ العروض بمعناه المعهود ، والتحقيق موكول إلى مظانّه .
الثاني : أنّا نرى كثيراً في الفواعل الطبيعية من استناد الواحد إلى الكثير ، كتأثير بندقتين في قتل شخص ، وتأثير النار والشمس في حرارة الماء ، وتأثير قوى أشخاص في تحريك حجر عظيم، وغير ذلك من الأمثلة ، فإمّا أن يستند المعلول إلى كلّ واحد مستقلاّ ، لزم صدور الواحد عن الكثير ، أو إلى المجموع ; وهو ليس موجوداً عدا وجود الأفراد ، فلا مناص ـ حفظاً لانخرام قاعدة الواحد المبرهن عليها في محلّها(16) ـ من القول بوجود جامع في الخارج بنعت الوحدة، وهو الذي يؤثّر في إيجاد هذه المعاليل .
والجواب : أنّ التمسّك بقاعدة الواحد في هذا المقام غفلة عن مغزى القاعدة ; إذ قاعدة الواحد لو تمّت لكان مجراها ـ كما هو مقتضى برهانها ـ هو الواحد البحت البسيط الذي ليس فيه تركيب ولا شائبته ، دون غيره ممّا فيه التركيب والأثنينية ، وما ذكر من الأمثلة خارج من مصبّ القاعدة .
على أنّ فيها ليس أمر واحد حتّى نتطلّب علّته ; إذ الموت ليس إلاّ خروج الروح البخاري من البدن من المنافذ غير الطبيعية ، وكلّما قلّت البندقة قلّت المنافذ ، وكلّما كثرت كثرت المنافذ .
فحينئذ : طول المدّة في نزع الروح الصوري وقلّتها يدور مدار إخراج الدم ، وهو ليس أمراً واحداً بسيطاً ، بل أمر يقبل التجزئة والتكثّر .
وقس عليه الحرارة ; فإنّ حاملها ذو أجزاء وأوضاع ، ولا مانع من انفعال بعضها من الشمس ، والبعض الآخر من النار ، ويكون كلّ واحد مؤثّراً فيه بعض الأثر . فلا إشكال في تأثّر مثل هذا الواحد الطبيعي القابل للتجزئة والتركيب من علّتين ; إذ أثر كلّ علّة غير أثر الاُخرى ، وتأثّر الماء من كلّ غير تأثّره من آخر .
وهكذا الأمر في اجتماع أشخاص على رفع حجر ; فإنّ كلّ واحد يؤثّر فيه أثره الخاصّ ; حتّى يحدث في الحجر بواسطة القواسر العديدة ما يغلب على ثقله الطبيعي أو على جاذبة الأرض .
أضف إلى ذلك : أنّ قياس العلل الطبيعي بالفواعل الإلهي من عجائب الأوهام ، والقول بتأثير الجامع في العلّة الإلهية مثل الطبيعي أمر غير معقول ، إذ المعلول الإلهي ربط محض بعلّته ، ويكون بتمام هويته متعلّقاً بها ، بل حقيقته عين الربط لا شيء له الربط ، ولا يمكن أن يكون له حيثية غير مربوطة بها ، وإلاّ لزم الاستغناء الذاتي ، وهو ينافي الإمكان .
وحينئذ : فما حاله وذاته ذلك لا يعقل في حقّه أن يستند إلى علّته الخاصّة عند الانفراد وإلى الجامع عند الاجتماع ; إذ هويته التدلّي بعلّته ، فكيف يمكن أن يفسخ ذاته ويفوّضها إلى الجامع ؟ إن هذا إلاّ الانقلاب .
وبالجملة : فالعلّة البسيطة الإلهية لا يمكن أن يجتمع على معلولها علّتان حتّى نبحث في كيفيته ، ولا يعقل تفويض الفاعل الإلهي أثره إلى غيره ، أو تعلّق المعلول بالذات إلى غير علّته الخاصّة به ، فلا يعقل ربط المعلول البسيط تارة بهذه العلّة واُخرى بتلك وثالثة بالجامع بينهما ; للزوم الانقلاب الذاتي في البسيط .
وأظنّك إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا ، وكنت أهلاً لهذه المطالب تقدر على تشخيص الزيف من المقبول ، وهو غاية المأمول .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ ما ذكره ـ قدس سره ـ من أنّ عدم السراية إنّما هو إلى الحيثية التي تمتاز بها الحصص الفردية بعضها عن بعض ، وأمّا بالنسبة إلى الحيثية الاُخرى التي بها تشترك تلك الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر فلا بأس بدعوى السراية إليها(17) ، لا يخلو من إجمال ; لأنّ مراده من قوله تشترك تلك الحصص وتمتاز بها عن أفراد النوع الآخر . . . إلى آخره إن كان هو الفصول المميّزة ففيه : أنّ ذلك عين الطبيعي ومقوّمها ، ومرجعه إلى أنّ الحكم على الطبيعي يسري إلى الطبيعي ، وإن أراد ما يمتاز به حصص نوع عن حصص نوع آخر ففيه : أنّ الطبيعي لا يمكن أن يتحصّص بنفس ذاته ، بل التحصّص يحصل بتقييده بقيود عقلية ، مثل «الإنسان الأبيض» و «الفرس الأسود» .
فحينئذ لا يمكن أن يكون الحصص نفس الطبيعي في اللحاظ العقلي ، وأمّا الاتّحاد الخارجي فكما يكون بين الحصص والطبيعي يكون بين الأفراد والطبيعي ، ولكنّه لا يوجب سراية الأمر في كلا القسمين .
وبالجملة : أنّ الامتياز بين حصص نوع مع حصص نوع آخر ليس بالفصل المقوّم فقط ، بل به وبالتقييدات الحاصلة من القيود اللاحقة المحصّلة للحصص ، والامتياز بالفصل المقوّم فقط إنّما يكون بين نوع ونوع آخر ، لا حصصهما .
فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعي لا يمكن أن يسري إلى الأفراد ، ولا إلى الحصص التي تخيّلت للطبيعي ،...
____________
1 ـ الفصول الغروية : 109 / السطر6 ، اُنظر كفاية الاُصول : 172 .
2 ـ قوانين الاُصول 1 : 121 / السطر19 ، الفصول الغروية : 107 / السطر37 .
3 ـ تقدّم في الصفحة 173 ـ 176 .
4 ـ مفتاح العلوم : 93 .
5 ـ نهاية الدراية 2 : 253 ـ 255 .
6 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 417 .
7 ـ نهايـة الأفكـار 1 : 380 ـ 381 ، بدائـع الأفكـار (تقريـرات المحقّـق العـراقي) الآملـي 1 : 404 و409 .
8 ـ تقدّم في الصفحة 283 ـ 284 .
9 ـ نهاية الأفكار 1 : 380 .
10 ـ تقدّم في الصفحة 25 و 431 و 491 .
11 ـ الحكمة المتعالية 2 : 8 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 99 .
12 ـ بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 407 ـ 410 .
13 ـ راجع رسالة بعض الأفاضل إلى علماء مدينة السلام ، ضمن رسائل ابن سينا : 463 ـ 479 ، الحكمة المتعالية 1 : 272 ـ 274 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 99 .
14 ـ راجع رسالة بعض الأفاضل إلى علماء مدينة السلام ، ضمن رسائل ابن سينا : 463 ، الحكمة المتعالية 1 : 273 و 2 : 7 ـ 8 .
15 ـ يأتي في الصفحة 502 .
16 ـ شرح الإشارات 3 : 122 ـ 127 ، الحكمة المتعالية 2 : 204 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 132 .
17 ـ نهاية الأفكار 1 : 386 ،بدائع الأفكار (تقريرات المحقّق العراقي) الآملي 1 : 408 ـ 409
|
|
دخلت غرفة فنسيت ماذا تريد من داخلها.. خبير يفسر الحالة
|
|
|
|
|
ثورة طبية.. ابتكار أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب في العالم
|
|
|
|
|
العتبة العباسية المقدسة تدعو جامعة ديالى للمشاركة في حفل التخرج المركزي الخامس
|
|
|