أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-8-2016
881
التاريخ: 25-8-2016
549
التاريخ: 4-9-2016
651
التاريخ: 3-8-2016
779
|
اختلفوا في جـواز اجتماع الأمر والنهي وعدمـه على أقوال ، وقبل الخـوض في المقصود لابدّ مـن تقديم اُمـور :
الأوّل : تحرير محلّ النزاع :
المعروف في عنوان البحث عن سلف وخلف : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ، أو لا ؟ ثمّ ذكروا: أنّ المراد مـن الواحـد هـو الواحـد الشخصي لا الجنسي(1) .
وفيه : أنّ ظاهره هو أنّ الهوية الخارجية من المتعلّقين محطّ عروض الوجوب والحرمة ، مع أنّه من البطلان بمكان ; لأنّ الخارج لا يكون ظرف ثبوت التكاليف ، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له .
والأولى أن يقال : هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا ؟ ويكون المراد بالواحد هو الواحد الشخصي ; لأنّه الذي يتصادق عليه العناوين ، ويخرج الواحد الجنسي والنوعي :
أمّا الأوّل : لأنّ العناوين لا تتصادق عليه ، بل يكون جنساً لها ، مع أنّ النزاع في الواحد الجنسي مع قطع النظر عن التصادق على الواحد الشخصي ممّا لا معنى له ; ضرورة أنّ الحركة في ضمن الصلاة يمكن أن يتعلّق بها الأمر ، وفي ضمن الغصب أن يتعلّق بها النهي ، مع قطع النظر عن تصادقهما خارجاً .
وأمّا الثاني : فمضافاً إلى ما تقدّم من عدم محذور مع التكثّر شخصاً أنّه عبارة عن نفس العنوانين المنطبقين على الواحد الشخصي .
وبذلك يتّضح : أنّ النزاع على ما ذكرنا يصير كبروياً ، لا صغروياً كما زعموا(2) ، فتدبّر .
الثاني : الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة :
إذا أحطت خُبراً بما أوضحناه في صدر الكتاب عند البحث عن تمايز العلوم وتمايـز مسائل العلم بعضها عـن بعض(3) تقف على أنّ الفرق بين هـذه المسألة وبين مسألة النهي في العبادة أو المعاملة أوضح من أن يخفى ، بل لا جامع بينهما حتّى نبحث عن تميّزهما ; إذ البحث في المقام على ما ذكرناه إنّما هو في جـواز تعلّق الأمـر والنهي على عنوانين متصادقين على واحـد، كما أنّ البحث هناك في أنّ النهي إذا تعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يقتضي الفساد أو لا ؟
فالمسألتان مختلفتان موضوعاً ومحمولاً ، واختلاف المسائل إنّما هو بهما أو بأحدهما ; لأنّ ذات المسائل متقوّمة بهما ، والتميّز بأمر ذاتي هو المميّز بين الشيئين في المرتبة المتقدّمة على التميّز بأمر عرضي ; فضلاً عن الاختلاف بالأغراض .
فما أفاده المحقّق الخراساني : من أنّ الميز إنّما هو في الجهة المبحوث عنها ; التي هي سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر وعدمها في المقام ، وكون النهي ـ بعد تسليم سرايته ـ هل يوجب الفساد أو لا في غير المقام(4) .
ليس بصحيح ; لأنّ تمايز العلوم إنّما هو بذواتها ، وأنّ ميز مسألة عن اُخرى ـ وإن كانتا من مسائل علم واحد ـ إنّما هو بموضوعها ومحمولها معاً أو بأحدهما ، وإذا كانت القضية متميّزة عن اُخرى بجوهرها فلا معنى للتمسّك بما هو خارج من مرتبة الذات .
فإن قلت : إنّ الجهات التعليلية في الأحكام العقلية راجعة إلى التقييدية ، فالسراية وعدمها من قيود الموضوع لبّاً ، فالميز صار بنفس الموضوع أيضاً .
قلت : لكن القيد بما هو قيد متأخّر عن ذات المقيّد ، فيكون الاختلاف بالذات مميّزاً قبلها .
أضف إلى ذلك : أنّ الجهة المبحوث عنها ليس هو كون التعدّد في الواحد يوجب تعدّد المتعلّق أو لا ؟ أو أنّ النهي والأمر هل يسري كلّ منهما إلى متعلّق الآخر أو لا ؟ بل ما عرّفناك من جواز الاجتماع ولا جوازه ، ولذلك قلنا : إنّ النزاع كبروي لا صغروي .
وعليه لا حاجة إلى العدول عن العنوان المعروف إلى شيء آخر الذي هو من مبادئ إثبات المحمول للموضوع ، ويعدّ من البراهين لإثباته ; فإنّ جواز الاجتماع ولا جوازه يبتني على السراية وعدمها ، وعلى أنّ تعدّد العنوان هل هو مجد أو لا ؟
وبالجملة : قد جعل ـ قدس سره ـ ما يعدّ من المبادئ والبراهين جهة البحث ومحطّ النزاع ، وهو خارج من دأب المناظرة . هذا كلّه لو أراد بالجهة المبحوث عنها محطّ البحث ومورد النزاع ، كما هو الظاهر .
وإن أراد علل ثبوت المحمول للموضوع ، أو الغرض والغاية للبحث فالأمر أوضح ; لأنّ اختلاف المسألتين ليس بهما قطعاً ; إذ كلّ قضية متميّز بصورته الذهنية أو اللفظية قبل أن يقام عليه البرهان ، بل الغالب صوغ المطالب في قالب الألفاظ أوّلاً ; بحيث يتميّز كلّ واحد قبل إقامة البرهان عن الآخر ، ثمّ يتفحّص عن براهينه ومداركه ، كما أنّ الاختلاف في الغاية فرع اشتمال كلّ واحد من الأمرين على خصوصية مفقودة في الآخر ; حتّى يستند التغاير إليها ، ومعه يسقط كون الميز بالأغراض .
الثالث : في اُصولية مسألة جواز الاجتماع :
إنّ المسألة على ما حرّرناه اُصولية ; لصحّة وقوعها في طريق الاستنباط .
والعجب ممّا اُفيد في المقام : من جواز جعلها مسألة فقهية ; حيث إنّ البحث فيها عن صحّة الصلاة في الدار المغصوبة . أو كلامية ; لرجوعه إلى حصول الامتثال بالمجمع أو لا . أو من المبادئ التصديقية ; لرجوع البحث فيه إلى البحث عمّا يقتضي وجود الموضوع لمسألة التعارض والتزاحم(5) .
وفيه : أنّ ما اُفيد أوّلاً من كونها فقهية صرف للمسألة إلى مسألة اُخرى ، وإخراج لها من مجراها ، ولو جاز ذلك لأمكن جعل جلّ المسائل الاُصولية فقهية ، وهو كما ترى .
ومن ذلك يظهر : أنّ جعلها من المسائل الكلامية أيضاً ممّا لا وجه له ; لأنّ كون المسألة عقلية لا يوجب كونها داخلاً فيها ، وإلاّ كانت مسائل المنطق وكلّيات الطبّ كلامية . والقول بأنّ مرجع المسألة إلى أنّه هل يحسن من الحكيم الأمر والنهي بعنوانين متصادقين على واحـد أو لا ؟ أو هل يحصل الامتثال بالمجمع أو لا ؟ قد عرفت حاله ; فإنّ ذلك إخراج للشيء من مجراه الطبيعي .
وأمّا ما اختاره ثانياً من كونها من المبادئ التصديقية(6) ، ففيه : أنّ كون بحث محقّقاً وعلّة لوجود موضوع بحث آخر لا يوجب أن يكون من المبادئ التصديقية له . كيف ، وبراهين إثبات وجود الموضوع ـ لو سلّم كونها من المبادئ التصديقية ـ غيـر علل وجوده .
والله تعالى علّـة وجود الموضوعات ومحقّقها ، وليس من المبادئ التصديقية لشيء من العلوم .
مع أنّ في كون هذه المسألة محقّقة لوجود الموضوع لمسألة التعارض كلاماً سيوافيك بيانه في المباحث الآتية بإذن الله ، فارتقب حتّى حين(7) .
وربّما يقال في مقام إنكار كونها من المسائل الاُصولية : أنّ موضوع علم الاُصول ما هو الحجّة في الفقه ، ولابدّ أن يرجع البحث في المسائل إلى البحث عن عوارض الحجّة ، وليس البحث في المقام عن عوارضها ; لأنّ البحث عن جواز اجتماع الأمر والنهي في عنوانين ليس بحثاً عن عوارض الحجّة في الفقه(8) .
وفيه ـ بعد تسليم كون الموضوع ما ذكره ، والغضّ عمّا تقدّم في صدر الكتاب ـ أنّ المراد من لزوم كون البحث عن عوارض الحجّة في الفقه إن كان هو البحث عن عوارض الحجّة بالحمل الأوّلي فيلزم خروج كثير من المباحث ، إلاّ مع تكلّفات باردة ، وإن كان المراد البحث عن عوارض ماهو حجّة في الفقه بالحمل الشائع ـ أي ما يستنتج منها نتيجة فقهية ـ ففيه : أنّ المقام كذلك ، وقد أوضحناه فوق ما يتصوّر عند البحث عن حجّية الخبر الواحد(9) ، ومضى ذكر منه عند البحث عن وجوب مقدّمة الواجب(10) .
الرابع : في اعتبار قيد المندوحة :
لا إشكال في عدم اعتبار قيد المندوحة لو كان النزاع صغروياً ; لأنّ البحث عن أنّ تعدّد العنوان هل يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا ، لا يبتني على وجود المندوحة ; إذ لو كان تعدّد الوجه مجدياً في رفع غائلة اجتماع الضدّين لكان وجـود المندوحـة وعدمها سواء ، وإن لم يكن مجـدياً في رفعها لما كان لوجـودها ولا لعدمها أثر أصلاً .
وبالجملة : البحث في تلك الحيثية ـ جـوازاً وامتناعاً ـ لا يتوقّف على وجودها وعدمها .
وأمّا على ما أخترناه ; من كبروية النزاع وأنّ محطّ البحث هـو جـواز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحـد فقد يقال باعتبارها في المقام ; لأنّ النزاع في اجتماع الحكمين الفعليين لا الإنشائيين ; ضرورة عـدم التنافي في الإنشائيات ، ومع عدمها يصير التكليف بهما تكليفاً بالمحال ; وإن لم يكن تكليفاً محالاً .
قلت : الظاهر أنّ ما ذكر نشأ من خلط الأحكام الكلّية بالجزئية والخطابات القانونية بالخطابات الشخصية .
وتوضيحه : أنّ العنوانين إن كان بينهما تلازم في الوجود ; بحيث لا ينفكّ أحدهما عن الآخر في جميع الأمكنة والأزمنة وعند جميع المكلّفين ممّن غبر أو حضر فالبعث إلى أحدهما والزجر عن الآخر ـ مع كون حالهما ذلك ـ ممّا لا يصدر عن الحكيم المشرّع ، بل من غيره ; لأنّ الإرادة الجدية إنّما تنقدح في مورد يقدر الغير على امتثاله ، وعند التلازم في الوجود كان التكليف محالاً لأجل التكليف المحال ; فضلاً عن كونه تكليفاً بالمحال ، ومعه لا يلزم التقييد بالمندوحة ، كما سنشير إليه .
وأمّا إذا فرضنا عدم التلازم في الوجود في كلّ عصر ومصر وعند جميع المكلّفين ، وأنّ عامّة الناس يتمكّنون من إتيان الصلاة في غير الدار المغصوبة غالباً ، وأنّه لو ضاق الأمر على بعضهم ; بحيث لم يتمكّن إلاّ من الصلاة في الدار المغصوبة لكان من القضايا الاتّفاقية التي يترقّب زوالها فلا حاجة إلى اعتبار المندوحة ; لما قد حقّقنا(11) أنّ الأحكام الشرعية لا تنحلّ إلى خطابات بعدد الأفراد حتّى يكون كلّ فرد مخصوصاً بخطاب خاصّ ، فيستهجن الخطاب إليه بالبعث نحو الصلاة والزجر عن الغصب ، ويصير المقام من التكليف بالمحال أو التكليف المحال .
بل معنى عموم الحكم وشموله قانوناً هو جعل الحكم على عنوان عامّ ، مثل «المستطيع يجب عليه الحجّ» ، ولكن بإرادة واحدة ; وهي إرادة التشريع وجعل الحكم على العنوان ; حتّى يصير حجّة على كلّ من اُحرز دخوله تحت عنوان المستطيع ، من دون أن يكون هناك إرادات وخطابات .
وحينئذ : فالملاك لصحّة الحكم الفعلي القانوني هو تمكّن طائفة منهم من إتيان المأمور به ، وامتثال المنهي عنه ، لا كلّ فرد فرد ، وعجز بعض الأفراد لا يوجب سقوط الحكم الفعلي العامّ، بل يوجب كونه معذوراً في عدم الامتثال .
والحاصل : أنّه إن اُريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم; لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ، ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم ; لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشائات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص .
وعليه : فالحكم الفعلي بالمعنى المتقدّم فعلي على عنوانه ; وإن كان بعض المكلّفين معذوراً في عدم امتثاله .
وإن اُريد بقيد المندوحة كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق في كثير من الأوقات ; وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين فاعتبار المندوحة وإن كان لازماً في هذه المسألة لكن لا يحتاج إلى تقييد البحث به ; فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم لمنهي عنه فعلاً ممّا لا يمكن ; للغوية الجعل على العنوانين ، بل لابدّ للجاعل من ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان . فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على جميع التقادير .
الخامس : عدم ابتناء النزاع على تعلّق الأحكام بالطبائع :
ربّما يقال إنّ النزاع إنّما يجري على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا مناص عن اختيار الامتناع(12) .
أقول : الحقّ جريانه في بعض صور القول بتعلّقها بالأفـراد ، وعـدم جريانه في بعض آخر :
أ مّا الثاني ففي موردين :
الأوّل : ما إذا قلنـا بتعلّقها بالفرد الخارجي الصادر عن المكلّف . ولكنّـه بديهي البطلان ; لكون الخارج ظرف السقوط لا الثبوت ، ولم يظهر كونه مراد القائل ، كما سبق(13) .
الثاني : ما إذا اُريد من القول بتعلّقها بالأفراد هو تعلّقها بها مع كلّ ما يلازمها ويقارنها ـ حتّى الاتّفاقيات منها ـ فلو فرضنا إيجاد الصلاة في الدار المغصوبة يكون متعلّق الأمر هو الطبيعة مع جميع ما يقارنها ; حتّى وقوعها في محلّ مغصوب ; بحيث اُخذت هذه العناوين في الموضوع ، ويكون متعلّق النهي هي طبيعة الغصب مع ما يقارنها ; حتّى وقوعها في حال الصلاة وعليه يخرج المفروض من مورد النزاع ; لكون طبيعة واحدة وقعت مورداً للأمر والنهي ، ويصير من باب التعارض ; إذ البحث فيما إذا تعدّد العنوان ; وإن اتّحد المعنون .
وأمّا الأوّل : ـ أعني الصور التي يمكن فيها جريان النزاع ـ فكثير :
منها : أن يراد من تعلّقها بالأفراد تعلّقها بالعنوان الإجمالي لها ; بأن يقال : إنّ معنى «صلّ» أوجد فرد الصلاة ، فيكون فرد الصلاة وفرد الغصب عنوانين كلّيين منطبقين على معنون واحد، كالأمر بطبيعة الصلاة والنهي عن طبيعة الغصب .
ومنها : أن يراد تعلّقها بالطبيعة الملازمة للعناوين المشخّصة أو أمارات التشخّص ، كطبيعي الأين والمتى ، فيكون الواجب طبيعة الصلاة مع مكان كلّي ، وهكذا سائر العناوين ، والحرام الطبيعة الغصبية المتّصفة بالوضع والمكان الكلّيين وغيرهما كذلك ، فاختلف العنوانان ; وإن اتّحد المعنون .
ومنها : أن يراد تعلّقهما بالوجود السعي من كلّ طبيعة ، فالواجب هو عنوان الوجود السعي من الطبيعة فقط لا الوجود السعي مع عوارضها ولواحقها . وقس عليه الحرام ; فهنا عنوانان : عنوان الوجود السعي من الصلاة ، والوجود السعي من طبيعة الغصب مع إلغاء الوجود السعي لعوارضهما ومشخّصاتهما .
ومنها : تعلّقهما بعنوان وجودات الصلاة والغصب في مقابل الوجود السعي ; فإنّه لا يخرج به من العنوانين المختلفين .
فظهر : أنّ النزاع جار على القول بتعلّقهما بالأفراد على الفروض التي تصحّ أن تكون محلّ النزاع .
السادس : في عدم ابتناء النزاع على إحراز المناط :
يظهر من المحقّق الخراساني ابتناء النزاع في المقام على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم(14) .
ولكن التحقيق : عدم ابتنائه عليه :
أمّا على القول بأنّ النزاع صغروي والبحث حيثي راجع إلى أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا فواضح ; لأنّ اشتمالهما على المناط وعدمه لا دخل له في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا ؟
وأمّا على ما حرّرناه(15) من أنّ النزاع كبروي ، وأنّ البحث في أنّ الأمـر والنهي هل يجوز اجتماعهما في عنوانين متصادقين على واحد أو لا ؟ فالأمر أوضح ; لأنّ إحراز المناط ليس دخيلاً في الإمكان وعدمه ، بل لابدّ من أخذ القيود التي لها دخل تامّ في إثبات الإمكان والامتناع
الفرق بين باب الاجتماع وباب التعارض:
والذي يختلج في البال ـ وليس ببعيد عن مساق بعض عبائره ـ أن يكون مراده ـ قدس سره ـ فيما أفاده في الأمر الثامن والتاسع هو إبداء الفرق بين هذا المقام وبين باب التعارض ; دفعاً عن إشكال ربّما يرد في المقام ; وهو أنّ القوم ـ رضوان الله عليهم ـ لمّا عنونوا مسألة جواز الاجتماع مثّلوا له بالعامّين من وجه ، واختار جمع منهم جواز الاجتماع ، ولكن هذا الجمع لمّا وصلوا إلى باب التعارض جعلوا العامّين من وجه أحد وجوه التعارض ، ولم يذكر أحد منهم جواز الجمع بينهما بصحّة اجتماع الأمر والنهي في عنوانين بينهما عامّ من وجه .
فصار ـ قدس سره ـ بصدد دفع هذا الإشكال بالفرق بين البابين ; بأنّ كون العامّين من وجه من باب الاجتماع مشروط بإحراز المناط ; حتّى في مورد التصادق ، وإلاّ دخـل باب التعارض . وبالجملـة : فالميّز التامّ هـو دلالـة كلّ مـن الحكمين على ثبوت المقتضي في مورد الاتّفاق أو عدمها .
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ الميز بين البابين ليس بما ذكر ; إذ الميزان في عدّ الدليلين متعارضين هو كونهما كذلك في نظر العرف ; ولذا لو كان بينهما جمع عرفي خرج من موضوعه ، فالجمع والتعارض كلاهما عرفيان ، وهذا بخلاف المقام ; فإنّ التعارض فيه إنّما هو من جهة العقل ; إذ العرف مهما أدقّ النظر وبالغ في ذلك لا يرى بين قولنا «صلّ» و «لا تغصب» تعارضاً ; لأنّ الحكم على عنوانين غير مرتبط أحدهما بالآخر ، كما أنّ الجمع أيضاً عقلي مثل تعارضه .
وعليه : فكلّ ما عدّه العرف متعارضاً مع آخر ـ وإن أحرزنا المناط فيهما ـ فهو داخل في باب التعارض ، ولابدّ فيه من إعمال قواعده من الجمع والترجيح والطرح ، كما أنّ ما لم يعدّه متعارضاً مع آخر وآنس بينهما توفيقاً ـ وإن عدّهما العقل متعارضين ـ فهو من باب الاجتماع ; وإن لم يحرز المناط فيهما .
وبالجملة : موضوع باب التعارض هو الخبران المختلفان ، والمناط في الاختلاف هو الفهم العرفي ، والجمع هناك عرفي لا عقلي . بخلافه هاهنا ; فإنّ المسألة عقلية ، فلا ربط بين البابين أصلاً ، فما ادّعي من المناط غير تامّ ; طرداً وعكساً ، كما عرفت .
والسرّ فيه : أنّ رحى باب التعارض تدور على العمل بالأخبار الواردة فيه ، وموضوعها مأخوذ من العرف ـ كموضوع سائر ما ورد في الكتاب والسنّة ـ فكلّما يحكم العرف باختلاف الخبرين وتعارضهما يعمل بالمرجّحات ، وكلّما يحكم بعدمه لأجل الجمع العرفي أو عدم التناسب بين الدليلين لا يكون من بابه .
فقوله «صلّ» و «لا تغصب» غير متعارضين عرفاً ; لأنّ الحكم على العنوانين بنحو الإطلاق بلا ارتباط بينهما ، فليس بينهما اختلاف عرفاً ـ ولو لم نحرز المناطين ـ كما أنّ قوله «أكرم كلّ عالم» معارض عرفاً في الجملة لقوله «لا تكرم الفسّاق» ; ولو فرض إحراز المناطين في مورد الاجتماع وقلنا بجواز الاجتماع حتّى في مثله ; لأنّ الحكم فيهما على الأفراد بنحو العموم، فيدلاّن على إكرام المجمع وعدم إكرامه .
وبذلك يظهر : أنّ ما ذكره بعض الأعاظم من أنّ هذه المسألة محقّقة لموضوع مسألة التعارض(16) في غير محلّه ; لما عرفت من أنّ المسألتين لا جامع بينهما ولا إحداهما مقدّمة للأخرى .
كما أنّ ما ادّعاه من أنّ التمايز بين البابين هو أنّ التركيب في باب الاجتماع انضمامي وفي باب التعارض اتّحادي(17) لا يرجع إلى محصّل وسيتّضح أنّ حديث التركيب الانضمامي والاتّحادي أجنبي عن هذه المقامات ، فارتقب(18) .
السابع : في ثمرة النزاع على القول بالجواز :
قد يقال(19) إنّه لا ملازمة بين القول بالجواز والقول بصحّة العبادة ; لوجود ملاك آخر للبطلان في بعض الموارد ، كالصلاة في الدار المغصوبـة ; لأنّ التصرّف في مال الغير بلا إذنه في الخارج عين الحركة الصلاتية ، والمبعّد عن ساحة المولى لا يمكن أن يكون مقرّباً ، نعم مع جهله بالموضوع أو الحكم قصوراً تصحّ صلاته بلا إشكال .
والمعيار الكلّي في الحكم بالصحّة والبطلان هو أنّه كلّما كانت الخصوصية العبادية في المصداق غير الخصوصية المحرّمة وجوداً ـ وإن جمعهما موضوع واحد ـ تصحّ العبادة ، ولا يرد الإشكال ; لأنّ المكلّف يتقرّب بالجهة المحسّنة ، وليست فيها جهة مقبّحة على الفرض ; وإن قارنتها أو لازمتها ، ولكن المقارنة أو اللزوم لا يضرّ بعباديتها .
وكلّما كان العنوانان موجودين بوجود واحد وخصوصية فاردة لا يمكن التقرّب بـه ; و إن جـوّزنا اجتماع الأمـر والنهي ، فإنّ التقرّب بما هـو مبعّد بالفعل ممّا لا يمكن .
هذا ، وسيأتي تحقيق المقام ، وأنّ المبعّد من حيثية يمكن أن يكون مقرّباً من حيثية اُخرى ، فانتظر(20) .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر ـ رحمه الله ـ قد أفاد في تقريراته : أنّ الصلاة في الدار المغصوبة من قبيل الأوّل ، وأنّ الحركة الصلاتية غير الحركة الغصبية خارجاً ; لأنّ الغصب من مقولة الأين والصلاة من مقولة الوضع ، والظاهر أن تكون أفعال الصلاة من مقولة الوضع ; سواء قلنا إنّ المأمور به في مثل الركوع والسجود هو الهيئة كما هو مختار «الجواهر» ، أو الفعل كما هو المختار ; فإنّ المراد من الفعل ليس هو الفعل باصطلاح المعقول ، بل الفعل الصادر عن المكلّف ، فيكون الانحناء إلى الركوع أوضاعاً متلاصقة متّصلة .
ثمّ المقولات متباينات وبسائط يكون ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك ، و إنّ الحركة ليست داخلة في المقولات ، بل هي مع كلّ مقولة عينها ، ولم تكن الحركة جنساً للمقولتين ، وإلاّ يلزم تفصّل الواحد بالفصلين المتباينين في عرض واحد ، ويلزم التركيب فيهما ولا معروضاً لهما ، وإلاّ يلزم قيام العرض بالعرض ; وهو محال . فالحركة الغصبية تكون من مقولة متباينة للحركة الصلاتية .
وليس المراد من الحركة هو رفع اليد أو وضعها ورفع الرأس أو وضعه ، بل المراد الحركة الصلاتية والغصبية ، وهما حركتان كما عرفت ، فكون حيثية الصلاتية غير حيثية الغصبية وجوداً وماهية ، يجوز اجتماع الأمر والنهي فيهما ، ويكون المقرّب غير المبعّد .
والشاهد على ما ذكرنا من اختلافهما وجوداً : أنّ نسبة المكان إلى المكين والإضافة الحاصلة بين المكين والمكان لا يعقل أن تختلف في الجوهر والعرض ، فكما أنّ كون زيد في الدار المغصوبة لا يوجب كونه غصباً فكذلك كون الصلاة فيها . فالتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي(21) ، انتهى ملخّصاً .
وفيها : موارد للنظر ، نذكر مهمّاتها :
منها : أنّ الصلاة ليست من المقولات ، بل من الماهيات الاختراعية المركّبة من عدّة اُمور اعتبارية ومقولية ، ومثل ذلك لا يندرج تحت مقولة ، ولا تحت ماهية من الماهيات الأصيلة ، هذا إن اُريد من الصلاة نفسها .
وإن اُريد أجزاؤها ـ كالركوع مثلاً ـ فغير صحيح ; لأنّه إن قلنا : إنّ الركوع عبارة عـن الحركـة مـن الاستقامـة إلى الانحناء تعظيماً ; بحيث يكون مركّباً مـن الهوي والحالة الحاصلة حين الانحناء التامّ فلا يكون من مقولة الوضع فقط ، بل يكون أحد جزئيه ـ أعني الهوي ـ مـن مقولـة الحركـة في الأين ، ويكون مـن مقولة الأين ، بناءً على أنّ الحركة في كلّ مقولة عينها .
والعجب : أنّ القائل سمّى هذه الحركة الأينية أنّها أوضاع متلاصقة ، وغفل عن أنّ تبدّل الأوضاع وتلاصقها من لوازم هذه الحركة ، كما يكون الجزء الآخر ـ أعني الحالة المخصوصة ـ من مقولة الوضع .
وإن قلنا : إنّه عبارة عن نفس الهيئة المخصوصة تعظيماً ، الحاصلة بعد الانحناء التامّ فلا يندرج تحت المقولة ; لأنّ كونه تعظيماً من مقوّماته ، وهو لا يندرج تحت مقولة . على أنّ هذا الإشكال يرد على الشقّ الأوّل أيضاً إذا قلنا بكون التعظيم قيداً أو جزءً .
أضف إليه : أنّ مبناه أنّ الجـزء للصلاة هـو الفعل ـ كما صرّح به ـ والفعل الصادر مـن المكلّف هـو الحركة مـن الاستقامة إلى الانحناء ، وتبدّل الأوضاع يكون لازماً له ، وما هو جزء للصلاة ـ على الفرض ـ هـو الفعل الصادر عنه لا الأوضاع المتلاصقة .
هذا ، مع ما في تلاصق الأوضاع من مفاسد غير خفي على أهله ومن له إلمام بالمعارف العقلية.
ومنها : أنّ الغصب لا يكون من المقولات ; لأنّه الاستيلاء على مال الغير عدواناً ، وهو من الاُمور الاعتبارية ، ولا يدخل في ماهية الكون في المكان .
فالكون في المكان المغصوب ليس غصباً ، بل استقلال اليد عليه واستيلاؤها غصب ; سواء كان الغاصب داخلاً فيه أم لم يكن ، وهذا واضح بأدنى تأمّل .
مع أنّـه لو فرض أنّ الغصب هو الكون في المكان الذي للغير عـدواناً لم يصر مـن مقولة الأين:
أمّا أوّلاً : فلأنّ المقولة ليست نفس الكون في المكان ، بل هي هيئة حاصلة من كون الشيء في المكان .
وأ مّا ثانياً : فلأنّ ماهية الغصب متقوّمة بكون المكان للغير ، ويكون إشغاله عدواناً ، وهما غير داخلين في ماهية مقولة الأين . فعلى هذا الفرض الباطل يكون المقولة جزء ماهية الغصب .
ومنها : أنّ عدم صحّة الصلاة ليس لأجل الغصب ـ أي استقلال اليد ـ بل لأجل التصرّف في مال الغير بلا إذن منه ، وهذا عنوان آخر غير الغصب ; فإنّه قد يكون الشخص متصرّفاً في مال الغير بلا إذنه مع عدم كونه غاصباً ; لعدم استقلال يده عليه . وقد يكون غاصباً بلا تصرّف خارجي في ماله .
فالصلاة في الدار المغصوبة باطلة لا لأجل استقلال اليد على ملك الغير ; لأنّه أمر اعتباري لا ينطبق على الصلاة غالباً ، بل لأجل التصرّف في مال الغير ; ضرورة أنّ الحركة الركوعية والسجودية عين التصرّف في مال الغير ، بل السجود على سبعة أعظم تصرّف ، والكون القيامي والقعودي وغيرهما تصرّف في مال الغير وحرام ، فلا يمكن التقرّب بما هو مبعّد على الفرض ـ قيل بجواز الاجتماع أم لم يقل ـ وسيأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ جواز الاجتماع لا يتوقّف على كون الحيثيات تقييدية والتركيب انضمامياً(22) ، كما بنى عليه ـ قدس سره ـ .
وممّا ذكر يعلم حال ما ذكره من قياس كون زيد في الدار المغصوبة بكون الصلاة فيها ; فإنّ الصلاة لمّا كانت فعل المكلّف تكون تصرّفاً في مال الغير ، وأمّا زيد فنفس ذاته لا يكون فعلاً ; حتّى يكون تصرّفاً ، بل كون زيد في الدار غصب لا ذاته على مبناه ، أو تصرّف على ما ذكرنا ، وزيد غاصب أو متصرّف ، كما أنّ صلاته باعتبار كونها من أكوانه وأفعاله غصب وتصرّف ، وهو غاصب ومتصرّف ، والأمر أوضح من أن يحتاج إلى البيان .
الثامن : في ثمرة النزاع على القول بالامتناع:
بناءً على الامتناع وترجيح جانب الأمر تصحّ الصلاة في الدار المغصوبة إذا لم يكن هناك مندوحة ، وأمّا معها فلا ملاك لتقييد النهي المتعلّق بالغصب ; بلغ ملاك الصلاة ما بلغ ; لعدم دوران الأمر بينهما ، بل مقتضى الجمع بين الغرضين تقييد الصلاة عقلاً أو شرعاً بغير محلّ الغصب . فإطلاق كلام المحقّق الخراساني بأنّه بناءً على الامتناع وترجيح جانب الأمر تصحّ صلاته ، ولا معصية عليه(23) مخدوش .
وأمّا بناءً على ترجيح جانب النهي فمع العمد أو الجهل بالحكم تقصيراً لا إشكال في بطلانها .
وأمّا مع القصور فصحّتها متوقّف على أمرين : أحدهما إثبات اشتمال الصلاة في مورد الاجتماع على الملاك التامّ ، وثانيهما كون الملاك المرجوح قابلاً للتقرّب ومصحّحاً لعبادية الصلاة .
والأوّل ممتنع بناءً على كون الامتناع لأجل التكليف المحال لا التكليف بالمحال ; وذلك للتضادّ بين ملاك الغصب وملاك الصلاة ، فإن أمكن رفع التضادّ بين الملاكين باختلاف الحيثيتين أمكن رفعه في الحكمين ، ولا يلتزم به الخصم .
فالقائل بالامتناع لابدّ له من الحكم بأنّ الحيثية التي تعلّق بها الحكم الإلزامي عين ما تعلّق به النهي ، ومع وحدة الحيثية لا يعقل تحقّق الملاكين ، فلابدّ أن يكون المرجوح بلا ملاك . فعدم صحّة الصلاة لأجل فقدان الملاك ، ومعه لا دخالة للعلم والجهل في الصحّة والبطلان .
وبالجملة : الأمر لا يتعلّق بالذات إلاّ بما هو حامل الملاك بالذات ، وكذا النهي . فمتعلّقهما عين حامل الملاك ، وهو مع وحدته غير معقول ، ومع تكثّره يوجب جواز الاجتماع فتصوّر الحيثيتين الحاملتين للملاك يناقض القول بالامتناع من جهة التكليف الذي هو المحال ، فتدبّر جيّداً .
وأمّا الثاني : فهو بعد تصوّر الملاك قابل للتقرّب به ; لأنّ الحيثية الحاملة لملاك الصلاة غير الحيثية الحاملة لملاك الغصب ، فأتمّية ملاك النهي من الأمر لا يوجب تنقيصاً في ملاكه . فملاكه تامّ ، لكن لم ينشأ الحكم على طبقه لأجل المانع ; وهو أتمّية ملاك الغصب ، وهو غير قابل لمنع صحّتها ; لكفاية الملاك التامّ في صحّتها مع قصد التقرّب . فعدم الأمر هاهنا كعدمه في الضدّين المتزاحمين .
وربّما يقال : بالفرق بين المقامين بأنّ باب الضدّين من قبيل تزاحم الحكمين في مقام الامتثال وصرف قدرة العبد بعد صحّة إنشاء الحكمين على الموضوعين ، وباب الاجتماع من قبيل تزاحم المقتضيين لدى الآمر ، فلا تأثير لعلم المكلّف وجهله هاهنا ، بخلافه هناك .
وإن شئت قلت : يكون المقام من صغريات باب التعارض ، ومع ترجيح جانب النهي ينشأ الأمر بالصلاة في غير المغصوب ، والتقييد هنا كسائر التقييدات . فالصلاة في المغصوب ليست بمأمور بها(24) .
وفيه : ـ مضافاً إلى ما عرفت سابقاً من أنّ انسلاك الدليلين في صغرى باب التعارض منوط ومعلّق على التعارض العرفي وعدم الجمع العقلائي ، لا التعارض العقلي الذي في المقام ـ أنّ الكلام هاهنا في صحّة الصلاة بحسب القواعد ، وهي غير منوطة على الأمر الفعلي ، وإلاّ فلازمه البطلان في المقامين ، بل منوطة على كفاية تمامية الملاك في عبادية العبادة ; وهي موجودة في البابين . ومجرّد عدم إنشاء الحكم هاهنا لأجل المانع وإنشائه هناك ـ لو سلّم ـ لا يوجب الفرق بعد تمامية الملاك .
ودعوى عدم تماميته هاهنا ; لأنّ الملاك مكسور بالتزاحم(25) ممنوعة ; لأنّ مقتضى أتمّية ملاك الغصب وإن كان عدم جعل الحكم على الصلاة لكن ليس مقتضاها صيرورة ملاكها ناقصاً; فإن اُريد بالمكسورية النقصان ، فهو ممنوع جدّاً ; لأنّ الملاكين القائمين بالحيثيتين لا معنى لانكسار أحـدهما بالآخـر ، وإن اُريد بها أنّ الحكم بعد تزاحمهما يصير تابعاً للأقوى فهذا مسلّم ، لكن لا يوجب نقصاً في ملاك المهمّ ، فهو على ملاكه باق ، إلاّ أنّ النهي صار مانعاً من تأثيره في جواز التقرّب به ، ومع عدم تأثير النهي لا مانع عن تأثيره في الصحّة بعد كفاية الملاك التامّ .
بل مانعية النهي المعلوم عن صحّة الصلاة لأجل ملاكها التامّ محلّ إشكال في هذا الفرض ، بل الظاهر صحّتها ; ولو مع العلم بالنهي ; لإمكان التقرّب بالحيثية الحاملة للملاك . والنهي المتعلّق بالحيثية الاُخرى لا يوجب البطلان ، وسيجيء زيادة توضيح لهذا ، فارتقب .
التاسع : في شروط جريان النزاع في المقام :
إنّه لا كلام في عدم جريان النزاع في المتباينين والمتساويين ، والظاهر جريانه في الأعمّ والأخصّ المطلقين إذا كان المنهي عنه أخصّ ولم يؤخذ مفهوم الأعمّ في الأخصّ بأن تكون الأعمّية والأخصّية بحسب المورد لا المفهوم ; وذلك لأنّ العنوانين مختلفان ، وهما متعلّقان للأمر والنهي ، كما سيأتي . ومجرّد الاتّحاد في المصداق لا يضرّ المجوّز .
وأمّا العامّ والخاصّ بحسب المفهومين فقد يقال بعدم كونه محلاّ للنزاع ; لأنّ المطلق عين ما اُخذ في المقيّد ، ووصف الإطلاق ليس بشيء ، فلا يمكن أن يقع المطلق مورد الحكمين(26) .
ولأحد أن يقول : إنّ عنوان المطلق غير عنوان المقيّد ، والحكم في المقيّد لم يتعلّق بالمطلق مع قيده ، بل بالمقيّد بما هو مقيّد ونفس الطبيعة بلا قيد لم تكن موضوعاً للحكم في المقيّد ; وهي موضوع في المطلق . فالمطلق في أحد الدليلين ذا حكم دون الآخر ، والأمر الضمني لا أساس له ، فيجري فيهما . والمسألة محلّ إشكال وتأمّل ; وإن كان عدم جريانه أشبه ، وللمقال تتمّة ، فانتظرها .
وأمّا العامّان من وجه فلا إشكال في جريانه فيهما إلاّ إذا اُخذ مفهوم أحدهما في الآخر ، كقوله «صلّ الصبح» ، و «لا تصلّ في الدار المغصوبة» فيأتي فيه الإشكال المتقدّم .
وقد يقال : إنّ جريان النزاع في العامّين من وجه يتوقّف على اُمور :
منها : أن تكون النسبة واقعاً بين نفس الفعلين الصادرين من المكلّف بإرادة واختيار ، كما في الصلاة والغصب ، وأمّا إذا كانت بين الموضوعين ، كما في العالم والفاسق فهو خارج عن محلّ النزاع ; لأنّ التركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي ، ولازمه تعلّق الأمر بعين ما تعلّق به النهي ، فلابدّ فيهما من إجراء قواعد التعارض ، ومنه علم عدم جريانه فيما إذا كان للفعل عنوانان توليديان ; بأن تكون النسبة بينهما العموم من وجه ، كما لو أمر بإكرام العالم ونهى عن إكرام الفاسق ، فقام المكلّف لأجل إكرامهما تعظيماً ; فإنّ القيام يتولّد منه التعظيمان ، وهما وإن كانا بحيثيتين انضماميتين ، لكن الأمر بهما أمر بالسبب ، فينجرّ إلى تعلّقه بشيء واحد وجوداً وإيجاداً .
ومنها : أن يكون بين الفعلين تركيب انضمامي لا اتّحادي ، فيخرج مثل «اشرب ولا تغصب» إذا كان الماء مغصوباً ; فإنّ نفس الشرب هو الغصب ، فالتركيب الاتّحادي لا يجري فيه النزاع(27) ، انتهى كلامه .
وفيه : أنّ قضية التركيب الانضمامي والاتّحادي أجنبية عن مسألة اجتماع الأمر والنهي ، وسيوافيك(28) أنّ الجواز لا يبتني على التركيب الانضمامي ; فإنّ التركيب الخارجي ـ اتّحادياً أو انضمامياً ـ غير مربوط بمقام متعلّقات الأحكام التي هي العناوين لا المصاديق الخارجية .
وعليه يجري النزاع في مثل «أكرم العالم ، ولا تكرم الفاسق» ، وكذا في مثل «اشرب ، ولا تغصب» مع كون الماء غصباً ، وكذا في الأفعال التوليدية ; وإن قلنا بتعلّق الأمر بالأسباب ; فإنّ قوله «أكرم زيداً ، ولا تكرم عمراً» كقوله «قم لزيد ، ولا تقم لعمرو» ، فهما عنوانان مختلفان يجوز تعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ; سواء في ذلك السبب والمسبّب التوليدي ، مع أنّ المبنى ـ أي رجوع الأمر إلى السبب ـ محلّ منع وإشكال .
مقتضى التحقيق هو القول بجواز الاجتماع:
إذا عرفت ما ذكرنا : فالتحقيق هو الجواز ، ويتّضح بترتيب مقدّمات :
الاُولى : أنّ الحكم ـ بعثاً كان أو زجراً ـ إذا تعلّق بعنوان مطلق أو مقيّد يمتنع أن يتجاوز عن متعلّقه إلى مقارناته الاتّفاقية ولوازمه الوجودية حتّى يقع الخارج من المتعلّق تحت الأمر أو النهي ; فإنّ تجاوزه عنه إلى ما لا دخالة له في تحصيل غرضه جزاف بلا ملاك .
وبالجملة : أنّ الإرادة التشريعية كالتكوينية في ذلك ، فكما أنّ الثانية تابعة لإدراك الصلاح ولا تتعلّق إلاّ بما هو دخيل بحسب اللبّ في تحصيل الغرض ولا تسري من موضوعه إلى ما لا دخالة له في وعاء من الأوعية ، فكذلك الاُولى .
وإن شئت قلت : تعلّق الأمر بالصلاة لا يمكن إلاّ إذا كانت الخصوصيات المأخوذة فيها دخيلة في تحصيل المصلحة ، فكما لا يمكن تعلّقه بالفاقد منها كذلك لا يمكن تعلّقه بالخصوصية غير الدخيلة في تحصيلها . وقس عليه تعلّق النهي بعنوان الغصب أو التصرّف في مال الغير بلا إذن منه .
فالمقارنات الاتّفاقية والملازمات الوجودية للمأمور به في الوجود الخارجي أو الذهني كلّها خارجة من تحت الأمر .
الثانية : أنّ الإطلاق ـ كما أوعزنا إليه(29) وسيوافيك في محلّه(30) ـ ليس إلاّ كون ما وقع تحت الأمر تمام الموضوع للحكم .
وأمّا ما ربّما يتوهّم من أنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ المطلق سارياً في أفراده دارجاً في مصاديقه أو مرآة لحالاته(31) فضعيف غايته ; لأنّ سريان الطبيعة في أفراده أمر ذاتي ، على ما حرّر في محلّه ، هذا أوّلاً . وعدم إمكان كون الماهية آلة للحاظ تلك الخصوصيات ثانياً ، بل لابدّ هنا من دالّ آخر يدلّ على الكثرة وراء الطبيعة من لفظة «كلّ» أو «اللام» المفيدة للاستغراق ، ومعه يصير عموماً لا إطلاقاً .
وبه يظهر أنّ ما ربّما يقال : من أنّ معنى الإطلاق هو كون الشيء بتمام حالاته ولواحقه موضوعاً للحكم ، وأنّ معنى قوله : «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» هو أنّه يجب عليك عتقها ; سواء كانت عادلة أم فاسقة ، عالمة أم جاهلة .
ممّا لا أصل له ; إذ الدخيل في الغرض هو ذات الطبيعة لا حالاتها وقيودها المتصوّرة ; ولذلك قد ذكرنا في محلّه(32) : أنّ الإطلاق واقع في عداد الدلالات العقلية ; أي دلالة فعل المتكلّم بما هو فاعل مختار بحسب العقل على أنّ ما أفاده هو تمام مقصوده ومحصّل غرضه .
فعلى ما ذكرنا : فإطلاق قوله سبحانه {أَقِمِ الصَّلَاةَ....} [الإسراء: 78] إلى آخره ـ على فرض إطلاقه ـ عبارة عن تعلّق الحكم بها بلا دخالة لشيء آخر في الموضوع ، وإطلاق قوله «لا يجوز التصرّف في مال الغير بلا إذنه» عبارة عن كون ذاك العنوان تمام الموضوع للحرمة ، فلا يمكن أن يكون الأوّل ناظراً إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، ولا الثاني إلى التصرّف بمثل الصلاة .
الثالثة : أنّ اتّحاد الماهية اللابشرط مع ألف شرط في الوجود الخارجي لا يلزم منه حكاية المعروض عن عارضه إذا كان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها ; لأنّ حكاية اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعُلقة الاعتبارية ، وهو منتف في المقام . وأمّا المعنى والمفهوم اللابشرط فيمتنع أن يكون كاشفاً عن مخالفاته بحسب الذات والمفهوم ; وإنّ اتّحد معها وجوداً .
ألا ترى أنّ الوجود متّحد مع الماهية ، ولا تكشف الماهية عن الوجود ، والأعراض كلّها متّحدة مع معروضاتها ، ولكن البياض لا يكشف عن الإنسان .
وأمّا الانتقال من أحد المتلازمين إلى الآخر أو من أحد الضدّين إلى الآخر فقد مرّ(33) أنّ ذلك من باب تداعي المعاني الذي يدور مدار الموافاة الوجودية أو وقوع المطاردة بينهما في محلّ واحد ، ومثل ذلك لا يسمّى كشفاً ودلالة .
وعليه : فالصلاة وإن اتّحدت أحياناً مع التصرّف في مال الغير بلا إذنه في الخارج ، لكن لا يمكن أن تكون مرآة له وكاشفة عنه ، فالاتّحاد في الوجود غير الكشف عمّا يتّحد به .
الرابعة : ـ وهو الحجر الأساسي لإثبات جواز الاجتماع ـ أنّ متعلّق الأحكام هو الطبيعة اللابشرط المنسلخة عن كافّة العوارض واللواحق ، لا الوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع ; لأنّ تعلّق الحكم بالموجود لا يمكن إلاّ في ظرف تحقّقه ، والبعث إلى إيجاد الموجود بعث إلى تحصيل الحاصل . وقس عليه الزجر ; لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع . ولا الوجود الذهني الموجود في ذهن الآمر ; لأنّه بقيد كونه في الذهن لا ينطبق على الخارج .
بل متعلّق الأحكام هي نفس الطبيعة غير المتقيّدة بأحد الوجودين ، بل ذات الماهية التي تعرّضه الكلّية وتنطبق على كثيرين ، ولها عوارض ولوازم بحسب حالها . ولكن لمّا كان تعلّق الحكم متوقّفاً على تصوّر الموضوع ، والتصوّر هنا هو الوجود الذهني فلا محالة يكون ظرف تعلّق الحكم بها هو الذهن .
فالطبيعة متعلّقة للحكم في الذهن لا بما هي موجودة فيه ولا بما هي موجودة في الخارج ، بل بما هي هي ، مع قطع النظر عن تحصّلـه في الذهن وتنوّرها بـه . والاحتياج إلى تصوّرها ليس إلاّ لأجـل توقّف جعل الحكم على تصوّر الموضوع .
وبالجملة : أنّ وزان الحكم بالنسبة إلى متعلّقه وزان لوازم الماهية إلى نفسها ; فإنّ لزوم الإمكان لها والزوجية للأربعة وإن كان لا يتوقّف على وجودهما خارجاً أو ذهناً إلاّ أنّ ظهور اللزوم يتوقّف على وجود المعروض في أحد الموطنين ; ولذا ذكر الأكابر : أنّ وجود المعروض ذهناً أو خارجاً في لوازم الماهية دخيل في حصول اللزوم لا في لزومه(34) .
فحينئذ : فمتعلّق الهيئة في قوله «صلّ» هو الماهية اللابشرط ومفاد الهيئة هو البعث إلى تحصيلها ، والوجود والإيجاد خارجان من تحت الأمر .
فإن قلت : الماهية من حيث هي ليست إلاّ هي ، لا محبوبة ولا مبغوضة ولا تكون مؤثّرة في تحصيل الغرض(35) ، فكيف يبعث إليها مع كونها كذلك ؟
قلت : قد ذكرنا تحقيق الحال في الكلمة المعروفة بين المحقّقين ، فلا حاجة إلى الإطناب ، بل قد عرفت أنّه لا مناص عن القول بتعلّق الأحكام بنفس الطبائع ; لبطلان تعلّقها بالوجود الخارجي أو الذهني ، وليس هنا شيء ثالث يصلح لأن يقع متعلّق الأمر والزجر ، سوى ذات الماهية اللابشرط ; حتّى يتوصّل به إلى تحقّق الصلاة خارجاً .
وبعبارة أوضح : أنّ المولى لمّا رأى أنّ إتيان الصلاة ووجودها خارجاً محصّل للغرض فلا محالة يتوصّل إلى تحصيله بسبب ; وهو عبارة عن التشبّث بالأمـر بالطبيعة ، والغاية منه هـو انبعاث العبد إلى إيجادها . فمتعلّق الأمـر هـو الطبيعـة ، والهيئة باعثة وضعاً نحو إيجادها ، إمّا لأجل حكم العقل به كما هـو المختار ، أو لأجل دلالته على طلب الوجود ; أي العنواني منه ليحصل الخارجي ، لكن قد مرّ ضعفه .
فإن قلت : إنّ هنا أمراً رابعاً يصلح لأن يقع متعلّق الأحكام ; وهو أخذ الماهية مرآة للخارج ، ولا يلزم المحذورات السابقة .
قلت : إنّ المراد من المرآتية إن كان هو التوصّل به إلى وضع الحكم على المعنون الخارجي فواضح بطلانه ; إذ هو بعد غير موجود ، فلا معنون حين الحكم حتّى يقع متعلّق الحكم ، ولو فرضنا وجوده يلزم تحصيل الحاصل .
على أنّ الطبيعة لا يمكن أن تكون مرآة للوجود ; لما عرفت من أنّ الاتّحاد في الوجود غير الكاشفية .
وإن كان المراد هو وضع الحكم على الطبيعة وجعله عليها بداعي إيجادها في الخارج فهو راجع إلى ما حقّقناه .
وبذلك يسقط ما أفاده المحقّق الخراساني في المقدّمة الثانية ـ التي هي الأساس للقول بالامتناع ـ من أنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف ، وما يصدر عنه . . . إلى آخره(36) .
كما يسقط ما أفاده بعض الأعاظم(37) بترتيب مقدّمات ; عصارتها كون الخارج مؤلّفاً من مقولتين ، والتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي ، فمتعلّق الأمر غير متعلّق النهي خارجاً ; إذ التركيب الانضمامي ـ لو صحّ في الاعتباريات ـ لا يفكّ به العقدة ; لكون الخارج غير مأمور به ولا منهي عنه ، وتعدّده لا يجدي ما لم يرفع الغائلة في متعلّق الأمر والنهي . على أ نّك قد وقفت على وجوه من الضعف في كلامه .
والحاصل : أنّه مبني على القول بتعلّق الأحكام بالوجود الخارجي وما هو فعل المكلّف بالحمل الشائع ، لكن مع بطلان هذا البناء لا محيص عن القول بالامتناع ; كان التركيب انضمامياً أو لا، مع أنّ التركيب الانضمامي بين الصلاة والغصب والتصرّف العدواني لا وجه صحيح له ، كما تقدّم(38) .
ثمّ إنّ تسمية ما ذكر بالتركيب الانضمامي والاتّحادي مجرّد اصطلاح ، وإلاّ فليس انطباق العناوين على شيء من قبيل التركيب .
إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات يظهر لك : أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع ; لأ نّ الواجب هو نفس عنوان الصلاة دون ما يقارنها من اللواحق واللوازم ، ولا يمكن أن يتجاوز الأمر عن متعلّقه إلى ما هو خارج منه ، ومثله النهي بحكم الاُولى من المقدّمات .
وليس معنى الإطلاق في قوله «صلّ» هو وجوب الصلاة ; سواء اتّحدت مع الغصب أم مع غيره ; بحيث يكون الملحقات والمتّحدات معها ملحوظة ومتعلّقة للحكم والوجوب ، وذلك بحكم ثانيتها ، كما أنّ اتّحـاد الصلاة مع الغصب في الخارج بسوء اختيار المكلّف لا يوجب أن تكون كاشفة عنه حتّى يسري من المتعلّق إلى غيره بحكم ثالثتها ، وأنّ محطّ نزول الأحكام ومتعلّقاتها هي نفس العناوين ; وإن كانت الغاية إيجادها في الخارج ، لا الوجود الخارجي ، ولا الذهني بحكم الرابعة منها .
فحينئـذ : فكيف يمكن أن يسري حكم أحـد العنوانين إلى العنوان الآخـر ، بل كلّ حكم مقصور على موضوعه لا يتخطّى عنه ، فعند الوجـود الخارجي وإن كـان العنوانان متّحدين كمال الاتّحاد إلاّ أنّ المجمع الخارجي ليس متعلّقاً للبعث والزجر .
وأمّا ظرف ثبوت الحكمين ففيه يكون العنوانان متعدّدين ومتخالفين ; إذ عنوان الصلاة غير عنوان الغصب مفهوماً وذاتاً ، فأين اجتمع الحكمان حتّى نعالجه؟!
دفع الإشكالات الواردة على القول بجواز الاجتماع:
ومن ذلك يظهر حلّ بعض العويصات المتوهّمة في المقام من :
إنّه يلزم على القول بجواز الاجتماع كون شيء واحد محبوباً ومبغوضاً وذا صلاح وفساد ومقرّباً ومبعّداً ; فإنّ محـطّ الحبّ ومناخ الشوق هـو ما يسعف حاجتـه ويقضي مراده ، وهـو ليس إلاّ الخـارج ; إذ إليه يشدّ رحـال الآمال ، وعنده تناخ ركائبها .
توضيح الضعف : أنّه إن اُريد الاجتماع في المراحل المتقدّمة على الأمر والنهي ; بأن يجتمعا في مبادئهما الموجودة في نفس المولى فهو واضح البطلان ; لأنّ المتصوّر من كلٍّ غير المتصوّر من الآخر ، ومورد تصديق المصلحة غير مورد تصديق المفسدة ، وقس عليهما سائر المراحل ، وكذا العنوان المتعلّق به الحكم من كلّ ، غير الآخر ، لو فرض تعلّق البعث والزجر به .
و إن اُريد كون الموجود الخارجي محبوباً ومبغوضاً فلا محذور فيه ; لأنّ الحبّ والبغض من الأوصاف النفسانية ، وتقوّمها إنّما هو بمتعلّقاتها ; إذ الحبّ المطلق والشوق بلا متعلّق لا معنى لهما ، ولكن ما هو المتعلّق إنّما هو صور الموجودات وعناوينها ; إذ الخارج يمتنع أن يكون مقوّماً لأمر ذهني ، وإلاّ لزم الانقلاب وصيرورة الذهن خارجاً أو بالعكس .
أضف إلى ذلك : أنّ الحبّ أو الشوق قد يتعلّق بما هو معدوم ، والمعدوم يمتنع أن يقع مقوّماً للموجود .
وبما ذكرنا يظهر : أنّه لا مناص عن القول بأنّ متعلّقي الحبّ والبعض متغايران حقيقة ; لأنّ وعاء الذهن وعاء التحليل والتجزئة ، فالصورة التي تعلّق بها الحبّ غير الصورة التي تعلّق بها البغض ، ولمّا كانت العناوين وجوهاً لمصاديقها فلا محالة يصير الخارج محبوباً ومبغوضاً بالعرض وبالواسطة .
لا يقال : كون الموجود الخارجي محبوباً بالعرض خلاف الوجدان والإنصاف ، ولا يقال هذا محبوب إلاّ إذا وجد فيه المبدأ حقيقة ، فعلى القول بالاجتماع يلزم اجتماع مبدأين متضادّين في واحد شخصي .
لأنّا نقول : كون الشيء محبوباً ومبغوضاً لا يستلزم كون الخارج متّصفاً بمبدأين متضادّين ; إذ فرق بين الأعراض الخارجية التي تقع ناعتة لموضوعاتها كالأبيض والأسود ، وبين الأوصاف النفسانية التي لها نحو إضافة إلى الخارج ، كالحبّ والبغض .
فكون الشيء محبوباً ليس معناه إلاّ وجود حبّ في النفس مضافاً إلى صورته أوّلاً ، ثمّ إلى الخارج ثانياً ، ومع ذلك لا يحصل في الخارج تغيّر ولا وجود عرض حالّ في المحبوب .
والحاصل : أنّ هذه الأوصاف ليس بحذائها شيء في الخارج حتّى يلزم وجود مبدأين متضادّين في الوجود الواحد ـ أعني ما تعلّق به الحبّ والبغض ـ بل حبّ كلّ محبّ قائم بنفسه لا يسري إلى محبوبه ; فإنّ الله تعالى محبوب الأولياء والمؤمنين ، ولا يمكن حدوث صفة حالّة فيه بعددهم ، بل المحبوبية والمبغوضية من الصفات الانتزاعية التي يكون لها منشأ انتزاع .
فلابدّ من لحاظ المنشأ ; فإنّ المنتزع تابع لمنشأه في الوحـدة والكثرة ، بل في جميع الشؤون ، وقـد عرفت أنّ منشأ انتزاعها هي الأوصاف والكيفيات النفسانيـة القائمـة بذات النفس المتشخّصـة بالصورة الحاصلـة فيها التي اُخـذت مـرآة للخارج .
وبهذا يظهر صحّة انتساب المحبوبية بنحو إلى ما ليس موجوداً في الخارج ، ولو كان مناط الانتساب قيام صفة خارجية بالموضوع لامتنع الانتساب قطعاً ، ونظيره العلم والقدرة ; فإنّ الشيء يصير قبل تحقّقه معلوماً ومقدوراً ; إذ ليس المناط قيام صفة خارجية بالموضوع .
إذا عرفت ذلك فنقول : يمكن أن يتعلّق الحبّ بعنوان والبغض بعنوان آخر ، فيكون الموجـود الخارجي محبوباً ومبغوضاً ، مع كـون العنوانين موجـودين بوجود واحد .
ألا ترى : أنّ البسائط الحقيقية معلومة لله تعالى ومقدورة ومرضية ومعلومة وهكذا ، ولا يلزم من ذلك تكثّر في البسائط ; إذ التكثّر في ناحية الإضافة ، ولا إشكال في تكثّر الإضافات بالنسبة إلى شيء واحد بسيط ، من غير حصول تكثّر فيه ، كما في الإضافات إلى الباري سبحانه .
ويرشدك إلى ما ذكرنا : أنّه يمكن أن يكون شيء بسيط معلوماً ومجهولاً بجهتين ، كالحركـة الخاصّة الركوعيـة في الـدار المجهولـة غصبيتها ; فإنّها مـع وحدتها معلومة بوصف الركوع ومجهولة بوصف التصرّف في مال الغير ، فلو كانت المعلومية والمجهولية كالبياض والسواد من الصفات الخارجية لامتنع اجتماعهما في واحد .
والسرّ في اجتماعهما وكذا في اجتماع غيرهما : هو كونهما من الاُمور الانتزاعية ; فإنّ المعلومية أو المحبوبية منتزعان من تعلّق العلم والحبّ بالصورة الحاكية عن الخارج ، بلا حدوث صفة في الخارج ، فتدبّر .
وأمّا حديث قيام المصلحة والمفسدة بشيء واحد فهو أيضاً لا محذور فيه ; ل أنّهما أيضاً لا يجب أن تكونا من الأعراض الخارجية القائمة بفعل المكلّف ; لأنّ معنى كون التصرّف في مال الغير ظلماً وقبيحاً وذا مفسدة هو كونه مستلزماً للهرج والمرج ، وموجباً لاختلال نظام العباد ، من غير أن يكون هذه العناوين أوصافاً خارجية قائمة بالموضوع .
وقس عليه الخضوع لله والركوع له ; فإنّ كلّ واحد قيام بأمر العبودية وله حسن ومصلحة ، من دون أن يكون هذه العناوين أعراضاً خارجية .
ومن ذلك يظهر : أنّه لا استحالة في كون المقرّب مبعّداً والمبعّد مقرّباً ; لأنّ المراد منها ليس هو القرب والبعد المكانيين حتّى لا يمكن اجتماعهما ، بل المعنوي من ذلك ، وهو ليس أمراً حقيقياً بل اعتبارياً عقلائياً يدور مدار الجهات الموجبة له عندهم .
ولذلك يرى العقل والعقلاء الفرق بين مَن ضرب ابن المولى في الدار المغصوبة ومن أكرمه فيها ; فحركة اليد لإكرام ابن المولى من جهة أنّها إكرام محبوبة وصالحة للمقرّبية ، ومن جهة أنّها تصرّف في مال الغير عدواناً مبغوضة ومبعّدة . ومسّ رأس اليتيم في الدار المغصوبة من جهة أنّه الرحمة عليه حَسَن وذو مصلحة ، ومن جهة أنّه تصرّف في مال الغير قبيح وذو مفسدة . والصلاة في الدار المغصوبة من جهة أنّها مصداق الصلاة محبوبة ومقرّبة ، ومن جهة أنّها مصداق الغصب مبغوضة ومبعّدة(39) .
وقد عرفت : أنّ الشيء الواحد ـ حتّى البسيط منه ـ يجوز أن يتّصف بمثل هذه الانتزاعيات . ولو أمكن أن يكون الشيء الواحد محبوباً لجهة ومبغوضاً لجهة أمكن أن يكون مقرّباً ومبعّداً من جهتين ، من غير لزوم تضادّ وامتناع .
وأظنّ : أنّك لو تدبّرت فيما هو الملاك في كون الشيء مقرّباً ومبعّداً عند العقلاء ، وأنّ التقرّب والتبعّد في هاتيك المقامات يدوران مدار الاعتبار يسهّل لك تصديق ما ذكرنا .
_____________
1 ـ معالم الدين : 93 ـ 94 ، قوانين الاُصول 1 : 140 / السطر5 .
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 399 ـ 400 ، نهاية الأفكار 1 : 408 ـ 409 ، نهاية الاُصول : 252 ـ 253 .
3 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 16 .
4 ـ كفاية الاُصول : 184 .
5 ـ أجود التقريرات 1 : 332 .
6 ـ أجود التقريرات 1 : 333 .
7 ـ يأتي في الصفحة 29 .
8 ـ لمحات الاُصول : 215 ـ 216 .
9 ـ راجع أنوار الهداية 1 : 267 .
10 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 284 ـ 287 .
11 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 437 .
12 ـ اُنظر كفاية الاُصول : 188 .
13 ـ تقدّم في الصفحة 17 .
14 ـ كفاية الاُصول : 189 .
15 ـ تقدّم في الصفحة 17 ـ 18 .
16 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 400 ، أجود التقريرات 1 : 332 .
17 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 410 ـ 411 و 427 ـ 428 ، أجود التقريرات 1 : 341 ـ 343 .
18 ـ يأتي في الصفحة 38 .
19 ـ لمحات الاُصول : 224 .
20 ـ يأتي في الصفحة 49 .
21 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 424 ـ 427 .
22 ـ يأتي في الصفحة 44 .
23 ـ كفاية الاُصول : 191 .
24 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 429 ـ 431 .
25 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 431 .
26 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 410 .
27 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 410 .
28 ـ يأتي في الصفحة 44 .
29 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 234 و 338 .
30 ـ يأتي في الصفحة 271 .
31 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 564 و 566 .
32 ـ يأتي في الصفحة 163 .
33 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 431 ـ 432 .
34 ـ الحكمة المتعالية 1 : 91 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 60 .
35 ـ كفاية الاُصول : 193 .
36 ـ كفاية الاُصول : 193 .
37 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 407 ـ 409 .
38 ـ تقدّم في الصفحة 31 ـ 33 .
39 ـ كفاية الاُصول : 193 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|