فقه اللغة في كتبنا العربية القديمة (من وصف الحقائق إلى فرض القواعد) |
3241
02:02 مساءاً
التاريخ: 11-7-2016
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 12-7-2016
7251
التاريخ: 12-7-2016
1165
التاريخ: 11-7-2016
3242
التاريخ: 12-7-2016
12502
|
لقد انتهى فقهاء اللغة اليوم إلى أن "وظيفة اللغويّ هي وصف الحقائق لا فرض القواعد"(1)، وتلك وظيفة لم يفهما على حقيقتها أحد مثلما فهمها وطبقها سلفنا الصالح من علمائنا الأولين؛ إذ أنشأوا في فجر الإسلام يجمعون اللغة ورواياتها، ويمحصون نصوصها كل التمحيص، ويخضعونها لطرائق الاستقراء، ليخرجوا منها بما يسمونه "سنن العرب في كلامها(2).
يمكننا القول إذن: إن منهج فقه اللغة عند العرب بدأ وصفيًّا استقرائيًّا، تقرر فيه الوقائع في ضوء النصوص، لا تفرض على أحد ولا
ص26
يُقْضَى بها على أحد, ولكن هذا المنهج السليم سرعان ما انحرف واعتوره الضعف، منذ أن استبدل العرب القواعد بالحقائق, والمعايير بالوقائع، والإلزام المتسلط بالوصف الدقيق الأمين، وبدأ الناس يسمعون من اللغويين مثل هذه اللهجة الجازمة الحاسمة: "وليس لنا اليوم أن نخترع، ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائها, ونكتة الباب أن اللغة لا تؤخذ قياسًا نقيسه الآن نحن"(3).
عوَّلوا أول الأمر على سليقة الأعرابي، وظنوا أنه "إذا قويت فصاحته، وسمت طبيعته, تصرَّف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به"(4)، واقتنعوا بأن الأعراب، "قد يلاحظون بالمُنَّة والطباع ما لا نلاحظه نحن على طول المباحثة والسماع"(5)، ومع احتمالهم أن العربي الفصيح ينتقل لسانه(6) إذا فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها(7)، ومنع رغبتهم حينئذ في رفض لغته، وترك تلقي ما يرد عنه، ورأيناهم يجنحون إلى تقييد الباحثين بما قاسه أولئك الأعراب، وقالوه، فلا يجرؤ أحد على قياس ما لم يقيسوه.
وغَلَوْا في سليقة الأعرابي غلوًّا فاحشًا, حين نسبوا إليه العجز عن نطق كلمة قرآنية بغير لهجته ولحنه، فقرأ أعرابيّ بالحرم على أبي حاتم السجستاني: "طيبى لهم وحسن مآب" فقال له: "طوبى، فقال: طيبى، فعاد أبو حاتم يصلحها له مرة أخرى قائلًا: طوبى، فقال:
ص27
الأعرابي: طيبى، فأصرَّ أبو حاتم على إصلاحها بالواو، والأعرابي يمتنع عن نطقها كما هي في القرآن, ويستمر على لحنه، طي، طي، فلم يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هزٌّ ولا تمرين(8).
وكان من أثر غلوهم هذا في سلائق الأعراب التي طبعوا عليها، أن ضيقوا على أنفسهم المنافذ والمسالك في أخذ اللغة وتلقيها, إلا ممن تتوافر فيهم شروط هذا الطبع السليقي، فانحصر الأخذ والتلقي في قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين"، عنهم نقلت العربية، وبهم اقتُدِي، وعليهم اتُّكِلَ في الغريب، وفي الإعراب، والتصريف(9).
وكان عليهم أن يحددوا موقفهم من قريش بوضوح، فلم تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسميها: "أهل الله"(10)، فرأوا أنها كانت "مع فصاحتها وحسن لغاتها، ورقة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات إلى نحائزهم وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب"(11).
هنا وقعوا على الخطأ المنهجي الأول؛ إذ جعلوا سنن العرب في كلامها ما سنته قريش أو تمثلته، وأخذوا مقاييسهم لما سمعوه من ألفاظها وتراكيبها، ثم فرضوا على أنفسهم وعلى الناس هاتيك المقاييس، فقال قائلهم: "وعلم مقاييس كلام العرب هو النحو....."(12).
ولو وقفوا عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنهم ألحقوا به خطأ منهجيًّا
ص28
آخر حين قطعوا ما بين العربية وأخواتها السامية من صلات، فرأوا خصائص العربية من خلال الزاوية التي أعجبتهم؛ لأنها أوسع اللغات وأشرفها وأفضلها(13)؛ لا من خلال مقارنتها باللغات التي تربطها بها أواصر القربى, وأنكروا أن يكون لغير العرب من البيان أو الشعر أو الاستعارة ما للعرب: "بلى الشعر شعر العرب، ديوانهم وحافظ مآثرهم، ومقيّد أحسابهم"(14).
وخصائص العربية نفسها لم تكتشف على حقيقتها فيما كتبوه؛ إذ كان المؤلفون في هذه الخصائص يبحثون عنها متأثرين بالمنطق الأرسطي الذي لم تقف عدواه عند حد، فكان لها أثر في علم الكلام والفقه، مثلما كان لها أبلغ الأثار في دراسة اللغة(15)، والأدلة على هذا التأثر لا تحصى عددًا, وأوضح مثال لذلك: تعليلهم مقاييس العربية، وأنها على وجه الحكمة كيف وقعت، وأنها أقرب إلى علل المتكملين منها إلى علل المتفقهين ... وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام.
ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة لنا(16)، لذلك نادى ابن مضاء بسقوط كثير من هذه العلل التي لا يراد بها إلّا إثبات الحكمة والمنطق التعليلي للعرب، فقال: "وما يجب أن يسقط من النحو العلل الثواني والثوالث، وذلك مثل سؤال السائل عن "زيد" من قولنا: "قام زيد"، لم رُفِعَ؟ فيقال: لأنه فاعل، وكل فاعل مرفوع، فيقول: ولم رُفِعَ الفاعل؟ فالصواب أنه يقال له: كذا نطقت العرب.
ثبت ذلك بالاستقراء من الكلام المتواتر, ولا فرق بين ذلك وبين من
ص29
عرف أن شيئًا ما حرام بالنص، ولا يحتاج فيه إلى استنباط علة، لينقل حكمه إلى غيره، فسأل لم حُرِّمَ؟ فإن الجواب على ذلك غير واجب على الفقيه"(17).
وانتقلت عدوى المنطق الأرسطي أيضًا إلى العربية عند تطبيق المقولات العشر على أبوب النحو ومباحثه، ومن المعلوم أن هذه المقولات هي:
الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان والإضافة والوضع والملك والفاعلية والقابلية(18)، ومن السهل أن نقارن بين الدراسات النحوية العربية وتلك المقولات إذا تجردنا في نظرتنا إلى بحوث بعض العلماء المعاصريين(19).
أما مباحث القوم حول أصل اللغة، إلهام هي أم اصطلاح، فكانت ذات وجهين، كلاهما يخرج عن المنهج اللغوي الوصفي, ثم يتلون باللون المناسب له، أما أحدهما فغيبيّ "ميتافيزيقي" لا يخلو من سذاجة، كقول ابن فارس: "إن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} ، فكان ابن عباس يقول: "علمه الأسماء كلها، وهي هذه التي يتعارفها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ... "(20). وأما الآخر فمنطقيٌّ في تعابيره واستنتاجاته، لتأثره بالمناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ولا سيما إذا وصفت هذه المناسبة بأنها ذاتية موجبة لا يجوز أن تتخلف، كما كان يرى عباد بن سليمان الصيمري من المعتزلة(21). ولا يبتعد عن هذه الميدان المنطقي تساؤل ابن جني عن اللغة: أمواضعة هي أم إلهام؟ (22)
ص30
ففي المواضعة تبرز تلك المناسبة الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، ويتبين مدى التأثير المنطقي.
من هنا كان علينا أن نُقَصِّيَ جانبًا جميع المباحث التي لا تتعلق بفقه اللغة تعلقًا وثيقًا، فالمنطق الصوري وتعليلاته وأقيسته، وما وراء الطبيعة من الغيبيات، وفرض القواعد والمعايير كما تفرض أحكام القانون، كل هذه ليس من المنهج اللغوي في شيء، فلا مناص من تجديد البحث في فقه اللعة إذا أردنا للغتنا الحياة والخلود.
ص31
________________
(1) Arnold Smith, Gramm. and the use Words, p. VIII
(2) وتجد الكثير من هذه السنن في الكتب اللغوية، كالصاحبي والخصائص والمزهر معزوة غالبًا إلى بعض العلماء الأولين.
(3) الصاحبي 33.
(4) الخصائص 1/ 424.
(5) المزهر 2/ 309.
(6) الخصائص 1/ 421.
(7) نفسه 1/ 405.
(8) الخصائص 1/ 77-78.
(9) الاقتراح للسيوطي 19.
(10) الصاحبي 23.
(11) نفسه 23 أيضًا.
(12) الاقتراح للسيوطي 6.
(13) الصاحبي، باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها 12.
(14) الصاحبي 43, وقد قال ابن فارس هذا في معرض رد الدعوى القائلة أن للأعاجم شعرًا، فهو يؤكد أن العرب قرءوا هذا الشعر فوجدوه قليل الماء, نزر الحلاوة، غير مستقيم الوزن "ص42".
(15) مناهج 17-23.
(16) الخصائص 1/ 46.
(17) الرد على النحاة 151.
(18) راجع مثلًا حاشية العطار على شرح مقولات السجاعي.
(19) كالدكتور تمام حسان في كتابه القيم "مناهج البحث في اللغة" ولا سيما ص18 وما بعدها.
(20) الصاحبي 5.
(21) المزهر 1/ 474 ط/ 3.
(22) الخصائص 1/ 21.
|
|
مخاطر عدم علاج ارتفاع ضغط الدم
|
|
|
|
|
اختراق جديد في علاج سرطان البروستات العدواني
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|