الرياضي المجري 

‏ولد جانكسي (جوني) نيومان Jancsi (Johnny) Neuman في بودابست في ٢٨ ‏ديسمبر عام 1903‏، لعائلة ثرية تعمل بالبنوك. وفي الفترة بين عامي 1890 ‏إلى ، 1910‏ شهدت بودابست ازدهارا اقتصاديا غير مسبوق، وهاجر إليها الكثير من الموهوبين من ريف المجري ومن باقي الدول سعيا وراء الفرص التي أتاحتها هذه العاصمة الأوروبية النامية بقوة. وبحلول عام 1900 ‏كانت بودابست تتباهى بأن بها 600 ‏مقهى، والكثير من المسارح، وأوركسترا سيمفوني ودارا للأوبرا شهيرين، ونظاما تعليميا كان موضع حسد أوروبا . وتهافت على بودابست الناس ذوو الطموح والاجتهاد، حيث نالوا فرص تحقيق النجاح في الحياة الاقتصادية النامية بالمدينة. وكان بين الوافدين الجدد كثير من اليهود الذين اندفعوا أفواجا من كل أنحاء أوروبا إلى مدينة تشتهر بتسامحها الديني وسكانها المستنيرين.

‏وجاء والدا جوني، ماكس ومرجريت نيومان، إلى بودابست من بلدة بيكس pecs ‏على الحدود اليوغوسلافية، شأن الكثير من اليهود في ذلك الحين، في أواخر القرن التاسع عشر. وعمل ماكس بجد وكوفئ على عمله بسخاء، وفدا في غضون سنوات قليلة مسؤولا نافذا في بنك مجري ناجح، ازدهر من جراء إقراض النقود لأصحاب الأعمال الصغيرة وكذلك المشروعات الزراعية. وأحرز ماكس نجاحا كبيرا ، في الواقع، حتى إنه في عدة سنوات استطاع أن يشتري لأسرته شقة تتكون من ١٨غرفة في مبني مقطنه الكثير من الأسر اليهودية الثرية، ومن بينها أسرة شقيق زوجته. وكان أطفال الأسرتين يتجولون بين طوابق المبنى معا ، يركضون داخل الشقتين الفخمتين وخارجهما .

‏وعلاوة على النجاح المالي، حقق ماكس نيومان درجة من النفوذ في السياسة المجرية. وبوصفه شخصية كبيرة في المجتمع المجري ومستشارا ماليا ناجحا للحكومة المجرية، تم منحه في عام ١٩١٣ ‏لقب نبيل يورث لأبنائه. وهو يقابل لقب فارس الذي تمنحه ملكة إنجلترا ، وبالإضافة إلى هذا التشريف الكبير - وهو نادر الحدوث لليهود - بات في مقدور ماكس إضافة اللقب فون ؟؟ ‏في أول اسمه. وصار ماكس فون نيومان، عضوا في طبقة النبلاء المجريين. وتمتع أبناؤه : جون، وهو مولوده الأول، وميشيل ونيكولاس بنفس الامتياز. وفي سن العاشرة أصبح بالتالي الصفير جانكسي نيومان يطلق عليه جون فون نيومان، وكان طوال حياته يعتز بوضعه كنبيل أوروبي. حتى إن الأسرة كانت ترسم شعارات النبالة الخاصة بها ، وتشمل: أرنبا ، وقطا ، وديكا . وكان ماكس يعتقد أن جوني يشبه الديك لأنه اعتاد أحيانا أن يصيح كالديك، وأن ميشيل يشبه القط، أما نيكولاس الأصغر، فإنه كالأرنب. وعرضت أسرة فون نيومان شعارات النبالة الخاصة بها في شقتهم الفخمة بالمدينة، وكذلك على بوابة المزرعة الريفية المترفة التي اشتروها فيما بعد حيث كانوا يقضون بها فصل الصيف، ولم تعتصر الأسرة على عضويتها في الطبقة الأرستقراطية الهنجارية، بل أضحوا من المدافعين الأوفياء عنها . وبعد أن أسست بيلا كون ؟؟ الحكم الشيوعي عام ١٩١٩ ‏، انتقل ماكس فون نيومان إلى فيينا واستدعي الأدميرال هورثي لمهاجمة قوات كون واستعادة المجر، لتحريرها من الشيوعيين للمرة الأولى (حدث ذلك مرة أخري عقب انهيار الاتحاد السوفييتي).

‏في عام ١٩١٣‏الحاسم، حين حازت الأسرة لقب النبالة، وأعلنت الحرب في أنحاء أوروبا، بدأت تظهر على جوني قدرات ثقافية مذهلة، حتى إنه بمضي الوقت أصبح منعزلا عن باقي أفراد الأسرة، أو أي أشخاص من حوله. وقد تم اكتشاف هذا الأمر على نحو بسيط للغاية، عندما سأل (الأب) طفله البالغ من العمر عشر سنوات أن يذكر حاصل ضرب عددين. فتمكن الصبي من الإجابة بسرعة مدهشة، بعدها طلب ماكس منه حاصل ضرب عددين يتكون كل منهما من رقمين، وأجاب الطفل إجابة صحيحة في ثوان معدودة. وكانت مفاجأة مذهلة للأب وأدرك أن ابنه ليس طفلا عاديا. كان جنوني موهوبا خارج تصورات أي شخص.

‏ولم يتكشف إلا لاحقا أن جوني وهو في المدرسة يعرف المواد التي يدرسها أكثر مما يعرفها مدرسوه. وفي نقاشات الأسرة التي كانت تدور حول مائدة الغداء كان يتجاوز بكثير جميع أفراد الأسرة في استيعابه للموضوعات والأفكار المثارة.

‏وما أن فطن أبواه إلي أن وليدهما الأول موهوب علي نحو استثنائي، لم يضيعا الفرصة من أجل إعداده للمجد. فاتفقا مع معلمين خصوصيين بالأجر لتدريس الرياضيات والعلوم المتقدمة له. وقاد الأب مناقشات ثقافية حول مائدة الغداء كان من المتوقع أن ‏يساهم فيها كل فرد بالأسرة. وأتاح هذا للعبقري الصغير صقل مهاراته.

‏وفي سن الحادية عشرة، أرسله أبواه إلي "الجيمنازيوم"، وهو معهد أوروبي يناظر المدرسة الثانوية، كان يقبل في المعتاد التلاميذ الاكبر سنا من ذلك بعدة أعوام. وهناك درس جوني الرياضيات، واليونانية، واللاتينية، وغيرها من المواد الدراسية. ونبغ فيها جميعا . وعلي الفور أدرك لاسلو راتز، أحد مدرسي الرياضيات بالمدرسة، أن لديه في فصله طالبا عبقريا . وذهب إلي ماكس فون نيومان واقترح علي الأسرة أن توفر لابنها تعليما أكثر في الرياضيات. وتم ترتيب أن يتولى راتز تدريس الرياضيات لجوني خارج الفصل الدراسي المعتاد ثلاث مرات في الأسبوع في دروس خصوصية. وسرعان ما أدرك راتز أن جوني يعرف أكثر مما يعرفه. وأخذه راتز إلي جامعة بوادبست. وهناك التحق الطفل - بالتأكيد كان أصغر طالب يلتحق بالجامعة علي الإطلاق - في فصول لدراسة الرياضيات المتقدمة.

‏وبعد عام من انضمامه للجامعة، سأله أحد زملائه الطلاب (الاكبر منه بعدة سنوات) إن كان قد سمع عن فرضية معينة في نظرية الأعداد. وكان جوني علي علم بالفرضية - إذ كانت نتيجة لم يبرهن علي صحتها بحث أمرها كثير من الرياضيين وسأله زميله (الذي نال جائزة نوبل بعد عدة سنوات) إذا كان يمكنه إثبات صحتها . ولبث جوني يعمل علي الفرضية لعدة ساعات، حتي أمكنه البرهنة عليها . وفي غضون عام التحق بالجامعة الفنية الشهيرة في زيوريخ، الـETH ‏(وهي الكلية التي تخرج منها أينشتين)، وبعدها بفترة قصيرة التحق بجامعة برلين، وفي المعاهد الثلاثة أذهل أساتذة الرياضيات المشاهير، ومن بينهم دافيد هلبرت ( ١٨٦٢ ‏- ١٩٤٣ ‏) ذائع الصيت، لفهمه الحاذق للرياضيات، وقدراته التي لا تصدق علي حساب وتحليل المسائل بسرعة لا تباري.

‏وأثناء حل أي مسألة رياضية، يدير فون نيومان وجهه للحائط، ووجهه خال تماما من أي تعبير، ويغمغم بينه وبين نفسه لعدة دقائق. مستغرقا تماما في المسألة، لا يري أو يسمع شيئا مما يحدث حوله. ثم فجأة يستعيد وجهه تعبيره المعتاد ويستدير بعيدا عن الحائط وفي هدوء يعلن إجابة المسألة

‏ولم يكن جوني فون نيومان هو المثقف البارز الوحيد الذي أنتجته بودابست خلال تلك السنوات. فإن ستة من الحاصلين علي جائزة نوبل أنجبتهم بودابست بين عامي ؟؟ ‏(خمسة منهم من اليهود). كما أن هناك أربعة من رواد العلوم الحديثة والرياضيات ولدوا في بود ابست أيضا في غضون هذه الفترة. وجميعهم التحقوا بالمدارس الممتازة بالمجر، والمدارس الثانوية الجيمنازيوم ونشأوا بهذا البلد. وبعد نصف قرن من ذلك، سئل يوجين فيجنر Engene Wigner‏- أحد هؤلاء العباقرة العشرة والحاصل علي جائزة نوبل - عن رأيه في تعليل هذه الظاهرة. أجاب فيجنر بأنه لم يفهم السؤال، وقال إن المجر لم تنجب إلا عبقريا واحدا ، اسمه جون فون نيومان.

‏وقد هاجر معظم العباقرة المجريين إلي الولايات المتحدة، حيث ظهر تأثيرهم عميقا علي تطور العلوم الحديثة. وما أن وصلوا إلي أمريكا حتي أذهلت مواهبهم

‏الخاصة المجتمع العلمي، وبدأ البعض نصف جاد يتوقع أن هؤلاء العلماء الأجانب ليسوا مجريين، بل إنهم غرباء من الفضاء الخارجي صمموا علي الهيمنة علي العلوم في أمريكا . وكان تيودور فون كارمان  Theodore von Karman ‏أول من وصل ضمن عشرة علماء إلي أمريكا . وتبعه إدوارد تيللر Edward  Teller ‏وأخرون، منهم جون فون نيومان، وذلك في ثلاثينيات القرن العشرين. وبمجرد وصول تيللر، فوجئ بالقصة الخاصة بأنهم من خارج الكرة الأرضية وأنهم هذه الأرواح الحارسة. واتخذت ملامح تيللر تعبيرا يدل علي الانزعاج ثم قال: لابد أن فون كارمان قد تكلم.

‏بيد أنه قبل الهجرة إلي الولايات المتحدة كان جوني فون نيومان - بلا جدال الأعظم عبقرية بينهم جميعا - قد تلقي مزيدا من التدريب الراقي في الرياضيات والعلوم، معا ساعده علي الارتقاء ليغدو واحدا من أعظم علماء الرياضيات في عصره. وقد أتم هذا التدريب في جامعات زيوريخ، وجوتنجن، وبرلين.

‏وفي عام ١٩٢٦، ذهب فون نيومان إلي جوتنجن واستمع إلي محاضرة ألقاها ويرنر هايزنبرج عن ميكانيكا المصفوفة والفرق بين مقاربته لميكانيكا الكم ومقاربة شرودنجر (تقريبا المحاضرة نفسها التي استمع إليها المؤلف في بيركلي بعد ٤٦ ‏عاما) . ومن بين المستمعين أيضا كان ديفيد هيلبرت، أعظم الرياضيين في عصره. واستنادا إلي نورمان ماكرا Norman Macrae ‏في كتابه (John von Neumann AMS,) ، الصادر عام ١٩٩٩ ‏، لم يفهم هيلبرت نظرية الكم كما عرضها هايزنبرج وطلب من مساعده أن يشرحها له، وشاهد فون نيومان الواقعة وقرر أن يشرح نظرية الكم لعالم الرياضيات العجوز بلغة يستطيع فهمها ، أي، بلغة الرياضيات. ولكي ينفذ ذلك، استخدم فون نيومان أفكار فضاء هيلبرت Hilbert Space ، الأمر الذي أبهج هيلبرت كثيرا .

‏وإلى يومنا هذا ، يستخدم الفيزيائيون فضاء هيلبرت لشرح وتحليل عالم الجسيمات الدقيقة، وفضاء هيلبرت متجه موضع خطي في الفراغ له معيار؟؟ ‏(مقياس للمسافة)، وله خاصية الاكتمال  Completeness‏.

‏وقد وسع فون نيومان الورقة التي كتبها لهيلبرت في عام ١٩٢٢ ‏لتصبح كتابا يسمي The Mathematical Foundations of Quantum Mechanics ، وصدر عام ١٩٣٢. وأوضح فون نيومان أن هندسة المتجهات علي المستوي المركب لها الخواص التقليدية نفسها لحالات النظام الميكانيكي الكمي. أيضا اشتق فرضية، مستخدما بعض الفروض عن العالم الفيزيائي، أثبتت أنه ليس ثمة متغيرات خافية يمكن بتضمينها تقليل عدم التحدد (اليقين) في النظم الكمية. وفي حين أن الأجيال القادمة قد تتفق مع النتيجة التي توصل إليها ، فقد عارض جون بل John Bell بنجاح فروض فون نيومان في أوراقه الجسورة في ستينيات القرن العشرين. وعلي الرغم من هذا لا يزال فون نيومان أحد واضعي الأسس الرياضية لنظرية الكم، ويحظى عمله بأهمية في إرساء النماذج الرياضية للظواهر الفيزيائية التي يتعذر تفسيرها في عالم الكم. وأحد المفاتيح المهمة من بين هذه المفاهيم هي فكرة فضاء هيلبرت.

‏وتجدر الإشارة إلي أن فضاء هيلبرت، الذي يرمز له بالرمزH‏، هو فضاء متجه خطي كامل (كلمة كامل تعني أن تسلسل العناصر في هذا الفضاء تتجمع مع عناصر الفضاء). وكما في تطبيقات الفيزياء، يتحدد الفضاء من بدايته إلي نهايته بالأعداد المركبة، اللازمة لمنح الفضاء الثراء الضروري لجعله نموذجا مناسبا في الأوضاع المختلفة. كما أن الأعداد المركبة هي الأعداد التي تتضمن العنصر i، وهو الجذر التربيعي لسالب واحد. ويتيح فضاء هيلبرت للفيزيائيين التعامل مع حساب المتجهات، بمعني: التعبيرات التي تحتوي علي المقدار والاتجاه - بوضع أسهم صغيرة في فضاء هيلبرت. ويمكن إضافة أو طرح هذه الأسهم، وضربها في الأعداد. وهذه الأسهم من الأسس الرياضية  ‏للنظرية الفيزيائية لأنها تمثل حالات للنظم الكمية.

‏وانتقل فون نيومان إلي معهد الدراسات المتقدمة في برنستون أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. ولم يحدث أن التقي قط مع أينشتين وجها لوجه. وكانت الاختلافات بينهما غالبا اختلافات سياسية - فقد كان فون نيومان يري أن أينشتين رجل ساذج، أما هو فيعتقد أن جميع الحكومات التي تميل إلي اليسار نظم ضعيفة تدعم سياسات ‏محافظة علي نحو دوجماتي. وقد اشترك في مشروع مانهاتن Manhaten Project ‏، وعلي عكس أغلب العلماء الذين أسهموا في صنع القنبلة الذرية، لم تظهر علي الإطلاق معاناته من أي أزمات أخلاقية نتيجة لهذا العمل.

‏وكانت حقيقة الإسهامات الكبيرة التي قدمها فون نيومان لنظرية الكم خارج نطاق أي تساؤلات. وأضحي كتابه في ذلك الموضوع أداة لا غني عنها للممارسين، ومعالجة مهمة للأسس الرياضية لميكانيكا الكم.