أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-4-2019
1628
التاريخ: 16-4-2021
3002
التاريخ: 22-4-2021
1996
التاريخ: 10-9-2016
5145
|
وقد إعلان الاستسلام من دون قيد أو شرط دخلت أراضي اليابان قوات الاحتلال التي شكلت من فرق عسكرية أمريكية، سوفيتية، ومن كندا، وفرنسا وبريطانيا والصين والهند واستراليا ونيوزيلندا والفلبين وهولندا، إذ وضعت تلك القوات تحت قيادة الجنرال الأمريكي دوغلاس ماك آرثر القائد الأعلى لقوات التحالف في اليابان.
كان التخطيط لتغيير النظام الياباني قد بدأ فعلاً قبل أشهر من اعتراف اليابان بهزيمتها. وبادر الأمريكيون على الفور الى محاكمة نظامها الإمبراطوري وعدوه نظام تسلطي يخضع فيه الإنسان لإدارة الإمبراطور المطلقة، ووعدوا اليابانيين بتحويل بلدهم الى نظام ديمقراطي على النمط الغربي، وألقيت محاضرات عدة في مناطق متفرقة من اليابان؛ لتوضيح طبيعة الاحتلال الأمريكي لليابان. وأعلن الأمريكيون مرات أنهم لن يمارسوا الوصاية على الشعب الياباني، بل سيقدمون له النصح لحمله على تبني نظام سياسي جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية التي هي سمة العصر، وأنهم عازمون على منح اليابان دستوراً جديداً يعيد الصلاحيات الكاملة للشعب الذي هو مصدر جميع السلطات في الدول الديمقراطية العصرية.
بعد الاحتلال الأمريكي لليابان الذي أعلن من المذياع وبصوت الإمبراطور في 15 آب 1945. وهو التاريخ الذي أصبح رمزياً بكونه نهاية للماضي وبداية للحاضر، ومع ذلك كان الماضي أكثر حضوراً في الحاضر لأن اليابان الجديدة كما أصبح يطلق عليها كانت نسخة معدلة من اليابان
وكان الحاضر إشكالي أيضاً، إذ تعددت توصيفات العهد الجديد تحرير احتلال أم هزيمة،
وقد فرق دوغلاس ماك آرثر، القائد الأعلى للقوات الحليفة بين عهدين الإقطاع والديمقراطية مما
يعني أن الأمريكيين كانوا يريدون دولة يابانية أخرى بعيدة عن جذورها وماضيها وتاريخها. بدأ اليابانيون البحث عن أنساق جديدة لبناء دولتهم. وكانت الحداثة بمفهومها الأمريكي قد طغت على كل شيء تقريباً، فقد حاول الأمريكيون أن ينقلوا قيمهم بكثافة ليبينوا للشعب الياباني الذي كان مهزوماً ويعيش حالة الاضطراب الاجتماعي، انعكست على نحو واضح على الحياة أن القيم الأمريكية هي الحل الأمثل لخروج اليابان من أزمتها الحادة وأن الحداثة هي الأمركة كما فهمها الأمريكيون هي المنظور الصحيح الذي يجب أن يسير عليه اليابانيون وكان الوضع الاقتصادي المتدني قد زاد الوضع سوءاً. كانت السنوات الأولى للاحتلال صعبة ومعقدة بالنسبة لليابانيين الذين عانوا من محاولات الأمريكيين، جعلها سنوات للعقاب واعتباراً من عام (1945 – 1948)، طغت الحداثة على كل شيء ولاسيما وأن كل شيء كان بيد سلطات الاحتلال، وعلى نحو خاص القائد الأعلى للقوات الحليفة ماك آرثر الذي حاول أن يعيد بناء اليابان وفقاً للرؤية الأمريكية .
خرجت اليابان من الحرب العالمية الثانية مثقلة بالآلام والهزائم، فقد تسببت هذه الحرب في أنهيار . جميع انجازاتها السابقة أو كادت، وفقدتها مورداً بشرياً هائلاً كانت قد اعتمدت عليه في إنجاز نهضتها التي انطلقت من عهد ميجي (1886 - 1912) في منتصف القرن التاسع عشر. هذا في الجانب العسكري ، أما في الجانب السياسي فقد تسلمت حملة التطهير (The Purge) الأمريكي ما يقارب (220) ألف ياباني ، وطال هذا التطهير طاقات وشخصيات مالية منتجة وفاعلة، كما شمل التطهير مؤسسات اقتصادية كبيرة أهمها الزايباتسو (Zaibatsu). فالولايات المتحدة الأمريكية قد حددت أهدافها الرئيسية لاحتلال اليابان في أمرين: نزع سلاح اليابان أولاً ، وتحويلها الى بلد ديمقراطي ثانياً .
إن التفتيت المادي والاجتماعي والنفسي الذي جلبته الحرب ، جعل الكثير من اليابانيين بلا مأوى وهم جوعى، مشتتون فكرياً، وكان الموقف مخيفاً، يبعث على التشاؤم، مما فسح المجال لبداية جديدة فليس لهم خيار سوى أن يتحملوا ما لا يحتمل كما قال الامبراطور، وتحول هذا الرمز المقدس الى طاقة اجتماعية استثمرت في لحظتها المناسبة، واستطاعت بشجاعة أن تعيد للأشياء قيمتها وتمنح للإنسان الياباني فرصة جديدة لبناء نفسه، ولم يكتف الإمبراطور بذلك، بل كان على استعداد أن يفعل أي شيء لمصلحة وخير شعبه، وقد تكون مسؤولية الحرب أو جزء منها التي يتحملها الإمبراطور مما دفعه أن يجعل الاستسلام ،واقعاً، أو أدرك فعلاً أن الاستسلام هو الفرصة الوحيدة التي يجب أن يستثمرها الإنسان الياباني من أجل بناء مستقبله .
أنهارت الهيمنة التقليدية التي مارستها المؤسسة العسكرية في اليابان قبل الحرب العالمية الثانية، بعد تبلور هزيمة اليابان في تلك الحرب واحتلالها بواسطة القوات الحليفة التي كانت في واقعها قوات أمريكية .
كانت تلك المرحلة حاسمة في تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، لأنها سبقت مباشرة اعتراف الإمبراطور العلني بهزيمة بلاده في الحرب، والخضوع لجيوش أجنبية تحتل أرض اليابان أول مرة في تاريخها، وأكد المخطط التوجيهي أن جغرافية) اليابان المشار إليها في هذه الوثيقة مقصورة على الجزر الأربع الكبرى هوكايدو، وهونشو، وكيوشو، وشيكوكو)، فضلاً عن قرابة ألف جزيرة صغيرة، بما فيها جزر تسوشيما (Tsushima) .)). ثم ركز المخطط على ثلاث محاور أساسية، إرشادات عامة، ومنها توجيهات سياسية، الثاني إرشادات في المجال الاقتصادي والقضايا المدنية والثالث: إرشادات في القضايا المالية.
وإن على القوى المتحالفة دخول العاصمة طوكيو وجميع المدن الكبرى والأماكن التي تراها ضرورية لمراقبة الوضع الميداني بشكل مباشر، وأن على القائد الأعلى للقوى المتحالفة أن يمارس الرقابة على اليابان من خلال الإمبراطور والإدارة اليابانية في المناطق المختلفة. وترمي الإرشادات الجديدة الى استخدام الإدارة القائمة لتنفيذ ما يصدر إليها من تعليمات وليس دعم الإدارة في عملها بموجب القوانين السابقة.
كان التوجه الجديد يرمي الى تجاوز التقاليد الإقطاعية الاستبدادية للحكومات اليابانية المتعاقبة في ظل النظام الإمبراطوري، فطلب الى الإمبراطور أن يلغي بنفسه جميع القوانين، والقرارات والإرادات، والتنظيمات التي تتناقض وإعلان بوتسدام، كما طلب الى القيادة العليا أن تتأكد من نزع سلاح جميع القوى العسكرية اليابانية، بما فيها سلاح قوى الأمن الداخلي، مع الاحتفاظ سلاح البوليس المحلي فقط. وفرض على المتطوعين من المدنيين تسليم أسلحتهم للقوى المتحالفة، فضلاً عن تسليم أسلحة كل التنظيمات شبه العسكرية كما طلب الى القيادة العليا أن تصادر كل الأسلحة والذخائر أو تدمرها إينما وجدت، وكذلك كل القطع البحرية والآلات العسكرية بما فيها الطائرات المخصصة للاستخدام المدني، وفرضت رقابة صارمة لمنع إعادة إنتاج أي سلعة يمكن أن تستخدم لأغراض حربية.
لا شك أن هزيمة اليابان في الحرب ترتب عليها حدوث تحولات ضخمة، إذا ما قورنت بالتغيرات التي حدثت في المراحل التاريخية السابقة فالصناعة وصلت إلى حالة الشلل. بعد توقف المصانع الحيوية والسكك الحديدية نتيجة لنقص الطاقة والمدخلات الصناعية، وفي أعقاب الحرب مباشرة في 1945 و1946 أنهار الإنتاج الى 20% مقارنة بدورة الإنتاج في وقت الحرب، أو 30% من ذروة الإنتاج في فترة ما قبل الحرب كما هو واضح بين عامي 1934 و1936.
وكان نقص المدخلات الصناعية هو السبب الرئيسي وليس نقص الطاقة الإنتاجية وذلك
نتيجة لغرق معظم السفن الحربية والتجارية اليابانية، إذ فقدت اليابان وسائل نقل الطاقة والمواد الخام بين ومستعمراتها، ونتيجة لذلك توقف الإنتاج وكان ذلك هو السبب الأساسي في إنهيار اليابان في
الحرب .
أما الإنتاج الزراعي، فقد انخفض الى ما يقارب الثلث نتيجة مضي سنوات طويلة دون تحديث الآلات ودون استخدام مخصبات مناسبة، فضلاً عن عدم توفر القوى العاملة اللازمة، وأصبح الاقتصاد الياباني اقتصاداً عاجزاً بدرجة خطيرة بعد أن حرم من التدفق الطبيعي للتجارة. أما في الجانب النفسي فقد تعرض الشعب الياباني لضغوط سيكولوجية متزايدة بسبب الحرب، ترتب عليها انهيار الأخلاقيات وتفشي الأمراض الاجتماعية، والفساد السياسي، وهو ما لم يألفه المجتمع الياباني. كان الهدف الأهم بالنسبة للاحتلال نزع سلاح اليابان، وهو ما تحقق سريعاً، وتحويل البلد الى (الديمقراطية)، بإعادة بناء المؤسسات السياسة اليابانية بهدف إزالة النواحي السلطوية في دستور الميجي، وإقامة إطار هيكلي قوي للديمقراطية. وأكثر النواحي شمولاً في برنامج الاحتلال الهادف الى فرض الديمقراطية، هو البدء بمجموعة عريضة من الإصلاحات الاجتماعية هدفها تغيير البنية الاجتماعية والاقتصادية الثقافية والسياسية اليابانية. شهدت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية مرحلة تغييرات جذرية على صعد أساسية متعددة، ولاسيما في مجال الإصلاحات الدستورية المتتالية لتحديد موقع المواطن الياباني في النظام السياسي والاجتماعي، فجاء الدستور الجديد ليؤكد على سيادة الشعب وقيام نظام برلماني على أسس انتخابات مباشرة يشارك فيها جمع المواطنين ذكوراً وإناثاً بلا تمييز.
وتقلص دور الإمبراطور السياسي الى مجرد رمز للدولة، وتوجه اليابان نحو السلم والإقلاع
النهائي عن التسلح كما تؤكد المادة التاسعة منه. بموجب الدستور الجديد، ضمن الفرد الياباني أن يقرأ ويكتب ويقول ما يريد، وأن يعيش إينما يريد، وأن يتزوج من يشاء، ويصوت لقادته السياسيين، وإن يعبد كيف ومتى ومن يشاء، وأن يقاض الدولة بشأن التعويض في حالة اعتقاله عن طريق الخطأ. كانت الحقوق الفردية مضمونة باعتبارها جزء من الديمقراطية، لذلك إن حقوق الإنسان) كانت القول السائد في اليابان، سرعان ما ينتشر متى ما حصل فعل استبداد من السلطان يتناقل في الصحف.
وسحبت الدولة تأييدها لديانة الشنتو التي كرست قدسية الإمبراطور، وتخلي الإمبراطور الياباني رسمياً وعلى الملأ في الأول من كانون الثاني 1946 عن أية مطالب أو أدعاءات تضفي عليه مركز القداسة وعلى أثر ذلك صدر في السادس والعشرين من تشرين الأول 1947 قانوناً يلغي جريمة الطعن في الذات الإمبراطورية، ليتحول الإمبراطور الى مجرد رمز يستمد وضعة من إرادة الشعب. ليغير بذلك رؤية اليابانيين للماضي والحاضر.
أثارت الاصلاحات المفروضة من الخارج ردود أفعال متباينة لدى اليابانيين، فقد أصدرت اغلبها الإدارة الأمريكية في اليابان خلال عامي 1946 و1947؛ وأبرزها: إصدار الدستور الياباني الجديد والقانون المدني، وإنشاء الاتحاد العمالي العام والإصلاح الزراعي، وحل الزايباتسو، وإدخال تعديلات جذرية على نظام التعليم. وطوال هذين العامين كانت التدابير والقرارات والتوجيهات التي أصدرتها جميعها القيادة العليا؛ تهدف الى تصفية الركائز القديمة التي ساعدت على توليد النزعة التوسعية للإمبريالية اليابانية وإبدال بنى جديدة بها، تقتبس من نظريات الديمقراطية الغربية لتعيد تشكيل الركائز السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة للدولة اليابانية التي أعيد تجديدها في ظل رقابة أمريكية مباشرة وصارمة وفي أواسط عام 1947، كانت تلك المهمة قد أنجزت بشكل شبه تام. وفي تموز من العام نفسه أعلنت القيادة العليا عزمها على البدء بتنفيذ مخطط جديد يهدف الى استنهاض المجتمع الياباني حتى يستعيد دوره مجدداً، بحيث تكتسب برامج الإصلاح التي أعدتها القيادة في المجالات المختلفة ثقة الشعب الياباني فيشارك في تنفيذها.
ولتحقيق تلك الغاية أصدرت قيادة الاحتلال عدداً من القرارات التي تم بموجبها إطلاق سراح عشرات آلاف اليابانيين من السجون التي أودعوا فيها لإسباب متنوعة. وكان من بين المفرج عنهم قادة الحزب الشيوعي الياباني، الذين كانوا قد مضى على اعتقال بعضهم أكثر من عشر سنوات، وخلال عامي 1948 و1949، أصدرت القيادة العليا عدداً من التشريعات المهمة؛ بهدف استنهاض الاقتصاد الياباني مجدداً، وخاصة بعد نجاح الثورة الشيوعية في الصين واحتمال اندلاع حرب في كوريا، ولمحاربة الشيوعية داخل اليابان وفي منطقة آسيا كلها.
وبالتدرج تم إدخال مواد ذات صبغة يابانية في المحتوى، وسياسية للأبطال اليابانيين لإضفاء صيغة محلية على نسق القيم الجديدة، ومع ذلك بقي محتوى مناهج المدارس موضوعاً بخلاف كبير، بدأ ماك آرثر والحكومة الأمريكية يخشون من سقوط اليابان في قبضة الشيوعية. وهذا أدى بدورة الى تغيير جذري في سياسة الاحتلال في سنة 1947إذ تم التخلي عن التأكيد السابق بتحويل اليابان الى سويسرا أخرى لصالح يابان واحدة لكنها مع ذلك غير مسلحة وحليفة للغرب تتمتع بكل الدعم والحماية الأمريكية كدولة تابعة وبناء على ذلك تم إعادة تأهيل عدد من السياسيين المحافظين الداعمين للتحالف ( كان عدد منهم قد تم إقصاءه الذين استطاعوا الهيمنة على السياسة اليابانية، كما برزت مرة أخرى أسر زيباتسو ولكن كتنظيم أقل صرامة والتي استطاعت بسعة استعادة هيمنتها على الاقتصاد الياباني، بنهاية الاحتلال أعادت مؤسسات زايباتسو الكبيرة (متسوى، ميتسوبيشي، وسوميتومو وغيرها) بناء نفسها وتوسيع نشاطها وعملت على إنشاء شبكة من
الشركات التي تسيطر على الاقتصاد الياباني في الوقت الحاضر، ومع وجود بيروقراطية نخبوية على القمة وكحليف مفضل للولايات المتحدة كانت اليابان جاهزة لبدء استراتيجيتها المذهلة لردم الفجوة في مرحلة ما بعد الحرب.
اتجهت سلطة الاحتلال الى إنهاء الأفكار القديمة لدى اليابانيين، لتحقيق الهدف النهائي المتمثل بتأسيس حكومة يابانية مسالمة، لا تشكل خطراً على المصالح الأمريكية. فأصدر القائد الأعلى في 4 كانون الثاني 1946توجيهاً أطلقت عليه سلطة الاحتلال أسم إزالة واستثناء الموظفين غير المرغوب فيهم من المكتب العام) وعرف اصطلاحاً بـ (حملة التطهير) (The purge) (1) . وبعد نجاح خطوات الإصلاح التي فرضها الأمريكيون على النظام السياسي بدأوا القيود السابقة بصورة تدريجية، وقد أسهمت الظروف الإقليمية، كانتصار الثورة الشيوعية في الصين، والأزمة الكورية، الى جانب تبني الأمريكيين مبدأ محاربة الشيوعية، أينما وجدت وغيرها في تحقيق الرغبة اليابانية في الحصول على التكنولوجيا المتطورة وشكلت تلك المرحلة حقبة انتقالية بالغة الأهمية في تاريخ اليابان المعاصر، ففي 18 كانون الأول 1948 أصدرت القيادة العليا لقوات التحالف في اليابان (برنامج الاستقرار الاقتصادي) الذي كان يهدف الى استقرار النقد والضرائب والأجور، والأسعار على جميع الأراضي اليابانية . واتخذت حكومات اليابان تدابير سريعة وفاعلة لتطبيق هذا البرنامج بحيث تبرز نتائجه الإيجابية بشكل فوري عن طريق زيادة الإنتاج الى أقصى حد ممكن. فبدأ الاقتصاد الياباني يستعيد حيويته عبر مشروعات التنمية التي جذبت بعض رؤوس الأموال الخارجية، ولاسيما الأمريكية منها، واستقر سعر صرف الين الياباني مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى واستقرت معه نسبة الفائدة على القروض الداخلية والخارجية، فاتجه الاقتصاد الياباني بسرعة نحو مزيد من التراكم في الإنتاج الفائض المالي، بسبب كفاءة الإدارة اليابانية ذات الخبرة الواسعة في تحقيق فائض مهم من الأرباح.
إن السياسة الأمريكية في اليابان أثناء الاحتلال والتي عرفت بسياسة ((العقاب والإصلاح)) لم يكن ضمن أولوياتها كما أشرنا سلفاً النهوض بالاقتصاد الياباني الذي دمرته الحرب. نتيجة مباشرة لسياستها كان هدف الاحتلال تحطيم البنى الاقتصادية لليابان، التي كانت تعد أهم الركائز التي قامت عليها قوة اليابان ومكانتها من التوجه نحو التوسع والعدوان.
لكن الظروف الدولية والداخلية حتمت تحولاً وتغييراً في سياسة الدول المنتصرة في الحرب
العالمية الثانية بشكل عام، وسياسة الاحتلال الأمريكي في اليابان على نحو خاص. بدأت وحدة العالم الخارجي والمنتصر الذي كان في مواجهة الدول المنهزمة في الحرب العالمية الثانية، ومنها اليابان تتفتت بحلول خريف عام 1948، إذ لاحت بوادر الحرب الباردة. وكانت سياسة الاحتلال الأمريكي ترى بأن هناك وقتاً كثيراً لإجراء الإصلاح) في اليابان، وأن التقدم الاقتصادي الياباني هو قضية يابانية محضة، لكن بعد تنامي الشيوعية في الصين وسيرها نحو الانتصار في حربها الأهلية. وبدأ الانقسام العالمي يتنامى، وظهر معسكران متعاديان شرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي وغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. كانت اليابان تقف على الحد بينهما جغرافياً وسياسياً، لذلك كانت واشنطن تنظر الى اليابان على أنها مساحة معركة حيوية في الحرب الباردة، ولكونها طاقة صناعية كبيرة، في الأساس، فيكمن أن تكون عاملاً مهماً في النزاع الدولي، وتحويلها الى حصن العالم الحرفي آسيا وبهذا التحول الدولي أصبح الانتعاش الياباني هدفاً كبيراً ليس لليابانيين وحدهم بل للولايات المتحدة الأمريكية نفسها، لذا تم تعديل أو إسقاط الإجراءات التي تتعارض معه.
وبعد نجاح خطوات الإصلاح التي فرضها الأمريكيون على النظام السياسي الياباني بدأوا القيود السابقة بصورة تدريجية، وقد أسهمت الظروف الإقليمية، كانتصار الثورة الشيوعية في الصين، والأزمة الكورية، الى جانب تبني الأمريكيين مبدأ محاربة الشيوعية إينما وجدت، وغيرها في تحقيق رغبة اليابان في الحصول على التكنولوجيا المتطورة وشكلت تلك المرحلة حقبة انتقالية بالغة الأهمية في تاريخ اليابان المعاصر.
بعد أن جاءت توصيات جوزیف دودج Doge Joseph (1890 - 1964) الذي أرسلته واشنطن في الأول من شباط عام 1949 الى طوكيو لدراسة الوضع الاقتصادي الياباني، الذي أمر بتنفيذ معايير صارمة للقضاء على التضخم، وأطلق على حزمة توصياته ((خطة دودج)) Dodge line وقد نجحت سياسته في وقف التضخم، ومن خلالها أتاح الوصول الى استقرار الأسعار، وعمل ليكون الاقتصاد أكثر حرية عن ذي قبل. كانت الظروف الدولية تشير باتجاه مصلحة اليابان دون تخطيط منها واستفادة منها على أكمل وجه بمقدار ازدياد التحول في سياسة الاحتلال الأمريكي في اليابان. أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر استعداداً للاعتراف بأن اليابان قد أوفت بالتزاماتها فيما يخص شروط الاستسلام.
لم يكن هذا التحول السياسي مجرداً من القدرة السياسية التي أبداها اليابانيون بعد الحرب، ويقف رئيس الوزراء الياباني شيغيرو يوشيدا Shigeru yoshida في مقدمتهم، إذ كانت ثقافة يوشيد، وحملة مشاعر إمبراطورية اليابان العظيمة، وتطلعه الى الإمبراطورية البريطانية كنموذج لبلاده، ومناصراً لعلاقات وثيقة بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وعمل بلا كلل من أجل ذلك. كل ذلك جعله شخصية مستقلة كبيروقراطي ياباني منتقداً دائماً سياسة بلاده التوسعية ولاسيما في منشوريا، وخلال الحرب العالمية الثانية أصبح محط أنظار المجموعة المحافظة الرفعية التي عملت على ترويج التفاوض من أجل السلام ساهم كل ذلك في فتح الطريق أمام دوره البارز في ظل الاحتلال والسنتين الأولى من عهد الاستقلال.
فقد وضع يوشيدا صياغة السياسة الوطنية، التي دعمها الشعب كثيراً المتمثلة بتطبيق الديمقراطية البرلمانية التي تشجع المحافظين على التمسك بالتحالف الأمريكي، وتركيز الجهود على الانتعاش والنمو الاقتصادي. فقد بدأ يوشيدا بمخطط لاستعادة ثروة اليابان من خلال التركيز على التطور الاقتصادي، وفي الوقت نفسه الانخراط في دبلوماسية ذات اتجاه) متوازن)) تحت الحماية الأمريكية لقد أسس منهجاً سياسياً تبناه كل أولئك الذين تولوا زمام الحكم في اليابان في المرحلة من عهد الاستقلال (1952 – 1972)، على الرغم من هذه النخبة تمثل الاتجاه المحافظ، وهو امتداد لمرحلة ما قبل الحرب وأثناءها، إلا أنها ساهمت في الحفاظ على بقاء المادة التاسعة من الدستور لتكون اليابان حرة في وضع كل طاقاتها من أجل النمو الصناعي. لذلك رفض يوشيدا في عام 1950 طلب الولايات المتحدة الأمريكية بزيادة عدد قوات الدفاع الذاتي اليابانية الى 350,000 بدلاً من 75,000، وعد ذلك خرقاً واضحاً لدستور السلام، وحذر بأنه سيسبب احتجاجات كبيرة، ليس فقط في اليابان وإنما في كل آسيا. ولغرض إثبات رأيه قام يوشيدا بشكل سري بتشجيع الاشتراكيين على التظاهر أمام مكتبه للاحتجاج على إعادة التسليح. وفي النهاية تم التوصل إلى حل وسط وهو ما عده يوشيدا انتصاراً نوعياً، تضمن تواجد الولايات المتحدة لمدة غير محدودة في اليابان من أجل الحفاظ على أمن بلاده من خلال القواعد العسكرية، وأقام أوكيناوا منشأة عسكرية تحت إدارة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما مهد لعقد معاهدتين الأمن والسلام بين الطرفيين وهو ما عرف بإنجاز صفقة يوشيدا.
جمع يوشيدا نخبة من أفضل السياسيين والإداريين الذين شكلوا مدرسة عرفت بأسمه (مدرسة يوشيدا في السياسة)، إذ نجحوا بإعادة اليابان الى الساحة كدولة مستقلة، وبقي من جاءوا بعده أوفياء لنهجه ولاسيما في مجال احترام الدستور الجديد الذي حظر على اليابان العودة الى العسكرة. كما حاول من جانب آخر تفكيك بعض إصلاحات الاحتلال في التعليم بإعادة تدريس (الأخلاقيات) في عام 1951 إلا أن محاولته أحبطها الغضب الشعبي عندما تسربت خطته الى الصحافة.
امتلك يوشيدا المهارة السياسية في التعامل مع ماك آرثر ومع (توكودا كيوتيشي T,kuda Kyuichi) الزعيم الشيوعي الياباني. واختيار مستشاريه بعناية فائقة، فمثلا في المفاوضات النهائية المعقدة قبل مؤتمر سان فرانسيسكو، اعتمد بشكل كبير على القليل من الموثوق بهم والمخلصين لفلسفته، ولاسيما إيكيدا هاياتو Ikeda Hatato) وميازاواكيشي Miyazawakiichi). لذلك كان مسؤولاً عن انتخاب وترويج مجموعة من الإداريين المقتدرين الذين شاركوا نظريته، وحافظوا على براغماتيتها. العديد من رؤساء الوزارة اللاحقين في اليابان كانوا مدينين له. كان له أثر كبير على منتقديه، فكل الذين عملوا معه عن قرب كانوا يشيدون بنوعية قيادته. يمكن القول إنه أسس مدرسة تولي من تخرج منها قيادة اليابان خلال عهد الاستقلال.
أصبحت الظروف مهيئة في إعادة صياغة العلاقات اليابانية - الأمريكية، لذلك بدأت في التاسع والعشرين من كانون الثاني 1950المفاوضات الأمريكية بزعامة جون فوستر دالاس John Foster Dulles ومستشار رئيس الوزراء الياباني يوشيدا، وتوجت بتوقيع معاهدتي السلام والأمن في سان فرانسيسكو San Fransisco في الثامن من أيلول 1951 والتي نظمت العلاقة بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، وصادق عليهما الدايت الياباني في السادس والعشرين من تشرين الأول 1951، بينما صادق الكونغرس الأمريكي عليهما في التاسع عشر كانون الثاني 1952 بعد حصول الولايات المتحدة الأمريكية على ضمانات مكتوبة من اليابان بعدم اعتراف الأخيرة بالصين الشيوعية إلا بموافقة الأولى لتبدأ اليابان تستعيد موقعها الإقليمي والدولي كدولة مستقلة ذات سيادة، إذ عين روبرت مورفي Robert D. Murphy سفيراً للولايات المتحدة في اليابان الذي وصلها مع بدء سريان معاهدة السلام في الثامن والعشرين من نيسان (1952).
ويبدو أن المعاهدة الأمريكية – اليابانية كانت مفيدة آنياً للاقتصاد الياباني، لكنها مسيئة جداً لصورة اليابان أمام شعبها، وفي نظر الشعوب الأخرى فالأمن المستورد من الخارج مظهر من مظاهر نقص السيادة، وهو يضعف من صلاحيات الدولية المركزية. كما أن المعاهدة فرضت قيوداً ثقيلة على اليابان، لأنها نتاج قوى غير متكافئة، وتم توقيعها في ظروف قاسية جداً كانت فيها اليابان تخضع للاحتلال الأمريكي المباشر، ونبهت قوى اليسار الياباني الى أن معاهدة الأمن المبرمة مع الولايات المتحدة جعلت اليابان دولة تابعة، أو منقوصة الاستقلال والسيادة.
كما أن التحسن الكبير في العلاقات اليابانية - الأمريكية منذ نهاية فترة الاحتلال المباشر عام 1952، انعكس سلباً على علاقات اليابان بكل من الاتحاد السوفيتي والصين وكوريا، فظلت علاقات اليابان بهما مقتصرة على المجال الاقتصادي بالدرجة الأولى.
ويمكن القول أن هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، إذ شكلت الإصلاحات الأمريكية مجدداً قاعدة صلبة لبناء دولة رأسمالية احتكارية على النمط الغربي في مرحلة كانت تشهد تنامياً حاداً بين الاقتصاديات المتطورة على المستوى الكوني، ويعود الفضل الأساسي في نهضة اليابان من بين ركام الحرب العالمية الثانية الى سياسة رئيس الوزراء يوشيدا الذي نجح في إقناع الأمريكيين بالتخلي عن تشددهم السابق تجاه اليابان وتطبيق نهج يجمع بين مصالح الجانبين.
|
|
لتجنب "بكتيريا قاتلة".. تحذير من أطعمة لا يجب إعادة تسخينها
|
|
|
|
|
الهند تنجح بإطلاق صاروخ باليستي من غواصة نووية
|
|
|
|
|
العتبة العباسية تنظّم مجلس عزاء بذكرى استشهاد السيدة الزهراء (عليها السلام) في أوروبا
|
|
|