المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

سيرة الرسول وآله
عدد المواضيع في هذا القسم 9148 موضوعاً
النبي الأعظم محمد بن عبد الله
الإمام علي بن أبي طالب
السيدة فاطمة الزهراء
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الإمام محمد بن علي الباقر
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الإمام علي بن موسى الرّضا
الإمام محمد بن علي الجواد
الإمام علي بن محمد الهادي
الإمام الحسن بن علي العسكري
الإمام محمد بن الحسن المهدي

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



الإمام الجواد "ع" في عصر المعتصم  
  
342   01:29 صباحاً   التاريخ: 2024-11-25
المؤلف : الشيخ علي الكوراني
الكتاب أو المصدر : الإمام محمد الجواد "ع" شبيه عيسى ويحيى وسليمان "ع"
الجزء والصفحة : ص155-182
القسم : سيرة الرسول وآله / الإمام محمد بن علي الجواد / قضايا عامة /

( 1 ) موت المأمون وخلافة المعتصم

ذهب المأمون إلى الشام سنة 218 ، لقتال الروم ، ومات هناك على نهر البدندون الذي يعرف بنهر البردان ، على نحو مئة كيلومتر من طرسوس في الساحل السوري ، وعاش تسعاً وأربعين سنة ، وحكم أكثر من عشرين سنة .

روى الطبري ( 7 / 207 ) عن سعيد العلاف القارئ : ( فجئت فوجدته جالساً على شاطئ البدندون ، وأبو إسحاق المعتصم جالس عن يمينه ، فأمرني فجلست نحوه منه فإذا هو وأبو إسحاق مدليان أرجلهما في ماء البدندون ، فقال : يا سعيد دلِّ رجليك في هذا الماء وذقه ، فما رأيت ماء قط أشد برداً ولا أعذب ولا أصفى صفاء منه . ففعلت وقلت : يا أمير المؤمنين ما رأيت مثل هذا قط . قال : أي شئ يطيب أن يؤكل ويشرب هذا الماء عليه ؟ فقلت : أمير المؤمنين أعلم . فقال : رطب الآزاذ ( من رطب البصرة - البلدان / 203 ) فبينا هو يقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد ، فالتفت فنظر فإذا بغال من بغال البريد على أعجازها حقائب فيها الألطاف ، فقال لخادم له : إذهب فانظر هل في هذه الألطاف رطب ، فانظر فإن كان آزاذ فأت به ، فجاء يسعى بسلتين فيهما رطب آزاذ كأنما جُنِيَ من النخل تلك الساعة فأظهر شكراً لله تعالى وكثر تعجبي منه ، فقال : أدن فكل ، فأكل هو وأبو إسحاق وأكلت معهما وشربنا جميعاً من ذلك الماء ، فما قام منا أحد إلا وهو محموم ، فكانت منية المأمون من تلك العلة ، ولم يزل المعتصم عليلاً حتى دخل العراق ) .

أقول : يظهر أن ذلك الرطب كان مسموماً ، فقد كتب الله عز وجل أن تكون منية المأمون بنفس الرطب المسموم الذي قتل به الإمام الرضا ( عليه السلام ) .

قال الدينوري في الأخبار الطوال / 401 : ( وقد كان بايع لابنه العباس بن المأمون بولاية العهد من بعده . وخلفه بالعراق . فلما مات هو على نهر البذندون ، جمع أخوه أبو إسحاق محمد بن هارون المعتصم بالله إليه وجوه القواد والأجناد ، فدعاهم إلى بيعته فبايعوه . فسار من طرسوس حتى وافى مدينة السلام فدخلها وخلع العباس بن المأمون عنها وغلبه عليها ، وبايعه الناس بها . وكان قدومه بغداد مستهل شهر رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين ) .

وكان المعتصم أقوى شخصية وأشجع من العباس بن المأمون ، وذكر الطبري ( 7 / 223 ) أن الناس خافوا من خلاف العباس والمعتصم ، فقبل العباس بخلع نفسه .

وفي أول خلافته أحضر المعتصم الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد ، وقد تكون زوجته عادت قبله . واستطاع الإمام ( عليه السلام ) أن يتخلص في هذه المرة ، ورجع إلى مدينة جده ( صلى الله عليه وآله ) .

ثم استدعاه المعتصم ثانية ، وحاول قتله مرات ، حتى دبر قتله بالسم على يد زوجته أم الفضل وأخيها جعفر .

فالمدة التي قضاها الإمام ( عليه السلام ) في بغداد كانت فترات قصيرة ، أولها عندما أحضره المأمون بعد مجيئه إلى بغداد سنة 204 ، وكان ( عليه السلام ) في التاسعة من عمره ، وعقد على ابنة المأمون . ويظهر أن قصة الباز الأشهب كانت في هذه السفرة .

وقد يكون الإمام ( عليه السلام ) جاء بعدها إلى بغداد وتخلص من المأمون وعاد إلى المدينة . لكن المؤكد كما ذكروا أنه جاء إليها سنة 215 ، أيام سفر المأمون لغزو الروم ، فبنى بزوجته حسب رواية الطبري بعد إحدى عشرة سنة من عقد زواجهما ، وبقي في بغداد مدةً ، ثم جاء بزوجته إلى الحج ، وسكن في المدينة .

ثم جاء لاستقبال المأمون من سفرته سنة 216 .

ثم كانت خلافة المعتصم ، فأحضره إلى بغداد مرتين ، وتخلص منه في السفرة الأولى ، ثم ارتكب المعتصم جريمة قتله بالسم في السفرة الثانية !

( 2 ) عُرف المعتصم في تاريخنا بالغيرة والجهاد

1 . ( اسمه محمد بن هارون الرشيد . . وأمه أم ولد من مولدات الكوفة تسمى ماردة ، لم تدرك خلافته ، وكانت أحظى النساء عند الرشيد . وكان أبيض أصهب اللحية طويلها ، مربوعاً مشرب اللون ، حسن العينين ) . ( المنتظم : 11 / 25 ) .

وذكروا في صفته أنه كان قوي البدن يميل إلى الفروسية والطرب والشراب ، ولا يهتم بالعلم والأمور الفكرية كالمأمون ، ولا بتشييد المباني كغيره من خلفاء بني العباس .

( كان مع المعتصم غلامٌ يتعلم معه في الكُتَّاب فمات الغلام ، فقال له الرشيد : يا محمد ، مات غلامك . قال : نعم يا سيدي ، واستراح من الكُتَّاب ! قال الرشيد :

وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ ؟ دعوه إلى حيث انتهى لا تعلموه شيئاً ، وكان يكتب كتاباً ضعيفاً ، ويقرأ قراءة ضعيفة ) . ( تاريخ بغداد : 4 / 112 ، والمنتظم : 11 / 27 ) .

وقد بدأ حكم المعتصم في آخر سنة 218 ، واستمر ثمان سنوات إلى سنة 227 . وأحضر الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد مرتين ، وقتله بالسم سنة 220 ، واتهمه في المرة الأولى بأنه يدبر للثورة عليه ، فلم يثبت عليه ذلك ، ثم عمل على إسقاطه في نفوس فعجز ، ثم قام بسُمِّهِ على يد بنت أخيه أم الفضل . ولعله بقي في بغداد بعد سفرته الثانية سنة أو أكثر ، في الإقامة الجبرية في قصور الخلافة ، ليفصلوه عن جمهور شيعته .

2 . روى المؤرخون أن الروم هاجموا مدينة صغيرة للمسلمين على حدودهم اسمها زبطرة ، وهي في تركيا من جهة سوريا .

فوصل الخبر إلى المعتصم وكان يشرب الخمر ، فوضع الكأس من يده وأمر بالنفير لرد عدوانهم . ودخل بجيشه من جهة سوريا وكان ثمانين ألفاً ، وهاجم عمورية وهي مدينة قريبة من زبطرة ، وانتصر عليهم ، ونهبها وأحرقها ، وأحرق عدداً من حصونهم ومنشآتهم ، ورجع بجيشه إلى ساحل الشام .

وبعد أن مشى من عمورية يوماً اكتشف أن ابن أخيه العباس بن المأمون ، دبَّرَ مع بعض القادة قتل المعتصم وأخذ البيعة لنفسه ، لأنه كان ولي عهد أبيه !

فقبض عليه المعتصم وعلى القادة الذين شجعوه ، وأمر الجيش بلعن ابن أخيه فلعنوه ، ووزع عليهم ما كان يحمل من مال ، وعاد إلى سامراء .

كانت هذه الغزوة للروم مثل غيرها من الغزوات الكثيرة ، لكن الرواة المسلمين خلدوها ، لأنه وقع فيها حادثة أو اخترعت لها ! وهي أن الروم عندما هاجموا زبطرة أخذوا من المسلمين أسرى ، وكانوا يضربون إحدى الأسيرات وكانت علوية من ذرية فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فصاحت : وا محمداه وامعتصماه ، فبلغت استغاثتها به ، فأخذته الغيرة والحمية ، وترك كأس خمره ونهض ، وقاد جيشه وثأر للمسلمة الأسيرة ، فصار نموذجاً للغيرة والحمية وهما قيم إسلامية مهمة .

3 . بقطع النظر عن صحة استغاثة المرأة المسلمة وعدم صحتها ، لا يملك الإنسان إلا أن يُمَجِّد قيمة الغيرة الإسلامية ، ويسجل الشكر للمعتصم على هذه الوثبة ، مهما كان رأيه بسلوكه وشخصيته .

وقد تحدث أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) عن هذه الغيرة ، وذم جيشه لعدم استجابته لاستغاثة المسلمات والمسيحيات من سكان الأنبار ، فقال كما في الإرشاد ( 1 / 282 ) :

( يا أهل الكوفة ، قد أتاني الصريخ يخبرني أن أخا غامد ، قد نزل الأنبار على أهلها ليلاً في أربعة آلاف ، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر ، فقتل بها عاملي ابن حسان ، وقتل معه رجالاً صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة ، بوأ الله لهم جنات النعيم وأباحها . ولقد بلغني أن العصبة من أهل الشام كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ، فيهتكون سترها ، ويأخذون القناع من رأسها ، والخرص من أذنها ، والأوضاح من يديها ورجليها وعضديها ، والخلخال والمئزر من سوقها ، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء : يا للمسلمين ، فلا يغيثها مغيث ، ولا ينصرها ناصر ! فلو أن مؤمناً مات من دون هذا أسفاً ما كان عندي ملوماً ، بل كان عندي باراً محسناً ! واعجباً كل العجب ، من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ! قد صرتم غرضاً يرمى ولا ترمُون ، وتُغزون ولا تَغزون ، ويُعصى الله وتَرضون ! تربت أيديكم ، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها ، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب ) .

4 . سجل الشعراء منقبة المعتصم هذه ، وكان أولهم أبو تمام الطائي فقال كما في أعيان الشيعة ( 4 / 454 ) ( قصيدة يمدحه ويذكر كذب المنجمين وفتح عمورية ، وهي نحو من سبعين بيتاً ويقال إنه أجازه على كل بيت منها بألف درهم ) . وهذه أبياتٌ منها :

السيفُ أصدقُ أنباءً من الكتب * في حَدِّهِ الحدُّ بين الِجدِّ واللعب

بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في * متونهنَّ جلاءُ الشك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة * بين الخميسين لا في السبعة الشهب

أين الرواية بل أين النجوم وما * صاغوه من زخرفٍ فيها ومن كذب

تخرصاً وأحاديثاً ملفقة * ليست بنبع إذا عدت ولا غرب

عجائباً زعموا الأيام مجفلة * عنهن في صفر الأصفار أو رجب

وخوفوا الناس من دهياء مظلمة * إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب

فتحُ الفتوح تعالى أن يحيط به * نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب

يا يوم وقعة عَمُّوريَّةَ انصرفت * عنك المنى حُفَّلاً معسولةَ الحَلَب

أبقيت جِدَّ بني الإسلام في صَعَدٍ * والمشركين ودار الشرك في صَبَبِ

لقد تركتَ أمير المؤمنين بها * للنار يوماً وكيل الصخر والخشب

فالشمس طالعة من ذا وقد أفلت * والشمس واجبةٌ من ذا ولم تجب

غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى * يشله وسطها صبح من اللهب

تدبيُر معتصمٍ بالله منتقم * لله مرتقب في الله مرتهب

رمى بك الله برجيها فهدمها * ولو رمى بك غير الله لم يصب

لبَّيْتَ صوتاً زبطرياً هرقت له * كأس الكرى ورضاب الخُرَّدِ العُرُب

أجبته معلناً بالسيف منصلتاً * ولو أجبت بغير السيف لم تُجب

لما رأى الحرب رأى العين توفلسٍ * والحرب مشتقة المعنى من الحرب

غدا يصرف بالأموال خزيتها * فعزه البحر ذو التيار والعبب

هيهات زعزعت الأرض الوقور به * عن غزو محتسب لا غزو مكتسب

إن الأسود أسود الغاب همتها * يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت * جلودهم قبل نضج التين والعنب

كم أحرزت قُضُبُ الهندي مصلتة * تهتز من قضب تهتز في كثب

إن كان بين صروف الدهر من رحم * موصولة أو ذمام غير منقضب

فبين أيامك اللاتي نُصرت بها * وبين أيام بدر أقرب النسب

أبقت بني الأصفر المصفرِّ إستُهُمُ * صُفْرَ الوجوه وجلت أوجهُ العرب

 

وأشهر من مَجَّدَ نَخْوَةَ المعتصم من الشعراء المعاصرين : الشاعر عمر أبو ريشة ، قال :

أمتي هل لك بين الأممِ * منبرٌ للسيف أو للقلمِ

أتلقاك وطرفي مطرقٌ * خجلاً من أمْسِكِ المنصرم

ويكاد الدمع يهمي عابثاً * ببقايا كبرياء الألم

أمتي كم غصة دامية * خنقت نجوى علاك في فمي

أي جرح في إبائي راعفٍ * فاته الآسي فلم يلتئم

ألإسرائيلَ تعلو رايةٌ * في حمى المهد وظل الحرم

كيف أغضيت على الذل ولم * تنفضي عنك غبار التهم

أوما كنت إذا البغي اعتدى * موجة من لهب أو من دم

كيف أقدمت وأحجمت ولم * يشتف الثأر ولم تنتقمي

إسمعي نوح الحزانى واطربي * وانظري دمع اليتامى وابسمي

ودعي القادة في أهوائها * تتفانى في خسيس المغنم

رب وامعتصماهُ انطلقتْ * ملءَ أفواه البنات اليُتَّمِ

لامست أسماعهم لكنها * لم تلامس نخوةَ المعتصم

أمتي كم صنم مجدته * لم يكن يحمل طهر الصنم

لايلام الذئب في عدوانه * إن يك الراعي عدوَّ الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما * كان في الحكم عبيدُ الدرهم

أيها الجندي يا كبش الفدا * يا شعاع الأمل المبتسم

ما عرفت البخل بالروح إذا * طلبتْهَا غصصُ المجد الظمي

بورك الجرح الذي تحمله * شرفاً تحت ظلال العلم

5 . لعل أدق نص في غزوة عمورية ، ما كتبه المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي ، قال في تاريخه ( 2 / 475 ) : ( ودخلت الروم زبطرة سنة 223 ، فقتلوا وأسروا كل من فيها وأخرجوهم ، فلما انتهى الخبر إلى المعتصم قام من مجلسه نافراً ، حتى جلس على الأرض وندب الناس للخروج ووضع العطاء ، وعسكر من يومه بموضع يعرف بالعيون من غربي دجلة ، وقدم أشناس التركي على مقدمته ، وخرج يوم الخميس لست خلون من جمادى الأولى سنة 223 ، ودخل أرض الروم ، فقصد أرض عمورية ، وكانت من أعظم مدائنهم ، وأكثرها عدةً ورجالاً فحاصرها حصاراً شديداً .

وبلغ طاغية الروم فزحف في خلق عظيم ، فلما دنا وجَّهَ المعتصم بالأفشين في جيش عظيم ، فلقي الطاغية وأوقع به وهزمه ، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة ، فأوفد طاغية الروم من قبله وفداً إلى المعتصم يقول : إن الذين فعلوا بزبطرة ما فعلوا ، تعدوا أمري ، وأنا أبنيها بمالي ورجالي ، وأرد من أخذ من أهلها ، وأخلي جملة مَن في بلد الروم من الأسارى ، وأبعث إليك بالقوم الذين فعلوا بزبطرة على رقاب البطارقة . وفتحت عمورية يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 223 فقتل وسبى جميع من فيها ، وأخذ ياطس خال ملك الروم ، وأخرب وأحرق كل ما اجتاز به من بلادهم ) .

6 . استغل العباس بن المأمون سفر المعتصم إلى عمورية ، واتفق مع عدد من قادة الجيش أن يقتلوا المعتصم ، ويبايعوه بدله .

قال اليعقوبي ( 2 / 475 ) : ( وانصرف ( المعتصم ) فلما صار بأذنة ( أضنة الحالية ) حبس العباس ابن المأمون ، لما كان بلغه من المعصية والخلاف واجتماع من اجتمع إليه من القواد ، ووجد له مائة ألف وستة عشر ألف دينار ، فأمر أن تفرق على الجند ويؤمروا أن يلعنوه . فأحصوا فوجدوا ثمانين ألف مرتزق فدفع إليهم دينارين دينارين وتمم ذلك المعتصم من عنده ، ودفع العباس إلى الأفشين مقيداً ليسيره ، فلما صار بحبد رأس توفي ، وقيل إن الافشين أطعمه طعاماً كثير الملح في يوم شديد الحر ، ومنعه الماء فحمل إلى منبج فدفن بها . وسخط المعتصم على عجيف ابن عنبسة ، لأنه كان سبب معصيته ، وحمله من أذنة ( أضنة ) في الحديد الثقيل ، في فيه لبود قد خيطت عليه وفي عنقه غل عظيم ، فلما صار بموضع يقال له باعيناثا على مرحلة من نصيبين ، مات ودفن بها ، وسأل ابنه صالح بن عجيف أن لا ينسب إليه ، وأن يدعى صالحاً المعتصمي ولعنه وبرئ منه ) !

وفي الكامل لابن الأثير ( 6 / 492 ) : ( وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر ، وحلفه أنه لا يكتمه من أمره شيئاً ، فشرح له أمره كله ، مثلما شرح الحارث ، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين فحبسه عنده . وتتبع المعتصم أولئك القواد وكانوا يحملون في الطريق على بغال بأكُف بلا وطاء . وأخذ أيضاً الشاه بن سهل وهو من أهل خراسان فقال له المعتصم : يا ابن الزانية أحسنت إليك فلم تشكر . فقال : ابن الزانية هذا وأومأ إلى العباس وكان حاضراً ، لو تركني ما كنتَ الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس وتقول هذا الكلام ! فأمر به فضربت عنقه ، وهو أول من قتل منهم ) .

أقول : هكذا كانت سياسة العباسيين ، فهي في أحسن حالاتها أن يستفيق الخليفة وتتحرك حميته ، فيترك خمره ويذهب إلى دفع عدوه ، ويجلس في مكان بعيد عن المعركة ويبعث جيشه فيقاتل فينصرهم الله تعالى .

ثم لا يقبل الخليفة من عدوه الاعتذار ولا الصلح ، ويتجبر ويقتل ويحرق الحصون والقرى والدور والأشجار والحيوانات ، بل والناس !

وفي عودته يتآمر عليه ابن أخيه ، أو يزعم أنه تآمر عليه ، كما تآمر هو من قبل عليه وعلى أبيه ، فيقتله ابن أخيه ومؤيديه ، شرَّ قتلة !

7 . قال السيوطي في تاريخ الخلفاء / 362 : ( وفتح عمورية بالسيف ، وقتل منها ثلاثين ألفاً ، وسبى مثلهم ) .

وروى لنا الطبري ( 7 / 272 ) كيف أحرق المعتصم الأسرى فقال : ( ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه ، حتى امتلأ العسكر ، فأمر المعتصم بَسيلَ الترجمان ، أن يميز الأسرى ، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية ، ويعزل الباقين في ناحية ، ففعل ذلك بَسيل .

ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده ، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي عليه ، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته وأمره أن ينادي ويبيع .

وأمر إيتاخ بناحيته مثل ذلك ، وجعفر الخياط بمثل ذلك في ناحيته ، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلاً من قبل أحمد بن أبي دؤاد ، يحصى عليه .

فبيعت المقاسم في خمسة أيام ، بيع منها ما استباع ، وأمر بالباقي فضُرِب بالنار ! وارتحل المعتصم منصرفاً إلى أرض طرسوس . . .

فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات ليتروج البيع ، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات ، وإلا بيع العلق فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس ، فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة ، والمتاع الكثير جملة واحدة . . .

وفي رواية : وانصرف المعتصم يريد الثغور ، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره أو يريد التعبث بالعسكر ، فمضى في طريق الجادة مرحلة ، ثم رجع إلى عمورية وأمر الناس بالرجوع ، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادى الجور ، ففرق الأسرى على القواد ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم ، ففرقهم القواد على أصحابهم ، فساروا في طريق نحواً من أربعين ميلاً ليس فيه ماء ، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشى معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه ! فدخل الناس في البرية في طريق وادى الجور ، فأصابهم العطش فتساقط الناس والدواب ، وقَتَل بعض الأسرى بعض الجند وهرب ، وكان المعتصم قد تقدم العسكر فاستقبل الناس ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله ، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش ، وقال الناس للمعتصم : إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا ، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم ، فعزلوا ناحية ثم أمر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعاً ، وهم مقدار ستة آلاف رجل قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر ، ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس ) .

ومعناه أن من يدعي أنه خليفة النبي ( صلى الله عليه وآله ) عزل شخصيات الأسرى وقد يكونون مئتين أو ثلاث مئة من ألوف الأسرى ، ثم وكل كل قائد ببيع أسراه لمن أراد الشراء من الجيش ، وكان مندوب قاضي القضاة حاضراً ليحصي مبلغ البيع فيأخذها للخليفة ، وقد يعطي منها قسماً إلى القائد ، فاشترى الجيش قسماً من الأسرى وبقي قسم لا يوجد له مشترٍ هناك . فأمر أن يضربوهم بالنار ، أي يحرقوهم ! أو يضربوا أعناقهم !

ولا تعترض ، لأن الخليفة وقاضي القضاة أتقى الأتقياء ، ينفذون حكم الإسلام ، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا !

( 3 ) المعتصم ينهي الثورات المضادة للعباسيين

1 . قال في تاريخ بغداد : 4 / 112 : ( كان في المعتصم مناقب : منها ، أنه كان ثامن الخلفاء من بنى العباس ، وثامن أمراء المؤمنين من ولد عبد المطلب ، وملك ثماني سنين وثمانية أشهر ، وفتح ثمانية فتوح : بلاد بابك على يد الأفشين . وفتح عمورية بنفسه . والزط بعجيف . وبحر البصرة . وقلعة الأحراف . وأعراب ديار ربيعة . والشاري . وفتح مصر . وقتل ثمانية أعداء . بابك . ومازيار . وباطس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ) .

وقال ابن الجوزي في المنتظم ( 11 / 26 ) : ( وحكى الصولي أنه لم تجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم ، ولا ظفر ملك كظفره . أسر بابك ملك أذربيجان ، والمازيار ملك طبرستان ، وباطس ملك عمُّورية ، والأفشين ملك أشروسنة ، وعجيفا وهو ملك ، وصار إلى بابه ملك فرغانة ، وملك اسيشاب ، وملك طخارستان ، وملك أصبهان ، وملك الصغد ، وملك كابل وباطيس ، ورئيس الزنادقة ، والأفشين ، وعجيفا ، وقارن ، وقائد الرافضة ) .

2 . كانت ثورة بابك الخرمي في آذربيجان ثورة مجوسية قوية ، وكان بابك داهية شجاعاً ، ساعدته جغرافية منطقة آذربيجان وشمال إيران الجبلية ، وقد بدأ ثورته من زمن المأمون سنة 201 ، واستمر يقاتل جيوش الخلافة العباسية أكثر من عشرين سنة ، وهزمها مرات وانهزم هو مرات ، وكان يفلت إلى الجبال أو الغابات ، حتى قبض عليه بطريق مسيحي سنة 222 .

وقال الصفدي في الوافي ( 10 / 39 ) : ( كان ظهور بابك سنة إحدى ومائتين بناحية أذربيجان ، وتبعه خلق عظيم على رأيه فأقام عشرين سنة يهزم جيوش المأمون والمعتصم ، فيقال إنه قتل مائة ألف وخمسين ألفاً وخمس مائة إنسان .

كان المعتصم بعث نفقات الجيوش بسبب بابك في أول السنة المذكورة ( 222 ) ثلاثين ألف ألف درهم . وجعل المعتصم لمن أتى به حياً ألفي ألف درهم ، ولمن جاء برأسه ألف ألف درهم . وكان بابك قد هرب واختفى في غيضة ، ثم خرج منها ، فالتقاه سهل البطريق فبعث به إلى الأفشين بعدما خبأه عنده ، فجاء أصحاب الأفشين وأحدقوا به وأخذوه ، فأعطى المعتصم لسهل البطريق ألفي ألف درهم ، وحط عنه خراج عشرين سنة .

ولما قتله المعتصم وفتح الأفشين مدينته وجد فيها سبعة آلاف وست مائة امرأة مسلمة . ولما صلبت جثته جعلت إلى جانب جثة المازيار ، صاحب طبرستان . . ومدح المعتصم عند ذلك أبو تمام بقصيدته التي أولها :

الحق أبلجُ والسيوف عوارِ * فحذار من أسد العرين حذارِ

ما زال سرُّ الكفر بين ضلوعه * حتى اصطلى سر الزناد الواري

ولقد شفيتُ القلب من برحائه * أن صار بابك جار مازيار

كادوا النبوة والهدى فتقطعت * أعناقهم في ذلك المضمار

وإنما قيل له بابك الخرمي ، لأنه دعا الناس إلى مقالة الخرمية ، وهو لفظ أعجمي ينبئ عن الشئ المستطاب المستلذ ، لأنهم يعتقدون إباحة الأشياء ، وهو راجع إلى عدم التكليف والتسلط على اتباع الشهوات ، وهذا اللقب كان للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس أتباع مزدك ، الذي نبغ في أيام قباذ والد أنو شروان ودعا مزدك قباذا إلى مذهبه فأجابه ، ثم اطلع على حاله فقتله .

وكان مزدك يقول النور والظلمة قديمان أزليان ، فالنور سميع بصير حساس يفعل بالقصد والاختيار . والظلمة جاهلة عمياء ، تفعل عن الخبط والاتفاق ) .

قال الذهبي في تاريخه ( 16 / 13 ) : ( وجدت بخط رفيقنا ابن جماعة الكناني أنه وجد بخط ابن الصلاح قال : اجتمع قومٌ من الأدباء ، فأحصوا أنّ أبا مسلم قتل ألفي ألف ، وأن قتلى بابك بلغوا ألف ألف وخمس مائة ألف ) .

3 . من جهة أخرى توالت ثورات العلويين على العباسيين ، فكانت ثورة إبراهيم بن طباطبا في الكوفة سنة 199 ، وسيطر على الكوفة وحكم لفترة . ثم ثار إبراهيم بن موسى بن جعفر ( عليه السلام ) في اليمن . ومحمد بن جعفر الصادق ( عليه السلام ) في مكة .

وفي سنة مئتين وسبع خرج : ( عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضا من آل محمد ) ( الطبري : 7 / 168 ) . وفي سنة 210 ، ثار أهل قم الشيعة على واليهم بسبب عسفه في الخراج ، وطالبوا بتخفيضه عنهم أسوة بأهل الري .

وفي سنة 219 ظهر في جبال الطالقان في إيران : ( محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضا من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) فاجتمع إليه بها ناس كثير وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان جبالها ، فهزم هو وأصحابه فخرج هارباً يريد بعض كور خراسان ، كان أهله كاتبوه ، فلما صار بنسا وبها والد لبعض من معه ، مضى الرجل معه من أهل نسا إلى والده ليسلم عليه ، فلما لقى أباه سأله عن الخبر فأخبره بأمرهم ، وأنهم يقصدون كورة كذا ، فمضى أبو ذلك الرجل إلى عامل نسا فأخبره بأمر محمد بن القاسم ، فذكر أن العامل بذل له عشرة آلاف درهم على دلالته عليه فدله عليه ، فجاء العامل إلى محمد بن القاسم فأخذه ، واستوثق منه وبعث به إلى عبد الله بن طاهر ، فبعث به عبد الله بن طاهر إلى المعتصم ، فقدم به عليه يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر ، فحبس فيما ذكر بسامرا عند مسرور الخادم الكبير ، في محبس ضيق يكون قدر ثلاث أذرع في ذراعين ، فمكث فيه ثلاثة أيام ثم حول إلى موضع أوسع من ذلك وأجرى عليه طعام ، ووكل به قوم يحفظونه ، فلما كان ليلة الفطر واشتغل الناس بالعيد والتهنئة احتال للخروج . ذكر أنه هرب من الحبس بالليل وأنه دلى إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء ، فلما أصبحوا أتوا بالطعام للغداء ففقد ، فذكر أنه جعل لمن دل عليه مائة ألف درهم ، وصاح بذلك الصائح فلم يعرف له خبر ) . ( الطبري : 7 / 223 ) .

( 4 ) المعتصم يتهم الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالإعداد للثورة !

في أجواء ثورات العلويين وغيرهم ، وتصفية المعتصم لهم واحدة بعد الأخرى ، قرر أن يُحضر الإمام الجواد ( عليه السلام ) إلى بغداد ، فأحضره مرتين .

ولا بد أن الذي دبر إحضار الإمام ( عليه السلام ) هو ابن أبي دؤاد مدبر خلافة المعتصم ، فقد تأكدت علاقته مع المعتصم من يوم جعل المأمون ابنه العباس ولي عهده وبعث أخاه المعتصم إلى مصر ليبعده عن ولاية العهد ، وكان معه ابن أبي دؤاد ، فأطمعه بالخلافة ، ووجهه في مراحل عمله ، حتى غلب ابن أخيه وأخذ منه الخلافة .

فكان ابن أبي دؤاد نديمه ، وقاضي قضاته ، ووزيره الأول ، ومدبر مملكته !

قال إسماعيل بن مهران : ( لما خرج أبو جعفر ( عليه السلام ) من المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه ، قلت له عند خروجه : جعلت فداك إني أخاف عليك في هذا الوجه فإلى من الأمر بعدك ؟ فكرَّ بوجهه إلي ضاحكاً وقال : ليس الغيبة حيث ظننت في هذه السنة . فلما أخرج به الثانية إلى المعتصم صرت إليه فقلت له : جعلت فداك أنت خارج فإلى من هذا الأمر من بعدك ؟ فبكى حتى اخضلت لحيته ثم التفت إليَّ فقال : عند هذه يخاف عليَّ ، الأمر من بعدي إلى ابني علي ) . ( الكافي : 1 / 323 ) .

وفي كشف الغمة ( 3 / 155 ) : ( وعن ابن بزيع العطار قال : قال أبو جعفر ( عليه السلام ) : الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً . قال : فنظرنا فمات بعد ثلاثين شهراً ) .

أقول : مقصوده ( عليه السلام ) الفرج عليه بانتهاء امتحانه في الدنيا على يد الطاغية المعتصم . فلا بد أن يكون سياق الحديث عن خوفهم على حياة الإمام صلوات الله عليه .

وفي هذه الثلاثين شهراً أحضره المعتصم إلى بغداد مرتين : اتهمه في المرة الأولى بالإعداد للثورة عليه ، فنفى الإمام ( عليه السلام ) ذلك ودعا على شهود الزور ، فظهرت آية وبهت المعتصم وتركه . ثم أحضره في المرة الثانية ، وتمكن من قتله بالسم ، بيد زوجته وأخيها !

( 5 ) يحترم الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالظاهر ويدبر قتله !

في مناقب آل أبي طالب ( 3 / 491 ) : ( ولما بويع المعتصم جعل يتفقد أحواله فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه التقي وأم الفضل ، فأنفذ ابن الزيات علي بن يقطين إليه ، فتجهز وخرج إلى بغداد ، فأكرمه وعظمه ، وأنفذ أشناس بالتحف إليه وإلى أم الفضل ) .

وتدل الرواية على أسلوب المعتصم في احترام الإمام الجواد ( عليه السلام ) في الظاهر ، وستأتي تكملتها وفيها محاولته دس السم للإمام في شراب مختوم بختم الخلافة !

وعند حضور الإمام ( عليه السلام ) إلى بغداد وجه اليه المعتصم تهمة بأنه يهيئ للثورة عليه . والمرجح أن قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد دبر إحضار الإمام الجواد ( عليه السلام ) واتهامه بمراسلة شيعته للثورة على المعتصم . فقد صرَّح بأنه يحمل حقداً عميقاً على الإمام الجواد ( عليه السلام ) كما يأتي ، لكنه فشل في اتهام الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وظهرت له آية !

فقد روى القطب الراوندي في الخرائج ( 2 / 670 ) ، وابن حمزة في الثاقب / 524 : ( عن ابن أرومة قال : إن المعتصم دعا جماعة من وزرائه وقال : اشهدوا لي على محمد بن علي بن موسى الرضا زوراً ، واكتبوا بأنه أراد أن يخرج ! ثم دعاه فقال : إنك أردت أن تخرج عليَّ . فقال : والله ما فعلت شيئاً من ذلك .

قال : إن فلاناً وفلاناً شهدوا عليك ! وأُحضروا فقالوا : نعم ، هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك ! قال : وكان جالساً في بَهْوٍ ، فرفع أبو جعفر ( عليه السلام ) يده وقال : اللهم إن كانوا كذبوا عليَّ فخذهم .

قال : فنظرنا إلى ذلك البهو يرجف ويذهب ويجئ ، وكلما قام واحد وقع ! فقال المعتصم : يا ابن رسول الله ، تُبْتُ مما قلت فادع ربك أن يُسَكِّنَهُ . فقال : اللهم سكنه ، وإنك تعلم بأنهم أعداؤك وأعدائي ) .

أقول : لقد كان في ذلك آيةٌ للمعتصم وجماعته لو كانوا يعقلون . لكنهم شاهدوا آياتٍ كثيرة للإمام ( عليه السلام ) وقبله لأبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، فلم يزدهم ذلك إلا عناداً !

كانوا يرون أنهم إن آمنوا به فقد اعترفوا على أنفسهم بأنه ولي الله وحجته ، وإمام الأمة وأنهم غاصبون لمقامه ! فالحل عندهم أن ينكروا آياته ، ويدبروا طريقة لقتله !

( 6 ) إحضار المعتصم للإمام ( عليه السلام ) ثانيةً

خطط المعتصم مع ابن أبي دؤاد لقتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، أما زوجته أم الفضل فيبدو أنها قبلت السكنى في المدينة ، بعد أن مات أبوها المأمون ، وانهزم أخوها العباس وخسر الخلافة وحبسه المعتصم وأمر بلعنه ثم قتله ، وانطفأ بيتهم .

ويظهر أن المعتصم وعدها أن تكون في بيته مع بناته بعد قتل الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، لأن الروايات نصت على أنهم حولوها بعد قتله إلى قصر المعتصم !

لاحظ هذا النص في مروج الذهب للمسعودي ( 3 / 464 ) قال : ( وفي هذه السنة ، وهي سنة تسع عشرة ومائتين ، قبض محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وذلك لخمس خلون من ذي الحجة ، ودفن ببغداد في الجانب الغربي من مقابر قريش ، مع جده موسى بن جعفر ، وصلى عليه الواثق . وقبض وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وقبض أبوه علي بن موسى الرضا ومحمد بن سبع سنين وثمانية أشهر ، وقيل غير ذلك .

وقيل إن أم الفضل بنت المأمون لما قدمت معه من المدينة إلى المعتصم سمَّتْه .

وإنما ذكرنا من أمره ما وصفنا ، لأن أهل الإمامة اختلفوا في مقدار سنه عند وفاة أبيه ، وقد أتينا على ما قيل في ذلك في رسالة : البيان في أسماء الأئمة ، وما قالت في ذلك الشيعةُ القطعية ) . أي الذين قطعوا بإمامة الاثني عشر ( عليهم السلام ) .

وقد جعل المسعودي شهادة الإمام ( عليه السلام ) سنة مئتين وتسعة عشر ، والمشهور أنها سنة عشرين . وسبب الاختلاف أنها كانت في ذي الحجة آخر السنة .

وتدل عبارته على أن أم الفضل كانت مع الإمام ( عليه السلام ) في المدينة عندما أحضره المعتصم في المرة الثانية ، وأن جائزتها بعد سمها الإمام ( عليه السلام ) أنها نقلت إلى قصر عمها المعتصم !

قال الخطيب في تاريخ بغداد ( 3 / 266 ) : ( قدم من مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بغداد وافداً على أبي إسحاق المعتصم ، ومعه امرأته أم الفضل بنت المأمون ، فتوفي في بغداد ، ودفن في مقابر قريش عند جده موسى بن جعفر ، وحملت امرأته أم الفضل بنت المأمون إلى قصر المعتصم ، فجعلت مع الحرم ) .

( 7 ) محاولة المعتصم تشويه سمعةالجواد ( عليه السلام ) !

قال الكشي في رجاله ( 2 / 833 ) : ( محمد بن مسعود قال : حدثني المحمودي أنه دخل على ابن أبي دؤاد وهو في مجلسه وحوله أصحابه ، فقال لهم ابن أبي دؤاد : يا هؤلاء ما تقولون في شئ قاله الخليفة البارحة ؟ فقالوا : وما ذلك ؟ قال : قال الخليفة : ما ترى العلائية ( أي الشيعة نسبة إلى علي ( عليه السلام ) ) تصنع إن أخرجنا إليهم أبا جعفر سكران يُنشى مضمخاً بالخلوق ! قالوا : إذاً تبطل حجتهم ويبطل مقالهم .

قلت : إن العلائية يخالطوني كثيراً ، ويُفْضُونَ إليَّ بسرِّ مقالتهم ، وليس يَلزمهم هذا الذي جرى ، فقال : ومن أين قلت ؟

قلت : إنهم يقولون لابد في كل زمان وعلى كل حال لله في أرضه من حجة ، يقطع العذر بينه وبين خلقه . قلت : فإن كان في زمان الحجة من هو مثله ، أو فوقه في النسب والشرف ، كان أدل الدلائل على الحجة ، لصلة السلطان من بين أهله وولوعه به . قال : فعرض ابن أبي داود هذا الكلام على الخليفة فقال : ليس إلى هؤلاء القوم حيلة . لا تؤذوا أبا جعفر ) .

أقول : هذا يدل على انشغال أعلى مراكز القرار في الخلافة ، في ابتكار طريقة للتأثير على تقديس الأمة للإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وتشويه سمعته في نظرها !

فقد كان المعتصم كأبيه هارون يرى أنه لا يمكن للخليفة العباسي التعايش مع إمام علمه من الله تعالى ، والأمة تقدسه وتتحدث عن معجزاته ، ويمكن أن يأمرها بالخروج على الخليفة في أي وقت ! ولذلك طرح خطة سقي الإمام الجواد ( عليه السلام ) الخمر بأي طريقة وإخراجه سكران يتهادى ليراه الناس ويسقط في أعينهم ، ويرجعوا عن القول بإمامته !

وتبنى قاضي القضاة التقي هذه الخطة ، وطرحها مع كبار رجال الخلافة للدراسة !

فقال له أحدهم : هذا لا ينفع حتى لو استطعتم أن تخرجوه للناس سكراناً ! فأنا أعرف عقيدة الشيعة ونمط تفكيرهم ، إنهم يقولون إنه لابد من وجود حجة لله تعالى من العترة النبوية في كل زمان ، ولو لم يكن الجواد هو الحجة لما تولعت به السلطة وحاولت تشويه سمعته ، وتركت من هو أكبر منه سناً من العترة النبوية ، فلا يزيدهم ما تحاوله السلطة فيه إلا إيماناً بإمامته !

فذهب قاضي القضاة وأخبر المعتصم بنتيجة التشاور ، فاعترف بعدم فائدة محاولة جر الإمام ( عليه السلام ) إلى مجالس خمرهم وطربهم حتى لو نجحت ! ومعناه أنه لا بد من قتله !

ولست هذه المحاولة الأولى لتشويه سمعة المعصوم ( عليه السلام ) ، ولكنها لاتنجح لأن الله تعالى طهر أئمة العترة الطاهرين عن رجس هذه الأقذار وأهلها ، فمن المحال أن يقبل أي إمام منهم ( عليهم السلام ) أن يتلوث فيها .

وقد حاول قبله المأمون مع الجواد ومع أبيه الرضا ( عليهما السلام ) ، فعجز ، ثم حاول المتوكل مع الإمام الهادي ( عليه السلام ) فأعلن عجزه وقال : أعياني ابن الرضا !

وقد علق السيد الأمين في أعيان الشيعة ( 2 / 582 ) على هذه الرواية بأن عبارة الراوي المحمودي مغلقة ، والأمر كما قاله ( رحمه الله ) ، لكن المعنى المقصود مفهوم .

( 8 ) الوجه الآخر للمعتصم

قال الدكتور محمد حسين الصغير في كتابه الإمام الجواد / 81 : ( كان المعتصم متصفاً بالحماقة وشدة الغضب ، حتى عرف عنه أنه إذا غضب لا يبالي من قتل وما فعل . . وكان أمياً أو شبه أمي ، وكان له وزير عامي ، وقد بليت بهما الأمة ووصفهما أحمد بن عامر بقوله : خليفةٌ أمِّيّ ووزيرٌ عامي .

وكان شديد الكراهية للعرب وعمد إلى الاستهانة بهم ، وأخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم منه ، ومنعهم من العطاء كما منعهم من الولايات .

وفي قبال هذا ، كان مغرماً بحب الأتراك ( يقصد غلمانه وجنوده ) متزلفاً لهم بسبب خؤولتهم له ، فأمه ماردة تركية النسب ، ونشأ محاكياً للأترك في نزواتهم النفسية وطبائعهم الخلقية ، وأطلق لهم العنان في الدولة وتصريف الشؤون ، واستكثر منهم ، وبعث في طلبهم من فرغانة وأشروسة ) .

وقد وثق الدكتور الصغير فقرات كلامه ، وراجعت في المصادر حمق المعتصم وأنه إذا غضب لا يفقه ما يفعل ولا يبالي من يقتل ! فوجدت مصادره كثيرة ، منها الطبري ( 7 / 316 ) وفيه : ( إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل ) وأبو الفدا ( 2 / 35 ، والسيوطي في تاريخ الخلفاء / 361 ، وابن كثير في النهاية : 10 / 325 ، وابن خلكان في الوفيات : 5 / 94 .

وقال الذهبي في سيره ( 10 / 302 ) : ( خلف من الذهب ثمانية آلاف ألف دينار ، وثمانية عشر ألف ألف درهم ، وثمانين ألف فرس ، وثمانية آلاف مملوك ، وثمانية آلاف جارية ، وبنى ثمانية قصور ، وقيل بلغ مماليكه ثمانية عشر ألفاً . وكان ذا سطوة إذا غضب لا يبالي من قتل ) !

( 9 ) شرب المعتصم مرةً تسعة أرطال خمر !

في تاريخ دمشق ( 69 / 270 ) : ( كان المعتصم يطرق عَريب كثيراً ، فشُغل أياماً عنها وكانت تتعشق فتى فأحضرته ذات يوم ، وقعدت تسقيه وتشرب معه ، وتغنيه ، إذ أقبل أمير المؤمنين المعتصم فأدخلته بعض المجالس ، ووافى المعتصم فرأى من الآلة والزي ما أنكره وقال لها : ما هذا ؟ قالت : جفاني أمير المؤمنين هذه الأيام واشتد شوقي إليه وعيل صبري ، فتمثلت مجلس أمير المؤمنين إذا طرقني وأحضرت من الآلة ما كنت أحضره إذا زارني وأكرمني ، ونصبت له شرابه بين يديه كما كنت أفعل ، وجعلت شرابي بين يدي كما كنت أصنع ، ثم غنيت لأمير المؤمنين صوته وشربت كأسه ، وغنيت صوتي وشربت كأسي !

فهذه حالي إلى أن دخل سيدي أمير المؤمنين فصح فالي ، فقعد المعتصم وشرب وفرح وسكر ، فلما انصرف أخرجت الفتى ، فما زالا في أمرهما إلى الصبح ) ! .

وفي الأغاني ( 17 / 477 ) ، قال ابن إسحاق المغني : ( ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم ، وطال تلاحيهما في الغناء ، فقال إسحاق للمعتصم : يا أمير المؤمنين ، من شاء منهم فليغنّ عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة ، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة ، لا يعرف أحد منهم صوتاً منها . فقال إسحاق : صدق يا أمير المؤمنين . واتبعه ابن بسخنّر وعَلُّويَه ، فقالا : صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله . فأمر له بعشرين ألف درهم .

قال محمد : ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظَّته يوماً فقال له : قد دعوتك إلى النَّصَفَة ، فلم تقبل ، وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه ، فاندفع فغنى عشرة أصوات ، فلم يعرف أحد منهم منها صوتاً واحداً ، كلها من الغناء القديم ، والغناء اللاحق به من صنعة المكَّيين الحذَّاق الخاملي الذكر ، فاستحسن المعتصم منها صوتاً وأسكت المغنين له ، واستعاده مرات عدة ، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه ، وأمر ألا يراجع أحداً من المغنين كلاماً ولا يعارضه أحد منهم ، إذ كان قد أبزَّ عليهم ، وأوضح الحجة في انقطاعهم ، وإدحاض حججهم ) .

وفي نهاية الإرب ( 4 / 232 ) : ( وفَصَدَ الواثق فأتاه أبو دلف ، وأتته رسل الخليفة بالهدايا ، فأعلمهم الواثق حصول أبي دلف عنده . . . فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون : قد جاء الخليفة ! فقام الواثق وكل من كان عنده حتى تلقوه وجاء حتى جلس . . وأقبل الواثق على أبي دلف فقال : يا قاسم غَنِّ أمير المؤمنين . . فغنى ، فقال المعتصم : أحسن أحسن ، ثلاثاً ، وشرب رطلاً ، ولم يزل يستعيده حتى شرب تسعة أرطال ! ثم دعا بحمار فركبه ، وأمر أبا دلف أن ينصرف معه ، فخرج معه فثبته في ندمائه ، وأمر له بعشرين ألف دينار ) .

أقول : هذا غيضٌ من فيضٍ من ركاكة شخصية المعتصم ، وهو صفةٌ عامةٌ للخلفاء وسكان قصورهم . والرطل العراقي تقريباً ثلث كيلو غرام ، لأن الكر الذي هو ألف ومئتا رطل ، نحو أربع مئة كيلو . فيكون المعتصم شرب في مجلس واحد ثلاث كيلوات من الخمر ! ( راجع الأوزان والمقادير / 64 و 97 ، وكلمة التقوى لزين الدين : 1 / 9 ) .

( 10 ) المعتصم شاذ جنسياً كأكثر خلفاء بني العباس !

روى السيوطي في تاريخ الخلفاء / 364 : ( عن محمد بن عمر الرومي ، قال : كان للمعتصم غلام يقال له عجيب ، لم ير الناس مثله قط ، وكان مشغوفاً به ، فعمل فيه أبياتاً ثم دعاني وقال : قد علمت أني دون إخوتي في الأدب ، لحب أمير المؤمنين لي وميلي إلى اللعب وأنا حدث ، فلم أنل ما نالوا . وقد عملت في عجيب أبياتاً ، فإن كانت حسنة وإلا فأصدقني حتى أكتمها ، ثم أنشد شعراً :

لقد رأيت عجيبا * يحكى الغزال الربيبا

الوجه منه كبدر * والقد يحكى القضيبا

طبيب ما بي من الحب * فلا عدمت الطبيبا

إني هويت عجيبا * هوى أراه عجيبا

فحلفت له بأيمان البيعة ، أنه شعر مليح من أشعار الخلفاء الذين ليسوا بشعراء ، فطابت نفسه ، وأمر لي بخمسين ألف درهم ) .

( 11 ) قال دعبل إن المسلمين لم يحزنوا لموت المعتصم !

في تاريخ بغداد ( 14 / 17 ) : ( ولما مات المعتصم وتولى الواثق الخلافة كتب دعبل ابن علي الخزاعي أبياتاً ثم أتى بها الحاجب فقال : أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل : مديح لدعبل ، قال : فأخذ الحاجب الطومار فأدخله إلى الواثق ، ففضه فإذا فيه :

الحمد لله لا صبرٌ ولا جلدُ * ولا رقادٌ إذا أهل الهوى رقدوا

خليفةٌ ماتَ لم يحزن له أحدٌ * وآخرٌ قام لم يفرح به أحدُ

فمرَّ هذا ومرَّ الشؤمُ يتبعه * وقام هذا وقام الويلُ والنكد

فطُلِب فلم يُوجَد ، حتى هلك الواثق ) .

وفي رواية أن الواثق أخذ الحاجب الذي جاءه بالطومار ، فقال : لا أعرف ما فيه فقد قال لي رجل أعط هذا للخليفة وقل مديحٌ من دعبل ، ولك نصف الجائزة . فقال الواثق : أعطوه نصف الجائزة ألف سوط ، فلو جاءنا دعبل لضربناه ألفي سوط !

لكن دعبلاً ضربه وأباه المعتصم بألفي سوط فقال فيه كما في تاريخ دمشق ( 17 / 264 ) :

ملوكُ بني العباس في الكتب سبعةٌ * ولم تأتنا في ثامنٍ منهمُ الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة * عداةٌ ثووا فيه وثامنهم كلب

وإني لأُزهي كلبهم عنك رغبةً * لأنك ذو ذنب وليس لهم ذنب

كأنك إذ ملكتنا لشقائنا * عجوزٌ عليها التاج والعقد والإتب

فقد ضاع أمر الناس حين يسوسهم * وصيفٌ وأشناسٌ وقد عظم الخطب

وفضل بن مروان سيثلم ثلمة * يظل لها الإسلام ليس له شعب

وهمك تركيٌّ عليه مهانةٌ * فأنت له أمٌّ وأنت له أبُّ

وإني لأرجو أن يُرى من مغيبها * مطالع شمس قد يغص بها الشرب

ومعنى كلامه الأخير : أرجو أن تطلع شمس أهل البيت ( عليهم السلام ) من مغربها ، فتنهيكم .




يحفل التاريخ الاسلامي بمجموعة من القيم والاهداف الهامة على مستوى الصعيد الانساني العالمي، اذ يشكل الاسلام حضارة كبيرة لما يمتلك من مساحة كبيرة من الحب والتسامح واحترام الاخرين وتقدير البشر والاهتمام بالإنسان وقضيته الكبرى، وتوفير الحياة السليمة في ظل الرحمة الالهية برسم السلوك والنظام الصحيح للإنسان، كما يروي الانسان معنوياً من فيض العبادة الخالصة لله تعالى، كل ذلك بأساليب مختلفة وجميلة، مصدرها السماء لا غير حتى في كلمات النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) وتعاليمه الارتباط موجود لان اهل الاسلام يعتقدون بعصمته وهذا ما صرح به الكتاب العزيز بقوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فصار اكثر ايام البشر عرفاناً وجمالاً (فقد كان عصرا مشعا بالمثاليات الرفيعة ، إذ قام على إنشائه أكبر المنشئين للعصور الإنسانية في تاريخ هذا الكوكب على الإطلاق ، وارتقت فيه العقيدة الإلهية إلى حيث لم ترتق إليه الفكرة الإلهية في دنيا الفلسفة والعلم ، فقد عكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم روحه في روح ذلك العصر ، فتأثر بها وطبع بطابعها الإلهي العظيم ، بل فنى الصفوة من المحمديين في هذا الطابع فلم يكن لهم اتجاه إلا نحو المبدع الأعظم الذي ظهرت وتألقت منه أنوار الوجود)





اهل البيت (عليهم السلام) هم الائمة من ال محمد الطاهرين، اذ اخبر عنهم النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) باسمائهم وصرح بإمامتهم حسب ادلتنا الكثيرة وهذه عقيدة الشيعة الامامية، ويبدأ امتدادهم للنبي الاكرم (صلى الله عليه واله) من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) الى الامام الحجة الغائب(عجل الله فرجه) ، هذا الامتداد هو تاريخ حافل بالعطاء الانساني والاخلاقي والديني فكل امام من الائمة الكرام الطاهرين كان مدرسة من العلم والادب والاخلاق استطاع ان ينقذ امةً كاملة من الظلم والجور والفساد، رغم التهميش والظلم والابعاد الذي حصل تجاههم من الحكومات الظالمة، (ولو تتبّعنا تاريخ أهل البيت لما رأينا أنّهم ضلّوا في أي جانب من جوانب الحياة ، أو أنّهم ظلموا أحداً ، أو غضب الله عليهم ، أو أنّهم عبدوا وثناً ، أو شربوا خمراً ، أو عصوا الله ، أو أشركوا به طرفة عين أبداً . وقد شهد القرآن بطهارتهم ، وأنّهم المطهّرون الذين يمسّون الكتاب المكنون ، كما أنعم الله عليهم بالاصطفاء للطهارة ، وبولاية الفيء في سورة الحشر ، وبولاية الخمس في سورة الأنفال ، وأوجب على الاُمّة مودّتهم)





الانسان في هذا الوجود خُلق لتحقيق غاية شريفة كاملة عبر عنها القرآن الحكيم بشكل صريح في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وتحقيق العبادة أمر ليس ميسوراً جداً، بل بحاجة الى جهد كبير، وافضل من حقق هذه الغاية هو الرسول الاعظم محمد(صلى الله عليه واله) اذ جمع الفضائل والمكرمات كلها حتى وصف القرآن الكريم اخلاقه بالعظمة(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، (الآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك) فقد جمعت الفضائل كلها في شخص النبي الاعظم (صلى الله عليه واله) حتى غدى المظهر الاولى لأخلاق رب السماء والارض فهو القائل (أدّبني ربي بمكارم الأخلاق) ، وقد حفلت مصادر المسلمين باحاديث وروايات تبين المقام الاخلاقي الرفيع لخاتم الانبياء والمرسلين(صلى الله عليه واله) فهو في الاخلاق نور يقصده الجميع فبه تكشف الظلمات ويزاح غبار.