قَبَساتٌ مِنْ سِيرَة ِالإِمامِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عليه السلام |
1925
02:40 صباحاً
التاريخ: 17/9/2022
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-04-2015
4004
التاريخ: 22-6-2019
2556
التاريخ: 9/10/2022
1814
التاريخ: 7-5-2019
2187
|
هُوَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ، وَابْنُ فاطِمَةَ عليها السلام ، بِنْتِ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم. وُلِدَ في الثَّالِثِ مِنْ شَهْرِ شَعْبانَ، في السَّنَةِ الرَّابِعَةِ لِلْهِجْرَةِ. وَهُوَ أَحَدُ أَهْلِ الكِساءِ الخَمْسَةِ، الَّذِينَ أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ، وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرًا؛ وَباهَى بِهِمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ، نَصارَى نَجْرانَ؛ وَكانَ الرَّسُولُ في كُلِّ مُناسَبَةٍ، يُؤَكِّدُ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، ما يَرْوِيهِ الشِّيعَةُ وَالسُّنَّةُ: "حُسَيْنٌ مِنِّي، وَأَنا مِنْ حُسَيْنٍ". "أَللَّهُمَّ أَحِبََّ مَنْ يُحِبُّ حُسَيْنًا". "حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ الأَسْباطِ".
وَكانَ نُورُ الحُسَيْنِ عليه السلام ، أَحَدَ الأَنْوارِ المُحَمَّدِيَّةِ، المُحْدِقَةِ بِالعَرْشِ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهَ تَعالَى الخَلْقَ.
وَلَمْ يُبْعَثْ نَبِيٌّ إِلَّا وَكانَ لَهُ حَدِيثٌ خاصٌّ، بِالإِقْرارِ بِنُبُوَّةِ خَيْرِ الخَلْقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ وَكَذَلِكَ مَعَ الإِقْرارِ بِالوِلايَةِ، لِأَهْلِ البَيْتِ عليهم السلام.
وَلِكُلِّ نَبِيِّ مِنَ الأَنْبِياءِ، مَعَ الحُسَيْنِ عليه السلام ، حَدِيثٌ فَرِيدٌ، وَحَنِينٌ وَلَوْعَةٌ مُتَمَيِّزانِ. بَكاهُ الأَنْبِياءُ جَمِيعًا عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ؛ فَهُوَ الَّذِي سَيَحْفَظُ اللهُ تَعالَى بِدَمِهِ، جُهُودَ كُلِّ الأَنْبِياءِ، عَبْرَ القُرُونِ؛ وَلَوْلا دَمُهُ الطَّاهِرُ، لَضاعَتْ كُلُّ هَذِهِ الجُهُودِ سُدًى.
وَطالَما حَدَّثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، المُسْلِمِينَ، عَنْ كَرْبَلاءَ، وَشَهادَةِ سَيِّدِ الشُّهَداءِ، الحُسَيْنِ عليه السلام فِيها؛ وَمَنْ يَتَأَمَّلْ مَصادِرَ السُّنَّةِ، يَجِدْها مَمْلُوءَةً بِحَدِيثِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، عَنْ تُرْبَةِ الحُسَيْنِ، وَكَرْبَلاءِ الحُسَيْنِ، وَالنَّشِيجِ عَلَى الحُسَيْنِ، وَالحَثِّ عَلَى نُصْرَتِهِ، وَالبَراءَةِ مِنْ يَزِيدَ، وَبَنِي أُمَيَّةَ، قَتَلَةِ الحُسَيْنِ، وَقَتَلَةِ آلِ البَيْتِ عليهم السلام.
إِسْتُشْهِدَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، مَعَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَأَصْحابِهِ، في واقِعَةِ كَرْبَلاءَ، في العاشِرِ مِنْ شَهْرِ المُحَرَّمِ، في عامِ 61 هـ. بَعْدَ رَفْضِهِ بَيْعَةَ يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ، مُوضِحًا أَسْبابَ نَهْضَتِهِ، بِقَوْلِهِ:
"إِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ في أُمَّةِ جَدِّي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ".
شَخْصِيَّةُ يَزِيدَ بْنِ مُعاوِيَةَ:
وُلِدَ يَزِيدُ بْنُ مُعاوِيَةَ في سَنَةِ 25 أو 26 هـ. أُمُّهُ مَيْسُونُ النَّصْرانِيَّةُ، مِنْ قَبِيلَةِ بَنِي كِلابٍ، وَقَدْ ظَلَّتْ عَلَى دِيانَتِها، وَهِيَ في قَصْرِ "خَلِيفَةِ المُسْلِمِينَ"! فَعادَتْ إِلَى أَهْلِها في البادِيَةِ، وَهِيَ تَحْمِلُهُ، لِتَلِدَهُ فِيها، حَيْثُ نَشَأَ يَزِيدُ بَيْنَ أَخْوالِهِ. وَكانَ يَزِيدُ مُتَهَتِّكًا في مَعاصِيهِ وَمَباذِلِهِ وَهِواياتِهِ، لا يَأْبَهُ بِأَحْكامِ اللهِ وَحُدُودِهِ تَعالَى، وَلا يُقِيمُ لَها وَزْنًا؛ وَتِلْكَ هِيَ سِيرَةُ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ؛ فَكانَ يَقُولُ لَهُ: "يا بُنَيَّ، ما أَقْدَرَكَ عَلَى أَنْ تَصِلَ إِلَى حاجَتِكَ مِنْ غَيْرِ تَهَتُّكٍ، يَذْهَبُ بِمُرُوءَتِكَ وَقَدْرِكَ، وَيَشْمَتُ بِكَ عَدُوُّكَ، وَيُسِيءُ بِكَ صَدِيقُكَ!"
كانَ يَزِيدُ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ شُرْبَ الخَمْرِ، وَالانْصِرافَ إِلَى الغِناءِ وَالصَّيْدِ، وَاتِّخاذِ الغِلْمانِ، وَاللَّعِبِ بِالقُرُودِ؛ وَكانَ يُلْبِسُ كِلابَ الصَّيْدِ أَساوِرَ وَحُلَلًا مِنْ ذَهَبٍ، وَيَهَبُ لِكُلِّ كَلْبٍ عَبْدًا يَخْدِمُهُ.
قالَ زِيادُ بْنُ أَبِيهِ لِمُعاوِيَةَ، عِنْدَما طَلَبَ إِلَيْهِ أَخْذَ بَيْعَةِ المُسْلِمِينَ في البَصْرَةِ لِوَلَدِهِ: "فَما يَقُولُ النَّاسُ إِذا دَعَوْناهُمْ إِلَى بَيْعَةِ يَزِيدَ، وَهُوَ يَلْعَبُ بِالكِلابِ وَالقُرُودِ، وَيَلْبَسُ المُصَبَّغَ، وَيُدْمِنُ الشَّرابَ، وَيَمْشِي عَلَى الدُّفُوفِ...؟!".
وَأَمَرَ يَزِيدُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ زِيادٍ، بِقَتْلِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَإِرْسالِ رَأْسِهِ إِلَيْهِ، بَعْدَما رَفَضَ بَيْعَتَهُ؛ وَقَدِ افْتَخَرَ بِانْتِمائِهِ إِلَى الجاهِلِيَّةِ، وَرَأْسُ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بَيْنَ يَدَيْهِ، بَعْدَما تَمَثَّلَ بِأَبْياتِ ابْنِ الزِّبَعْرَى، الَّتِي مَطْلَعُها:
لَيْتَ أَشْياخِي بِبَدْرٍ شَهِدُوا
جَزَعَ الخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ.
وَخِتامُها:
لَعِبَتْ هاشِمُ بِالمُلْكِ، فَلا
خَبَرٌ جاءَ، وَلا وَحْيٌ نَزَلْ
كانَتْ وِلايَةُ يَزِيدَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ:
في السَّنَةِ الأُولَى، قَتَلَ الإِمامَ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ عليه السلام ، وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَصْحابَهُ، في واقِعَةِ كَرْبَلاءَ، وَسَبَى نِساءَهُ، مِنْ كَرْبَلاءَ إِلَى الشَّامِ. وَفي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، نَهَبَ مَدِينَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَأَباحَها ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لِجَيْشِهِ؛ تَمَّ فِيها قَتْلُ سَبْعِمائَةٍ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ؛ فَلَمْ يَبْقَ بَدْرِيٌّ بَعْدَ ذَلِكَ؛ وَقَتَلَ عَشَرَةَ آلافٍ مِنَ المَوالِي وَالعَرَبِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَانْتُهِكَتِ النِّساءُ.
وَفي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ، حاصَرَ مَكَّةَ، وَأَحْرَقَ الكَعْبَةَ الشَّرِيفَةَ.
بَيْنَ مُعاوِيَةَ وَيَزِيدَ:
كانَ إِصْرارُ مُعاوِيَةَ عَلَى اسْتِخْلافِ وَلَدِهِ يَزِيدَ، إِصْرارًا عَلَى القَضاءِ عَلَى الإِسْلامِ، وَانْتِقامًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، بِتَحْوِيلِ الخِلافَةِ إِلَى مُلْكٍ، لا قِيمَةَ فِيهِ لِإِرادَةِ الأُمَّةِ وَاخْتِيارِها.
وَقالَ مُعاوِيَةُ: "وَلَوْلا هَوايَ في يَزِيدَ، لَأَبْصَرْتُ رُشْدِي، وَعَرَفْتُ قَصْدِي"؛ وَتَدُلُّ هَذِهِ العِبارَةُ على أَنَّ مُعاوِيَةَ بِما لَدَيْهِ مِنْ دَهاءٍ، كانَ يَعْلَمُ أَنَّ اسْتِمْرارَ نَجاحِ جُهُودِ حَرَكَةِ النِّفاقِ، الَّتِي أَنْتَجَتِ الحُكْمَ الأُمَوِيَّ الجاهِلِيَّ، المُتَسَتِّرَ بِالمَظْهَرِ الإِسْلامِيِّ، يَقْتَضِي أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَ مُعاوِيَةَ حاكِمٌ آخَرُ داهِيَةٌ، لا يَرْتَكِبُ الحَماقاتِ الَّتِي تَفْضَحُ خُطَّةَ التَّسَتُّرِ بِالدِّينِ، وَحَتَّى تَسْتَمِرَّ الخِدْعَةُ إِلَى وَقْتٍ، لا يَبْقَى مِنَ الدِّينِ إِلَّا اْسْمُهُ؛ وَلَكِنَّ مُعاوِيَةَ كانَ عَلَى عِلْمٍ، بِأَنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ لا تَتَوَفَّرُ في يَزِيدَ، فَهُوَ يَمْتَلِكُ مِنَ الرُّعُونَةِ وَالحَماقَةِ، ما يَكْفِي لِهَدْمِ ما بُنِيَ، طِيلَةَ خَمْسِينَ سَنَةً.
وَلَكِنَّ حُبَّ مُعاوِيَةَ لِذاتِهِ وَلِيَزِيدَ، كَامْتِدادٍ وُجُودِيٍّ وَنِسْبِيٍّ لَهُ، جَعَلَهُ يُصِرُّ عَلَى اسْتِخْلافِ يَزِيدَ، انْقِيادًا لِهَواهُ في وَلَدِهِ، مَعَ مَعْرِفَتِهِ
لِلْمَصائِبِ الَّتِي سَيَجْلُبُها لِلْأُمَوِيِّينَ، خُصُوصًا مَعَ وُجُودِ وُلاةٍ في الإِماراتِ الإِسْلامِيَّةِ كَيَزِيدَ، تَقُودُهُمْ حَماقَتُهُمْ إِلَى المُواجَهَةِ العَلَنِيَّةِ مَعَ آلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، لِما يُكِنُّونَ لَهُمْ مِنْ حِقْدٍ وَضَغِينَةٍ؛ وَأَنَّ هَؤُلاءِ سَيَقْضُونَ عَلَى إِمارَةِ الوُلاةِ المُتَبَنِّينَ لِسِياسَةِ مُعاوِيَةَ الخَبِيثَةِ، وَهِيَ المُواجَهَةُ السِّرِّيَّةُ، بِإِلْصاقِ تُهَمِ الضُّعْفِ في إِدارَةِ شُؤُونِ البِلادِ.
مُعاوِيَةُ يَأْخُذُ البَيْعَةَ لِيَزِيدَ:
بَعْدَ اسْتِشْهادِ الإِمامِ الحَسَنِ عليه السلام ، إِثْرَ السُّمِّ الَّذي دَسَّتْهُ لَهُ زَوْجُهُ جَعْدَةُ بِنْتُ الأَشْعَثِ، بَعْدَ وَعْدٍ قَطَعَهُ لَها مُعاوِيَةُ، بِتَزْوِيجِها لِابْنِهِ يَزِيدَ، وَلَمْ يَفِ بِهِ، أَخَذَ مُعاوِيَةُ البَيْعَةَ لِيَزِيدَ في الشَّامِ، وَفي أَغْلَبِ الأَمْصارِ.
وَأَرْسَلَ إِلَى مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ، وَالِي المَدِينَةِ آنَذاكَ، بِأَخْذِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ، مِنْ وُجَهاءِ القَوْمِ، فَأَنْكَرُوا عَلَى مَرْوانَ ذَلِكَ.
وَالمَدِينَةُ المُنَوَّرَةُ هِيَ مَرْكَزُ ثِقْلِ الدَّعْوَةِ الإِسْلامِيَّةِ، فَفِيها مَنْزِلُ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَآلُ بَيْتِهِ الأَطْهارُ، مِنْ بَنِي هاشِمٍ، وَبَقِيَّةُ صَحابَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لِذا فَإِنَّ أَخْذَ البَيْعَةِ مِنْ أَهْلِها يُعْتَبَرُ انْتِصارًا كَبِيرًا لِمُعاوِيَةَ، لِناحِيَةِ وَضْعِ "الهاشِمِيِّينَ"، وَعَلَى رَأْسِهِمُ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، تَحْتَ أَمْرٍ واقِعٍ، بِبَقاءِ إِمارَةِ المُسْلِمِينَ بِيَدِ الأُمَوِيِّينَ.
وَاسْتَعْصَتِ المَدِينَةُ عَلَى البَيْعَةِ، فَعَزَلَ مُعاوِيَةُ مَرْوانَ، وَعَيَّنَ سَعِيدَ بْنَ العاصِ والِيًا عَلَيْها؛ وَقَدْ أَوْصاهُ أَنْ يَأْخُذَ البَيْعَةَ مِنَ المُهاجِرِينَ وَالأَنْصارِ بِالشِّدَّةِ؛ وَكَتَبَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَهُ بِالحَزْمِ وَالتَّصَلُّبِ، مَعَ الرِّفْقِ، وَتَجَنُّبِ الخُرْقِ في التَّعامُلِ مَعَ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام قائِلًا: "وَانْظُرْ حُسَيْنًا خاصَّةً، فَلا يَنالُهُ مِنْكَ مَكْرُوهٌ، فَإِنَّ لَهُ قَرابَةً وَحَقًّا عَظِيمًا، لا يُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ وَلا مُسْلِمَةٌ؛ وَهُوَ لَيْثُ عَرِينٍ، وَلَسْتُ آمَنَكَ، إِنْ شاوَرْتَهُ، أَنْ لا تَقْوَى عَلَيْهِ". وَلَمْ يَكُنْ هَذا مِنْ مُنْطَلَقِ احْتِرامِهِ لَهُ، بَلْ لِدَهائِهِ، عَلَى ما سَيَأْتِي.
وَقَدْ شَدَّدَ مُعاوِيَةُ في حَياتِهِ، الرَّقابَةَ عَلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَرَصَدَ عَلَيْهِ الصَّغِيرَةَ وَالكَبِيرَةَ، مِنْ سَكَناتِهِ وَحَرَكاتِهِ، في حَياتِهِ الخاصَّةِ وَالعامَّةِ؛ وَتَعَمَّدَ إِشْعارَ الإِمامِ عليه السلام بِذَلِكَ، لِرَدْعِهِ عَنْ فِكْرَةِ الخُرُوجِ وَالقِيامِ.
وَكَتَبَ مُعاوِيَةُ إِلَى الإِمامِ عليه السلام ، بَعْدَ رَفْضِهِ مُبايَعَةَ يَزِيدَ، وَلِيًّا لِلْعَهْدِ: "أَمَّا بَعْدُ.. فَقَدِ انْتَهَتْ إِلَيَّ مِنْكَ أُمُورٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ بِكَ رَغْبَةً عَنْها، وَإِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالوَفاءِ، لَمَنْ أَعْطَى بَيْعَتَهُ، مَنْ كانَ مِثْلَكَ، في خَطَرِكَ وَشَرِّكَ وَمَنْزِلَتِكَ، الَّتِي أَنْزَلَكَ اللهُ بِها، فَلا تُنازِعْ إِلَى قَطِيعَتِكَ، وَاتَّقِ اللهَ، وَلا تَرُدَّنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ في فِتْنَةٍ، وَانْظُرْ لِنَفْسِكَ وَدِينِكَ وَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ".
أَمَّا الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، فَقَدْ رَدَّ عَلَى مُعاوِيَةَ، رَدًّا احْتِجاجِيًّا، تَضَمَّنَ إِدانَتَهُ لَهُ، بِقَتْلِ الصَّحابِيِّ الجَلِيلِ حُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ، وَبِاسْتِلْحاقِهِ زِيادَ اْبْنَ عُبَيْدِ الرُّومِيِّ بِنَسَبِ أَبِي سُفْيانَ، ثُمَّ تَسْلِيطِهِ عَلَى الأُمَّةِ، يَبْطُشُ بِها؛ وَذَكَّرَهُ مَغَبَّةَ سُوءِ العاقِبَةِ، وَزَوالِ الدُّنْيا، وَأَنَّ للهِ كِتابًا لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؛ وَكانَتِ الفِقْرَةُ الخِتامِيِّةُ في هَذا الرَّدِّ:
"وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِناسٍ لَكَ قَتْلَكَ بِالظِّنَّةِ، وَأَخْذَكَ بِالتُّهْمَةِ، وَإِمارَتَكَ صَبِيًّا، يَشْرَبُ الشَّرابَ، وَيَلْعَبُ بِالكِلابِ؛ ما أَراكَ إِلَّا وَقَدْ أَوْبَقْتَ نَفْسَكَ، وَأَهْلَكْتَ دِينَكَ، وَأَضَعْتَ الرَّعِيَّةَ، وَالسَّلامُ".
فَقَدِمَ مُعاوِيَةُ إِلَى المَدِينَةِ حاجًّا، وَأَوْفَدَ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ؛ كُلٍّ عَلَى انْفِرادٍ؛ وَدَعاهُمْ إِلَى قَبُولِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ، لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصَلْ مِنْهُمْ عَلَى ما يُرِيدُ.
وَفي اليَوْمِ الثَّانِي، أَرْسَلَ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ فَسَبَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَقْعَدَهُ مُعاوِيَةُ في الفِراشِ عَلَى يَسارِهِ، وَحادَثَهُ مَلِيًّا، حَتَّى أَقْبَلَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، فَلَمَّا رَآهُ مُعاوِيَةُ، جَمَعَ لَهُ وِسادَةً عَلَى يَمِينِهِ، فَدَخَلَ الإِمامُ عليه السلام ، وَسَلَّمَ؛ فَسَأَلَهُ مُعاوِيَةُ عَنْ حالِ بَنِي أَخِيهِ الحَسَنِ عليه السلام ، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ سَكَتَ.
وَابْتَدَأَ مُعاوِيَةُ بِالكَلامِ، فَقالَ، بَعْدَ الحَمْدِ وَالثَّناءِ، كَلامًا مُطَوَّلًا، يَصِفُ فِيهِ وَلَدَهُ يَزِيدَ، وَماذا يُرِيدُ مُعاوِيَةُ مِنْ تَنْصِيبِهِ خَلِيفَةً. وَمِنْ جُمْلَةِ ما قالَ: " وَقَدْ كانَ مِنْ أَمْرِ يَزِيدَ ما سُبِقْتُمْ إِلَيْهِ، وَإِلَى تَجْوِيزِهِ؛ وَقَدْ عَلِمَ اللهُ ما أُحاوِلُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الرَّعِيَّةِ، مِنْ سَدِّ الخَلَلِ، وَلَمِّ الصَّدْعِ، بِوِلايَةِ يَزِيدَ، بِما أَيْقَظَ العَيْنَ، وَأَحْمَدَ الفِعْلَ؛ هَذا مَعْنايَ في يَزِيدَ...".
فَأَشارَ إِلَيْهِ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، رادًّا:
".. وَفَهِمْتُ ما ذَكَرْتَهُ عَنْ يَزِيدَ، مِنِ اكْتِمالِهِ وَسِياسَتِهِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، تُرِيدُ أَنْ تُوهِمَ النَّاسَ في يَزِيدَ، كَأَنَّكَ تَصِفُ مَحْجُوبًا، أَوْ تَنْعَتُ غائِبًا، أَوْ تُخْبِرُ عَمَّا كانَ، مِمَّا احْتَوَيْتَهُ بِعِلْمٍ خاصٍّ. وَقَدْ دَلَّ يَزِيدُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَوْقِعِ رَأْيِهِ..".
فَاحْتَجَبَ مُعاوِيَةُ عَنِ النَّاسِ في المَدِينَةِ ثَلاثَةَ أَيَّاٍم، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ المُنادِي أَنْ يُنادِيَ في النَّاسِ، أَنْ يَجْتَمِعُوا لِأَمْرٍ جامِعٍ؛ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ في المَسْجِدِ، وَقَعَدَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، وَأَصْحابُهُ حَوْلَ المِنْبَرِ؛ فَأَخَذَ مُعاوِيَةُ يُخْبِرُ النَّاسَ بِفَضائِلِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُ طَلَبَ لَهُ البَيْعَةَ مِنْ كُلِّ القُرَى وَالمَدَرِ، فَأَجابَتْ إِلَّا المَدِينَةَ، قَدْ أَخَّرَتْ بَيْعَتَهُ.
وَحاجَجَهُ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، أَمامَ القَوْمِ، حَوْلَ خِصالِ يَزِيدَ؛ غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الشَّامِ ضَرَبُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى سُيُوفِهِمْ، فَسَلُّوها، وَطَلَبُوا الإِذْنَ بِضَرْبِ أَعْناقِ الرِّجالِ الرَّافِضِينَ لِلْبَيْعَةِ. وَكانَ هَدَفُ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، تَسْجِيلَ المَوْقِفِ، لِيَتَّضِحَ أَنَّهُ لا يُعْطِي أَدْنَى شَرْعِيَّةٍ، لِتَعْيِينِ يَزِيدَ.. فَنَزَلَ مُعاوِيَةُ عَنِ المِنْبَرِ.
وَأَقْبَلَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، يَسْأَلُونَهُ عَنْ بَيْعَةِ يَزِيدَ، وَأَنَّهُ وَصَلَهُمْ، أَنَّهُ قَدْ دُعِيَ، وَبايَعَ.
فَقالَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام :
"لا، وَاللهِ، ما بايَعْنا، وَلَكِنَّ مُعاوِيَةَ خَدَعَنا، وَكادَنا بِبَعْضِ ما كادَكُمْ بِهِ".
الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام في مَدِينَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم :
كانَ النَّاسُ قَدْ كَرِهُوا الحَرْبَ، لِطُولِ مُعاناتِهِمْ مِنْها، وَرَغْبَةً مِنْهُمْ في الدُّنْيا، وَالسَّلامَةِ وَالدَّعَةِ، وَطاعَةً لِرَغَباتِ زُعَماءِ قَبائِلِهِمْ؛ وَلَكِنَّهُمُ اكْتَشَفُوا، بَعْدَ مُدَّةِ، مَدَى الخَطَأِ الَّذِي وَقَعُوا فِيه، بِضُعْفِهِمْ عَنِ القِيامِ بِتَبِعاتِ القِتالِ، وَخِذْلانِ الإِمامِ الحَسَنِ عليه السلام ، بَعْدَما ذاقُوا طَعْمَ واقِعِ السُّلْطَةِ، الَّتِي اعْتَمَدَتْ مَبْدَأَ الاضْطِهادِ وَالإِرْهابِ وَالتَّجْوِيعِ وَالحِرْمانِ، وَالمُطارَدَةِ المُسْتَمِرَّةِ، وَخَنْقِ الحُرِّيَّاتِ، وَالاسْتِهْزاءِ بِالشَّرِيعَةِ، وَالاسْتِخْفافِ بِالقِيَمِ. فَأَوْلَى الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام أَتْباعَهُ، عِنايَةً فائِقَةً، وَرِعايَةً خاصَّةً؛ وَحَرِصَ في ظَرْفِهِ السِّياسِيِّ الاجْتِماعِيِّ، الشَّدِيدِ الحَساسِيَّةِ وَالخُطُورَةِ، عَلَى حِفْظِهِمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ؛ وَعَمِلَ ما بِوُسْعِهِ لِإِبْقائِهِمْ بِمَنْأَى عَنْ مَنالِ يَدِ البَطْشِ؛ وَحَثَّ أَهْلَ المَعْرِفَةِ وَالعِلْمِ مِنْ مَوالِيهِ، بِأَنْ يَكْفَلُوا إِخْوانَهُمُ المَحْرُومِينَ مِنَ العِلْمِ؛ وَنَشَرَ الثَّقافَةَ السِّياسِيَّةَ وَالوَعْيَ، إِزاءَ خَطَرِ الحُكُومَةِ، المُحْدِقِ بِالدِّينِ المُحَمَّدِيِّ.
في خِضَمِّ تَيَّارِ التَّضْلِيلِ الدِّينِيِّ وَالسِّياسِيِّ، المُهَيْمِنِ عَلَى الرَّأْيِ العامِّ الإِسْلامِيِّ، كانَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، يُصارِعُ هَذا التَّيَّارَ، وَيُحاوِلُ اخْتِراقَهُ في تَبْيِينِ الحَقِّ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالدِّفاعِ عَنْهُ.
وَقَدْ عَمَدَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، إِلَى كَشْفِ الضَّلالِ وَزَيْفِهِ عَنْ ذِهْنِيَّةِ الأُمَّةِ، وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَتَعْلِيمِها وَتَرْبِيَتِها، مِنْ خِلالِ حَلَقاتِ الوَعْظِ وَالإِرْشادِ، الَّتِي كانَ يَقُومُ بِها في المَدِينَةِ وَمَكَّةَ؛ وَاسْتَغَلَّ المُناسَباتِ الدِّينِيَّةَ، لِبَثِّ الوَعْيِ فِيها، وَتَذْكِيرِها بِالسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الشَّرِيفَةِ، وَدَعْوَتِها إِلَى نُصْرَةِ الحَقِّ؛ وَقَدْ وَرَدَ في كَلامٍ، خاطَبَ بِهِ أَهْلَ العِلْمِ، مِنَ الصَّحابَةِ خاصَّةً، وَالتَّابِعِينَ عامَّةً، يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ، وَيُوَضِّحُ الأَسْبابَ العَمِيقَةَ، لِرَفْضِ بَيْعَةِ يَزِيدَ:
".. أَللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ، أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ما كانَ مِنَّا، تَنافُسًا في سُلْطانٍ، وَلا الْتِماسًا مِنْ فُضُولِ الحُطامِ، وَلَكِنْ لِنُرِيَ المَعالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإِصْلاحَ في بِلادِكَ، وَيَأْمَنَ المَظْلُومُ مِنْ عِبادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرائِضِكَ وَسُنَنِكَ وَأَحْكامِكَ..".
وَجاءَ النَّاسُ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِ العِراقِ، وَأَشْرافِ الحِجازِ، وَالبَصْرَةِ، وَاليَمَنِ، وَمُخْتَلِفِ المُدُنِ الإِسْلامِيَّةِ؛ يُجِلُّونَهُ، وَيُعَظِّمُونَهُ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى أَنْفُسِهِمْ، وَيقُولُونَ لَهُ: "إِنَّا لَكَ عَضُدٌ وَيَدٌ"، حَتَّى إِذا ماتَ مُعاوِيَةُ، لَمْ يَعْدِلِ النَّاسُ بِالإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، أَحَدًا.
وَقَدْ حَرِصَ مُعاوِيَةُ، بَقِيَّةَ حَياتِهِ، يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، اهْتِمامًا فائِقًا، وَيَحْسُبُ لَهُ حِسابًا في مُوازَنَةٍ دَقِيقَةٍ، بَيْنَ عَدَمِ التَّحَرُّشِ بِهِ، وَعَدَمِ إِثارَتِهِ، وَبَيْنَ مُراقَبَةٍ دَقِيقَةٍ مُتَواصِلَةٍ، لِلْحَيْلُولَةِ دُونَ خُرُوجِ فِكْرَةِ القِيامِ وَالثَّوْرَةِ عِنْدَهُ، مِنْ مَكْنُونِ النِّيَّةِ، إِلَى حَيِّزِ التَّطْبِيقِ، وَالتَّنْفِيذِ العَمَلِيِّ. فَقَدْ صَرَّحَ الوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، الَّذِي اسْتَلَمَ وِلايَةَ المَدِينَةِ، بَعْدَ سَعِيدِ بْنِ العاصِ، بِحُدُودِ مَوْقِفِ السُّلْطَةِ الرَّسْمِيِّ مِنْهُ، حِينَما عَنَّفَهُ الإِمامُ عليه السلام ، عَلَى مَنْعِهِ أَهْلَ العِراقِ، مِنَ اللِّقاءِ بِهِ، قائِلًا لَهُ:
"يا ظالِمًا لِنَفْسِهِ، عاصِيًا لِرَبِّهِ، عَلامَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمٍ، عَرَفُوا مِنْ حَقِّي، ما جَهِلْتَهُ أَنْتَ وَعَمُّكَ؟".
مَوْتُ مُعاوِيَةَ:
ماتَ مُعاوِيَةُ، وَعُمُرُهُ يُناهِزُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ سَنَةً، قَضَى فِيها حَوالَى اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، مِنْها والِيًا عَلَى دِمَشْقَ، فِيها تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَبِضْعَةُ أَشْهُرٍ، مَلِكًا عَلَى جَمِيعِ البِلادِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهُوَ القائِلُ: "أَنا أَوَّلُ المُلُوكِ"، وَ "رَضِينا بِها مُلْكًا".
وَقَدْ نَشَرَ بَيْنَ خاصَّتِهِ، أَنَّهُ كَتَبَ في الوَصِيَّةِ لِابْنِهِ يَزِيدَ: "فَأَمَّا الحُسَيْنُ، فَأَرْجُو أَنْ يَكْفِيكَهُ اللهُ، بِمَنْ قَتَلَ أَباهُ، وَخَذَلَ أَخاهُ؛ وَإِنَّ لَهُ رَحِمًا ماسَّةً، وَحَقًّا عَظِيمًا، وَقَرابَةً مِنْ مُحَمَّدِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَلا أَظُنُُّ أَهْلَ العِراقِ تارِكِيهِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُ، فَإِنْ قَدِرْتَ عَلَيْهِ، فَاصْفَحْ عَنْهُ، فَإِنِّي لَوْ أَنِّي صاحِبُهُ، عَفَوْتُ عَنْهُ..".
وَما هَذِهِ الوَصِيَّةُ الأُمَوِيَّةُ إِلَّا رِسالَةٌ مُبَطَّنَةٌ، لِلَفْتِ نَظَرِ يَزِيدَ، المُسْتَخِفِّ بِشُؤُونِ الدِّينِ وَالسِّياسَةِ، إِلَى خُطُورَةِ مُقارَعَةِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام عَلَنًا؛ فَذَلِكَ سَيَفْصِلُ الإِسْلامَ نِهائِيًّا عَنِ السُّلْطَةِ، وَيُمَزِّقُ الإِطارَ الدِّينِيَّ الَّذِي يَتَشَبَّثُ بِهِ الحُكْمُ الأُمَوِيُّ، وَيَمْنَحُ الأُمَّةَ رُوحًا ثَوْرِيَّةً، وَتَضْحَوِيَّةً جَدِيدَةً، خالِصَةً مِنْ كُلِّ شَوائِبِ الشَّلَلِ النَّفْسِيِّ؛ وَبِذَلِكَ تُتابَعُ الثَّوْراتُ ضِدَّ الحُكْمِ. أَمَّا المُواجَهَةُ السِّرِّيَّةُ، وَقَتْلُ الإِمامِ عليه السلام ، بِالسُّمِّ مَثَلاً، أَوِ الاغْتِيالِ، فَلَنْ يَتْرُكَ أَيَّ أَثَرٍ، وَيُمْكِنُ أَنْ تَنْطَلِيَ حِيلَةُ مَوْتِهِ المَزْعُومِ عَلَى الأُمَّةِ.
وَلَكِنَّ الأَمْرَ لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا في احْتِمالِ المُواجَهَةِ السِّرِّيَّةِ، بَلْ هُناكَ احْتِمالُ حُصُولِ مُواجَهَةٍ عَلَنِيَّةٍ، يَخْتارُ الإِمامُ عليه السلام لَها الظُّرُوفَ الزَّمانِيَّةَ وَالمَكانِيَّةَ، وَيَصْنَعُ أَجْواءَها الإِعْلامِيَّةَ وَالتَّبْلِيغِيَّةَ، كَما يُرِيدُ هُوَ، لا كَما تُرِيدُ السُّلْطَةُ. وَهَذا بِالضَّبْطِ، ما كانَ يَخْشاهُ مُعاوِيَةُ في حَياتِهِ، وَقَدْ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ ابْنِهِ يَزِيدَ، الَّذِي أَصْبَحَ خَلِيفَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
يَزِيدُ يَطْلُبُ البَيْعَةَ مِنَ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام :
أَرْسَلَ يَزِيدُ بْنُ مُعاوِيَةَ رِسالَتَهُ إِلَى الوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، بَعْدَ مَوْتِ مُعاوِيَةَ، وَفِيها: "إِذا أَتاكَ كِتابِي هَذا، فَأَحْضِرِ الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ، وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَخُذْهُما بِالبَيْعَةِ لِي، فَإِنِ امْتَنَعا، فَاضْرِبْ عُنْقَيْهِما، وَابْعَثْ إِلَيَّ بِرَأْسَيْهِما، وَخُذِ النَّاسَ بِالبَيْعَةِ، فَمَنِ امْتَنَعَ، فَأَنْفِذْ فِيهِ الحُكْمَ".
وَكانَتْ بَيْعَةُ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام لِيَزِيدَ، تَعْنِي المَشْرُوعِيَّةَ وَالمُصادَقَةَ عَلَى انْتِهاءِ الدِّينِ الإِسْلامِيِّ الحَنِيفِ، وَحُلُولِ الدِّينِ الأُمَوِيِّ مَكانَهُ، إِضافَةً إِلَى تَحَوُّلِ شَكْلِ الحُكْمِ الإِسْلامِيِّ إِلَى مُلْكٍ وِراثِيٍّ.
كَما أَنَّ قَتْلَهُ عليه السلام ، يَعْنِي التَّخَلُّصَ مِنَ الخَطَرِ الأَكْبَرِ، الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكْشِفَ عَدَمَ مَشْرُوعِيَّةِ بَيْعَةِ يَزِيدَ؛ وَهَذا يُؤَكِّدُ أَنَّ مُعاوِيَةَ الدَّاهِيَةَ، قَدْ خَطَّطَ لِذَلِكَ، وَإِنْ تَظاهَرَ بِخِلافِ ذَلِكَ، كَما حاوَلَ يَزِيدُ في ما بَعْدُ، أَنْ يُلْقِيَ بِالتَّبِعَةِ عَلَى ابْنِ زِيادٍ.
فَلَمَّا قَرَأَ الوَلِيدُ الكِتابَ، اسْتَرْجَعَ وَحَوْقَلَ، وَتَمْتَمَ: "يا وَيْحَ الوَلِيدِ بِنِ عُتْبَةَ، مَنْ أَدْخَلَهُ الإِمارَةَ؟ ما لِي وَالحُسَيْنِ بْنِ فاطِمَةَ؟". وَيَرْجِعُ السَّبَبُ في كَلِماتِ الوَلِيدِ هَذِهِ، إِلَى ما يَعْرِفُهُ مِنْ مَغَبَّةِ المُواجَهَةِ العَلَنِيَّةِ، وَالعَواقِبِ الوَخِيمَةِ، الَّتِي سَيَنْجَرُّ إِلَيْها الحُكْمُ الأُمَوِيُّ. وَبَقِيَ خَبَرُ مَوْتِ مُعاوِيَةَ سِرًّا، وَلَمْ يَعْرِفْهُ إِلَّا الخَواصُّ مِنْ أَتْباعِ الحُكْمِ، في مُحاوَلَةٍ لِأَخْذِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ مِنَ الإِمامِ عليه السلام ، قَبْلَ الإِعْلانِ عَنْ مَوْتِ الخَلِيفَةِ؛ فَأَرْسَلَ الوَلِيدُ إِلَى الإِمامِ عليه السلام ، لِيَأْخُذَ مِنْهُ البَيْعَةَ.
كانَ الوَلِيدُ يَرْجِعُ في أُمُورِهِ كارِهًا إِلَى مَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ، الَّذِي كانَ والِيًا قَبْلَهُ، وَهُما عَلَى خِلافٍ شَدِيدٍ؛ فَأَرْسَلَ الوَلِيدُ بِإِثْرِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ؛ فَما كانَ مِنْهُ عليه السلام ، إِلَّا أَنْ بَعَثَ إِلَى فِتْيانِهِ وَعَشِيرَتِهِ وَمَوالِيهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَعْلَمَهُمْ بِشَأْنِهِ:
"كُونُوا بِبابِ هَذا الرَّجُلِ، فَإِنِّي ماضٍ إِلَيْهِ وَمُكَلِّمُهُ؛ فَإِنْ سَمِعْتُمْ أَنَّ صَوْتِيَ قَدْ عَلا، وَسَمِعْتُمْ كَلامِيَ، وَصِحْتُ بِكُمْ، فَادْخُلُوا، يا آلَ الرَّسُولِ، وَاقْتَحِمُوا، مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، ثُمَّ اشْهَرُوا السُّيُوفَ، وَلا تَعْجَلُوا؛ فَإِنْ رَأَيْتُمْ ما تَكْرَهُونَ، فَضَعُوا سُيُوفَكُمْ، ثُمَّ اقْتُلُوا مَنْ يُرِيدُ قَتْلِي".
ثُمَّ خَرَجَ الإِمامُ عليه السلام مِنْ مَنْزِلِهِ، وَفي يَدِهِ قَضِيبُ جَدِّهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، في ثَلاثِينَ رَجُلًا، مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَمَوالِيهِ وَشِيعَتِهِ، حَتَّى أَوْقَفَهُمْ عَلَى بابِ الوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَقالَ عليه السلام :
"انْظُرُوا ماذا أَوْصَيْتُكُمْ، فَلا تَتَعَدَّوْهُ، وَأَنا أَرْجُو أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ سالِمًا، إِنْ شاءَ اللهُ".
ثُمَّ دَخَلَ الإِمامُ عليه السلام عَلَى الوَلِيدِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ رَدًّا حَسَنًا، ثُمَّ أَدْناهُ وَقَرَّبَهُ، وَمَرْوانُ بْنُ الحَكَمِ هُنالِكَ جالِسٌ في مَجْلِسِهِ. فَقال الإِمامُ عليه السلام لِلْوَلِيدِ وَمَرْوانَ: "أَصْلَحَ اللهُ الأَمِيرَ، وَالصَّلاحُ خَيْرٌ مِنَ الفَسادِ، وَالصِّلَةُ خَيْرٌ مِنَ الخَشْناءِ وَالشَّحْناءِ، وَقَدْ آنَ لَكُما أَنْ تَجْتَمِعا، فَالحَمْدُ للهِ الَّذِي أَلَّفَ بَيْنَكُما".
فَلَمْ يُجِيباهُ بِشَيْءٍ.
فَقالَ عليه السلام :
"هَلْ أَتاكُمْ مِنْ مُعاوِيَةَ كائِنَةُ خَبَرٍ؟ فَإِنَّهُ كانَ عَلِيلًا، وَقَدْ طالَتْ عِلَّتُهُ. فَكَيْفَ حالُهُ الآنَ؟!".
فَتَأَوَّهَ الوَلِيدُ، وَقالَ: يا أَبا عَبْدِ اللهِ، آجَرَكَ اللهُ في مُعاوِيَةَ، فَقَدْ كانَ لَكَ عَمَّ صِدْقٍ، وَقَدْ ذاقَ المَوْتَ، وَهَذا كِتابُ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ يَزِيدَ...
فَقالَ الإِمام عليه السلام :
"إِنَّا للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وَعَظَّمَ اللهُ لَكَ الأَجْرَ، أَيُّها الأَمِيرُ؛ وَلَكِنْ لِماذا دَعَوْتَنِي؟"
فَقالَ الوَلِيدُ: دَعَوْتُكَ لِلْبَيْعَةِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ.
فَقالَ الحُسَيْنُ عليه السلام :
"إِنَّ مِثْلِي لا يُعْطِي بَيْعَتَهُ سِرًّا، وَإِنَّما أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ البَيْعَةُ عَلانِيَةً، بِحَضْرَةِ الجَماعَةِ؛ وَلَكِنْ إِذا كانَ الغَدُ، وَدَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى البَيْعَةِ، وَدَعَوْتَنا مَعَهُمْ، فَيَكُونُ أَمْرُنا واحِدًا".
فَأَجابَهُ الوَلِيدُ: أَبا عَبْدِ اللهِ، لَقَدْ قُلْتَ فَأَحْسَنْتَ القَوْلَ، وَأَحْبَبْتُ جَوابَ مِثْلِكَ، وَكَذا ظَنِّي بِكَ، فَانْصَرِفْ راشِدًا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، حَتَّى تَأْتِيَنِي غَدًا مَعَ النَّاسِ.
فَقالَ لَهُ مَرْوانُ: أَيُّها الأَمِيرُ، إِنَّهُ إِذا فارَقَكَ في هَذِهِ السَّاعَةِ لَمْ يُبايِعْ، فَإِنَّكَ لَنْ تَقْدِرَ مِنْهُ، وَلَنْ تَقْدِرَ عَلَى مِثْلِها، فَاحْبِسْهُ عِنْدَكَ، وَلا تَدَعْهُ يَخْرُجُ، أَوْ يُبايِعُ، وِإِلَّا فَاضْرِبْ عُنْقَهُ!
فَالتَفَتَ إِلَيْهِ الإِمامُ الحُسَيْنِ عليه السلام :
"وَيْلِي عَلَيْكَ، يا ابْنَ الزَّرْقاءِ؛ أَتَأْمُرُ بِضَرْبِ عُنْقِي! كَذَبْتَ، وَاللهِ؛ وَاللهِ، لَوْ رامَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، لَسَقَيْتُ الأَرْضَ مِنْ دَمِهِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ شِئْتَ ذَلِكَ، فَرُمِْ ضَرْبَ عُنْقِي، إِنْ كُنْتَ صادِقًا!".
ثُمَّ أَقْبَلَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام عَلَى الوَلِيدِ، قائِلاً:
"إِنَّا أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ، وَمُخْتَلَفُ المَلائِكَةِ، وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ؛ بِنا فَتَحَ اللهُ، وَبِنا خَتَمَ؛ وَيَزِيدُ رَجُلٌ فاسِقٌ، شارِبٌ لِلْخَمْرِ، قاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، مُعْلِنٌ بِالفِسْقِ؛ وَمِثْلِي لا يُبايِعُ مِثْلَهُ، وَلَكِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ، أَيُّنا أَحَقُّ بِالخِلافَةِ وَالبَيْعَةِ".
وَسَمِعَ الَّذِينَ عَلَى البابِ صَوْتَ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، قَدْ عَلا، فَهَمُّوا بِفَتْحِهِ، وَإِشْهارِ سُيُوفِهِمْ؛ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الإِمامُ سَرِيعًا، وَأَمَرَهُمْ بِالانْصِرافِ إِلَى مَنازِلِهِمْ؛ وَتَوَجَّهَ عليه السلام إِلَى دارِهِ.
لَقَدْ فَوَّتَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام عَلَى السُّلْطَةِ المَحَلِّيَّةِ، فُرْصَةَ قَتْلِهِ، بِاصْطِحابِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَشِيعَتِهِ وَمَوالِيهِ، شاكِينَ السِّلاحَ، لِيَكُونُوا بِانْتِظارِ الإِشارَةِ، لِلتَّدَخُّلِ في اللَّحْظَةِ الحاسِمَةِ.
وَثارَتْ ثائِرَةُ مَرْوانَ عَلَى الوَلِيدِ، فَقالَ لَهُ مُعاتِبًا: عَصَيْتَنِي حَتَّى أَفْلَتَ الحُسَيْنُ مِنْ يَدِكَ! أَما وَاللهِ، لا تَقْدِرُ عَلَى مِثْلِها أَبَدًا؛ وَاللهِ، لَيَخْرُجَنَّ عَلَيْكَ، وَعَلَى "أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ"، فَاعْلَمْ ذَلِكَ.
فَأَجابَهُ الوَلِيدُ: وَيْحَكَ! أَشَرْتَ عَلَيَّ بِقَتْلِ الحُسَيْنِ، وَفي قَتْلِهِ ذَهابُ دِينِي وَدُنْيايَ! وَاللهِ، ما أُحِبُّ أَنْ أَمْلِكَ الدُّنْيا بِأَسْرِها، إِزاءَ قَتْلِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، وابْنِ فاطِمَةَ الزَّهْراءِ؛ وَاللهِ، ما أَظُنُّ أَحَدًا يَلْقَى اللهَ بِقَتْلِ الحُسَيْنِ، إِلَّا وَهُوَ خَفِيفُ المِيزانِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيامَةِ، لا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَلا يُزَكِّيهِ، وَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.
كانَ الوَلِيدُ يَعْلَمُ أَنَّ سَلامَةَ الحُكْمِ، تَنْضَوِي في قَتْلِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام سِرًّا، لا عَلانِيَةً. وَسَكَتَ مَرْوانُ الَّذِي أَرادَ أَيْضًا، مِنْ خِلالِ قَتْلِ الوَلِيدِ لِلإِمامِ، التَّخَلُّصَ مِنَ الإِمامِ عليه السلام ، بُغْضًا بِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، لِيَدْفَعَ، بِارْتِكابِ هَذِهِ الجَرِيمَةِ، الفِتْنَةَ في المَدِينَةِ، حَسَدًا وَحَنَقًا عَلَى الوَلِيدِ، لِأَنَّهُ شَغَلَ مَنْصِبَ الوِلايَةِ، بَدَلًا مِنْهُ.
لَقَدِ احْتاطَ الإِمامُ لِكُلِّ مَكْرُوهٍ مُحْتَمَلٍ في هَذا اللِّقاءِ، وَلِلامْتِناعِ عَنْ أَيِّ قَهْرٍ فِيهِ، بِقُوَّةٍ عَسْكَرِيَّةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، بَلْ وَأَعْلَنَ عَنْ خُرُوجِهِ وَقِيامِهِ عَلَى يَزِيدَ في نَفْسِ هَذا اللِّقاءِ. فَقَدْ أَرادَ في إِجابَتِهِ عَن طَلَبِ الوَلِيدِ، بِأَنْ يُدْعَى إِلَيْها عَلَنًا مَعَ النَّاسِ، إسْتِثْمارَ قُوَّةٍ واسِعَةٍ، وَتَأْثِيرَ العامِلِ الإِعْلامِيِّ وَالتَّبْلِيغِيِّ في الاجْتِماعِ الجَماهِيرِيِّ العامِّ، الَّذِي تُدْعَى إِلَيْهِ الأُمَّةُ في المَدِينَةِ لِلْبَيْعَةِ عادَةً؛ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ رَفَضَ بَيْعَةَ يَزِيدَ أَمامَ جَماهِيرِ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَفَضَحَ، أَمامَ هَذِهِ الجُمُوعِ الحاشِدَةِ، حَقِيقَةَ يَزِيدَ في فِسْقِهِ وَاسْتِهْتارِهِ، وَحَرَّضَهُمْ عَلَى رَفْضِ البَيْعَةِ لِيَزِيدَ، وَاسْتَنْهَضَهُمْ لِلثَّوْرَةِ ضِدَّهُ، وَأَعْلَنَ أَمامَهُمْ عَنْ قِيامِهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ ما هُوَ عازِمٌ عَلَى النُّهُوضِ بِهِ، وَدَعاهُمْ بِما هُوَ مَأْثُورٌ وَشائِعٌ مِنَ الأَخْبارِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، يَكُونُ قَدْ نَزَعَ عَنِ النِّظامِ بُرْقَعَ التَّسَتُّرِ بِالشَّرْعِيَّةِ، عَلَى أَوْسَعِ نِطاقٍ مُمْكِنٍ.
قَرارُ خُرُوجِ الإِمامِ عليه السلام مِنَ المَدِينَةِ:
بَعْدَ لِقاءِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام مَعَ الوَلِيدِ، وَإِعْلانِهِ عليه السلام لِمَوْقِفِهِ الصَّرِيحِ، أَصْبَحَ الاحْتِمالُ قَوِيًّا في أَنْ تُقْدِمَ السُّلْطَةُ عَلَى اغْتِيالِ الإِمامِ عليه السلام ، أَوْ أَنْ تَقَعَ مُواجَهَةٌ عَسْكَرِيَّةٌ في المَدِينَةِ، بَيْنَ الإِمامِ عليه السلام وَأَنْصارِهِ مِنْ جِهَةٍ، وَبَيْنَ السُّلْطَةِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِسَبَبِ إِصْرارِ الحِزْبِ الحاكِمِ وَمُخَطِّطِيهِ، وَهُوَ ما يَكْشِفُ عَنْهُ مَوْقِفُ مَرْوانَ؛ وَبِالتَّالِي إِصْرارُ يَزِيدَ، الَّذِي تَجَسَّدَ في أَوامِرِهِ المُشَدَّدَةِ لِلْوَلِيدِ، بِقَتْلِ الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، في حالِ رَفْضِهِ لِلْبَيْعَةِ.
وَاسْتِباقًا لِما هُوَ مُتَوَقَّعُ الحُدُوثِ، قَرَّرَ الإِمامُ الخُرُوجَ مِنَ المَدِينَةِ بِرَكْبِهِ، إِذْ لَمْ تَعُدْ مَدِينَةُ جَدِّهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَأْمَنًا لَهُ. وَإِذا كانَ قَرارُ الخُرُوجِ مِنَ المَدِينَةِ خَشْيَةَ الاغْتِيالِ، خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ الشَّرِيفَةِ، بِقَتْلِهِ غِيلَةً، أَوْ في مُواجَهَةٍ مُسَلَّحَةٍ؛ فَالصَّحِيحُ أَيْضًا في العُمْقِ، أَنَّ هَذا الخَوْفَ كانَ يَقَعُ ضِمْنَ إِطارِ خَوْفٍ أَكْبَرَ؛ هُوَ خَوْفُهُ عليه السلام مِنْ أَنْ تُخْنَقَ ثَوْرَتُهُ المُقَدَّسَةُ، قَبْلَ اشْتِعالِها بِقَتْلِهِ في المَدِينَةِ، بِظُرُوفٍ زَمانِيَّةٍ وَمَكانِيَّةٍ، وَمُلابَساتٍ مُفْتَعَلَةٍ؛ لِذا كانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُحَقِّقَ مَصْرَعُهُ، الَّذِي كانَ لا بُدَّ مِنْهُ، ما لَمْ يُبايِعْ، في ظُرُوفٍ زَمانِيَّةٍ وَمَكانِيَّةٍ، يَخْتارُها هُوَ، لا يَتَمَكَّنُ العَدُوُّ فِيها أَنْ يُعَتِّمَ عَلَى مَصْرَعِهِ، وَيَسْتَفِيدَ مِنْهُ، فَتُخْنَقَ الأَهْدافُ المَنْشُودَةُ، مِنْ وَراءِ هَذا المَصْرَعِ الَّذِي أَرادَ مِنْهُ، أَنْ يَهُزَّ أَعْماقَ وِجْدانِ الأُمَّةِ، لِتَتَحَرَّكَ بِالاتِّجاهِ الصَّحِيحِ، الَّذِي أَرادَهُ لَها.
الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام ، عِنْدَ قَبْرِ جَدِّهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ عليهم السلام :
في اللَّيْلَةِ نَفْسِها الَّتِي كانَ فِيها الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام عِنْدَ الوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، أَتَى قَبْرَ جَدِّهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقالَ:
"السَّلامُ عَلَيْكَ، يا رَسُولَ اللهِ، أَنا الحُسَيْنُ بْنُ فاطِمَةَ؛ أَنا فَرْخُكَ وَابْنُ فَرْخَتِكَ، وَسِبْطُكَ في الخَلَفِ الَّذِي خَلَّفْتَ عَلَى أُمَّتِكَ؛ فَاشْهَدْ عَلَيْهِمْ، يا نَبِيَّ اللهِ، أَنَّهُمْ قَدْ خَذَلُونِي، وَضَيَّعُونِي؛ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُونِي؛ وَهَذِهِ شَكْوايَ إِلَيْكَ حَتَّى أَلْقاكَ، صَلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ".
وَأَرْسَلَ الوَلِيدُ في اللَّيْلَةِ نَفْسِها، بِطَلَبِ الإِمامِ عليه السلام ، فَلَمْ يَجِدْهُ في مَنْزِلِهِ، فَظَنَّهُ خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ؛ وَفي الصَّباحِ، عِنْدَما كانَ الإِمامُ عليه السلام عائِدًا إِلَى مَنْزِلِهِ، التَقَى بِمَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ، فَدَعاهُ الأَخِيرُ لِلْبَيْعَةِ، فَأَكَّدَ الإِمامُ عليه السلام عَلَى أَنَّ مُبايَعَةَ يَزِيدَ، هِيَ القَضاءُ عَلَى الإِسْلامِ، بِقَوْلِهِ لِمَرْوانَ:
"إِنَّا للهِ، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، وَعَلَى الإِسْلامِ السَّلامُ، إِذْ قَدْ بُلِيَتِ الأُمَّةُ بِراعٍ مِثْلِ يَزِيدَ".
ثُمَّ عادَ الإِمامُ عليه السلام في اللَّيْلَةِ نَفْسِها، الَّتِي التَقَى فِيها مَرْوانَ، إِلَى قَبْرِ جَدِّهِ زائِرًا، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاتِهِ، جَعَلَ يَقُولُ: "أَللَّهُمَّ هَذا قَبْرُ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ، وَأَنا ابْنُ بِنْتِ مُحَمَّدٍ، وَقَدْ حَضَرَنِي مِنَ الأَمْرِ ما قَدْ عَلِمْتَ. أَللَّهُمَّ وَإِنِّي أُحِبُّ المَعْرُوفَ، وَأَكْرَهُ المُنْكَرَ، وَأَنا أَسْأَلُكَ، يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ، بِحَقِّ هَذا القَبْرِ وَمَنْ فِيهِ، إِلَّا ما اخْتَرْتَ مِنْ أَمْرِي هَذا، ما هُوَ لَكَ رِضى".
وَجَعَلَ يَبْكِي، حَتَّى وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى القَبْرِ، فَأَغْفَى ساعَةً، فَرَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَدْ أَقْبَلَ، مَعَ مَلائِكَةٍ تَحُفُُّ بِهِ، حَتَّى ضَمَّ الحُسَيْنَ عليه السلام إِلَى صَدْرِهِ، وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقالَ صلى الله عليه وآله وسلم :
" يا بُنَيَّ، يا حُسَيْنُ، كَأَنِّي عَنْ قَرِيبٍ أَراكَ مَقْتُولًا، مَذْبُوحًا بِأَرْضِ كَرْبٍ وَبَلاءٍ، مِنْ عِصابَةٍ مِنْ أُمَّتِي؛ وَأَنْتَ في ذَلِكَ عَطْشانُ لا تُسْقَى، وَظْمْآنُ لا تُرْوَى، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَرْجُونَ شَفاعَتِي، ما أَنالَهُمُ اللهُ شَفاعَتِي يَوْمَ القِيامَةِ، فَما لَهُمْ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاقٍ. حَبِيبِي يا حُسَيْنُ، إِنَّ أَباكَ وَأُمَّكَ وَأَخاكَ، قَدْ قَدِمُوا عَلَيَّ، وَهُمْ إِلَيْكَ مُشْتاقُونَ، وَإِنَّ لَكَ في الجَنَّةِ دَرَجاتٍ لَنْ تَنالَها إِلَّا بِالشَّهادَةِ...".
وَمَضَى في جَوْفِ اللَّيْلِ إِلَى قَبْرِ أُمِّهِ الزَّهْراءِ عليها السلام ، فَصَلَّى عِنْدَ قَبْرِها، وَوَدَّعَها؛ ثُمَّ قامَ وَصارَ إِلَى قَبْرِ أَخِيهِ الحَسَنِ عليه السلام ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
لِقاءاتُ الوَداعِ في المَدِينَةِ:
وَفي غُضُونِ هَذِهِ الفَتْرَةِ الوَجِيزَةِ، هَرَعَ إِلَى الإِمامِ عليه السلام رِجالٌ وَنِساءٌ، مِنْ بَنِي هاشِمٍ، وَمِنْ غَيْرِهِمْ، يُوَدِّعُونَهُ، وَيَتَزَوَّدُونَ مِنْ رُؤْيَتِهِ قَبْلَ الفِراقِ؛ وَرَأَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه ، زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فَقالَتْ: يا بُنَيَّ، لا تُحْزِنِّي بِخُرُوجِكَ إِلَى العِراقِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكَ يَقُولُ:
"يُقْتَلُ وَلَدِي الحُسَيْنُ بِأَرْضِ العِراقِ، في أَرْضٍ يُقالُ لَها كَرْبَلاءُ".
فَقالَ لَها الإِمامُ عليه السلام :
"يا أُمَّاهُ، وَأَنا وَاللهِ، لَأَعْرِفُ اليَوْمَ الَّذِي أُقْتَلُ فِيهِ، وَأَعْرِفُ مَنْ يَقْتُلُنِي، وَأَعْرِفُ البُقْعَةَ الَّتِي أُدْفَنُ فِيها؛ وَإِنِّي أَعْرِفُ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَقَرابَتِي وَشِيعَتِي؛ وَإِنْ أَرَدْتِ، يا أُمَّاهُ، أُرِيكِ حُفْرَتِي وَمَضْجَعِي".
فَبَكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنه بُكاءً شَدِيدًا، وَسَلَّمَتْ أَمْرَهُ إِلَى اللهِ. قالَتْ لَهُ: "وَعِنْدِي تُرْبَةٌ دَفَعَها إِلَيَّ جَدُّكَ في قارُورَةٍ". فَقالَ عليه السلام : "وَالله، إِنِّي مَقْتُولٌ كَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ أَخْرُجْ إِلَى العِراقِ، يَقْتُلُونِي أَيْضًا"؛ ثُمَّ أَخَذَ تُرْبَةً، فَجَعَلَها في قارُورَةٍ، وَأَعْطاها إِيَّاها، وَقالَ عليه السلام : "اجْعَلِيها مَعَ قارُورَةِ جَدِّي، فَإِذا فاضَتا دَمًا، فَاعْلَمِي أَنِّي قَدْ قُتِلْتُ"؛ وَدَفَعَ إِلَيْها الوَصِيَّةَ وَالكُتُبَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَقالَ لَها:
"إِذا أَتاكِ أَكْبَرُ وُلْدِي، فَادْفَعِي إِلَيْهِ ما قَدْ دَفَعْتُ".
وَصِيَّةُ الإِمامِ عليه السلام لِأَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ:
هُوَ مُحَمَّدُ ابْنُ الإِمامِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ؛ وَالحَنَفِيَّةُ لَقَبُ أُمِّهِ، وَهِيَ خَوْلَةُ بِنْتُ جَعْفَرَ بِنِ قَيْسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الدُّؤَلِ بْنِ حَنَفِيَّةَ؛ وَهِيَ مِنْ سَبْيِ اليَمامَةِ الَّذِينَ سُبُوا لِوِلايَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَأَرادُوا بَيْعَها، فَتَزَوَّجَها الأَمِيرُ عليه السلام. وَكان مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ يَتَوَلَّى الحُسَيْنَ عليه السلام إِمامًا، وَيَتَوَلَّى عَلِيَّ بْنَ الحُسَيْنِ عليه السلام.
وَكانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ عليه السلام ، يَقْذِفُ مُحَمَّدًا في لَهَواتِ الحَرْبِ، وَلا يَسْمَحُ في ذَلِكَ لِلْحَسَنَيْنِ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَيَقُولُ:
"هُوَ وَلَدِي، وَهُما ابْنا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ".
وَقَدْ قالَ بَعْضُ الخَوارِجِ لِمُحَمَّدِ بْنِ الحَنَفِيَّةِ: كَيْفَ يَسْمَحُ أَبُوكَ بِكَ في الحُرُوبِ، وَيَبْخَلُ بِهِما؟!
فَقالَ: "أَنا يَمِينُهُ، وَهُما عَيْناهُ؛ فَهُوَ يَدْفَعُ عَنْ عَيْنَيْهِ بِيَمِينِهِ".
وَجاءَ مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ إِلَى الإِمامِ الحُسَيْنِ عليه السلام ، في صَباحِ نَهارٍ آخَرَ في المَدِينَةِ، وَقَدْ غَلَبَهُ الأَسَى وَالحُزْنُ، وَطَغَى عَلَيْهِ القَلَقُ وَالخَوْفُ عَلَى حَياةِ الإِمامِ عليه السلام ؛ فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِ المَقامُ بَيْنَ يَدَيِ الإِمامِ عليه السلام ، قالَ: "يا أَخِي، أَنْتَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَعَزُّهُمْ عَلَيَّ، وَلَسْتُ أَذَّخِرُ النَّصِيحَةَ لِأَحَدٍ مِنَ الخَلْقِ إِلَّا لَكَ، وَأَنْتَ أَحَقُّ بِها؛ تَنَحََّ بِبَيْعَتِكَ عَنْ يَزِيدَ اْبْنِ مُعاوِيَةَ، وَعَنِ الأَمْصارِ، ما اسْتَطَعْتَ؛ ثُمَّ ابْعَثْ رُسُلَكَ إِلَى النَّاسِ، فَادْعُهُمْ إِلَى نَفْسِكَ، فَإِنْ بايَعَكَ النَّاسُ، وَبايَعُوا لَكَ، حَمِدْتَ اللهَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى غَيْرِكَ، لَنْ يُنْقِصَ اللهُ بِذَلِكَ دِينَكَ وَلا عَقْلَكَ، وَلا تَذْهَبَ بِهِ مُرُوءَتُكَ وَلا فَضْلُكَ؛ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكَ أَنْ تَدْخُلَ مِصْرًا مِنْ هَذِهِ الأَمْصارِ، فَيَخْتَلِفَ النَّاسُ بَيْنَهُمْ، فَمِنْهُمْ طائِفَةٌ مَعَكَ، وَأُخْرَى عَلَيْكَ، فَيَقْتَتِلُونَ، فَتَكُونُ لِأَوَّلِ الأَسِنَّةِ غَرَضًا، فَإِذا خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ كُلِّها، نَفْسًا وَأَبًا وَأُمًّا، أَضْيَعُها دَمًا، وَأَذَلُّها أَهْلًا!!".
فَقالَ لَهُ الحُسَيْنُ عليه السلام :
"فَأَيْنَ أَذْهَبُ، يا أَخِي؟!".
قالَ: "انْزِلْ مَكَّةَ، فَإِنِ اطْمَأَنَّتْ بِكَ الدَّارُ بِها، فَسَتَنَلْ ذَلِكَ، وَإِنْ نَبَتْ بِكَ، لَحِقْتَ بِالرِّمالِ وَشُعُوبِ الجِبالِ، وَخَرَجْتَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، حَتَّى تَنْظُرَ إِلَى ما يَصِيرُ أَمْرُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّكَ أَصْوَبُ ما تَكُونُ رَأْيًا، حِينَ تَسْتَقْبِلُ الأَمْرَ اسْتِقْبالًا".
فَقالَ عليه السلام :
"يا أَخِي، وَاللهِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ في الدُّنْيا مَلْجَأٌ وَلا مَأْوَى، لَما بايَعْتُ، وَاللهِ، يَزِيدَ بْنَ مُعاوِيَةَ أَبَدًا... أَللَّهُمَّ لا تُبارِكْ في يَزِيدَ".
فَبَكَى مُحَمَّدُ بْنُ الحَنَفِيَّةِ، وَبَكَى مَعَهُ الإِمامُ عليه السلام ؛ ثُمَّ قالَ عليه السلام :
"يا أَخِي، قَدْ نَصَحْتَ وَأَشْفَقْتَ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ رَأْيُكَ سَدِيدًا مُوَفَّقًا، وَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الخُرُوجِ إِلَى مَكَّةَ، وَقَدْ تَهَيَّأْتُ لِذَلِكَ أَنا وَإِخْوَتِي وَبَنُو إِخْوَتِي وَشِيعَتِي؛ وَأَمْرُهُمْ أَمْرِي، وَرَأْيُهُمْ رَأْيِي. وَأَمَّا أَنْتَ، يا أَخِي، فَلا عَلَيْكَ أَنْ تُقِيمَ بِالمَدِينَةِ، فَتَكُونَ لِي عَيْنًا عَلَيْهِمْ، وَلا تُخْفِ عَلَيَّ شَيْئًا مِنْ أُمُورِهِمْ".
ثُمَّ دَعا الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام بِدَواةٍ وَبَياضٍ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ الخالِدَةَ لِأَخِيهِ مُحَمَّدٍ، الَّتِي بَيَّنَ فِيها الهَدَفَ الأَساسِيَّ وَالرَّئِيسِيَّ لِخُرُوجِهِ عَلَى يَزِيدَ:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؛ هَذا ما أَوْصَى بِهِ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ، إِلَى أَخِيهِ مُحَمَّدٍ، المَعْرُوفِ بِابْنِ الحَنَفِيَّةِ:
إِنَّ الحُسَيْنَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، جاءَ بِالحَقِّ مِنْ عِنْدِ الحَقِّ، وَأَنَّ الجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، لا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في القُبُورِ؛ وَإِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا، وَلا بَطِرًا، وَلا مُفْسِدًا، وَلا ظالِمًا، وَإِنَّما خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ في أُمَّةِ جَدِّي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام ؛ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ المُنْكَرِ؛ فَمَنْ قَبِلَنِي بِقَبُولِ الحَقِّ، فَاللهُ أَوْلَى بِالحَقِّ، وَمَنْ رَدَّ عَلَيَّ هَذا أَصْبِرُ، حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَ القَوْمِ بِالحَقِّ، وَهُوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ؛ وَهَذِهِ وَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ".
الخُرُوجُ مِنَ المَدِينَةِ لَيْلًا، وَسُلُوكُ الطَّرِيقِ الأَعْظَمِ:
خَرَجَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام بِرَكْبِهِ مِنَ المَدِينَةِ، في ساعاتِ اللَّيْلِ المُتَأَخِّرَةِ وَهُوَ ما حَصَلَ أَيْضًا في خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ حِرْصًا مِنْهُ عَلَى أَنْ لا يُقْتَلَ في المَدِينَةِ، أَوْ مِنْ وُقُوعِ مُواجَهَةٍ مُسَلَّحَةٍ فِيها، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ، كَما سَيَأْتِي مَعَنا في مَكَّةَ، عَنْ مَوْعِدِ خُرُوجِهِ. وَتَحَدَّثَتْ بَعْضُ الرِّواياتِ، أَنَّ الإِمامَ عليه السلام قَدْ خَرَجَ مِنَ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعالَى:
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. (القَصَص/21)
مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ مِنَ المُسْتَبْعَدِ، أَنْ يَخْفَى عَلَى السُّلْطَةِ، خُرُوجُ الرَّكْبِ الحُسَيْنِيِّ، ساعَةَ خُرُوجِهِ، لِأَنَّهُ كَبِيرٌ نِسْبِيًّا؛ فَضْلًا عَنْ أَنَّ الوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ كانَ مُتراخِيًا في الضَّغْطِ عَلَى الإِمامِ عليه السلام ، وَيَتَمَنَّى خُرُوجَهُ مِنَ المَدِينَةِ، كَيْ لا يُبْتَلَى بِدَمِهِ. وَقَدْ أَصَرَّ الإِمامُ عليه السلام عَلَى سُلُوكِ الطَّرِيقِ الأَعْظَمِ، إِصْرارَ مَنْ يَرْضَى بِمُواجَهَةِ كُلِّ خَطَرٍ مُحْتَسَبٍ، وَغَيْرِ مُحْتَبِسٍ، وَلا يَرْضَى بِالتَّخَلِّي عَنْ سُلُوكِ هَذا الطَّرِيقِ الرَّئِيسِ، لِلتَّعْرِيفِ بِقِيامِهِ وَنَهْضَتِهِ، مِنْ خِلالِ التِقاءِ الرَّكْبِ الحُسَيْنِيِّ، القاصِدِ مَكَّةَ، بِكُلِّ المارَّةِ وَالقَوافِلِ، لِأَنَّهُمْ سَيَتَساءَلُونَ عَنْ سَبَبِ خُرُوجِ الإِمامِ عليه السلام ، مِنْ مَدِينَةِ جَدِّهِ، مَعَ جُلِّ بَنِي هاشِمٍ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ أَنْصارِهِ، فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ عَمَلٌ إِعْلامِيٌّ وَتْبْلِيغِيٌّ، ضَرُورِيٌّ لِتَوْسِيعِ رُقْعَةِ هَذا القِيامِ المُبارَكِ، النَّابِعِ مِنَ الشَّجاعَةِ الحُسَيْنِيَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ؛ وَبِذَلِكَ أَيْضًا يُعْلِنُ لِلأُمَّةِ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ العُصاةِ الخارِجِينَ عَلَى حُكُومَةٍ شَرْعِيَّةٍ، كانُوا قَدِ اعْتَرَفُوا بِها، ثُمَّ تَمَرَّدُوا عَلَيْها؛ وَأَنَّهُ هُوَ المُمَثِّلُ الشَّرْعِيُّ، وَصاحِبُ الحَقِّ بِالطَّرِيقِ الأَعْظَمِ، وَبِالخِلافَةِ، وَبِكُلِّ شُؤُونِ الأُمَّةِ.
الرَّكْبُ الحُسَيْنِيُّ:
خَرَجَ الإِمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام بِبَنِيهِ، وَإِخْوَتِهِ، وَبَنِي أَخِيهِ، وَمُعْظَمِ أَهْلِ بَيْتِهِ عليهم السلام.
وَقَدِ التَحَقَ بَعْضُ الأَنْصارِ بِالرَّكْبِ، في الطَّرِيقِ إِلَى مَكَّةَ، مِنْهُمْ: مَجْمَعُ اْبْنُ زِيادِ بْنِ عَمْرٍو الجُهُنِيُّ، عَبَّادُ بْنُ المُهاجِرِ بْنِ أَبِي المُهاجِرِ الجُهُنِيُّ، عَقَبَةُ بْنُ الصَّلْتِ الجُهُنِيُّ....
وَسارَ بِرَكْبِهِ، حَتَّى وافَى مَكَّةَ، وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الكُوفَةِ أَيَّةُ رِسالَةٍ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى ما يَظْهَرُ لَمْ يَعْرِفُوا بِمَوْتِ مُعاوِيَةَ، إِلَّا وَقَدْ وَصَلَ الإِمامُ عليه السلام إِلَى مَكَّةَ المُكَرَّمَةِ.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
اتحاد كليات الطب الملكية البريطانية يشيد بالمستوى العلمي لطلبة جامعة العميد وبيئتها التعليمية
|
|
|