معنى قول الفلاسفة إنّه تعالى لا يعلم غيره وإنّه عالم بجميع المخلوقات |
1042
04:38 مساءاً
التاريخ: 5-08-2015
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 2-07-2015
1008
التاريخ: 2-07-2015
738
التاريخ: 24-10-2014
852
التاريخ: 9-3-2019
636
|
ينبغي لنا أن نزيد في بسط الكلام ليظهر أنّ الفلاسفة من أيّ جهة يقولون: إنّه تعالى لا يعلم غيره؟ ومن أيّ جهة يجب أن يقال : إنّه عالم بجميع الموجودات؟
فنقول :
قال أبو الوليد محمّد بن رشد الأندلسي في كتاب جامع الفلسفة (1) ـ بعد ذكر المبادئ
المفارقة ووجوب انتهائها إلى مبدأ أوّل ، وأنّ كلاّ عاقل لذاته ـ : فلينظر هل يمكن
في واحد واحد منها أن يعقل شيئا خارجا من ذاته ، أم لا؟ فنقول : إنّه قد تبيّن في
كتاب النفس أنّ المعقول كمال العاقل وصورته ، فمتى أنزلنا واحدا منها يعقل غيره ،
فإنّما يعقله على أنّه يستكمل به ، فذلك الغير مقدّم عليه وسبب في وجوده ، فمن
البيّن أنّه ليس يمكن أن يتصوّر العلّة منها معلولها، وإلاّ أمكن أن يعود العلّة
معلولة ويستكمل الأشرف بالأقلّ شرفا ، وذلك محال.
ومن هنا
يظهر ـ كلّ الظهور ـ أنّه إن وضع لها مبدأ أوّل ليس بمعلول لشيء ـ على ما تبيّن
فيما سلف أنّه لا يتصوّر إلاّ ذاته وليس يتصوّر معلولاته وليس هذا شيئا يخصّ
المبدأ الأوّل منها ، بل ذلك شيء يعمّ جميعها حتّى عقول الأجرام السماويّة ـ فإنّا
لا نرى أنّها تتصوّر الأشياء التي دونها فإنّه لو كان كذلك لاستكمل الأشرف بالأخسّ
، وإذا كان الأمر على هذا ، فكلّ واحد من هذه المبادئ وإن كان واحدا ـ بمعنى أنّ
العاقل والمعقول فيه واحد ـ فهي في ذلك متفاضلة ، وأحقّها بالوحدانيّة هو الأوّل
البسيط ثمّ الذي يليه.
وبالجملة
، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أكثر ، فهو أقلّ بساطة وفيه كثرة ما
وبالعكس ، فكلّ ما احتاج في تصوّر ذاته إلى مبادئ أقلّ فهو أكثر بساطة ، حتّى أنّ
البسيط الأوّل بالتحقيق إنّما هو الذي لا يحتاج في تصوّر ذاته إلى شيء من خارج.
فهذا هو
الذي أدّى إليه القول من أمر تصوّر هذه المبادئ إلاّ أنّه قد يلحق ذلك شناعات
كثيرة إحداها أن تكون هذه المبادئ جاهلة بالأشياء التي هي لها مبادئ ، فيكون
صدورها عنها كما تصدر الأشياء الطبيعيّة بعضها عن بعض مثل الإحراق الصادر عن النار
، والتبريد عن الثلج ، فلا يكون صدورها من جهة العلم ، ومحال أن يصدر عن العالم ـ
من جهة ما هو عالم ـ شيء لا يعلمه.
وإلى هذا
أشار بقوله جلّ وعزّ : {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
[الملك: 14].
وأيضا
فإنّ الجهل نقص ، والشيء الذي في غاية الفضيلة ليس يمكن أن يوجد فيه نقص ، فهذا
أقوى الشكوك التي تلحق هذا الموضع ونحن نحلّها.
فنقول :
إنّه لمّا كان الفاعل إنّما يعطي المفعول شبيه ما في جوهره ، وكان المفعول يلزم
فيه أن يكون غيرا وثانيا بالعدد ، وجب ضرورة أحد أمرين :
إمّا أن
يكون مغايرا له بالهيولى وذلك لازم متى كان المفعول هو الفاعل بالنوع من غير تفاضل
بينهما بالصورة.
وإمّا أن
يكون المغايرة التي بينهما في التفاضل في النوع الواحد ، وذلك بأن يكون الفاعل في
ذلك النوع أشرف من المفعول ؛ فإنّ المفعول ليس يمكن فيه أن يكون أشرف من الفاعل
بالذات؛ إذ كانت ماهيّته إنّما تحصل عن الفاعل ، وإذا كان ذلك كذلك فهذه المبادئ
التي ليست في هيولى إنّما يغاير فيها الفاعل المفعول والعلّة المعلول بالتفاضل في
الشرف في النوع الواحد لا باختلاف النوعيّة.
ولمّا كان
العقل الذي بالفعل منّا ليس شيئا أكثر من تصوّر الترتيب والنظام الموجود في هذا
العالم ، وفي جزء جزء منه ، ومعرفة شيء شيء ممّا فيه بأسبابه البعيدة والقريبة
حتّى العالم بأسره ، وجب ضرورة أن لا يكون العقل الفاعل لهذا العاقل منّا غير
تصوّر هذه الأشياء ؛ ولذلك ما قيل : إنّ العقل الفاعل يعقل الأشياء التي هنا لكن
يجب أن يكون يعقل هذه الأشياء بجهة أشرف ، وإلاّ لم يكن بيننا وبينه فرق ، ولقصور
العقل الذي فينا احتاج في عقله إلى الحواسّ.
ولذلك متى
عدمنا حاسّة ما ، عدمنا معقولها ، وكذلك متى تعذّر علينا حسّ شيء ما ، فاتنا
معقوله ولم يكن حصوله لنا إلاّ على جهة الشهرة ؛ ولذلك يمكن أن تكون هاهنا أشياء
مجهولة الأسباب بالإضافة إلينا هي موجودة في ذات العقل الفعّال ، وبهذه الجهة أمكن
إعطاء أسباب الرؤيا وغير ذلك من الإنذارات الإلهيّة ، وإنّما كان هذا القصور لنا
لمكان الهيولى.
وكذلك
يلزم أيضا أن لا يكون معقول العقل الفاعل للعقل الفعّال شيئا أكثر من معقول العقل
الفعّال ؛ إذ كان وإيّاه واحدا بالنوع إلاّ أن يكون بجهة أشرف وهكذا الأمر حتّى
يكون المبدأ الأوّل يعقل الموجود بجهة أشرف من جميع الجهات التي يمكن أن يتفاضل
فيها العقول البريئة عن المادّة ؛ إذ كان معقوله ليس هو غير المعقولات الإنسانيّة
بالنوع فضلا عن سائر معقولات سائر المفارقات وإن كان مباينا بالشرف جدّا للعقل
الإنساني ، وأقرب شيء من جوهره هو العقل الذي يليه ، ثمّ هكذا على الترتيب إلى
العقل الإنساني.
ولو كان
ما يعقل المعلول من هذه المبادئ من علّته ما يعقل العلّة من ذاتها ، لم يكن هناك
مغايرة بين العلّة والمعلول ، ولما كانت كثرة لهذه الأمور المفارقة أصلا.
فقد ظهر
من هذا القول أنّه على أيّ جهة يمكن أن يقال : إنّها تعقل الأشياء كلّها ؛ فإنّ
الأمر في ذلك واحد في جميعها حتّى في عقول الأجرام السماويّة ، وعلى أيّ جهة يقال
فيها : إنّها ليست تعقل ما دونها ، وانحلّت بهذا الشكوك المتقدّمة ؛ فإنّها بهذه
الجهة يقال : إنّها عالمة بالشيء الذي صدر عنها ؛ إذ كان ما يصدر عن العالم بما هو
عالم يلزم ضرورة ... أن يكون معلوما، وإلاّ كان صدوره كصدور الأشياء الطبيعيّة
بعضها عن بعض.
وبهذا
القول تمسّك القائلون بأنّ الله يعلم الأشياء. وبالقول الثاني تمسّك القائلون
بأنّه لا يعلم ما دونه ، وذلك أنّهم لم يشعروا باشتراك اسم العلم ، فأخذوه على
أنّه يدلّ على معنى واحد ، فلزمهم عن ذلك قولان متناقضان على جهة ما يلزم في
الأقاويل التي تؤخذ أخذا مهملا.
وكذلك
الشنعة (2) التي قيلت ... تنحلّ بهذا وذلك بأنّه ليس النقص في أن نعرف الشيء
بمعرفة أتمّ ولا نعرفه بمعرفة أنقص وإنّما النقص في خلاف هذا ؛ فإنّ من فاته أن
يبصر الشيء بصرا رديئا وقد أبصره بصرا تامّا ليس ذلك نقصا في حقّه.
وهذا الذي
قلنا هو الظاهر من مذهب أرسطو وأصحابه أو اللازم عن مذهبهم ، فقد تبيّن من هذا
القول كيف تعقل هذه المبادئ ذواتها وما هو خارج عن ذواتها. انتهى كلامه في الجامع
بأدنى تلخيص.
وقال في
كتاب ردّ التهافت : ولمّا كانت معقولات الأشياء هي حقائق الأشياء ، وكان العقل ليس
شيئا أكثر من إدراك المعقولات ، كان العقل منّا هو المعقول بعينه من جهة ما هو
معقول ، ولم يكن هناك مغايرة بين العقل والمعقول إلاّ من جهة أنّ المعقولات هي
معقولات أشياء ليست في طبيعتها عقلا ، وإنّما تصير عقلا بتجريد العقل صورها من
الموادّ ، ومن قبل هذا لم يكن العقل منّا هو المعقول من جميع الجهات ، فإن ألقي
شيء في غير مادّة فالعقل منه هو المعقول من جميع الجهات وهو عقل المعقولات ولا بدّ
؛ لأنّ العقل ليس شيئا هو أكثر من إدراك نظام الأشياء الموجودة وترتيبها ، ولكنّه
يجب فيما هو عقل مفارق أن لا يستند (3) في عقل الأشياء الموجودة وترتيبها (4) ،
إلى الأشياء الموجودة ، ويتأخّر (5) معقوله عنها ؛ لأنّ كلّ عقل هو بهذه الصفة فهو
تابع للنظام الموجود في الموجودات ، ومستكمل به ، وهو ضرورة يقصر فيما يعقله من
الأشياء ، ولذلك كان العقل منّا مقصّرا عمّا يقتضيه طبائع الأشياء (6) من الترتيب
والنظام الموجود فيها ، فإن كانت طبائع الموجودات جارية على حكم العقل ، وكان هذا
العقل منّا مقصّرا عن إدراك طبائع الموجودات ، فواجب أن يكون هاهنا علم بنظام وترتيب
هو السبب في النظام والترتيب والحكمة الموجودة في موجود موجود ، وواجب أن يكون هذا
العقل للنظام الذي منه هو السبب في النظام الذي في الموجودات ، وأن يكون إدراكه لا
يتّصف بالكلّيّة فضلا عن الجزئيّة ؛ لأنّ الكلّيّات معقولات تابعة للموجودات
ومتأخّرة عنها ، وذلك العقل الموجودات تابعة له ، فهو عاقل ضرورة بعقله من ذاته
النظام والترتيب الموجود في الموجودات لا بعقله شيئا خارجا عن ذاته ؛ لأنّه كان
يكون معلولا عن الموجود الذي يعقله لا علّة له وكان يكون مقصّرا.
وإذا فهمت
هذا من مذهب القوم فهمت أنّ معرفة الأشياء بعلم كلّيّ هو علم ناقص ؛ لأنّه علم لها
بالقوّة ، وأنّ العقل المفارق لا يعقل إلاّ ذاته ، وأنّه بعقل ذاته يعقل جميع
الموجودات ؛ إذ كان عقله ليس شيئا أكثر من النظام والترتيب الذي في جميع الموجودات
، فإذا أنزلت أنّ العقل الذي هنالك شبيه بعقل الإنسان ، لحقت تلك الشكوك المذكورة
؛ فإنّ العقل الذي فينا هو الذي يلحقه التعدّد والكثرة ، وأمّا ذلك العقل ، فلا
يلحقه شيء من ذلك ، وذلك أنّه بريء عن الكثرة اللاحقة لهذه المعقولات ، وليس
يتصوّر فيه مغايرة بين المدرك والمدرك ، وأمّا العقل الذي فينا فإدراكه ذات الشيء
غير إدراكه أنّه مبدأ للشيء وكذلك إدراكه غيره غير إدراكه ذاته بوجه ما ، ولكن فيه
شبه من ذلك العقل وذلك العقل هو الذي أفاده ذلك الشبه.
بيان ذلك
: أنّ العقل إنّما صار هو المعقول من جهة ما هو معقول ؛ لأنّ هاهنا عقلا هو
المعقول من جميع الجهات ، وذلك أنّ كلّ ما وجدت فيه صفة ناقصة فهي موجودة له من
قبل موجود فيه تلك الصفة كاملة ، مثال ذلك أنّ ما وجدت فيه حرارة ناقصة فهي موجودة
له من قبل شيء هو حارّ بحرارة كاملة ، وكذلك ما وجد فيه الحياة ناقصة فهي موجودة
له من قبل حيّ بحياة كاملة ، فكذلك ما وجد عاقلا بعقل ناقص فهو موجود له من قبل
شيء هو عاقل بعقل كامل ، وكذلك كلّ ما وجد له فعل عقلي كامل فهو موجود له من قبل
عقل كامل ، فإن كانت جميع أفعال الموجودات أفعالا عقليّة كاملة وليست ذوات عقول ،
فها هنا عقل من قبله صارت أفعال الموجودات أفعالا عقليّة.
ومن لم
يفهم هذا المعنى من ضعفاء الحكماء هو الذي يطلب هل المبدأ الأوّل يعقل ذاته أو
يعقل شيئا خارجا عن ذاته؟ فإن وضع أنّه يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يستكمل
بغيره ، وإن وضع أنّه لا يعقل شيئا خارجا عن ذاته لزمه أن يكون جاهلا بالموجودات.
والعجب من
هؤلاء القوم أنّهم نزّهوا الصفات الموجودة في البارئ تعالى وفي المخلوقات عن
النقائص التي لحقتها في المخلوقات وجعلوا العقل الذي فينا شبيها بالعقل الذي فيه ،
وهو أحقّ شيء بالتنزيه.
ثمّ قال :
ليس يمتنع في العلم الأوّل أن يوجد فيه مع الاتّحاد تفصيل بالمعلومات ؛ فإنّه لم
يمتنع عند الفلاسفة أن يكون يعلم غيره وذاته علما مفرّقا (7) من جهة أن يكون هناك
علوم كثيرة.
وإنّما
امتنع عندهم أن يستكمل العقل بالمعقول المعلول عنه ، فلو عقل غيره على جهة ما
نعقله نحن لكان عقله معلولا عن الموجود المعقول لا علّة له وقد قام البرهان على
أنّه علّة للموجودات، والكثرة التي نفى الفلاسفة هو أن يكون عالما لا بنفسه ، بل
بعلم زائد على ذاته ، وليس يلزم من نفي هذه الكثرة عنه تعالى نفي كثرة المعلومات ،
لكنّ الحقّ في ذلك هو أنّه ليس تعدّد المعلومات في العلم الأزليّ كتعدّدها في
العلم الإنسانيّ ، وذلك أنّه تعدّد ليس شأن العقل منّا إدراكه ، ولذلك أصدق ما قال
القوم : إنّ للعقول حدّا تقف عنده ولا تتعدّاه وهو العجز عن التكييف الذي في ذلك
العلم.
وإنّما
امتنع عندنا إدراك ما لا نهاية له بالفعل ؛ لأنّ المعلومات عندنا منفصل بعضها عن
بعض، فأمّا إن وجد هاهنا علم يتّحد فيه المعلومات ، فالمتناهية وغير المتناهية في
حقّه سواء ، هذا كلّه ممّا يزعم القوم أنّه ممّا قام البرهان عليه عندهم ، وإذا لم
نفهم نحن من الكثرة في العلم إلاّ هذه الكثرة وهي منتفية عنه ، فعلمه واحد لكن
تكييف هذا المعنى وتصوّره بالحقيقة ممتنع على العقل الإنسانيّ ؛ لأنّه لو أدرك
الإنسان هذا المعنى ، لكان عقله هو عقل البارئ تعالى وذلك مستحيل.
ولمّا كان
العلم بالشخص عندنا هو العلم بالفعل ، علمنا أنّ علمه هو أشبه بالعلم الشخصيّ منه
بالعلم الكلّي وإن كان لا كلّيّا ولا شخصيّا. ومن فهم هذا فهم معنى قوله تعالى : {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا
المعنى.
وقال أيضا
: القوم إنّما نفوا أن يعرف غيره من الجهة التي بها ذلك الغير أخسّ وجودا ؛ لئلاّ
يرجع المعلول علّة والأشرف وجودا أخسّ وجودا ؛ لأنّ العلم هو المعلوم ، ولم ينفوه
من جهة أنّه يعرف ذلك الغير بعلم أشرف وجودا من العلم الذي نعلم نحن به الغير ، بل
واجب أن يعلمه من هذه الجهة ؛ لأنّها الجهة التي من قبلها وجود الغير عنه.
وبالجملة
، لئلاّ يشبه علمه علمنا ـ الذي في غاية المخالفة له ـ فابن سيناء إنّما رام أن
يجمع بين القول بأنّه لا يعلم إلاّ ذاته ، ويعلم سائر الموجودات بعلم أشرف ممّا
يعلمها به الإنسان ؛ إذ كان ذلك العلم هو ذاته ، وذلك بيّن من قوله : « إنّ علمه بنفسه
وبغيره ـ بل بجميع الأشياء ـ هو ذاته. وإن كان لم يشرح هذا المعنى كما شرحناه وهو
قول جميع الفلاسفة أو اللازم عن قول جميعهم.
ثمّ قال
في موضع آخر : الكلام في علم البارئ تعالى بذاته وبغيره ممّا يحرّم على طريق الجدل
في حال المناظرة فضلا عن أن يثبت في كتاب ؛ فإنّه لا تنتهي أفهام الجمهور إلى مثل
هذه الدقائق ، وإذا خيض معهم في هذا بطل معنى الإلهيّة عندهم ؛ فلذلك كان الخوض في
هذا العلم محرّما عليهم ؛ إذ كان الكافي في سعادتهم أن يفهموا من ذلك ما أطاقته
أفهامهم ، ولذلك لم يقتصر الشرع ـ الذي قصده الأوّل تعليم الجمهور في تفهيم هذه
الأشياء في البارئ تعالى ـ بوجودها في الإنسان كما قال تعالى : {لِمَ تَعْبُدُ
مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [مريم: 42] بل واضطرّ إلى تفهيم معان في البارئ تعالى
بتمثيلها في الجوارح الإنسانيّة مثل قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}
[يس: 71] وقوله : {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
[ص: 75] فهذه
المسألة هي خاصّة بالعلماء الراسخين الذين أطلعهم الله على الحقائق.
ولذلك لا
يجب أن تثبت في كتاب إلاّ في الموضوعة على الطريق البرهانيّ ، وهي التي شأنها أن
تقرأ على ترتيب بعد تحصيل آخر يضيق على أكثر الناس النظر فيها على النحو البرهانيّ
إذا كان ذا فطرة فائقة مع قلّة وجود هذه الفطرة في الناس.
فالكلام
في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات التي
تلك الأشياء سموم لها فإنّ السموم إنّما هي أمور مضافة ؛ فإنّه قد يكون سمّا في
حقّ حيوان شيء هو غذاء في حقّ حيوان آخر ، وهكذا الأمر في الآراء مع الإنسان.
ثمّ قال :
ولكن إذا تعدّى الشرير الجاهل فسقى السمّ من هو في حقّه سمّ على أنّه غذاء ، فقد
ينبغي على الطبيب أن يجتهد بضاعته في شفائه ، ولذلك استجزنا نحن التكلّم في مثل
هذه الكلّيّات ، وإلاّ فما كنّا نرى أنّ ذلك يجوز لنا ، بل هو من أكبر المعاصي أو
من أكبر الفساد في الأرض ، وعقاب المفسدين معلوم بالشريعة ، وإذا لم يكن بدّ من
الكلام في هذه المسألة ، فلنقل في ذلك بحسب ما تبلغه قوّة الكلام في هذا الموضع ،
فنقول :
إنّ القوم
لمّا نظروا إلى جميع المدركات ، وجدوا أنّها صنفان : صنف مدرك بالحواسّ وهي أجسام
قائمة بذواتها ، مشار إليها ، وأعراض مشار إليها في تلك الأجسام. وصنف مدرك بالعقل
وهي ماهيّات تلك الأمور المحسوسة وطبائعها أعني الجواهر والأعراض ، فلمّا تميّزت
لهم الأمور المعقولة من الأمور المحسوسة وتبيّن لهم أنّ في المحسوسات طبيعتين :
إحداهما قوّة ، والأخرى فعل ، نظروا أيّ الطبيعتين هي المتقدّمة للأخرى ، فوجدوا
أنّ العقل مقدّم على القوّة ؛ لكون الفاعل متقدّما على المفعول ، ونظروا في العلل
والمعلولات أيضا فأفضى بهم الأمر إلى علّة أولى هي بالفعل السبب الأوّل لجميع
العلل ، فلزم أن تكون فعلا محضا ، وأن لا يكون فيها قوّة أصلا ؛ لأنّه لو كان فيها
قوّة ، لكانت معلولة من جهة وعلّة من جهة ، فلم تكن أولى.
ولمّا كان
كلّ مركّب من صفة وموصوف فيه قوّة وفعل ، وجب عندهم أن لا يكون الأوّل مركّبا من
صفة وموصوف.
ولمّا كان
كلّ بريء عن القوّة عندهم عقلا وجب أن يكون الأوّل عندهم عقلا ، فهذه هي طريقة
القوم بجملة ، فإن كنت من أهل الفطرة المعدّة لقبول العلوم وكنت من أهل الثبات
والفراغ ، ففرضك أن تنظر في كتب القوم وعلومهم لتقف على ما في علومهم من حقّ أو
ضدّه ، وإن كنت ممّن نقصك واحد من هذه الثلاث ففرضك أن تفرغ في ذلك إلى ظاهر الشرع
ولا تنظر إلى هذه العقائد المحدثة في الإسلام ؛ فإنّك إن كنت من أهلها لم تكن من
أهل اليقين ، فهذا هو الذي حرّك القوم أن يعتقدوا أنّ هذه الذات ـ التي وجدوا
أنّها مبدأ العالم ـ بسيطة ، وأنّها علم وعقل.
ولمّا
رأوا أنّ النظام الموجود هاهنا في العالم وأجزائه هو صادر عن علم متقدّم عليه ،
قضوا أنّ هذا العقل والعلم هو مبدأ العالم الذي أفاده أن يكون موجودا ، وأن يكون
معقولا.
وقال أيضا
في موضع آخر : والمحقّقون من الفلاسفة لا يصفون علمه تعالى بالموجودات لا بكلّيّ
ولا بجزئيّ ، وذلك أنّ العلم الذي هذه الأمور لازمة له هو عقل منفعل ومعلول ،
والعقل الأوّل هو عقل محض وعلّة ، فلا يقاس علمه على العلم الإنسانيّ ، فمن جهة ما
لا يعقل غيره من حيث هو غير هو علم منفعل ، ومن جهة ما يعقل الغير من حيث هو ذاته
هو علم فاعل.
وتلخيص
مذهبهم أنّهم لمّا وقفوا بالبراهين على أنّه لا يعقل إلاّ ذاته ، فذاته عقل ضرورة
، ولمّا كان العقل بما هو عقل إنّما يتعلّق بالموجود لا بالمعدوم وقد قام البرهان
على أنّه لا موجود إلاّ هذه الموجودات التي نعقلها نحن ، فلا بدّ أن يتعلّق علمه
بها ، وإذا وجب أن يتعلّق علمه بهذه الموجودات ، فإمّا أن يتعلّق بها على نحو
تعلّق علمنا بها ، وإمّا أن يتعلّق بها على وجه أشرف من جهة تعلّق علمنا بها ،
وتعلّق علمه بها على نحو تعلّق علمنا بها مستحيل ، فوجب أن يكون تعلّق علمه بها
على نحو أشرف ووجود أتمّ لها من النحو الذي تعلّق علمنا بها ؛ لأنّ العلم الصادق
هو الذي يطابق الوجود ، فإن كان علمه أشرف من علمنا ، فعلم الله يتعلّق بالموجود
بجهة أشرف من الجهة التي يتعلّق علمنا بها.
فللموجود
إذن وجودان : وجود أشرف ، ووجود أخسّ ، والوجود الأشرف هو علّة الوجود الأخسّ ،
وهذا هو معنى قول القدماء : إنّ البارئ تعالى هو هذه الموجودات كلّها وهو المنعم
بها والفاعل لها ؛ ولذلك قال رؤساء الصوفيّة : لا هو إلاّ هو ، ولكن هذا كلّه هو
من علم الراسخين في العلم ، ولا يجب أن يكتب هذا ولا أن يكلّف الناس اعتقاد هذا ،
ولذلك ليس هو من التعليم الشرعي ، ومن أثبته في غير موضعه فقد ظلم ، كما أنّ من
كتمه عن أهله فقد ظلم ، فأمّا أنّ الشيء الواحد له أطوار من الوجود ، فذلك معلوم
من النفس. انتهى ما أردنا من كلماته التي التقطناها من مواضع متفرّقة ؛ لكونها
متلائمة بحسب المرام ، وملائمة جدّا للمقام.
__________________
(1) في النسخ : « الفلاسفة » وما أثبتناه من « شوارق الإلهام ».ة
(2) في
« شوارق الإلهام » : « الشبهة ».
(3) الضمير المستتر
في « يستند » راجع إلى العقل.
(4) متعلّق بـ
« لا يستند ».
(5) عطف على « يستند
».
(6) في
« شوارق الإلهام » : « طبائع الموجودات ».
(7) في
« شوارق الإلهام » : « مفترقا ».
|
|
علامات بسيطة في جسدك قد تنذر بمرض "قاتل"
|
|
|
|
|
أول صور ثلاثية الأبعاد للغدة الزعترية البشرية
|
|
|
|
|
مدرسة دار العلم.. صرح علميّ متميز في كربلاء لنشر علوم أهل البيت (عليهم السلام)
|
|
|